رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الرابع 4 - بقلم ندى محمود
(( ميثاق الحرب والغفران ))
_ الفصل الرابع _
اندفع عمران مسرعًأ لداخل المخزن فور وصوله ، فوجد كل من بشار والعم سعيد يجلسون على مقعدين ويحدقون في البرادات بصمت ، رمقهم بنظرة قوية ليرى بشار يرفع كفه ويشير تجاه البرادات أن يذهب ويتفقدها بنفسه ليرى الوضع بعينيه .
اندفع نحو البرادات يفتح واحدة تلو الأخرى ، ومن بشاعة الرائحة التي تفوح من الأسماك الفاسدة لم يتمكن من تفقدهم جميعًا واغلقهم بسرعة ، ثم التفت تجاههم وصاح بصوت جهوري :
_ كيف ده حُصل !!
أجابه بشار بهدوء مزيف على عكس النيران المشتعلة بثناياه :
_ في حد **** عملها .. التلاچات مفصولة من بليل وكيف ما أنت شايف المخزن چهنم ومن الحر السمك كله باظ .. خمسين كيلو مطلعش منهم غير خمسة بس اللي سُلام
ثم تابع بنبرة ساخرة من فرط غيظه :
_ ناخدهم نتغدى بيهم الخمسة كيلو دول !
صدحت صيحة عمران المرعبة بالمكان بأكمله هاتفًأ :
_ واللي دخل وعمل إكده .. دخل كيف ياعم سعيد وأنت قافل باب المخزن زين
أجابه العم سعيد بتوتر بسيط من غضبه :
_ معرفشِ ياولدي أنا قافل المخزن بيدي وقافله بالقفل كمان .. ابن الحرام اللي عمل إكده دخل كيف معرفشِ
كانت قدمي بشار تهتز بعنف من فرط الغضب ليظهر صوته المتحشرج متوعدًا :
_ يوقع تحت يدنا اللي عمل إكده بس وأنا هشرب من دمه .. بس مين اللي ليه مُصلحة يعملها ؟
اظلمت عيني عمران الذي تمتم بنبرة تقذف الرعب في الأبدان :
_ مفيش حد ليه مُصلحة في أذيتنا غير ناس خليل صفوان .. وهما خانوا العهد للمرة التانية يبقوا يترحموا على اللي باقيلهم عاد
تطلع بشار بابن عمه في خوف فنظراته لا تُبشر بالخير مطلقًا .. يبدو أن ستكون هناك حرب أخرى قريبًا والغفران كان قرار مؤقت فقط !! .......
***
كانت آسيا تقف بالمطبخ تساعد أمها في أعمال المطبخ لكنها سمعت صوت رنين هاتفها فتركت ما بيدها فورًا وتسللت دون أن تلاحظها والدتها وخرجت لتصعد الدرج قاصدة غرفتها بالأعلى .
دخلت الغرفة وأغلقت الباب بإحكام ثم اسرعت نحو هاتفها تجيب على المتصل :
_ هااا عملت إيه ؟
هدر الشاب باسمًا بلؤم :
_ عشرة على عشرة ياست الكل .. زمان السمك دلوك عفن وريحته فحفحت كمان
لاحت فوق ثغرها بسمة نصر وتشفي ثم أجابته بتباه :
_ عفارم عليك يا واد ياخالد .. جهز نفسك عاد عشان تكمل اللي اتفقنا عليه بس اصبر يومين كدا وأنا هتصل بيك واقولك نفذ متعملش حاجة دلوك
أجاب بامتثال مازحًا :
_ أنتي تؤمري ياست البنات .. هستنى اتصالك
انزلت الهاتف من فوق أذنيها وأنهت الاتصال ، انفرجت شفتيها عن ابتسامتها باتساع أكثر ولمعت عيناها بوميض الثأر والتشفي لتهمس بوعيد :
_ ولسا ياعيلة الصاوي .. حق ابويا هاخده تالت ومتلت منكم .. أما خليتكم تعيشوا نفس الوچع وتبكوا بدل الدموع دم مبقاش أنا بنت خليل صفوان
سقطت عيناها على صورة والدها فوق فراشها فتلاشت ابتسامتها وحل محلها الأسى والألم لتقترب من الفراش وتجلس ثم تجذب الصورة وتتمعن النظر بها في أعين دامعة متذكرة إحدى لحظاتها مع والدها ...
كانت تشاركه جلسته الهادئة بغرفة الصالون وتشرب معه كوب الشاي وسط تبادلهم أطراف الكلام بمرح حتى انحرف الحديث إلى طرف عائلة الصاوي فقالت بدفء :
_ إيه رأيك يابوي تسيب شغل السمك ده مع عمي إبراهيم ؟
رمقها بتعجب فأجابها متعجبًا :
_ ليه يابتي بتقولي إكده ؟!!
زمت شفتيها للأمام وردت برزانة :
_ أصل الشراكة بتچيب مشاكل كتير قوي .. قصدي خلينا حبايب من غير مشاكل ولا حاچة يعني
ابتسم خليل لها بحنو ثم مد يده لشعرها يملس فوقه برفق هامسًا بوداعة :
_ يابتي هو احنا شغالين مع بعض في السمك من يومين ولا تلاتة ده احنا من سنين واتربينا واكلنا وشربنا مع بعض وأنا اللي مربي عمران وبلال مع إبراهيم وأنتي وأخوكي كبرتوا على يده .. ربنا ما يچيب مشاكل واصل بيناتنا
رمقت أبيها بحب وبسمتها الساحرة زينت وجهها الجميل وهو تلتقط كف والدها وتقربه من شفتيها تقبل ظاهره متمتمة :
_ يارب يابوي .. ربنا يبعد عننا المشاكل والزعل ويخليك لينا ومنتحرمش منك واصل
ضمها خليل لصدره مقبلًا شعرها بحنان أبوي وهدر :
_ ويحفظكم ويباركلي فيكم يابتي أنتي وأخوكي
فاقت من شرودها عندما شعرت بحرارة دموعها فوق وجنتيها وراحت تتأمل صورته التي بيدها وسط عبراتها التي تنهمر بغزارة دون توقف ، وتحولت لنحيب شديد امتزج بصوت شهقاتها المرتفعة ، أخذت تردد بحرقة وألم يأكل صدرها أكلًا :
_ فرطوا فيك ياغالي .. قتلوك بدم بارد يابوي ، اللي كنت بتقول عليه أخويا قتلك هو وولده اللي ربيته .. ياريتك سمعت كلامي يابوي وبعدت عنهم مكنش كل ده حُصل
انهارت باكية بقوة ، تحاول كتم صوت بكائها خشية من أن يصل لأذآن أحدهم .. كما اعتادت تنهار بمفردها ثم تعود وتقف بشموخ وقوة من جديد دون الحاجة لأي أحد ، لكنها توقفت عن البكاء حين سمعت صوت شجار مرتفع بالأسفل فهبت واقفة بسرعة وكفكفت دموعها ثم التقطت حجابها والقته فوق شعرها بعشوائية واسرعت نحو الشرفة ........
***
يتحرك جلال بخطواته الطبيعية تجاه المنزل وقبل دخوله توقف على أثر صيحة عمران به :
_ چــلال
التفت بجسده كاملًا له فيجده يغلق باب سيارته ويتقدم نحوه بخطا ثابتة وأعين متقدة كلها وعيد وشر ، التزم جلال السكون التام دون أي تعبيرات على وجهه فقط يتابع عمران وهو يقترب منه بقوة تليق به .
خرج صوت جلال الساخرًا :
_ خير ياعمران !!
لمعت عيني عمران بنظرة قاتلة وهو يهمس لجلال :
_ أنت ورا اللي حُصل في مخزن السمك صُح ؟
مازل جلال يحتفظ بهدوءه حيث أجاب بسؤال على سؤاله في كل برود :
_ حٌصل إيه في مخزن السمك ؟!
صاح به عمران بصوت جهوري مخيف :
_ محدش له مُصلحة يعمل العملة ال**** دي غيرك يا واد خليل صفوان
بدأت بشائر خروج جلال عن طور هدوءه المزيف تلوح حيث رمق عمران بنظرة مميتة وهتف منذرًا أياه :
_ سيرة أبوي متچيش على لسانك أنا عندي استعداد ادفنك مكانك ياعمران .. وأنا لو عايز اخد حق أبويا مش هعمل حركات الحريم دي .. لا هاچي في نص بيتك واقتلك
مال ثغر عمران بابتسامة شيطانية امتزجت بالاستهزاء ، ثم تقدم خطوة من جلال وقال بعين ملتهبة تذيب القلوب :
_ وريني كيف هتعملها وتدفني في أرضي .. احنا اتربينا مع بعض بس باينلك لساتك متعرفنيش
لسوء الحظ أن جلال كان يحمل سلاحًا معه اليوم ودون أي تفكير وضع يده في عباءته واخرجه يوجهه بمنتصف رأس عمران هاتفًا ببسمة ساخرة تلمع بوميض الانتقام :
_ يبقى أنت اللي لساتك متعرفنيش
ارتفعت صيحة آسيا بالأعلى في رعب فور رؤيتها لذلك المشهد ولوهلة شعرت أن الماضي يعيد نفسه وستشهد على نفس الحرب لمرتين ، لكنها لن تتحمل فراق آخر ....
_ چـــلال
كانت تلك صيحة آسيا ولم يكترث لها أي منهم .. عمران كان يثبت نظره على جلال وكأنه يتحداه أن يطلق والآخر كان سيفعلها حقًا لولا خروج جده وابن عمه الذي هرول ركضًا تجاه جلال وجذب السلاح من يده ، والتالي كانت صيحة حمزة وهو يصرخ بهم :
_ إيه اللي بيحُصل ده ؟!
رفع عمران سبابته وصرخ بهم بصوت الجهوري المرتفع :
_ لو اتأكدت أن اللي حُصل في المخزن ليكم يد فيه ياعيلة صفوان .. تبقوا فتحتوا على نفسكم باب الچحيم .. والصُلح اللى تم تبلوه وتشربوا مايته ، اللي يخون العهد عقابه قاسي قوي عندي
جذب جلال السلاح من يد علي واطلق رصاصة مرت من جانب عمران ولكنها لم تصبه والقى عليه تهديده الحقيقي :
_ والقتل عندنا عقابه الموت .. خليك فاكر الكلام ده زين
كانت فريال تقف بشرفة غرفتها تشاهد أخيها وزوجها واضعة كفها فوق صدرها تحديدًا عند قلبها والدموع بدأت بالتجمع في عيناها خشية من أن يتطور الشجار بينهم ويصيب أحدهم مكروه .
آسيا كانت ترمق عمران شزرًا بحقد .. ونيران صدرها متأججة من فرط الغضب وهي تقسم بأن نهايته ستكون على يدها هي .. ستنتقم منهم جميعًا أبشع انتقام ، التفتت برأسها في حركة تلقائية إلى الجانب فرأت فريال تتطلع أليهم بخوف شديد فابتسمت لها بشر وقالت في عين حمراء من فرط الغضب :
_ انزلي ودعي أخوكي يمكن متشوفهوش تاني قريب
فرغت فريال فمها بذهول على أثر كلماتها لكنها لم تعيرها اهتمام كثيرًا وظنت أنها تفوهت به من فرط غضبها فقط .
***
شرارات الغضب النارية تنطلق من عيناه وهو يجلس فوق الأريكة وقدميه تهتز بعنف من فرط عصبيته ، يشعر بالندم لأنه لم يطلق في رأسه .. لولا ابن عمه لكان الآن عمران جثة هامدة أمام منزلهم .
كان حمزة يجلس على مقعده الخاص به ويتابع انفعالات حفيده الصامت وهو اشبه بالقدر الذي يغلي فوق النيران ، حتى خرج صوته الحازم وهو يقول :
_ بزيادة عاد ياچلال اهدى إكده ياولدي وفهمنا اللي حُصل بينك أنت وعمران
صاح منفعلًا :
_ چاي بيتهمني أن أنا ورا اللي حُصل في مخزن السمك بتاعهم
حمزة متسائلًا بعدم فهم :
_ وهو إيه اللي حُصل في المخزن ؟!
جلال محاولًا تمالك أعصابه :
_ معرفشِ ياجدي .. بس عمران بيلعب في عداد عمره معايا
هدر حمزة بغضب بسيط :
_ وهو يتهمك أنت ليه ؟ .. أنت إيه ليك صالح
تمتم ضاحكًا بسخرية :
_ لا كيف ده أنا ليا ونص كمان .. مش احنا في بينا تار يبقى مين اللي هيأذيهم غير عيلة صفوان
تنهد حمزة الصعداء بقوة ثم أجاب بحكمة عقل ورزانة :
_ طاب اهدى وبلاها العصبية دي .. أنت عارف احنا عملنا الصُلح ده معاهم ليه ، متتصرفش على هواك تاني والسلاح ده تتاويه في عزالك في اوضتك ومتشلهوش في چيوبك تاني
رفع يده وفرك جبهته بعنف متأففًا في غضب مكتوم ليرد ممتثلًا لجده :
_ حاضر ياچدي ، اطمن كل حاچة هتمشي كيف ما اتفقنا
انحنى عليه بجزعة ورتب على كتفه في قوة متمتمًا بود :
_ زين ياولدي .. راچل من ضهر راچل
ابتسم لجده بدفء ثم التقط كفه وقبَّل ظاهره بتهذيب ، فيضمه حمزة لصدره معانقًا إياه بحب كأنه يحتضن ابنه الراحل وليس حفيده ! ........
***
بعد مرور ساعتين تقريبًا وصل جلال لغرفته وفتح الباب بهدوء ثم دخل وتحرك بخطا ثابتة تجاه الفراش ونزع عنه عباءته وهو يزفر أنفاسه بخنق ، لم ينتبه لزوجته التي تقف تستند بكتفها على باب الشرفة وتطالعه مطولًا بحزن وعتاب ، حين التفت في تلقائية ورآها لم يعقب ورمقها بصمت في جمود لتخترق هي فقاعة الصمت وتهتف :
_ مش كفاية عاد ياچلال ولا إيه ؟!
اشاح بنظره عنها وراح ينزع حذائه مجيبًا ببرود :
_ هو إيه اللي كفاية ؟!
فريال بقوة وعينان غارقة بالدموع :
_ بزيادة مشاكل ودم
طالعها مجددًا لكن نظرته هذه المرة كانت صارمة وهتف :
_ قولي لأخوكي الحديت ده مش أنا .. هو اللي چاي في نص بيتي يتهمني
اندفعت فريال نحوه وصاحت بغضب وسط دموعها التي اخذت طريقها لوجنتيها :
_ تقوم ترفع عليه السلاح ياچلال .. على إكده لو مكنش علي لحقكك كنت هطخه وتقتله صُح !
خرج صوته الجاف دون أي شفقة :
_ صُح يافريال يعني احمدي ربك أن علي لحقني
اتسعت عيناها بصدمة ، كأنها تتحدث مع رجل غريب ليس زوجها وحبيبها ، لم تسبق لها ورأته بتلك القسوة من قبل .. لم يحادثها بهذه الطريقة ابدًا ، ازداد انهمار دموعها وراحت تصيح به في ألم :
_ صُح !! .. يعني كنت هتقتل أخويا قصاد عيني عادي
ابتسم بنظرات مظلمة وقال مستنكرًا :
_ طب ما أنا ابوكي قتل أبويا قصاد عيني
صرخت منفعلة تدافع عن أبيها باستماتة :
_ ابويا مقتلش عمي خليل ، مش عاوز تفهم ليه !
انفعل وراح يصرخ بها بصوت رجولي نفضها بأرضها من الفزع :
_ عشان شوفت بعيني .. شوفت نظرات الشماتة والفرحة في عيون أبوكي لما كان ابويا على الأرض وغرقان في دمه .. كان بيبصله بحقد وعيونه بتقوله أيوة أنا اللي قتلتك ، معدش في ملايكة في الزمن ده يافريال وابوكي هو أكبر شيطان
انهى عباراته واندفع من أمامها يتجه نحو الخزانة يخرج ملابس نظيفة له ، بينما هي فجلست فوق الفراش منخرطة في نوبة بكاء عنيفة وسط همسها بعدم تصديق :
_ لا أبويا مقتلش حد .. مقتلش حد
ثم رفعت رأسها نحو جلال مرة أخرى وقالت محذرة إياه بانهيار تام :
_ لو عملت حاچة في عمران مش هسامحك واصل ياچلال
رمقها شزرًا بغيظ والقى بالملابس التي كان يحملها بين يديها وسار لخارج الغرفة بأكملها يتركها قبل أن يفقد زمام انفعالاته عليها .......
***
بتمام الساعة السابعة مساءًا داخل منزل إبراهيم الصاوي ........
كان إبراهيم يجوب الغرفة إيابًا وذهابًا بغضب ويصيح :
_ كيف يعني مفضلش غير خمسة كيلو بس اللي سُلام
عمران باستياء بسيط :
_ يعني كيف ما سمعت يابوي ، السمك كله عفن من الحر
إبراهيم بعين مشتعلة :
_ معرفتوش مين اللي عمل إكده ؟!
تحدث بشار يجيب على عمه :
_ عمران شاكك في عيلة صفوان وفي چلال بس لساتنا متوكدناش
التزم إبراهيم الصمت التام للحظات قبل يقول بهدوء غريب :
_ اتأكدوا الأول زين مين اللي عملها وبعدين قولولي
استقرت في عيني عمران نظرة ثاقبة على أبيه يطالعه بقوة وعدم اطمئنان قبل أن يسأله مستنكرًا :
_ ولو طلع چلال صُح اللي عملها ، هتعمله إيه يابوي !!!
جلس فوق مقعده بثقة تامة وقال :
_ هقولك بعدين لما نتوكد مين اللي عملها الأول
نقل عمران نظره المريب بين أبيه وبشار ثم استقام واقفًا وغادر الغرفة قبل أن يفقد أعصابه بالكامل ، أما بشار فتحدث مع عمه يسأله بخنق :
_ هنعمل إيه ياعمي في الخساير دي ؟!
إبراهيم بكل هدوء :
_ ولا حاچة ، هنرچع للناس فلوسها وكأن مفيش حاچة حصلت ونقولهم يستنوا الشحنة الچديدة
مسح بشار على شعره نزولًا إلى وجهه وهو يتأفف بغضب ، وحين سقطت عيناه على وجه عمه رأى هدوء مخيف وعينان تحمل نظرات لا تٌبشر بالخير أبدًا !!! ...........
***
داخل غرفة الصالون بمنزل خليل صفوان .......
كان معاذ يجلس بجوار أبيه يقوم بإنهاء واجباته المدرسية ، وجلال منشغل بالعمل ، وبين كل لحظة والأخرى يتطلع بأبيه يتأمله مطولًا مترددًا في طرح سؤاله الذي يجول برأسه ، لكنه اخذ نفسًا عميقًا وقرر طرح سؤاله بكل قوة وثبات حيث قال :
_ أبوي أنت صُح رفعت السلاح الصبح على خالي عمران ؟
لم يجيبه جلال واكتفى بهز رأسه بالإيجاب على سؤال ابنه الكبير ، فتابع معاذ يسأله من جديد بترقب :
_ طب هو صُح خالي وچدي هما اللي قتلوا جدي خليل ؟
ترك جلال ما بيده وتنهد الصعداء بضيق قبل أن يلتفت تجاه ابنه ويتمتم بهدوء :
_ ملكش صالح بالكلام ده يا معاذ ركز في دراستك وامتحاناتك
انزعج الصبي ورد على ابيه بتذمر :
_ مليش صالح ليه .. أنت مش علطول بتقولي إني كبرت وبقيت راچل يابوي
رفع يده وملس على شعر ابنه بدفء مبتسمًا وهو يجيبه بصوت رخيم :
_ طبعًا بقيت راچل وكبرت .. ولما أكون مش موچود هبقى سايب راچل ورايا ياخد باله من أمه واخوه الصغير كأني موچود بظبط
سكت للحظة ثم تابع برزانة وحنو :
_ بس في حچات مش وقتها ياولدي .. لما يجي وقتها هتعرف كل حاچة ، دلوك أنا عايزك تركز في دروسك أهم حاچة وملكش صالح بالمشاكل دي
تنهد معاذ بيأس وقال ممتثلًا لكلام والده :
_ حاضر يابوي
ابتسم له جلال بحنو أبوى ثم ضمه لصدره يربت على ظهره برفق هامسًا:
_ يحضرلك الخير ياحبيب أبوك .. ربنا يحفظك ليا أنت وأخوك وأمك
أجاب الصبي على أبيه في حب :
_ ويخليك لينا يابوي
انحنى جلال على شعر أبنه وقبله باسمًا براحة يحمد ربه على النعم التي انعم عليه بها مرددًا ( الحمدلله ) ........
***
كانت آسيا بطريق عودتها للمنزل بعد انتهائها من شراء أقراص دواء للصداع لها .. وأثناء سيرها الهاديء بأحد الشوارع الفارغة من المارة لمحت عمران ويبدو أن هو الآخر يقصد المنزل ، فتلفتت حولها تتأكد من عدم وجود أحد ثم صاحت منادية عليه :
_ عــمــران
نتوقف على آثر ذلك الأنثوي الي صاح باسمه والتفت بجسد كاملًا للخلف فاندهش بها تقف على بعد عدة أمتار منه وتطالعه شزرًا وسط عجرفتها المعتادة ، بقى ساكنًا مكانه بتمعنها ببرود وأعين ساخرة .. تلك النظرة المستحقرة التي تراها بعيناه في كل مرة تثير جنونها ، يبدو أنه يستهين بها وبتصرفاتها لكنه لا يدري شيء عن ما يمكنها فعله ! .
تقدمت نحوه بكل تباه وثقة دون أن تحيد بنظرها الثاقب عنه للحظة واحدة ، حتى وقفت أمامه وقالت تلقى عليه تهديد صريح :
_ خليك بعيد عن أخويا وملكش صالح بيه واصل
ابتسم باستهزاء واجابها ببرود مستفز متعمد منه حتى يثير غضبها أكثر :
_ ولو مبعدتش
كادت أن تنفجر من الغيظ لكنها تمالكت أعصابها حتى لا تعطيه مراده وردت ببرود مماثل له :
_ تبقى چنيت على روحك ، وبرضك مش هتفرق لأنك إكده إكده ميت
قهقه عاليًا وأجابها من بين ابتسامة شفتيه بنظرة مميتة تدب الرعب في القلوب لكن ليس في قلب تلك الساحرة :
_ عچبني التهديد ده يابت خليل .. أول مرة حُرمة تهددني
التهبت عيناها واظهرت عن أنيابها وهي تصيح به محذرة في انفعال :
_ قطع لسانك .. الحرمة دي تروح تقولها لحد غيري لكن أنا تتكلم معايا بأدب واحترام ياعمران ، أنت لساتك متعرفش مين آسيا ولا تقدر تعمل إيه
ذلك الحديث العقيم تخطى حدود صبره ولم يعد بإمكانه البقاء هادئًا أمامها ، حيث تقدم عليها بخطوة مفاجأة فتراجعت هي بتلقائية ووجدته يرمقها بنظرة مرعبة حقًا وصوت لا يحمل المزاح مطلقًا :
_ طب اسمعيني زين يا آسيا ، عندي تقفي وتحطي مية خط واوعاكي تنسي نفسك ، أنتي تمشي رافعة مناخيرك على الخلق كلها بس عندي أنا اكسرهالك .. خليكي فاكرة الكلام ده ومتنسهوش ، واحمدي ربك أنك ست وإلا مكنتش هبقى هادي إكده معاكي
كانت صامتة تطالعه بغل دون أن تجيبه فقط تتوعد له في قرارة نفسها بينما هو فتابع ساخرًا :
_ اللي أعرفه أن الرچالة هي اللي بتتكلم وتهدد .. ولا أنتوا معدش في عيلتكم في رچالة عشان الحريم يطلعلها حس وتتكلم وتهدد .. ملكيش صالح بمشاكل الرچالة احسلك يا آسيا
انهى عباراته والقى عليها نظرة مستهزئة أخيرة قبل أن يستدير ويكمل طريقه على حيث كان ذاهب بينما هي فبقت متصلبة بأرضها تتابعه بنظرات مشتعلة ودمائها تغلي في عروقها لتهتف بوعيد حقيقي :
_ عچلت بموتك ياعمران ، هتشوف هعمل إيه وكيف هاخد حق أبويا من عيلتك كلها مش منك بس
ثم أكملت هي الأخرى طريقها للمنزل لكنها سلكت طريقًا مغايرًا حتى لا تسير معه بنفس الطريق ..........
***
داخل غرفة آسيا كانت تجوب الغرفة إيابًا وذهابًا من فرط الغيظ وكلماته تتردد بإذنها في عنف .. نظراته المستحقرة وعدم مبالاته تشعل النيران بصدرها أكثر ، قد يكون الجميع تغاضى عن حق أبيها لكنها لن تتغاضى ولن تقبل أن تذهب دمائه هدرًا ، قد تكون هي أكثر من يتألم بينهم الآن ، ومشهد قتل أبيها لا يغادر عقلها .. دمائه التي كانت تحاوطه وهو ملقى على الأرض .. حتى نظرته الأخيرة لها لم تنساها ، بعد كل هذا لا يمكنها البقاء مكتوفة الأيدي، ستنل ثأرها حتى تطفئ نيران قلبها ! .
حسمت قرارها وتوجهت نحو الفراش ثم التقطت هاتفها و أجرت اتصال بذلك الشاب الذي يدعى خالد .. فأجاب عليها بعد رنات قصيرة هاتفًا :
_ نعم ياست آسيا
آسيا بعين حمراء كلها غل وانتقام تمامًا كالساحرات الشريرات :
_ نفذ بكرا
أجابها بالموافقة دون أي نقاش :
_ حاضر
انزلت الهاتف والقت به مجددًا فوق الفراش ثم رفعت أناملها تمسح دموعها المتجمعة بعيناها .. تحركت وكانت بطريقها للحمام لكن استوقفها صوت طرق الباب الرقيق فغضنت حاجبيها باستغراب وقالت :
_ مين ؟!!
صدح صوت الصغير عمار هاتفًا :
_ أنا ياعمتي
ضيقت عيناها بقلق واسرعت للباب بسرعة تفتحه لتقابل ابن أخيها وتسأله باهتمام :
_ في إيه ياعمار أنت زين ياحبيبي ؟
اماء لها بالإيجاب وقال باسمًا برقة طفولية جميلة :
_ ينفع أنام چارك ياعمتي
سكتت بحيرة من سؤاله ثم قالت بشبه بسمة :
_ وده ليه عاد ياعمار باشا ؟!
تمتم ببراءة ورقة يستعطفها حتى لا تغضب منه :
_ أصل أنا فضلت صاحي بلعب ومنمتش ومعاذ نام من بدري وأنا خايف أنام وحدي في الأوضة
أخفت ابتسامتها بصعوبة وتصنعت الجدية قبل أن تجلس القرفصاء أمامه لتلائم قامته الصغيرة :
_ طب ومرحتش عند أبوك وأمك ليه تنام چارهم
قال بعفوية تامة :
_ عشان أمي هتزعقلي لو عرفت إني صاحي لغاية دلوك وأبوي هيقولي الرچال مبتخافش ، كيف ما بيقول لمعاذ
زمت آسيا شفتيها بتفهم ثم قالت مؤيدة كلام أخيها وهي تبتسم بمكر :
_ طب ما أبوك عنده حق ، الرچالة مبتخافش صُح
أجابها بذكاء طفولي وثقة :
_ أيوة بس أنا لساتني عيل صغير ، لما اكبر وابقى كيفه وكيف معاذ وقتها مش هخاف
انفجرت ضاحكة بقوة وقال من بين ضحكها مقتنعة :
_ تصدق اقنعتني عندك حق ، أنت لساتك صغير .. ادخل يلا
قاد خطواته لداخل الغرفة وهو يبتسم باتساع وسعادة وفورًا قفز فوق فراش عمته لكي ينام لكنها جلست بجواره وهتفت غامزة له بخبث :
_ بس مفيش حاجة ببلاش ياعمار باشا .. أنا خليتك تنام چاري الليلة دي وبكرا أنت هتعلمني اللعبة اللي بتلعبها أنت وأخوك
رمقها بطرف عينه وتمتم بعجرفة :
_ انهو لعبة ، انا بلعب لعب كتير
تحدثت بنفس طريقته وقالت بذكاء :
_ لعبة العربيات اللي على البلاستيشن بتاعكم
ابتسم بطفولية وسألها بحماس وفرحة :
_ أنتي عچبتك اللعبة دي ؟!
زمت شفتيها بتردد متصنع ثم هزت رأسها بالإيجاب وهي تبتسم بمكر ، فصمت هو للحظة ثم قال بثقة وغرور لا يليق بطفل أبدًا :
_ مش هتعرفي تلعبيها
آسيا مستنكرة رده بغرور مماثل له :
_ ليه شايفني ناقصة يد ولا رجل !
عمار بنظرات متعالية :
_ عشان دي لعبة عربيات والرچالة بس اللي بتركب عربيات وبتعرف تسوقها زين ، وأنتي مش هتعرفي تلعبيها
رفعت حاجبها مبتسمة ثم أجابته بلؤم :
_ طب ما أنت لساتك قايل أنك عيل صغير ومكبرتش وبقيت راچل وأديك بتعرف تلعبها .. كيف عاد ؟!
هيمن عليه الصمت للحظات طويلة وهو يفكر برد ذكي وكيف يجيب عليها فقال بسرعة في تباه :
_ لا أنا كنت بكدب عليكي عشان تدخليني ، أنا كبرت وبقيت راچل وعشان إكده بعرف العبها
انفجرت ضاحكة للمرة الثانية .. ذلك الصغير لم يفشل أبدًا في تعديل مزاجها بكل مرة وإدخال المتعة والسعادة على قلبها ، ولم تكن تنتهي من ضحكها حتى وجدته يقول بنفاذ صبر متنازلًا :
_ خلاص بكرا هعلمك ماشي موافق
توقفت عن الضحك بصعوبة ومدت يدها لتصافحه هاتفة بمرح :
_ اتفقنا
صافحها بقوة محاولًا تقليد طريقة الرجال في السلام القوى لكن مازالت يده صغيرة وناعمة وكانت هي تتابعه ضاحكة حتى قالت بالأخير في حزم :
_ ضحكنا وهزرنا كفاية عاد يلا على النوم طوالي الوقت اتأخر قوي
لم يعترض وفورًا تمدد فوق الفراش لينام وباللحظة التالية كانت آسيا تدخل الفراش بجواره لتنام هي أيضًا بعد يوم طويل وحافل بالأحداث الشاقة .......
***
بمساء اليوم التالي كان عمران يسير على قدميه بطريق المنزل بعد عودته من مخزن السمك القريب منهم .. كانت الساعة تخطت الثانية عشر بعد منتصف الليل والطرق هادئة ولا يوجد أحد بالشوارع سوى عدد قليل جدًا .
كان يتحدث بالهاتف مع أحدهم وهو بطريقه لكنه توقف فجأة بفزع بسيط حين رأى أحدهم يقف ينتظره على بعد خطوات وملثم الوجه لا يرى شيئ سوى عينيه ، انزل الهاتف من على أذنه وانهى الاتصال ثم حدق بذلك الرجل بقوة وصاح به :
_ أنت مين .. وواقف إكده ليه ؟!
لم يلبث للحظة ووجده يركض بتجاهه ودون أن يمهله اللحظة حتى ليتفادى الغدر كان السلاح الأبيض الصغير الذي بيده يخترق بطنه بعنف .. تشجنت عضلات وجه عمران من الألم وهو يطالع ذلك الملثم بنظرات مشتعلة وقبل أن يفر هاربًا من أمامه جذب الوشاح الذي يخفي به وجهه ليكتشف أنه الشاب المتسكع ( خالد ) ..........
............. نهاية الفصل ..........
•تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق