Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الحادي و الخمسون 51 - بقلم ندى محمود

 رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الحادي و الخمسون 51 - بقلم ندى محمود 

((ميثاق الحرب والغفران))

_الفصل الحادي والخمسون_


داخل قسم الشرطة داخل غرفة أحد الضباط كان يجلس جلال على مقعد خشبي وثير أمام المكتب الخاص بالضابط، وكان بمفرده في الغرفة يحدق في اللاشيء أمامه بجمود تام لدقاىق طويلة نسبيًا حتى قطع ذلك الصمت القاتل وصول الضابط أخيرًا، الذي دخل وأغلق الباب خلفه ثم تحرك نحو مقعده الخاص أمام مكتبه وهو يتمتم بهدوء:

_معلش اتأخرت عليك

رد جلال بنبرة رجولية قوية:

_ولا يهمك.. خير يامحسن بيه ممكن اعرف سبب وچودي هنا إيه؟! 

جلس الضابط على مقعده وهو يحدق في جلال مطولًا قبل أن يهتف له بنظرة ثاقبة:

_خير ان شاء الله.. أنا طلبت تيجي هنا عشان عايز اتكلم معاك في كام حاجة

كان جلال ثابتًا تمامًا وينظر للضابط بكل صلابة وثقة وهو يقول:

_اتفضل أنا سامعك، حچات إيه دي؟ 

أجابه بعين حازمة ونبرة مريبة:

_عمك لغاية دلوقتي هربان وده مش في صالحه ولا في صالحكم، انتوا في بينكم تار وممكن الأمور تخرج عن السيطرة

تطلع جلال له بوجه خالي من التعابير ثم هتف بكل ثبات انفعالي:

_لا اطمن معدش في تار تاني خلاص حق أبوي ورچع، بس أنا بردك لساتني مفهمتش أنت جايبني إهنه ليه؟!

مسح محسن على وجهه وهو يطلق زفيرًا حارًا قبل أن يتطلع لجلال بنظرات منذرة متمتمًا:

_عمك فين ياجلال؟! 

ضحك ساخرًا ثم أجابه ببرود مستفز:

_أنت لساتك قايل أنه هربان أنا هعرف من وين مكانه عاد ياباشا!

محسن بغضب بسيط وعين تحمل التحذير:

_لا أنت عارف مكانه ياجلال

اختفت ابتسامة جلال وحل محلها الجدية وتقوست ملامح وجهه لتصبح مخيفة بعض الشيء وهو يرد:

_قولتلك معرفش مكانه يامحسن بيه

لوى محسن فمه بغيظ وهو يحاول التحكم في انفعالاته ثم قال بوجه شيطاني مخيف:

_أنت بتتستر عليه وده غلط ولو اتأكدت أنك بالفعل عارف مكانه وقتها النتائج مش هتكون مرضية ياجلال وهتتحاكم معاه

أخذ جلال نفسًا عميقًا وهو مازال محتفظ ببروده وثباته الانفعالي المستفز الذي انهاه بعبارته الأخيرة وهو يبتسم بتكلف ويقول في نظرة تحدي:

_لما تتأكد ياحضرة الظابط انتوا عارفين بيتي زين وأنا موچود.. لو مفيش حاچة تاني دلوك اقدر امشي

طالت نظرات محسن المشتعلة له فهو لا يستطيع اتهامه بأي شيء الآن وسجنه وهذا هو ما يثير جنونه بالأكثر، بعد لحظات طويلة من تحديقه الغاضب أشار لجلال بمعنى أنه يمكنه الانصراف، فهب جلال واقفًا بكل شموخ وهو يهندم من عباءته السوداء التي فوق كتفيه ثم ألقي نظرة أخيرة على الضابط بكل هيبة وتحرك للخارج وهو يقود خطواته لخارج القسم بأكمله وفور مغادرته اخرج هاتفه ليجري اتصال ثم يضع الهاتف فوق أذنه ينتظر الرد الذي أتاه بعد ثواني قصيرة فقال بلهجة حادة:

_وينك ياعلي؟ 

سكت للحظات وهو يستمع لرد ابن عمه عليه ثم أجابه بغلظة:

_طيب خليك مكانك متتحركش أنا جايلكم دلوك 

                                    ***

داخل منزل حور.....

كانت جالسة بغرفتها فوق فراشها تحدق في الفراغ أمامها بشرود، عقلها منشغل بالتفكير به منذ حديثهم الأخير، رغم قلقها واهتمامها لأمره إلا أن غضبها منه يمنعها من الاستسلام والتصرف وكأنه شيء لم يكن، لا تستطيع تركه سجينًا لأفكاره المؤذية وعقله الذي يدله نحو طريق السوء، لم تجد افضل من هذا الحل لمحاولة ردعه عن ما يريد فعله، رغم أنها لم تكن تود أن تضعه بين شقي الاختيار إما بينها أو بين والده لكنه لم يترك لها طريق آخر.

انتشلها من عمق أفكارها دخول أمها عليها الغرفة وهي تقول بجدية:

_حور قومي البسي يابنتي

التفتت لأمها باستغراب وهي تسألها:

_البس ليه؟! 

قالت الأم ببسمة رقيقة وهي تشير بعيناها للخارج:

_بلال برا وقاعد مع أبوكي بيتكلموا.. البسي يلا عشان تطلعيله   عيب

رمشت بعينها عدة مرات مندهشة، لوهلة ظنت نفسها تتوهم وتسمع كلمات في خيالها هي فقط، لكن صوت أمها وهي تلح عليها ثانية بالنهوض أثبت لها أن بالفعل في منزلهم الآن، لكن ماذا يفعل ولماذا جاء دون أن يخبرها حتى.

نهضت من فراشها بسرعة وهرولت نحو الحمام لكي تستعد وبعد دقائق قصيرة خرجت ثم بدأت في ارتداء ملابس مناسبة وجميلة، واستغرقت وقت طويل حتى انتهت من تجهيز نفسها وخرجت من غرفتها تتجه للصالة حيث يجلس هو ووالدها، وفور وصولها لهم ابتسم لها والدها وقال وهو يشير لها بيده على الأريكة بجواره:

_تعالي ياحور اقعدي ياحبيبتي تعالي 

أماءت بوجهها لوالدها بالموافقة ثم التفتت نحو بلال الذي كان يتمعنها بعمق وابتسمت له بتكلف حتى لا يشعر والده بتوتر الأجواء بينهم، ثم قالت له برقة:

_ازيك يابلال

أجابها وهو يبادلها الابتسامة التي لم تكن متكلفة كخاصتها:

_زين الحمدلله

جلست بجوار والدها واستمر الحوار بينه هو وبلال لدقائق طويلة نسبيًا وهم يتحدثون بأمور مختلفة تخص العمل والحياة ومشقاتها على الجميع حتى استقام أبيها أخيرًا وقرر تركهم بمفردهم ليتحدثوا براحة أكثر.

فور انصرافه تقابلت نظراتهم معًا، كانت هي غاضبة بعكس نظراته التي كانت معاتبة وثابتة عليها لا تحيد لثانية عنها أما هي فقد أشاحت بوجهها للجهة الأخرى ترفض النظر لوجهه، ودام هذا الوضع المريب بينهم لدقائق حتى قررت هي اختراق فقاعة الصمت وأنهاء تأمله فيها حيث التفتت له وقالت بجفاء متصنع:

_ليه مقولتليش إنك جاي؟! 

بلال بنبرة هادئة لكن نظراته كانت ثاقبة وهو يسألها:

_إيه مش عاوزاني ولا إيه.. تحبي اقوم امشي! 

لانت حدة معالمها بعد عبارته وللحظة شعرت بالندم في أعماقها على سخافة كلماته فقالت له بلطف لكن مازال الحزم يستحوذ على صوتها:

_مش قصدي كدا طبعًا بس عشان استغربت يعني أنت جيت فجأة

حرك حاجبه بطريقة مثيرة للاهتمام وهو يجيبها في صوت منزعج:

_أنا كنت أحب اقولك قبل ما آچي أكيد بس للأسف أنتي مبترديش عليا ومسبتليش حل تاني عشان اشوفك واتكلم معاكي

عقدت ذراعيها أسفل صدرها وهي تميل بوجهها للجانب تأبي النظر إليه وهي تقول بمكابرة:

_اعتقد أن بعد آخر مرة معدش في كلام تاني نقوله

تنهد الصعداء بقلة حيلة ثم تمتم بصوت رجولي غليظ:

_طيب ممكن تبصيلي وأنتي بتكلميني

أصدرت زفيرًا حارًا ثم عادت بوجهها لجهته تنظر له بضيق فتقابل نظراته الممتعضة والمعاتبة لها على تصرفاتها الجافة معه، ثم تابع بخشونة:

_أنتي بتعملي إكده ليه! 

انفجرت به ساخطة وهي تقول:

_أنت عارف أنا بعمل كدا ليه يابلال وبرضوا مصمم على كلامك وتفكيرك الغلط وكل ده وعايزني مزعلش منك واشجعك كمان

هتف بغضب وهو يحاول التحكم بانفعالاته ونبرة صوته:

_واديكي قولتي تفكير شوفتيني روحت وقتلته دلوك 

حور بعصبية وهي تنظر في عيناه بحدة:

_أنا مش عايزاك تفكر مجرد التفكير حتى

رفع يده يمسح على وجهه وهو يتأفف بخنق مستغفرًا ربه ثم يتمتم مغلوبًا:

_طيب وأنتي إيه اللي يرضيكي دلوك؟! 

جلست بثقة أكثر على مقعدها ونظرت له بحزم وهي تقول:

_تشيل الأفكار دي من راسك نهائي وكمان توعدني أنك متعملش حاجة

اخذ نفسًا عميقًا ورد باستسلام:

_طيب ياحور مش هعمل حاجة خلاص ارتحتي إكده

تطلعت في عيناه بعمق وهي تسأله بحدة:

_وعد؟! 

مال ثغره للجانب مغلوبًا وهو بجيبها في خفوت:

_وعد.. بزيادة عاد تعبتيني معاكي يابنت الناس

اختفى غضبها وحل محل قسوة ملامحها لينها مجددًا وقد ظهرت لمعة عيناها المحبة وبسمة ثغره البسيطة وهي تحدقه من الجانب حتى قالت أخيرًا في رقة وهي تبتسم بدلال:

_بتحب القهوة؟ 

 ضحك بصمت رغمًا عنه ليجيبها متغزلًا بغرام:

_ولو مبحبهاش هحبها طالما من يدك

اتسعت بسمتها الخجلة أكثر وهي تتفادي النظر إليه من فرط حيائها ثم استقامت واقفة وابتعدت عنه متجهة للمطبخ لكي تقوم بتحضير القهوة له، لتتركه يبتسم عليها بحب.

                                    ***

كان عمران يقف بالخارج أمام السيارة بانتظار خروج أخته الصغيرة حتى يأخذها لوالدتها في منزلهم، بعد دقائق قصيرة من الانتظار خرجت أخيرًا من باب المنزل وهي تركض باتجاهه، فمد يده لباب السيارة الخلفي يفتحه لها لكي تصعد وتستقل به لكنها توقفت أمام السيارة وهي تلزم شفتيها بعبوس وتقول في براءة:

_لا أنا بحب اركب قدام

تنهد عمران الصعداء مغلوبًا قبل أن يغلق الباب الخلفي ويفتح الباب المجاور لمقعده وهو يقول لها:

_اركبي يلا قدام

اتسعت بسمتها السعيدة وبلحظة كانت تقفز وتستقل بالمقعد المجاور له بينما هو فيتحرك نحو الجهة الأخرى لكي يستقل بمقعده المخصص للقيادة وينطلق بالسيارة يشق بها الطرقات متجهًا نحو منزل داليا.

كان طريق الوصول للمنزل ليس سهلًا أبدًا بالأخص بوجود تلك الصغيرة بجواره وهي تتوقف عن طرح الأسئلة والتحدث، لا ينكر حقيقة أن ذلك الوقت كان ممتعًا له رغم أنه ليس من محبي الكلام الكثير والثرثرة، من ضمن اسئلتها الطفولية له عندما أبعدت نظرها عن الطريق ونظرت له وهي تسأله بفضول:

_هي طنط آسيا في نونو في بطنها

أجابها بهدوء دون أن يحيد بنظره عن الطريق أثناء القيادة:

_امممم أنتي مين قالك؟

ريم بضحكة طفولية جميلة:

_هي امبارح قالتلي لما أنت مكنتش قاعد.. هتسمي النونو إيه؟ 

زم شفتيه بجهل ليجيبها وهو يبتسم بعبث:

_معرفش أنتي إيه رأيك نسميه إيه؟

سكتت للحظات وهي تفكر وتحدق في سقف السيارة بسكون تام حتى قالت بسرعة في حماس:

_نسميه أحمد 

اتسعت بسمته وهو يحدقها بطرف عيناه متمتمًا:

_اشمعني؟ 

مطت شفتيها ببراءة مجيبة بكل بساطة:

_معرفش هو جه كدا أنا افتكرت الاسم ده

ردد خلفها وهو يضحك بصمت على عبارتها الطفولية:

_اممم هو چه إكده

بعد دقيقة بالضبط توقف بالسيارة أمام أحد المحلات الكبيرة لشراء الأطعمة المختلفة ثم نظر لريم وقال بحزم:

_أنا هنزل اشتري حاچة وراچع خليكي إهنه متطلعيش من العربية مفهوم

طالعته بكل استعطاف وهي تترجاه متمتمة:

_عايزة آجي معاك بليز

كان سيرفض لكن نظرتها الطفولية تملكته فلم يشتكيع رد طلبها حيث قال مستسلمًا:

_يلا انزلي 

خرج من السيارة وتحرك نحو الجهة الأخرى حيث مقعدها وكانت هي نزلت أيضًا من السيارة وسارت بجواره ثم رفعت يدها بكل عفوية وامسكت بكفه وهي تبتسم له مما جعله يبادلها الابتسامة لا إراديًا، دخلوا معًا للمحل وبعدما انتهي من شراء ما يريده اتجه بها نحو قسم صغير به بعض العاب الأطفال وغمز لها وهو يقول:

_يلا اختاري لعبة عشان نشتريها

قفزت فرحًا وهي تضحك وبسرعة اندفعت نحو صفوف الألعاب تتفحص الجميع بتركيز وهي تفكر أيهما تختار، حتى وقع اختيارها بالنهاية على دمية كبيرة نسبيًا جميلة لديها شعر طويل وبني وقالت له وهي تشير عليها:

_عايزة دي

مد يده والتقط علبة الدمية وهو يشير لها بعينها أن تلحق به حتى وصل أمام مكتب الحساب ودفع ثمن الدمية وهي تقف بجواره ملتصقة به حتى رأت صاحب المحل بعدما دفع أخيها ثمن اللعبة يضعها له في كيس كبير يسعها ويعطيها له، فجذبها عمران من يده ثم بيده الأخرى امسك بيد أخته وسار معها للخارج متجهًا نحو السيارة.

فتح باب السيارة الخلفي ووضع به اكياس الطعام الذي قام بشرائه ثم أخرج الدمية من الكيس وناولها لها وهو يبتسم بحنو، فلمعت عيني ريم بفرحة حقيقة وملامح وجهها الطفولية الجميلة كانت تشعره براحة غريبة، بحركة مفاجأة كانت ترتمي عليه وتعانقه من قدميه وهي تضحك وتقول برقة تليق بفتاة مثلها:

_شكرا ياعمران أنا بحبك أوي 

ضحك وانحنى عليها ليحملها بين ذراعيه وهو يلثم وجنتها بدفء متمتمًا بمزح:

_كل ده عشان لعبة بس!.. وأنا كمان بحبك.. يلا عاد عشان نروح البيت عشان متأخرش على الشغل وكمان أمك مستنياكي من بدري 

هزت رأسها له بالموافقة وهي لا تتوقف عن الضحك اللطيف، بينما هو ففتح باب المقعد المجاور له وضعها فوق المقعد ثم أغلق الباب والتف من الجهة الأخرى ليستقل بمقعده ويكمل طريقه باتجاه منزلها.

                                     ***

بمكان آخر داخل أحد المنازل الخاصة بعائلة خليل صفوان، كان يجلس كل من منصور وعلي وحمزة معًا يتحدثون في حل لوضع منصور وهروبه من الشرطة، حتى وصل جلال وفور دخوله هتف منصور يسأله باهتمام:

_إيه اللي حُصل خدوك ليه على القسم ياچلال 

اقترب جلال وجلس على أول مقعد قابله بجوارهم ثم قال بخنق:

_بيسألوني على مكانك 

نظر حمزة بدهشة لجلال وقال بحدة:

_اوعاك تكون قولتلهم 

جلال بلهجة رجولية حازمة:

_اقولهم كيف يعني ياچدي طبعًا مقولتش حاچة بس مش بعيد يبدأوا يراقبوني عشان يعرفوا مكان عمي ولو عرفوا أني عارف مكانه ومتستر عليه هتسجن أنا وهو 

اعتدل علي في جلسته وقال بضيق ملحوظ وحيرة:

_طب والعمل إيه دلوك؟ 

أخذ جلال نفسًا عميقًا ثم أخرجه زفيرًا متهملًا قبل أن يجيب بجدية تامة:

_مفيش غير حل من الاتنين يا أما تسلم نفسك ياعمي يا أما تطلع برا البلد واصل عشان طول ما أنت إهنه مسيرهم هيعرفوا مكانك

هتف حمزة بغضب شديد يبدي اعتراضه على فكرة جلال:

_يسلم نفسه ده إيه.. مش هيحصل ياچلال واصل

مسح " علي " على وجهه وهو يزفر ثم قال مؤيدًا لجلال في رزانة:

_أنا شايف أن چلال عنده حق.. حتى لو هربت هتفضل هربان لغاية ميتا يابوي لا الحكومة ولا عمران هيسيبك 

نظر منصور لابنه بغضب وهتف رافضًا رفض قاطع:

_انا مش هسلم نفسي ياعلي، وهو الحل التاني احسن حل أني اطلع برا البلد واصل

رتب حمزة على كتف ابنه الذي يوافقه في الرأي وقال بصلابة ونظرة تبث الطمأنينة لنفسه:

_زين متقلقش من بكرا هنظبطلك مكان زين عشان تسافر من إهنه ومترچعش لغاية ما الموضوع ده يتنسي واصل

التزم جلال الصمت ولم يبدي اعتراض على قرار جده رغم أنه لم يعجبه ومن وجهة نظره أن يسلم نفسه للشرطة أفضل من عيش حياة الهروب والخوف من السجن لآخر حياته.

                                      ***


بتمام الساعة العاشرة مساءًا.....

كانت جليلة تجلس على الأريكة بالصالة وعيناها عالقة على النافذة بتلهف تنتظر عودة ابنها، فقد أهلكها كثرة التفكير والقلق منذ رحيله بالصباح مع الشرطة، انتفضت جالسة عندما رأت سيارته تقف أمام المنزل ويخرج هو منها ليقود خطواته نحو باب المنزل.

أسرعت نحو الباب مهرولة وفور دخوله اندفعت نحوه تسأله بلهفة وخوف:

_چلال أنت زين ياولدي؟ 

ابتسم لها بحنو وراح يمسح على ذراعه بلطف متمتمًا وهو ينحني على رأسه يقبلها:

_أنا كويس الحمدلله ياما اطمني متقلقيش

جليلة بحيرة وتعجب:

_امال خدوك معاهم ليه؟! 

تنهد جلال بخنق وهو يجيبها:

_تحقيق عاوزين يعرفوا مكان عمي وين مني 

اتسعت عيني جليلة بدهشة وهي تسأله:

_وأنت قولتلهم؟!! 

جلال بحزم:

_لا طبعًا مقولتش ياما بس ربنا يستر من اللي جاي 

تقوست معالم وجهها للخوف والقلق مجددًا، لتقترب منه وتمسك فوق صدره وذراعيه بحنو متمتمة في عين دامعة:

_خد بالك من روحك ياولدي أنا مقدرش اشوف فيك حاچة وحشة ياچلال ده أنا تچرالي حاجة فيها ياحبيبي

ابتسم لها بدفء ودون تفكير كان يضمها لصدره وهو يقبل رأسها بعدة قبلات متتالية هامسًا بحب:

_بعد الشر عليكي ياما متقوليش إكده.. متخافيش أن شاء الله مفيش حاچة تحصل والحوار ده يخلص على خير 

تمتمت جليلة بصوت نابع من صميمها وهي تدعو ربها:

_يارب ياولدي.. ربنا يحفظك ليا ولولادك وميوريناش فيك حاچة وحشة أبدًا

ردد خلفها بعطف:

_اللهم آمين ياما.. اطلعي أنتي عاد نامي وارتاحي وأنا كمان هطلع أنام

ابتعدت عنه وهي تبتسم له بحنان أمومي وتمسك فوق كتفه بكل لطف هامسة:

_حاضر ياحبيبي.. اطلع أنت ريحي جسمك ونام وأنا شوية إكده هبقى اطلع

_طيب تصبحي على خير ياغالية 

جليلة بعينان لامعة بالحب النقي:

_وأنت من أهله ياولدي 

قاد خطواته نحو السلم يصعد درجاته بهدوء وبطء دون عجلة، حتى وصل للطابق الثاني حيث غرفته وعندما وقف أمام الباب أخذ نفسًا عميقًا ورسم بسمة صافية ودافئة لكي يقابل بها حبيبته ولا يثير قلقها وخوفها عليها أكثر، مد يده بمقبض الباب واداره ثم دفع الباب للداخل ببطء ودخل، أغلقه خلفه بهدوء وفور التفاته نحو الغرفة رآها تجلس فوق الأريكة وتحدقه بعتاب وغضب وسط دموع عيناها السابحة فوق وجنتيها بغزارة، فتسمر بأرضه للحظات مندهشًا لكن سرعان ما تدارك الموقف واسرع نحوها ليجلس بجوارها ويحاوطها بذراعيه ضامًا إياها لحضنه متمتمًا:

_مالك يافريال بتبكي إكده ليه.. أنا كويس أهو قصادك مفيش حاچة 

دفعته بعيدًا عنها بسخط هاتفة في انفعال حقيقي وبكاء شديد:

_من الصبح وأنا برن عليك ومش بترد عليا، كنت هتچن من الخوف عليك وحسيت ضغطي علي وتعبت قوي وأنت حتى مفكرتش تطمني عليك ولا ترد عليا

حاول احتواء الموقف واحتوائها بكل ذكاء حيث فرد ذراعيه ليحاوطها مجددًا مجيبًا بأسف صادق وحزن:

_حقك عليا ياحبيبتي، صدقيني التلفون كان صامت وأنا اتلهيت ونسيت ما اتصل بيكي متزعليش أنا مبتحملش اشوف دموعك والله وأنتي حامل والزعل غلط عليكي

أبعدت ذراعيه عنها وهي تهتف بمكابرة وانزعاج وسط صوتها المبحوح الذي مزق قلبه:

_بعد عني ياچلال

لاح شبح ابتسامته العابثة وهي يتعمد الاقتراب منها أكثر وبذراعيه يحاول محاوطتها وضمها وسط صوته الهاديء الذي يذيب القلب:

_لا ابعد عنك كيف مقدرش.. بعدين مش هتسأليني خدوني ليه ولا تطمني عليا حصلي إيه هناك

هزت رأسها بالرفض وهي مازالت تأبي النظر لوجهه وتحاول التملص من بين لمساته وذراعيه هاتفة في جفاء مزيف ليس حقيقي:

_لا مش عاوزة اعرف مهو أنت كيف الحصان قصادي ماشاء الله، عشان تتعلم بعد إكده متنسنيش

زم شفتيه بعبوس متصنع ليجيبها متصنعًا المرض:

_مين قالك أني كيف الحصان.. ده أنا تعبان قوي! 

التفتت له أخيرًا وطاعته بطرف عيناها في نظرة استهزاء وهي تلوي فمها وتهتف:

_هو فين التعب ده! 

امسك بكفها الناعم ورفعه حتى يسار صدره ليضعه تحديدًا عند قلبه ويهمس لها وهي يتصنع الانهيار النفسي والحزن:

_إهنه 

لم يلبث للحظة حتى تابع بنفس النبرة لكن نظراته أصبحت أكثر إثارة للشفقة:

_قلبي تعبان واتوحشك قوي، حني عليا وعليه عاد وبزيادة

منعت ضحكتها بصعوبة وردت عليه تسأله ببرود مزيف:

_بزيادة إيه؟! 

قال وهو يكتم بسمته حتى لا يفسد اللحظة المؤثرة:

_بزيادة نكد 

اتسعت عيناها بصدمة وراحت تصيح به مشتعلة:

_أنا نكدية ياچلال 

هتف بسرعة يصحح ما قاله حتى لا يفسد كل محاولاته في نيل رضاها:

_لا ياحبيبتي أنا قصدي بلاش نكد دلوك يعني مش عاوزين زعل أنا متوحشك قوي ورغم كل اللي حُصل بس چاي مزاچي رايق شوية وحابب نكون چار بعض ونقضي ليلة حلوة

رأى تعبيرات وجهها تعود لطبيعتها مجددًا بعدما اقتنعت وهدأت ثورتها بما قاله فابتسمت برقة وقالت له مستسلمة:

_طيب.. قولي عاد خدوك ليه القسم؟

قال بنفاذ صبر وهو يقترب منها أكثر:

_مش وقته دلوك أنا أقولك اتوحشتك تقوليلي القسم والحكومة بعدين ابقى احكيلك 

مالت برأسها للخلف وهي تقول بحدة على عكس تعبيرات وجهها الضاحكة:

_لا احكيلي دلوك.. وه چلال بلاش قلة أدب عاد 

قالت عبارتها الأخيرة وهي تنتفض جالسة وتضحك بصوت مرتفع عندما شعرت به يزغزها بجرأة، حاولت الفرار من بين براثينه لكنه احكم الاغلاق عليها داخل قفصه جيدًا فأصبحت حبيسة بين ذراعيه وانغمست معه في لحظاتهم الغرامية المميزة.

                                      ***

داخل منزل ابراهيم الصاوي......

صعد عمران الدرج مسرعًا شبه ركضًا بعدما اتصلت به وطلبت منه القدوم بسرعة مبررة رغبتها بوجوده بجواره أنها مريضة جدًا، فور دخوله للغرفة تسمر مكانه عندما رآها جالسة فوق الفراش وبيدها صحن ممتليء من الموز، تلتقط موزة وتقشرها ثم تأكلها على ثلاث مرات بضبط وحين التفتت له تركت صحن الموز من يدها وعيناها أدمعت وهي تهمس له بنبرة استنجاد:

_عمران

كان لا يفهم شيء لكنه اكمل مهمته دون اعتراض واقترب منها حتى جلس بجوارها وراح يمسح على شعرها بحنو وهو يسألها:

_مالك يا آسيا أنتي كويسة! 

ارتمت بين ذراعيه وهي تبكي بصوت موجوع متمتمة:

_من الصبح ضهري ومعدتي تعابيني قوي ياعمران ومش قادرة اتحرك وقولت اكل يمكن انسى التعب أو يخف مفيش فايدة

قال في قلق واهتمام شديد:

_طيب ومتصلتيش بيا ليه من الصبح يا آسيا عشان نروح للدكتور 

هزت رأسها بالرفض وهي تجيبه بصوتها المبحوح:

_لا الدكتور قالي أن ده طبيعي في أول شهور من الحمل وأني لازم ارتاح

أبعدها عمران عنه بلطف ونظر إليها بحدة وهو يسألها:

_هو أنتي مش بترتاحي وبتتعبي نفسك ولا إيه؟!! 

هزت رأسها بالنفي بسرعة وهي تجيبه بحزن:

_لا والله مبعملش حاچة واصل وطول الوقت قاعدة في السرير مبتحركش.. وزهقت من كتر القعدة وحدي خليك چاري 

راح يخلي فوق شعرها مجددًا ثم أنحني عليها ولثم جبهتها بحنو متمتمًا:

_أنا چارك أهو.. أنتي دلوك تعبانة؟ 

هزت رأسها بالنفي فسألها باستغراب وعدم فهم:

_أمال بتبكي ليه؟!! 

انفجرت في البكاء ثانية وهي تجيبه بحزن:

_معرفش.. بس أنت خليك چاري واحضني

ابتسم لها بغرام ودون تردد كان يحاوطها بتملك ويضمها لصدره وبيد كان يمسح فوق ظهرها واليد الأخرى يمسك بكفها ويمسح على ظاهره بحنو أما شفتيه فكانت تتجول بقبلاتها على شعرها وجبهتها وهو يهمس لها بصوت يسلب العقل ينسدل كالحرير ناعمًا على قلبها:

_هااا حاسة بإيه ارتحتي شوية؟

أماءت له بالإيجاب وهي تبتسم في حب بينما هو فكان مستمر في لمساته التي تأثرها وتمحي عنها أي ألم أو تعب سببه الحمل، لكن فجأة شعرت بتقلصات في معدتها وكأنها على وشك التقيأ فانتفضت مبتعدة عنه ونهضت مسرعة باتجاه الحمام تقف أمام المرحاض وتنحني عليه لتفرج ما بمعدتها وهي تتقيأ بعنف وصوت عالي كأن احشائها تخرج من بطنها بدلًا الطعام، اتجه لها ووقف خلفها يمسح على ظهرها ويمسك بشعرها، وعندما انتهت بعد لحظات طويلة اعتدلت واقفة واتجهت نحو حوض الوجه لكي تغسل وجهها وكان هو يساعدها، فوجدها بعد انتهت من غسل وجهها وجففته انتصبت واقفة والتفتت له تلقي بجسدها كله عليه ورأسه فوق كتفه وهي تقول بصوت ضعيف:

_مش قادرة اقف ياعمران 

ضمها له وهو يقبلها بحنو وإشفاق عليها ثم أنحني وحملها فوق ذراعيه ليتجه بها لخارج الحمام ومنه للفراش لكي يضعها فوقه بكل رفق ويتمدد بجواره بنصف جسدها، وبذراعيه يضمها لصدره متمتمًا لها في خفوت:

_اچبلك وكل ياغزال أو عصير 

هزت رأسها له بالرفض وهي تهمس في صوت متعب:

_لا مش عاوزة.. أنا حاسة روحي كانت بتطلع

أنحني عليها يلثم جبهتها ووجنته بعشق متمتمًا:

_بعد الشر عليكي.. تعدي الشهور الأولى دي بس وأن شاء الله تبقى زي الفل

رفعت رأسها عن صدره وتطلعت في عيناه بعبوس وهي تهمس:

_عمران 

ابتسم لها وتمتم وهو بأنامله كان يملس على وجنتها ووجهها:

_اؤمري

 قالت في وجه حزين ويحمل اليأس:

_هو أنا لما ابقى في الشهر التامن والتاسع ووزني يزيد هيبقى شكلي عفش

ضحك رغمًا عنه بقوة وهو يجيبها بحب:

_فينك وفين الشهر التاسع يا آسيا لما تعدي الشهور دي الأول وتاچي الشهور اللي بتقولي عليها نبقى نتناقش وقتها 

آسيا بعناد وعينان دامعة:

_لا رد علي سؤال دلوك

تنهد الصعداء مغلوبًا قبل أن يردف ضاحكًا وبنظرات حانية:

_لا أنتي دايمًا حلوة وجميلة ياغزالي 

سألته ثانية بعبوس وضيق:

_خليك دايمًا بتقولي ياغزال بحب اسمعها منك

انحنى عليها مرة أخرى يقبلها للمرة التي لا تعرف عددها من كثرة قبلاته لها اليوم وهمس بصوت رجولي يحمل بحة أثرت قلبها:

_حاضر ياغزال.. بزيادة بكا عاد 

أماءت له بالموافقة وهي تعود لحصنه مجددًا تضع رأسها فوق صدره وتستمع بلمساته الدافئة فوق جسدها حتى غلبها النوم وغفيت بين ذراعيه...

                                     ***

بتمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل، استيقظت آسيا من النوم وكان عمران نائم بجوارها في ثبات عميق، فنهضت من الفراش وارتدت ملابسها الفضاضة وحجابها لكي تذهب للمطبخ وتشرب ماء.

خرجت من الغرفة بعدما ارتدت ملابسها وتحركت باتجاه الدرج تنزل بكل بطء وحرص لكنها توقفت بمنتصف الدرج عندما سمعت صوت إخلاص وهي تتحدث في الهاتف بحدة:

_أنتي ملكيش صالح بعمران أنا هتصرف معاه ومش هيقدر يعترض ولا يقول حاچة

ضيقت آسيا عيناها بتعجب وهي تحاول تخمين مع من تتحدث حتى سمعتها ترد على الهاتف بغضب:

_يامنى اسمعي الكلام ومتقاوحيش معايا.. لو عاوزة ولدي يكون ليكي صُح اعملي كيف ما بقولك


......... نهاية الفصل .........

  •تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية

reaction:

تعليقات