رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الخامس و الاربعون 45 - بقلم ندى محمود
(( ميثاق الحرب والغفران ))
_الفصل الخامس والأربعون_
خرجت داليا من غرفتها مفزوعة على أثر سماعها لصوت ابراهيم المفاجيء وهو يصرخ عليها بعد دصوله للمنزل، أسرعت نحوه وهي تسأله باستغراب:
_مالك يا ابراهيم بتزعق كدا ليه؟!
اندفع نحوها ثائرًا كالثور وقبض على ذراعها بعنف يصرخ بها منفعلًا:
_أنتي قولتي إيه لعمران!
ازدردت داليا ريقها بتوتر محلوظ فور ذكره لاسم عمران، فحاول التملص من قبضته تحدقه بثبات مزيف محاولة تكذيب الحقيقة والتهرب منها:
_مقولتش حاجة ليه.. هقوله إيه أصلًا وهو انا بشوفه فين عشان اتكلم معاه!!
التهبت نظرات ابراهيم وزاد هيجان ثورته أكثر حيث رفع يده في الهواء وهوى بها فوق وجنة داليا صارخًا بها بصوت مرعب:
_أنتي عاوزة تلبسيني العمة وتضحكي عليا.. ده أنا اقطع حسك واصل يا***.. رغم أني حذرتك لكن برضوا روحتي وقولتي لعمران على چوازي منك لا وكمان بتتبلي عليا وتقوليلوا أني قتلت خليل ده أنا هقتلك بين يدي النهاردة يا داليا
تقهقرت داليا للخلف وهي ترمقه بارتيعاد حقيقي ورغم ذلك أبت ضعفها حيث صرخت به مدافعة عن نفسها:
_أنا مقولتش لعمران حاجة والله وبعدين انا مش بتبلى عليك أنت صح قتلت خليل وسمعتك بودني وأنت بتكلم مراتك
ضحك ابراهيم بعين تلمع بالشر والغل ثم تقدم نحوها وهو يتمتم بنبرة لا تبشر بخير أبدًا:
_آه ولما سمعتيني چريتي على ولدي تقوليله عشان توقعي بينا كلنا ويروقلك أنتي الچو صُح
هزت رأسها له بالنفي وقد بدأت عيناها تذرف الدموع خوفًا منه بينما هو فلم يكن بنظراته أي شفقة، فقط كانت ترى الغضب والرغبة في الانتقام منها، لكن صوت طرق الباب القوي أنقذها من بين براثينه كما كانت تظن.
التفت ابراهيم برأسه للخلف نحو الباب للحظات يفكر بتعجب من الطارق الذي يضرب الباب بهذه الهمجية، ثم استدار بجسده كاملًا وتوجه نحو الباب يمسك بالمقبض ثم يديره ويجذب الباب عليه لينصدم برؤية عفاف أمامه وهي عبارة عن جمرة من النيران الملتهبة، وفور سقوط نظرها عليها رآها تفتح عيناها باتساع أكثر وقد بدأ الصدمة تحتل ملامحها أكثر، فقد كانت تتمنى أن يكون ما قالته آسيا مجرد إدعاء سخيف لكنه حقيقة.
رأى وجهها كله يتحول للون الأحمر الغريب وعيناها أصبحت مظلمة بشكل مخيف وبسرعة اندفعت للداخل وهي تدفعه من صدره ليفسح الطريق وتدخل وهي تصرخ بهستريا:
_هي وين خطافة الرچالة دي.. وينها الـ****
وقعت نظر عفاف على داليا التي تقف بأحد الزوايا منكمشة بخوف من زوجها والآن أصبحوا أثنين وربما لن تخرج سالمة من بينهم للحظة حمدت ربها أنها ابنتها ليست بالبيت.
غارت عفاف عليها وهي تجذبها من شعرها وتصرخ بها بكل غل ونقم:
_ده أنا هقتلك بيدي يا***
ارتفع صراخ داليا وهي تحاول الفرار من بين براثن عفاف لكن الأخرى كانت تضربها بكل عنف وهي تستمر في تلقينها بأبشع الألفاظ،فاندفع ابراهيم نحوهم وحاول فصل عفاف عن داليا وهو يصرخ بها:
_عفاف بتعملي إيه اهدى
رمقته شزرًا وصاحت به بوعيد حقيقي:
_اهدى!!.. ده انا هقتلكم أنتوا الاتنين بعد كل اللي عملته عشانك ده وتتچوز عليا ياراچل ياناقص ياخاين
في تصرف مباغت من ابراهيم كان يصفع عفاف وهو يبعدها عن داليا عمومًا صارخًا بها برجولية مخيفة:
_شكلك اتخبلتي في نافوخك وغضبك مخليكي مش دارية بروحك بتقولي إيه
رفعت عفاف يدها تضعها فوق كفها وهي تحدق في ابراهيم مندهشة ومشتعلة، وبتلك اللحظة كانت داليا قد تمكنت من التخلص من قبضة عفاف وركضت بسرعة نحو ابراهيم تقف بجواره تحتمي به من زوجته، بينما الأخرى فقد سيطر الشيطان عليها وعيناها غطتها غمامة سوداء حجبت عنها الرؤية،فوجدت نفسها دون وعي تسرع وتلتقط زجاجة المياه التي سقط نظرها عليها فوق المنضدة، وكانت تنوي أن تصفع بها داليا فوق رأسها لكن في ظرف لحظة دون تركيز منها وهي تحاول ضربها وابراهيم كان يمنعها ويبعدها عن داليا التي اختبأت خلفه، سقطت يد عفاف بالزجاج فوق رأس ابراهيم بدلًا من داليا!...
تسمرت عفاف بأرضها واتسعت عيناها بصدمة بعدما رأت ابراهيم وهو يرفع يده يضعها على رأسها موضع الجرح والدماء وثم لحظات معدودة بدأ يغلق عيناه ليسقط على الأرض فاقدًا الوعي، فصرخت داليا برعب وبسرعة جثت على الأرض أمامه وهي تمسك برأسه وتهزه بقوة صائحة:
_ابراهيم رد عليا.. ابراهيم
لكنها لم تحصل على أجابة منه، وكانت عفاف مازالت متسببة بأرضها تحدق بزوجها الساقط على الأرض والغارق في دمائه بسببها، تسارعت نبضات قلبها وانفاسها بدأت تخرج غير منتظمة وسريعة وبعد وقت من محاولات داليا في إنقاذه أو حتى افاقته، جثت عفاف على ركبتيها أمامها وامسكت به تهتف بصوت مرتجف وعينان باكية:
_ابراهيم انا مكنش قصدي ابراهيم أبوس يدك فتح عينك ياحبيبي
استقامت داليًا واقفة وهي ترمق عفاف شزرًا وتصرخ بها منفعلة من فرط الخوف والغضب:
_كنت بتقولي هتقتليه وأهو قتلتيه.. أنا هوديكي في ستين داهية ياعفاف
لم تعيرها اهتمام من الأساس حيث كان اهتمامها منصب كله على زوجها وهي تضمها لصدرها وتبكي بحرقة وسط كلامها وتوسلها بأن لا يموت ويعود لوعيه.
بينما داليا فالتقطت هاتفها بيد مرتعشة وبسرعة قامت بالاتصال برقم الإسعاف وابلغتهم بحالته وعنوان المنزل وطلبت منهم الإسراع في الوصول...
***
داخل المستشفى بعد مرور ساعتين من ذلك الحادث...
كانت عفاف ممسكة بهاتف ابراهيم بيدها وهي جالسة على أحد المقاعد الحديدية خارج الغرفة، بانتظار خروج الطبيب بعد فحص زوجها وليخبرها بحالته الصحية، وكانت على الجانب الآخر أمامها تقف داليا وهي عاقدة ذراع أسفل صدرها والآخر تمسح به دموعها المنهمرة على وجنتيها.
ارتفع صوت رنين هاتف ابراهيم بيد عفاف وعندما القت نظرة عليه وتطلعت في شاشته تقرأ اسم المتصل وجدته "عمران" فظلت تحدق بالهاتف بيدها وهو يستمر في الرنين بخوف، ربما يحتاج عمران ليكون بجوراه الآن ويتصرف بدلًا عنها لكنها تخشى من ردة فعله عندما يعرف أنها هي السبب في وضع والده، نفس الشيء مع ابنها تخشى الاتصال به لهذا السبب، توقف الهاتف عن الرنين للحظات لكن سرعان ما عاد من جديد فحسمت قرارها ورفعت الهاتف تجيب على عمران بصوت مبحوح:
_الو
ضيق عمران عيناه فور سماعها لصوت عفاف وهتف بجدية:
_مرت أبوي!!
هتفت عفاف بصوت مرتجف وخائف يغلبه البكاء:
_ايوو ياعمران أبوك في المستشفى وانا معاه ومستنية الدكتور لما يطلع ويطمنا عليه
انتفض قلبه زعرًا ليجيبها بسرعة متلهفًا:
_مستشفى ليه.. إيه اللي حُصل؟!
عفاف بخفوت مريب وعينان زائغة:
_تعالي على مستشفى (.....) ولما تاچي هتعرف
أنهت معه الاتصال وانزلت الهاتف ببطء، عندما رفعت رأسها بتلقائية نحو داليا وجدتها تحدق بها بنارية وحقد، رغم الحالة المزرية التي كانت فيها إلا أنها هبت واقفة ثائرة وهي تنوي الانقضاض عليها حتى تفض شحنة غضبها المكتظة.
اندفعت عفاف نحو داليا غاضبة لتقف أمامها وتمسك بذراعها في عنف تلقي عليها تهديدات شيطانية:
_ربنا نچدك من بين يدي.. بس اوعاكي تفتكري إني هسيبك تتهني مع چوزي
ابتسمت داليا بمرارة امتزجت بحدتها وهي تدفع بيد عفاف بعيدًا عنها هاتفة:
_چوزك اللي حاولتي تقتليه ودلوك هو چوا مع الدكاترة والله اعلم هيطلع عايش ولا لا
اشتعلت عين عفاف أكثر بمجرد ذكرها لاحتمالية موت ابراهيم وراحت تصرخ بها منفعلة بسخط شديد محذرة:
_ابراهيم هيطلع سالم من چوا.. ولما يطلع أنا مش عاوزة اشوفك چاره أبدًا وهتبعدي عن چوزي واصل
داليا بنظرة ساخرة وقوية:
_اللي عاوزاني أبعد عنه ده چوزي كيف ماهو چوزك
عفاف بعينان ممتلئة بوعيد الشر والكره:
_هيطلقك ووقتها مش عاوزة اشوفك خلقتك واصل تاني
تقوست ملامح داليا بالغضب الحقيقي بعد عبارة داليا وكانت على وشك الرد عليه بعنف وانفعال لكن توقفت عند رؤيتها للطبيب يخرج من غرفة ابراهيم، فتركت عفاف واسرعت ركضًا نحو الطبيب وكانت الأخرى خلفها.
نقل الطبيب نظره بين وجوجههم وهو يرى الحالة المزرية التي هم عليها، ليبتسم لطف بلطف ويقول بهدوء تام:
_اطمنوا الحمدلله لحقناه في الوقت المناسب وهو بخير حاليًا
رفعت عفاف يديها وهي تحمد ربها بسعادة غامرة ثم دفنت وجهها بين راحتي كفيها وهي تبكي فرحًا ومستمرة في تكرار كلمة( الحمدلله ) دون توقف، أما داليا فهتفت تسأل الحبيبي بوجع مشرق:
_طيب اقدر ادخله يادكتور
الطبيب بإيجاب وابتسامة دافئة:
_آه طبعًا تقدروا تدخلوا هو بس لسا مفاقش كمان شوية وهيفوق لو حابين تدخلوا ليه دلوقتي مفيش مشكلة
أماءت بالموافقة ثم شكرت الطبيب كثيرًا وفور انصرافه اندفعت بسرعة نحو داخل الغرفة، لكن قبل أن تفتح الباب وتدخل وجدت يد عفاف تجذبها بكل قسوة وهي تهتف لها:
_رايحة وين!
رمقتها داليا شزرًا وهتفت وهي تحاول تحرير ذراعها من قبضتها:
_ابعدي ايدك دي عني أنتي مش هتمنعيني ادخل اشوف جوزي كمان
ابتسمت لها عفاف بشر وهي تقول بنظرة مخيفة:
_آه همنعك ومش هتدخلي ولو فكرتي تدخلي المرة دي مش هتطلعي من چوا سليمة صُح
تسمرت داليا مكانها بعدما تلقت تهديدًا صريحًا منها أنها ستأذيها أذا فعلت عكس ما قالته، لا تنكر أنها خافت منها فبعد محاولتها الحقيقية لقتلها داخل منزلها ولولا القدر الذي حفظها كانت الآن ستكون مكان زوجها.
ظلت داليا واقفة مكانها دون حركة بينما عفاف فابتسمت بخبث لها وقالت بتهديد أشد عنف من السابق:
_اوعاكي تفكري تدخلي چوا ولا تكوني چار چوزي
ألقت عبارته الشرانية واستدارت لتفتح الباب وتدخل تاركة داليا بالخارج تقف مشتعلة من الغيظ والسخط الشديد....
***
داخل منزل خليل صفوان.......
داخل غرفة الجلوس الكبيرة كانت جليل تجلس مع جلال وتتحدث بغضب:
_أنا قولتلك ياچلال وكنت مأكدة أن إبراهيم هو اللي قتل أبوك
جلال بنظرة مريبة لا تبشر بالخير:
_كان لازم نتأكد الأول ياما ودلوك خلاص معدش في حاچة تاني نستناها وقريب قوي حق أبوي هيرچع
طالت نظرات جليلة القلقة لابنها قبل أن تسأله بجدية:
_هتعمل إيه ياولدي
رجع جلال برأسه للخلف ويجلس بإريحية أكثر وهو يتنهد الصعداء بقوة متطلعًا لأمه بنظرة تنبض بالشر ففهمت ما ينوي فعله، رغم أن ذلك ما كانت تريده منذ البداية وهو الثأر لزوجها لكن لا تعرف لماذا بتلك اللحظة تجمعت الدموع في عيناها وانهمرت غزيرة فوق وجنتيها، كانت دموع قهر وخوف تحمل الآن السنين السابقة كلها، فضيق جلال عيناه بتعجب وبسرعة هب واقفًا ليتجه نحو أمه ويجلس بجوارها يحاوطها بذراعه من كتفيها هاتفًا:
_مالك ياما بتبكي ليه.. أنا توقعت أنك أول واحدة هتفرحي بعد ما تعرفي أن حق أبوي خلاص هيرچع
تطلعت جليلة في وجه ابنها بعينان عارفة بالدموع لتحيبه في صوت مرير يحمل الأسى والانكسار:
_طبعًا عاوزة حق أبوك ياولدي.. أنا قلبي محروق عليه وبيتقطع كل ما افتكره ووحشني قوي ولا يمكن انسى أن الناس دي هي اللي قتلته بدم بارد قصاد عينينا، بس أنا خسرت أبوك وخسرت أختك، خايفة اخسرك أنت كمان ومعاوزاش تبعد عني، يعني معدتش متحملة فراق تاني، لو قتلته انا هخسرك أنت كمان وهتظلم عيالك وهما ملهمش ذنب تحرمهم منك
رفع حاجبه مندهشًا أن والدته هي من تقول هذا وتحاول إقناعه بالعدول عن قراره، رغم أنه يتفق معاها في آخر عبارة لكن غضبه كان أقوى حيث قال مستاءًا:
_يعني عاوزاني اسيب حقه ياما!!.. أنتي قولتيها بنفسك لتقتل بدم بارد قصاد عينا فكرك هسيبك حق يروح هدر إكده
اعتدلت جليلة في جلستها وبسرعة هتفت بالنفي في جدية:
_لا طبعًا متسيبش حقه.. بس في حل تاني غير القتل، أنا خايفة من الدم ياولدي لو رچع تاني مش هيخلص والله اعلم هنخسر مين تاني وأنا خايفة عليك، عشان إكده الأفضل أنك تخليه يعترف وتسلمه للحكومة ونبقى إكده خدنا حق أبوك وكمان محدش تاني اتأذى
ابتسم جلال مصدومًا في نظرات ساخرًا ثم هب واقفًا وهو ينظر لأمه بانزعاج شديد ويهتف:
_أنتي اللي بتقولي إكده!!.. لا ياما مش هيحُصل الكلام ده أنا حتى لو مقتلتهوش لكن مش هسيبه غير لما اخليه يتمنى الموت على يدي
استقامت جليلة هي الأخرى واقفة لتقترب منه وتمسك بيديه هاتفة في رجاء وخوف حقيقي:
_أنا اتنازلت عن فكرة القتل والدم عشان خاطرك ياولدي، طب بلاش أنا لو مش فارقة معاك لكن حتى عيالك مش فارقين معاك.. فكر فيهم الأول ياچلال، أنا لأول مرة دلوك بفكر صُح وفي مصلحتنا عشان معدتش متحملة دم تاني وخايفة من الفراق وأنا عارفة زين أن الدم مش هيخلص غير لما يخلص على الكل
استحوذ على جلال السكون الغريب مفكرًا بكلامها خصوصًا بعدما ذكرته بأولاده، وأن لن يكون هناك ضحية لذلك الثأر والغضب سواهم، هو يعلم أنه إذا فعلها سيخسر كل شيء وإذا لم يفعل سيعيش بعذاب الضمير ونيران صدره لن تنطفيء لأنه لم يثأر لوالده، والآن يعاني من بين صراعه بين قوتين ستنهي عليه هو بينهم.
انفتح الباب بتلك اللحظة ودخلت فريال وهي تحمل بيدها كوب الشاي الخاص بجلال، فاستدارت جليلة بسرعة ورفعت أناملها تمسح دموعها بينما جلال فقد استقر نظره على فريال يتطلعها مطولًا بشرود وحزن، فقد أتت بوقت لا يعرف هل مناسب أم لا، بينما كانت أمه تحاول تذكيره بما سيخسره وأنه سيفقد الجميع بما في مقدمتهم عائلته، وبالأخص زوجته بعدما تكتشف أنه قتل أبيها.
توقفت فريال وهي تنقل نظرها بينهم باستغراب من ملامحهم الغريبة بينما جليلة فقد التفتت بوجهها لفريال ورمقتها بخنق ونقم كعادتها، مما أثار غيظ فريال أكثر منها فنعادًا بها لكي تشعل نيرانها أكثر، رسمت بسمة عريضة على ثغرها وهي تنظر لزوجها بحنو ثم تقدمت نحوه وهي تهمس بحب:
_جبتلك الشاي ياسيد الرچال
كان وجه جلال جامد خالي من التعابير، فقد كان عقله شاردًا بمكان آخر يحاول التفكير فيما سيفعله، أما فريال فقد توقفت بجواره وانحنت على الطاولة الصغيرة تضع كأس الشاي فوقها ثم تستقيم واقفًا وتمسك بيده وترفع أناملها لوجهه تتحسس وجنته هاتفية بقلق:
_مالك ياحبيبي أنت ساكت إكده ليه؟
رمقتها جليلة بقرف لتجيب عليها بانزعاج:
_أنتي إيه اللي چابك دلوك
طالعتها فريال رافعة حاجبها باستنكار وهي تهتف بقوة:
_چيت اشوف چوزي هو في حاچة غلط ولا إيه يامرت عمي
انفعلت جليلة ووجهها كله أصبح أحمر كلون الدم وهي تصرخ لفريال غاضبة وموجوعة:
_الغلط هو وچودك إهنه چار ولدي، مكفكمش قتلكم لچوزي ودلوك كمان هتخلوني اخسر ولدي، احنا مشوفناش من وراكي أنتي وأبوكي وأخوكي غير المصايب، عاوزين اين منينا تاني حسبي الله ونعم الوكيل
هتف جلال وهو يمسك بأمه ويرمقها بحزم هاتفًا في غضب:
_أما متنسيش أنا واقف، بعدين قولتلك مليون مرة وأنتي عارفة زين أن فريال ملهاش ذنب في حاچة
صاحت جليلة بعصبية وغل شديد:
_ذنبها أنه ابوها
هتفت فريال بغضب تدافع عن والدها الذي لن يقتل أحد كما تعتقد هي:
_وأنا أبوي مقتلش حد وملوش ذنب كمان في حاچة
بتلك اللحظة التفت جلال لها برأسها ورمقها بنظرة مميتة عندما صاحت بأن والدها بريء ولم يفعل شيء، ليهتف بلهجة حادة يأمرها:
_فـريــال
التزمت الصمت خنقًا وإجبارًا بسبب خوفها من نظراته المحذرة، أما هو فعاد لأمه وهمس لها بحنو:
_أما أبوس يدك بلاش مشاكل أنتي عارفة اللي أنا فيه بزيادة، وافهمي أنها ملهاش ذنب زي عيالي كيف ما كنتي بتقولي دلوك، يعني هي وعيالي الضحية
ابتسمت جليلة بمرارة ثم هزت رأسها بعدم اقتناع وابتعدت عن ابنها لتستدير وتتجه لباب الغرفة حتى تغادر وتتركهم بمفردهم، وسط نظرات فريال المستفهمة والمندهشة من كلماته الأخيرة.
تحركت ووقفت أمامه مباشرة تسأله بفضول وعدم فهم:
_هو في إيه ياچلال وإيه اللي بتقوله لأمك ده.. قصدك إيه؟!
أخذ نفسًا عميقًا وأخرجه زفيرًا متهملًا ثم حاوطها بذراعيه وانحنى عليها يقبلها من رأسها بحنو متمتمًا:
_مفيش حاچة يافريال متشغليش بالك، أنا قصدي اقولها أنها متحملكيش ذنب أبوكي اكتر
فريال بثقة تامة وضيق:
_بس أنا أبوي معملش حاچة أصلًا ياچلال عشان اشيل ذنبه
رغم انزعاجه البسيط لكنه ابتسم لها بسخرية ثم انحنى على الطاولة يلتقط كأس الشاي ويبعتد عنها ليجلس فوق الأريكة دون عليها، مما جعلها تضيق عيناها باستغراب أكثر وتقترب منه تجلس بجوارها هاتفة:
_أنت ساكت ليه؟
جلال بلهجة رجولية منزعجة:
_عشان حتى لو رديت وقولتلك الحقيقة مش هتقتنعي يافريال
هتفت بعدم فهم وفضول:
_حقيقة إيه؟
طالعها جلال بنظرة ثاقبة وقال بقوة:
_أن ابراهيم الصاوي هو اللي قتل أبوي
اتسعت عيناها وتجمدت مكانها للحظات تحاول استيعاب ما قاله، هي دومًا تسمع منه اتهامه لوالدها بالقتل لكن هذه المرة كانت مختلفة، فقد رأت الثقة والغضب الحقيقي في عيناه مما جعلها تهز رأسها بالنفي بسرعة رافضة التصديق:
_لا أبوي معملش إكده ومقتلش أبوك
مسح جلال على وجهه وهو يتأفف بنفاذ صبر ثم صاح منفعلًا رغمًا عنه:
_قتل يا فريال واحنا اتأكدنا.. هو اللي قتل أبوي وعمل كل ده
امتلأت عيناها بالدموع بعد لحظات طويلة من التحديق بجلال مصدومة، لكن عقلها أو ربنا عواطفها مازالت ترفض تصديق تلك الفكرة ودفعتها للوقوف بسرعة وهي تهتف بغضب ورفض تام:
_لا مستحيل يعمل إكده.. أكيد اللي قالك إكده بيكذب عليك أو أنت بتكذب ومش عاوز تقتنع غير باللي شايفه.. أبوي مقتلش حد ياچلال
أنهت عباراتها المنفعة واندفعت للخارج ترحل وتتركه بمفردها يحدق في أثرها بحيرة وألم، لم يعد يعرف كيف سيتحمل كل هذا...
***
في الجامعة.....
ابتسمت حور بفرحة وحب عندما رأته يقف مع أحد أصدقائه ويتحدث معه بجدية، رغم انزعاجها منه لم يتحدث معها منذ يومين وفقط كان يطمئن عليها بالرسائل لكن فور رؤيتها له لم تتمكن من التحكم بعاطفتها تجاهه، وكانت تنتظره حتى ينتهي من حديثه مع صديقه لكي تذهب له.
بعد خمس دقائق تقريبًا كان ينهي حديثه ويصافح صديقه مودعًا إياه وبينما كانت على وشك الوقوف والذهاب له وجدته هو يلتفت لها وابتسم بحنو عندما سقط نظره عليها، فظلت بمكانها دون حركة وانتظرته أن يأتي لها، بالفعل تحرك وبدأت يتقدم نحوها ومازالت بسمته على ثغره حتى وصل لها وجلس على المقعد المقابل لها وهو يهتف بحب:
_تعرفي أني اتوحشتك قوي والله
لا تعرف كيف امتص غضبها بهذا الدهاء الرجولي، كانت تنوي الأنفجار به كالبركان مغتاظة لكنه غير كل الموازين بعبارته الذكية وجعل الخجل يستحوذ عليها بدلًا من الانزعاج، حيث ابتسمت بتلقائية وهي تطرق رأسها أيضًا ثم رفعت رأسها له وقالت بعبوس معاتبة إياه:
_مهو واضح الصراحة
تنهد بضيق وعينان دافئة وممتلئة بمشاعر الحب الصادق والأسف وهو يقول:
_حقك عليا والله غصب عني بس صدقيني في مشاكل كبيرة قوي ومعشان إكده مكنتش بعرف اكلمك ولا بلاقي وقت، وأنا كنت مضايق اكتر منك أني مش عارف اسمع صوتك ولا اتكلم معاكي بس مكنش في يدي حاچة
تغاضت عن كل شوية وبسرعة راحت تسأله باهتمام وقلق:
_مشاكل إيه دي.. أنت كويس يا بلال؟!
تأفف بقلة حيلة وهو يهز رأسه بالإيجاب لها مجيبًا:
_كويس الحمدلله متقلقيش.. هي شوية مشاكل في البيت وفي الشغل ومع الچامعة كل حاچة فوق بعض ومضغوط قوي بس ادعي الأيام الچاية تعدي على خير
ضيقت عيناها باستغراب وقد زاد شعور القلق والخوف داخلها أكثر حيث اعتدلت في جلستها وهتفت بنظرة حانية تترجاه من خلالها:
_بلال أنا بدأت اقلق بجد.. في إيه احكيلي وطمني؟
تأملها للحظات مبتسمًا بحب وللحظة دفعته مشاعره وكان سيمد يده فوق الطاولة ليمسك بكفها لكن عقله بسرعة منعه وأدرك الوضع وأنه لا يحق له فعلها ولا يجوز.. فتراجع وهو مازال محتفظ ببسمته ويجيبها في هدوء تام:
_متخافيش قولتلك أنا بخير وان شاء الله كل حاچة تتحل قريب
ثواني معدودة وتابع بضحكة ماكرة امتزجت بنظرته الحانقة:
_سيبك أنتي من ده كله.. المهم أنتي مقولتيش رأيك في موضوع كتب الكتاب ده ليه، أنا الصراحة مش هقدر اتحمل الخطوبة دي كتير إكده لغاية الفرح
اتسعت عيناها بصدمة وتلونت وجنتيها باللون الوردي الجميل معبرًا عن خجلها الشديد لتهتف بجدية وحياء شديد يمتزج ببسمتها الخفية:
_إيه يابلال وبعدين بقى.. أنا هقوم على فكرة
هبت واقفة وهي تضحك خفية خجلًا تهم بالانصراف لكنه بتلقائية شديد اعتدل بسرعة وأمسك برسغها يوقفها ويمنعها من الرحيل، ثواني قصيرة وأدرك يده الممسكة بها فتركها وهو يتنهد وهو يقول مبتسمًا:
_اقعدي رايحة وين!!
كانت لا تقوي على النظر لوجهه من فرط خجلها وامتثلت لأوامره الأخيرة حيث عادت لمقعدها وجلست فوق مجددًا وهي تتفادى النظر إليه، بينما هو فتمعنها بحب مطولًا قبل أن يقول بجدية تامة:
_يعدوا اليومين دول بس والمشاكل دي تتحل أن شاء الله وهكلم أبوكي على موضوع كتب الكتاب ده
رمقته بنظرة خاطفة مندهشة وسرعان ما أشاحت بنظرها بعيدًا عنه ثانية وهي تضحك في صمت مغلوبة والخجل يستحوذ عليها كليًا....
***
داخل المستشفى.........
وصل عمران أخيرًا وكان يقود خطواته السريعة نحو الطابق الثالث، حيث توجد غرفة والده وعندما توقف بالطابق الثالث ورأى رقم الغرفة اتجه نحوها لكنه تسمر بأرضه فور رؤيته لزوجة والده الثالثة وهي تجلس على مقعد حديدي أمام الغرفة وتبكي بصمت وهي تنظر للغرفة عاجزة، فتقدم نحوها منزعجًا ووقف أمامها يسألها بحدة:
_بتعملي إيه إهنه؟
هبت داليا واقفة بسرعة عندما رأت عمران وتطلعت في وجهه بضعف هاتفة بحزن:
_رچعت امبارح من القاهرة.. بس أكيد طبعًا مراتك هي اللي عملت كل ده وقالت لعفاف على جواز ابراهيم مني
غضن حاجبيها بعدم فهم وأصبحت نظراته أكثر حدة بعد ذكرها لزوجته واتهامها لها بشيء لا يفهمه حتى فقال لها:
_هو إيه اللى چرا أصلًا وابوي حصله إيه؟
تحدثت داليا وهي تسرد له ما حدث بالضبط:
_ابراهيم جه عندي وهو متعصب وبيقولي أن أنا اللي قولتلك على جوازته التالتة وعلى قتله لخليل وكان بيتخانق معايا وبعديها علطول معرفش ازاي عفاف عرفت عنوان بيتي وجات وراه وحصلت مشكلة كبيرة وكانت بتهددني بالقتل وبالفعل مسكت جزازة وكانت هتضربني بيها على راسي بس للأسف جات في ابراهيم، ومفيش غير آسيا وإبراهيم اللي يعرفوا أني جيت امبارح وأكيد مفيش غير آسيا اللي هتكون قالت لعفاف وكمان قالت لإبراهيم أن أنا اللي فضحته قدامك وقولتلك على كل حاجة
هتف عمران بصرامة ولهجة حازمة تحمل الغضب الحقيقي والتحذير:
_اسمعيني زين واعتبريه أول تحذير.. ملكيش صالح بآسيا واصل وتبعدي عنها عشان صدقيني هنسى أنك مرت أبوي لو قربتي منها، وكيف ما كنتي بعيدة عنينا تفضلي إكده بعيدة ومتقربيش بذات من مرتي.. مفهوم!
تجمدت داليا مكانها مندهشة وهي تستمع لكلماته وتهديده لها بعدم الاقتراب من زوجته، هي ظنته سيغصب وسيثور فور معرفته أن زوجته هي السبب في كل هذا لكنه لم يفعل وكان العكس تمامًا.
استدار عمران وتركها متجهًا نحو غرفة والده وعندما دخل رأى عفاف تجلس على مقعد بعيد عن الفراش وتنظر لزوجها بغضب وغيظ، وهو كان ساكنًا تمامًا يستمر في التحديق بها بصمت لكنه التفت نحو الباب عندما دخل وهتف:
_تعالى ياعمران
تقدم عمران بخطواته للداخل ثم جذب مقعد وجلس بالقرب من فراش والده وهو يرمق عفاف بغضب ونظرات مخيفة فكانت هي تتفادى النظر إليه عمدًا خوفًا منه.
عاد برأسه نحو والده وسأله باهتمام:
_كيفك دلوك يابوي؟
ابراهيم بهدوء تام وصوت خافت:
_زين الحمدلله ياولدي.. ربنا نچدني من بين يدهم
تحدثت هنا عفاف بغضب وقهر:
_وأنت اتچوزت عليا بعد كل اللي عملته معاك وفي الآخر تخوني
التفت عمران لها ورمقها شزرًا وهو يقول ساخرًا:
_اللي عملتيه إنك اتسترتي على قتله لخليل صفوان ووزتيه يعمل إكده، صُح ولا لا يامرت أبوي!
ارتبكت عفاف وظهر القلق الحقيقي على ملامحها وهي ترد على عمران بتلعثم:
_أنا معملتش حاچة
هتف عمران وهو مازال محافظ على نفس نظراته المميتة لها:
_إيه والنهاردة برضوا معملتيش حاچة!
ازدردت ريقها بتوتر وللحظة شعرت بأنه حاصرت ولا تجد مخرج من اتهاماته لها فقررت الهرب من ذنبها والقاء اللوم على شخص آخر حيث صاحت بعصبية:
_بدل ما تلومني أنا لوم أبوك اللي عمل كل ده وقتل واتچوز على أمك وعليا، أو شوف مرتك الحرباية اللي ولعت البيت كله في بعضه وهي اللي چات وقالتلي على جوازه وادتني عنوان بيت مرته الجديدة
التزم عمران الصمت والغضب الحقيقي ظهر بوضوح فوق معالم وجهه بعد عباراتها الأخيرة وهي تتحدث عن زوجته وأفعالها الشيطانية، فتدخل وهتف ابراهيم بغضب يوجه حديثه لزوجته:
_عفاف بزيادة مش عاوز اسمع كلمة تاني.. مش مكفيكي اللي عملتيه ولا إيه
رمقته بقرف وهي تلوي فمها ثم هبت واقفة بغضب وهي تتجه لخارج الغرفة لتترك الابن والأب بمفردهم...
***
بتمام الساعة التاسعة مساءًا داخل منزل ابراهيم الصاوي...
داخل ابراهيم من باب المنزل ومعه عمران يسير بجواره وكانت خلفهم عفاف التي فور دخولهم ابتعدت عنهم واتجهت لتجلس فوق أحد المقاعد وهي لا تتوقف عن نظرات النقم لابراهيم بسبب خيانته لها، ربنا في البداية ندمت على ما فعلته به لكنها الآن تقول أن لو عاد بها لزمن لفعلتها ثانية به.
أسرعت إخلاص نحوه عندما رأته بهذا الحالة ورأسه ملتفة بشاش أبيض وهو يسير ببطء بسبب تعبه، وقفت أمامه ووضعت يدها فوق وجنته تسأله بخوف:
_ابراهيم إيه اللي حُصل؟
رفع يده ومسح فوق ذراعها بحنو وهو يبتسم لها بهدوء متمتمًا:
_مفيش حاچة خبطة بسيطة بس في راسي وعدت على خير الحمدلله
نظرت إخلاص لعمران بعدم فهم وخوف فهو رأسه لها بهدوء وقسمات مرتاحة ليطمأنها، بينما ابراهيم فأمسك بيد إخلاص وهتف بتعب بسيط:
_يلا تعالى معايا فوق يا إخلاص، تعبان ومحتاچ ارتاح شوية
لأول مرة منذ سنوات يطلب منها المساعدة أو مرافقتها له ويظهر رغبته في البقاء معها أثناء تعبه، فدومًا ما يكون مع عفاف بتلك المواقف، التفتت برأسها نحو عفاف المشتعلة بنيران الغيرة وابتسمت في سعادة وتشفي ثم اقتربت منه وعلقت ذراعها بذراعه لتأخذ بيده وتساعده على السير معها وهي تهتف مبتسمة:
_يلا ياحچ
وسط كل هذا كانت آسيا تقف بأحد الزوايا وتتابع ما يحدث وتنقل نظرها بين ابراهيم وعفاف وهي ترى الحالة الذي عاد بها للمنزل بعدما غادر بالصباح سالمًا، كان ثغرها يميل للجانب في بسمة متشفية وكلها كره وخبث، لكن تلك البسمة اختفت بلحظة عندما رأت نظرات عمران المرعبة له، هي تعرف هذه النظرات جيدًا مما جعلها تتصلب مكانها خوفًا منه ووسط تساؤلاتها عن سبب نظراته، ولم يدم تفكيرها طويلًا حتى وجدته يتحرك ويمر من جانبها متجهًا الدرج يقصد غرفتهم بالاعلى ويهمس لها بلهجة رجولية صارمة:
_ورايا طوالي
ازدردت ريقها بتوتر ثم مصمصمت شفتيها بخوف وتحركت ببطء خلفه، تقدم خطوة وتأخر الثانية حتى وصلت أخيرًا لغرفتهم وكان هو قد وصل قبلها وينتظرها بالداخل، فدخلت للغرفة وتوقفت عندما سمعته ينظر للباب ويقول بلهجة حازمة:
_اقفلي الباب
تلك العبارة زادت من توترها أكثر، فاستدارت وأغلقت الباب ببطء ثم التفتت له وتقدمت بضع خطوات له حتى وقفت على بعد مسافة قصيرة منه، وظلت تتطلع لوجهه ومعالمه المخيفة وهو يحدقها بكل غضب وحدة حتى تحدثت وسألته بصوت خافت:
_عمران أنت بتبصلي إكده ليه؟!
..........نهاية الفصل.........
•تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق