Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الرابع و الثلاثون 34 - بقلم ندى محمود

 رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الرابع و الثلاثون 34 - بقلم ندى محمود 

(( ميثاق الحرب والغفران ))

_الفصل الرابع والثلاثون _


مرت ساعات منذ حديثهم الأخير الذي انتهى بجدال غير متوقع واعتراف صادم بالنسبة لها، والنهاية كانت رحيله وهو غاضب دون أن يترك لها فرصة للرد عليه، تركها بين تساؤلاتها الكثيرة ونبضات قلبها المتسارعة لا تعرف هل يجب عليها الفرح أم القلق، ربما لا تصدقه وربما كانت لا تتوقع منه اعتراف بتلك الطريقة الغريبة، أو كانت تنتظره أن يكون أكثر رومانسية كما تخيلته دومًا، لكنه يتركها منذ ساعات بمفردها في وقت ولحظات من المفترض أن يكون فيها معها، ربما هو محق قليلًا في غضبه ولا تنكر أنها قد تكون ازعجته حقًا بأصرارها  على تجاهله وتعاملها بجفاء حتى لو كانت تعلم أنه لا يحبها؛ لم يكن عليها أن تكون قاسية هكذا معه وهو يحاول مواساتها ودعمها بكل لطف وحنان، لكن كل هذا لا يبرر تركه لها وسط جحيم تفكيرها وقلبها المتهلب بعد القائه لقنبلة غير متوقعة، هي أيضًا من حقها الحصول على تفسير لكل شيء والشعور بصدق مشاعره.

سئمت وحدتها وتمددها فوق الفراش فقررت الخروج وكانت على وشك أن تجذب المقعد المتحرك وتحاول الجلوس فوقه لكنها توقفت عندها وجدت الباب ينفتح ويظهر هو من خلفه حاملًا فوق ذراعيه صينية لطعام العشاء، رمقته بقسمات وجه غامضة ليست غاضبة ولا سعيدة بينما هو فاقترب منها وجلس على آخر الفراش ليضع الطعام بالمنتصف هاتفًا لها بخفوت:

_كلي عشان تاخدي العلاچ

رمقته بنظرة قوية تحمل الدهشة وعدم الاستيعاب، يجلس أمامها يتحدث بكل إريحية وكأنه لم يقل شيء منذ ساعات، بدلًا من أن يفسر لها ما قاله ويثبت حبه.

ظهر الانزعاج على معالمها فقالت له باقتضاب وهي تشيح بوجهها للجانب:

_مش عاوزة أكل

رفع حاجبه بتعجب وقال في نبرة رجولية صلبة:

_مفيش حاچة اسمها مش عاوزة.. لازم تاكلي عشان العلاچ

ثم تابع بلهجة تحمل السخرية والضيق الملحوظ يلقي بتلميحاته المغتاظة:

_لو عايزة ترچعي تقفي على رچلك تاني عشان متحسيش بالشفقة من حد ولا تحسي نفسك تقيلة على الناس

رمقته شزرًا وقالت بعناد شديد:

_قولتلك مش عاوزة 

مسح على وجهه وهو يتأفف مستغفرًا ربه ثم حدقها بحدة وقال في لهجة لا تحمل المزاح:

_آسيا أنا مش هدادي فيكي كيف العيال الصغيرة.. كُلي 

استقرت نظراتها المشتعلة داخل عيناه وهي ترمقه بتحدي وعدم اكتراث ثم تمتمت بنبرة محتقنة:

_اطلع برا وهملني لحالي 

التهبت نظراته واحتقن وجهه من فرط الغيظ فاستقام واقفًا وقال بلهجة آمرة وهو يشير نحو الطعام:

_أنا هدخل الحمام آخد دش ولما اطلع الاقيكي خلصتي الوكل ده

تركها واتجه نحو الحمام فبقت هي مكانها لدقائق تنظر نحو الحمام وهي تشتعل غيظًا منه وبين كل لحظة والأخرى عيناها تسقط على الطعام، تحاول المقاومة لكن شعورها بالجوع يجذبها نحوه بشدة، لوقت طويل نسبيًا جاهدت في البقاء صامدة لكن بالنهاية استسلمت وراحت تبدأ في تناول الطعام، كان طعمه لذيذ وشهي وكانت بين صدمتها أنه يملك موهبة الطبخ بهذه الاحترافية وبين جوعها الشديد الذي يجعلها تأكل بشراهة.

خرج من الحمام بعد الانتهاء فوجدها انتهت للتو من طعامها ابتسم وقال لها بغلظة:

_چدعة 

لوت فمها مستهزئة وردت عليه بقرف:

_كلت عشان مصلحتي بس مش خوف مثلًا كيف ما أنت فاكر 

اتسعت ابتسامته ورد بتأكيد وهو مستمر بتجفيف شعره من المياه بالمنشفة:

_أه ما أنا عارف

تفادت النظر إليه ومالت برأسها للجانب حتى لا تراه، بينما هو فأكمل ارتداء ملابسه واقترب من الفراش، رفع الغطاء وفور جلوسه بجوارها التفتت له وقالت بضيق:

_هتنام چاري ليه! 

جز على أسنانه مغتاظًا منها ثم هتف بنبرة منذرة:

_نامي يا آسيا وعدي الليلة على خير

انفعلت وصاحت به بغضب حقيقي:

_مس هعديها ياعمران.. معاوزكش چاري

طفح كيله وانفجر بركانه وكان على وشك أن ينخرط معها في شجار عنيف وهو يصرخ لكن فجأة انطفأت الأضواء والظلام الدامس ملأ الغرفة والمنزل كله، صمت مخيف هيمن عليهم وهم لا يرون بعضهم من الظلام لكنها شعرت به يقف ويتحرك لخارج الغرفة وهو يقول لها باستياء وعصبية:

_خليكي لوحدك طالما معاوزنيش

استمعت لعبارته القاسية ثم سمعت خطواته خارج الغرفة، فظلت هي وحيدة في الظلام فوق فراشها وبعد ثلاث دقائق بالضبط من التفكير وهي تتذكر كلماته وانفعاله عليها انهارت في البكاء الصامت، وحزنها زاد الضعف بسبب عدم قدرتها على الحركة وملازمتها لذلك الفراش مجبرة.

بينما كانت منخرطة في في البكاء انتفضت مفزوعة عندما شعرت بشيء غريب يحك بقدميها، كانت ستحاول التحرك لكنها لم تستطيع وبرعب وسط الظلام راحت تصرخ عليه بصوت مبحوح:

_عــمــران

لحظات معدودة ودخل الغرفة مفزوعًا ثم أشعل إضاءة هاتفه واقترب منها يسألها باهتمام:

_مالك إيه اللي حُصل؟ 

قالت بخوف ووجه ممتلأ بالعبرات:

_حسيت بحاچة بتلمس رچلي

انحنى عليها وكشف الغطاء عن قدميها فوجد سترة شتوية مصنوعة من الفرو أسفل الغطاء بجانب قدميها فابتسم بهدوء وعاد يدثرها بالغطاء مجددًا بعد أن سحب السترة ورفعها أمامها لكي تراها، ثم جلس على الفراش بجوارها ومد أنامله لوجهها يمسح دموعها هامسًا:

_اهدى مفيش حاچة خلاص

رمقته بنظرة مليئة بالعتاب والحزن ودون تردد استمعت لصوت قلبها وراحت تلقي بنفسها بين ذراعيه تضع رأسها فوق صدره وتحاوطه بذراعيها متمتمة بضعف غريب:

_متهملنيش تاني 

مال ثغره للجانب في بسمة عاشقة ثم رفع ذراعه يلفه حولها ليضمها إليه أكثر ويقول بعبث وخبث:

_ليه مش كنتي معاوزنيش چارك من شوية

رفعت رأسها عن صدره ونظرت له بغيظ تهتف:

_وأنت ما صدقت قولت الكلمة يعني!

قهقه بصوته الرجولي الساحر ثم أجابها بحنو من بين ضحكه:

_طيب يا آسيا حقك عليا، اديني چارك أهو ومش هسيبك اطمني عاد 

كانت ستبتسم له بحب لكنها تصنعت الجمود بسبب انزعاجها منه، بينما هو فتأملها بغرام لثواني قبل أن يميل عليها ويقبلها من جبهتها برقة ثم يضمها لصدره مرة أخرى.

                                      ***

بصباح اليوم التالي داخل منزل خليل صفوان.......

كانت فريال تقف أمام المرآة تنظر لمظهرها وملابسها الجديدة ووجهها الذي قامت بتزيينه بمساحيق الجمال وارتدت حجابها، ثم خرجت من الغرفة وقادت خطواتها للدرج تقصد الطابق الأرضي، عندما وصلت رأت جليلة وجلال يجلسون على الأريكة ويتحدثون بجدية، فتنحنحت بقوة وتحركات نحوهم ثم جلست على مقعد بعيد نسبيًا عنهم وهي تلقي بنظرها بعيدًا عن زوجها الذي يتأملها بحزن، بعد لحظات معدودة التفتت أخيرًا وتبثتت نظرها على جليلة ثم سألتها باهتمام:

_آسيا كيفها يامرت عمي؟ 

تطلعت لها جليلة للحظات بوجه خالي من التعابير قبل أن تجيب عليها بخفوت امتزج بخنقها:

_زينة الحمدلله.. لكن أخوكي ضحك على بتى وخدها تحت دراعه مرضيتش ترچع معانا ولا تبص في وشنا

تنهدت فريال الصعداء بعبوس وردت في بساطة وجدية:

_أنتي عارفة أن عمران ملوش صالح.. لو في سبب لتصرفات آسيا فهو أنتوا واللي عملتوه معاها.. لكن هي دلوقتي طبيعي ترفض تسيبه وهي بتحبه 

اتسعت عين جليلة بدهشة وبسرعة هتفت مستاءة بشدة:

_تحبه كيف يعني وميتا لحقت تحبه.. أنتي بتخرفي يافريال ولا إيه!

ومن فريال شفتيها ببرود وردت عليها مبتسمة:

_لا بقول الحقيقة ونصيحة يامرت عمي تتقبليها عشان خلاص آسيا حتى لو سامحتكم مش هترچع تاني ولا عمران هيسيبها

التفتت جليلة نحو جلال الذي كان يتابع حديثهم بصمت وهتفت له منفعلة تشتكي زوجته بخنق:

_شايف مرتك بتقول إيه ياچلال.. چاية تحرق دمي 

مالت فريال بوجهها للجانب وكتمت ضحكتها بصعوبة بينما هو فتنهد ورتب على ذراع أمه بحنو وهو يقول بزرانة:

_مش مهم ياما اللي بتقوله فريال.. المهم دلوك أن آسيا تسامحنا الأول، متضايقيش روحك عاد وقومي روحي اوضتك ريحي جسمك ونامي

لوت جليلة فمها بانزعاج ملحوظ ثم ألقت على فريال نظرة أخيرة ممتلئة بالغيظ واستقامت واقفة لتتحرك باتجاه الدرج تقصد غرفتها بالأعلى.

فور انصراف جليلة هبت فريال واقفة وكانت ستهم بالصعود لغرفتها هي أيضًا لكنه أسرع نحوها وقبض على ذراعها بلطف وهو يهمس لها برجاء:

_فريال تعالى معايا المكتب چوا عايز اتكلم معاك عشان خاطري 

جذبت يدها من بين قبضته بعنف ورمقته شزرًا وهي تقول بقسوة:

_مفيش حاچة بينا نتكلم عليها غير العيال، ولو عاوز تقول حاچة تخصهم يبقى قول دلوك مش عاوز يبقى متتكلمش معايا واصل

التفتت وسارت باتجاه الدرج لكن أوقفها ابنها الصغير الذي دخل من باب المنزل وهو يصرخ بفرحة:

_أما.. أبوي 

استدارت له وهي تبتسم باستغراب على حماسه وفرحته ثم تقدمت منه لتقف بجواره فتراه يخرج ورقة مستطيلة كبيرة بها شهادة تقدير على درجاته المرتفعة والجيدة في امتحانات منتصف العام ويقول بسعادة طفولية جميلة:

_المدرسة النهاردة كرمت اللي طالعين الأوائل وأنا ومعاذ كنا من الاوائل بصي ياما

اتسعت عيني فريال بدهشة امتزجت بفرحتها الغامرة وهي تلتقط الورقة من ابنها وتتمعنها بتدقيق، بينما معاذ فأخرج شهادته واعطاها لوالده وهو سعادته الذي تظهر على ملامحه لا تقل عن أخيه الصغير.

لمعت عيني فريال وامتلأت بالعبرات من فرط شعورها بالفخر والسعادة لنجاح أولادها وراحت تحتضنهم وتضمهم لصدرها وهي تلثم شعرهم بقبلات متتالية وتتمتم:

_عيالي الشطار حبايب أمهم اللي دايمًا رافعين راسي عقبال ما اشوف شهادة تخرجكم كدا ياحبايبي وافرح بيكم

انحنى جلال على رأس كل من ولديه وقبلهم بحنو متمتمًا في نبرة أبوية جميلة:

_عشان الدرجات الحلوة دي يلا جهزوا روحكم بكرا في مفاچأة 

قفزوا الأثنين فرحًا وهم يصرخون وسط ضحك فريال وجلال عليهم، لكن الجميع توقف عن الضحك عندما ظهرت منيرة وهي تسأل بوجه ساخر بعض الشيء:

_إيه بتصرخوا على إيه إكده؟! 

تبادل الطفلين النظرات المشمئزة فيما بينهم بينما فريال فثبتت عيناها على منيرة وهي تتمعنها بثقة وشموخ، وعندما وصلت أمامهم ووقفت بجوار جلال ابتسمت فريال بخبث وراحت تسألها:

_كيفك دلوك يامنيرة العيال بيقولولي مطلعتيش من اوضتك من وقت الدرس اللي ادتهولك

التهبت عيني منيرة وهي تتطلع في فريال أما جلال فراح ينقل نظره بينهم ثم سأل فريال بخشونة:

_درس إيه ده؟! 

تحدث عمار وهو يقول متشفيًا في زوجة أبيه:

_أصل مرت أبوي ضربتني لما كنت مسافر يابوي وأمي أدتها درس زين قوي

ظهر الذهول على معالم جلال الذي بظرف لحظة راح ينظر لمنيرة ويهتف لها ببشائر غضب مخيف:

_اللي بيقوله ده صُح!!

ارتبكت منيرة ولاح الخوف على ملامحها وهي تدافع عن نفسها أمامه:

_مضربتهوش ياچلال زعقلته وعشان هو قل أدبه عليا بس 

تدخلت فريال وتقدمت منها لتقف أمامها مباشرة وتقول بنظرات نارية ولهجة محذرة:

_ولدي مبيكدبش، متربي احسن تربية مش كيف تربيتك

منيرة بعصبية شديدة:

_احترمي روحك يافريال واتكلمي زين معايا 

قبض جلال على ذراع فريال برفق وهمس له بنبرة لينة:

_فريال خلاص مش قصاد العيال مينفعش إكده 

جذبت يدها من قبضته وصاحت به هو ومنيرة منفعلة:

_لو رفعت يدها على ولادي تاني هكسرهالها المرة الچاية

جلال بحدة وغضب حقيقي بدأ يظهر:

_بزيادة عاد يافريال متنسيش أنهم عيالي كمان يعني مش أنتي وحدك اللي هتخافي عليهم 

ابتسمت له ساخرة ثم اقتربت منه وانحنت على أذنه تهمس له بلهجة لا تحمل الشفقة في صوت منخفض:

_مهو واضح قوي حبك لولادك .. لو كنت بتحبهم صُح مكنتش هتجبلهم الشيطانة دي في البيت

رأت تحول ملامحه لشكل مريب وبينما كانت على وشك الانصراف منعها بيده التي حاوطتها من خصرها بقوة، ثم نظر لمنيرة وقال لها بحدة:

_اطلعي فوق واستنيني حسابي معاكي بعدين 

ثم التفت نحو أولاده واملى عليهم تعليماته الصارمة:

_وانتوا يلا على اوضتكم فوق 

بينما فريال فكانت تحاول التملص من بين قبضته وهي تتطلعه شزرًا لكنه لا يبالي بالتواء جسدها بين ذراعه وفور رؤيته لزوجته وأولاده وهم يصعدون الدرج متجهين لغرفهم، انحنى بسرعة وحمل فريال فوق ذراعيه وهو يتجه بها نحو غرفة مكتبه الخاصة وسط صياحها المنفعل به ومقاومتها الشديدة له.

                                    *** 

فتحت آسيا عيناها بانزعاج على أثر أشعة الشمس المتسللة من النافذة، شعرت بملمس دافيء ومريح أسفل رأسها وعندما رفعت رأسها أدركت أنها نائمة بين ذراعيه ورأسها كانت فوق صدره، تأملته وهو نائم وعلى ثغرها ابتسامة مغرمة جميلة ولوهلة تمنت أن تبقى طوال اليوم على هذا الوضع ولا تبتعد عنه، لكن سرعان ما اختفت بسمتها عند تذكرها لشجارهم بالأمس واعترافه بحبه لها بطريقة مثيرة للانفعال ومن ثم تصرفه بكل ببرود وكأنه لم يقل شيء، غلت الدماء في عروقها وراحت تتوعد له.. أن كان اعترافه حقيقي فهي تعرف جيدًا الطريقة المناسبة لجعله يأتي لها مجددًا ويركع أسفل قدميه طالبًا العفو منها على حماقته.

ابتعدت عن حضنه ومدت يدها لمقعدها المتحرك تجذبه نحو الفراش ثم جلست وحاولت تحريك جسدها حتى نجحت بالنهاية وجلست فوق المقعد ثم تحركت به للحمام ودخلت وبعد ثانية بالضبط توقفت وعادت بالمقعد للخلف مجددًا تلقي نظرة عليه فوجدته نائم ضيقت عينيها بغيظ وراحت تدخل مجددًا وهذه المرة صفعت الباب بقوة كادت تخلعه من مكانه، انتفض هو مفزوعًا على أثر صوت الباب وعندما التفت بجواره ولم يجدها وبظرف لحظة ربط بين عدم تواجدها وصوت الضجة المرتفعة الذي استيقظ مفزوعًا عليها فظن أن صابها مكروه، كل ذلك حدث بثواني حيث وثب واقفًا واسرع نحو الحمام وهو يفتح الباب عليها هاتفًا:

_آسيا أنتي كويسة؟ 

شهقت بصدمة وراحت تصرخ به مزعورة:

_إيه ياعمران مش تخبط الأول! 

رآها تجلس فوق مقعدها وسالمة ليس بها أي مكروه فغضن حاجبيه متعجبًا ثم أردف بخفوت يحمل بعض الأمل:

_أنتي قومتي لوحدك وچيتي الحمام؟!!

سكتت لثواني مستنكرة سؤاله قبل أن تجيبه ضاحكة:

_أنت شايف إيه! 

تقدم نحوها وجثى أمام مقعدها وهو يحدق بوجهها ويسألها بقلق ودفء:

_يعني أنتي زينة ومحصلكيش حاچة لما قعدتي لوحدك على الكرسي 

عادت برأسها للخلف وهي تتأفف بقلة حيلة ثم عادت له مجددًا وقالت بجدية بسيطة:

_عمران أنت شايف احنا وين.. أنا في الحمام ممكن لما اطلع نكمل كلامنا

رغم انزعاجه منها لكنه كبت غيظه وحوله لمرح وخبث حيث راح يغمز لها ويقول بنبرة لعوب:

_ونكمل لما نطلع ليه ما أنا معاكي أهو وقاعد جمبك عشان اساعدك لو احتجتي حاچة 

فغرت شفتيها وعينيها بصدمة وبسرعة راحت تهتف به برفض قاطع وخجل ملحوظ:

_أنت مهتم بيا وعاوز تكون چاري في كل وقت وكل حاچة وأنا مقدرة ده ومشكور يامعلم بس مش للدرچادي، دي الحاچة الوحيدة اللي مينفعش تكون فيها چاري

 كان ينظر لها بابتسامة عريضة وهو يسمعها واستمر ضحكه وصمته حتى بعدما انتهت وتوقفت عن الحديث فتقوست هي ملامح وجهها بقلق حقيقي وارتباك من نظراته وسكونه وقالت له بحزم:

_عمران اطلع برا قاعد قصادي إكده ليه!

ضحك بقوة على تعابير وجهها ثم انتصب واقفًا وتمتم له بمكر وهو يغمز بثقة:

_هطلع متقلقيش، ومسيرك هتحتچيني في حچات تاني كتير ياغزال 

تابعته بنظراتها المندهشة من تصرفاته الغريبة وتلك الوقاحة التي تظهر لأول مرة منه وفور انصرافه انطلقت ضحكتها الصامتة رغمًا عنها...

دقائق طويلة نسبيًا قضتها داخل الحمام وعند خروجها وجدته يجلس فوق الفراش ويتحدث في الهاتف مع بشار.. فهمت من كلامه أنه يتحدث عن العمل وعدم قدرته على الذهاب وهو يلقي بتعليماته الجادة على ابن عمه حتى يتابع الأعمال هو بدلًا منه هذه الفترة.

كان هناك بعض الأسئلة التي تسبح في عقلها لكنها أثرت تجاهلها رغم صعوبة ذلك وتصرفت بعدم اهتمام، حيث تحركت بمقعدها نحو المرآة ووقفت أمامها ثم جذبت فرشاة الشعر وبدأت بتسريح شعرها، كانت بين كل لحظة والأخرى يسقط نظرها على صورته في انعكاس المرآة فتراه يتمعنها بعمق فتشيح بنظرها بسرعة في اضطراب ملحوظ، لكن فجأة وجدته يتحرك وينحنى عليها من الخلف وهو يمد يديه ويجذب مقعدها للخلف، تجمدت يدها مكانها وهي ممسكة بفرشاة الشعر وانتهى الأمر وهي أمامه بالمقعد وهو خلفه يجلس فوق الفراش، وخطوته التالية كانت جذب الفرشاة منها وكل ذلك كان يتم بكل الحنو والرفق منه مما جعلها متسمرة مكانها كالصنم لا تحرك رأسها حتى ومستسلمة لكل فعل وحركة منه، عقلها يصرخ عليها وبذكرها بوعدها منذ قليل بأنها ستتجاهله وقلبها مسيّر وراء عواطفه.

شعرت به وهو يمرر الفرشاة بين خصلات شعرت يسرحه لها بكل رفق، أغمضت عيناها بسكينة وهي تبتسم بحب، كانت تشعر أنه يفهم ويدرك جيدًا تأثير تصرفاته عليها ويستمر بفعلها لهدف معين لا تعرفه، ويبدو أن المبارة هذه المرة لن تكون لصالحها كما اعتادت.

قطعت الصمت الجميل الذي بينهم بسؤالها الذي كان يأكلها أخيرًا:

_أنت مش هتروح الشغل لا وإيه؟ 

أجابها بهدوء تام وهو مستمر بتسريح شعرها:

_لا بشار قاعد إهنه وهيكمله بدل مني 

طرحت سؤالها الثاني وهي تنتظر سماع إجابه خاصة:

_وأنت مش هتنزل ليه؟

كأنه قرأ أفكارها فابتسم عند سؤالها وأجابها بنبرة رجولية تذيب القلب:

_عشانك.. مينفعش اهملك لحالك في البيت

منعت ابتسامتها من الظهور وقالت بخفوت محاولة إظهار التمنع:

_بس أنا زينة وأنت شوفتني بنفسك كيف بقوم لوحدي

سرت قشعريرة في جسدها كله عندما شعرت بأنفاسه خلف أذنها ويده التي امتدت لتحتضن كفها وترفعه لثغره ليلثمه بحب متمتمًا:

_بس أنا مش هبقى مطمن عليكي ياغزالي غير وأنتي قصاد عيوني، دلوك مفيش حاچة بنسبالي أهم منك ياغالية 

التفتت له برأسها وطالعته بعينان دامعة ثم سألته بخوف:

_عمران هو أنت بتعمل إكده عشان حاسس بالذنب وأن اللي حُصلي بسببك وأنا فديتك بروحي

ظهر الانزعاج على ملامحه بلحظة ثم أردف لها بنفاذ صبر وضيق:

_تاني يا آسيا!!.. مش هنخلص عاد من الحوار ده ولا إيه!!.. بزيادة كفياكي متسمميش فرحتك وراحتي بكلامك ده أبوس يدك

عادت برأسها للأمام في وجه عابس ورغم محاولاتها لحبس دموعها لكنهم انهمروا لا إراديًا، فوجدته يدير مقعدها لتصبح مواجهة له وبيده يمسح دموعها وينحنى عليها يلثم جبهتها وشعرها بعدة قبلات متتالية وسط همسه المحب لها:

_أنا اكتر حاچة بتنمناها دلوك إنك ترچعي تقفي على رچلك تاني، مش عشاني لا عشانك؛ عشان مبقتش متحمل اشوف كسرتك ودموعك اللي مبتچفش من عيونك، وصدقيني أنتي بس تقومي من تاني وأنا مش هحرمك من حاچة واصل وكل طلباتك أوامر، بس أنا دلوك مش طالب منك غير حاچة واحدة إنك تستحملي شوية وتخليني امسك يدك واقف چارك عشان نعدي المحنة دي على خير، عايز أشوفك قوية كيف ما متعود عليكي

تمتمت بصوتها المبحوح والبائس:

_ضعفي وكسرتي أنا مش بسمح لمخلوق يشوفهم غيرك أنت بس

احتضن وجهها بين كفيه وهمس وهو ينظر في عيناها بحب:

_اسمحيلي كمان أكون چارك وبزيادة كلامك الماسخ ده متبعدنيش عنك

ردت عليه بالصمت وسط دموعها فضمها هو لصدره وهو يقبل شعرها لوقت طويل ثم همس لها بخفوت:

_هنُفطر وبعد إكده هنبدأ جلسات في البيت وتدريب كيف ما قال الدكتور

ابتعدت عنه وهزت رأسها بالموافقة في صمت فابتسم لها وعاد يلثم ظاهر كفها من جديد قبل أن يستقيم واقفًا ليتركها ويغادر.......

                                  ***

وجدت نفسها حبيسة داخل مكتبه بعدما اغلق الباب عليهم حتى يمنع خروجها منعًا باتًا، فحدقته بنظرة مشتعلة وصاحت به:

_چلال افتح الباب وطلعني 

كان اللون الأحمر يملأ وجهه كله من فرط الغيظ ولم يكترث لها بل تقدم إليها بخطوات متريثة، وهي استمرت في التقهقهر للخلف وهي ترفع سبابتها في وجهه وتحذره بغضب امتزج بتوترها الملحوظ:

_وقف عندك ومتقربش مني.. لو فكرت تلمسني مش هيحُصل طيب يا چلال

لا يسمعها ولا يهتم بأى كلمة تقولها حتى تحذيرها له استفزه أكثر فراح يجذبها من خصرها بقوة لتصطدم بصدره عنادًا بها ويهتف بنفاذ صبر وغيظ:

_اديني لمستك وريني هتعملي إيه يلا

التهبت عيناها وبلحظة غضب وعدم وعي منها رفعت يدها في الهواء وكانت على وشك أن تصفعه لكنه قبض على كفها في الهواء وانزله مجددًا في أعين مخيفة، ثم هتف لها بمرارة:

_أنا غلطت مرتين، وأول مرة صحيح كنت استحق عقابك ليا لأني عملتها وأنا واعي، وتاني مرة رغم أني قعدت فوق راسك وأنا بترجاكي وبحلفلك إني مكنتش حاسس بروحي ولا باللي بعمله محاولتيش حتى تفهميني... 

صرخت به وهي تقاطعه بمنتصف حديثه:

_أنت اتچوزت عليا وفوق ده قضيت ليلتك معاها وهي في حضنك وعايزني افهمك كيف يعني، وحتى لو مكنتش داري بروحك كيف ما بتقول صُح برضوا أنت السبب في كل ده لو مكنتش ضحيت بحبنا وكسرتني واتچوزت مكناش هنوصل للمرحلة دي 

فغر عيناه بصدمة هتف مستنكرًا:

_مين اللي ضحى.. هو مش أنتي اللي هملتيني من غير ما تفهمي حاچة وطلبتي الطلاق وكنتي عاوزة تاخدي عيالي.. كان عندك استعداد تهدي كل حاچة في لحظة وأنتي أصلًا محاولتيش تواجهيني وتسأليني 

فريال بعصبية شديدة:

_متقارنش غلطك بغلطي، اللي أنت عملته ملوش غفران.. أنت كأنك ما صدقت تلاقي فرصة عشان تروح تتچوز عليا 

صرخ بها منفعلًا:

_مش عاوزة تقتنعي إنك غلطانة وليكي سبب في اللي احنا فيه دلوك.. انتي شايفيني الشيطان اللي في القصة دي وأنتي الملاك اللي مبيغلطش

صرخت مثله في عناد:

_وأنت عايش دور الضحية ياچلال

هدأت نبرة صوته وظهر بها العجز وانعدام الشغف في مزيد من جدال لإثبات عشقه لها:

_أنا بحبك 

ارتخت عضلات وجهها وكذلك جسدها ثم أجابت عليه بألم:

_مش عاوزة حبك لو هتحبني إكده يبقى متحبنيش احسن

نظر في عيناها بلمعة أمل وشجن:

_وأنتي مكنتيش بتحبيني!.. اللي أنا شايفها قصادي مستحيل تكون فريال حببيتي.. القسوة اللي في قلبك والكره ده عمري ما شوفته منك

تلألأت العبرات في مقلتيها وهي تجيبه بأسى:

_أنت قتلتها ياچلال، فريال اللي كنت بتحبها وتعرفها قتلتها

جلال بصوت موجوع ويمزق القلوب:

_ومين قالك إني عايش أنا مت معاها من زمان.. ومين عارف يمكن قريب متلاقنيش صُح وقتها هتبقى ارتحتي مني واصل 

انهمرت دموعها غزيرة فوق وجنتيها بعد عبارته الأخيرة ووجدته يتركها ويبتعد عنها ليجلس فوق الأريكة ويناولها مفتاح الباب وهو يدفن وجهه بين راحتي يديه متمتمًا:

_اطلعي يافريال.. حبسي ليكي مش هيفيد بحاچة ولا هيخليكي ترچعي تحبيني وتغفري 

بقت مكانها لوقت طويل وهي تتمعنه وسط بكائها ثم جذبت المفتاح من يده واتجهت نحو الباب، لكن بمنتصف الطريق توقفت على أثر دوار شديد داهمها وبظرف ثواني كانت الرؤية تتشوش أمامها وكل شيء يصبح أسود ولم تشعر بنفسها سوى وهي تسقط فوق الأرض فاقدة الوعي.

                                     ***

داخل منزل عمران بالقاهرة.....

كان يمسك بيدها ويحثها على الوقوف لكنها كانت متسمرة بمقعدها دون حركة وتتطلعه بخوف وتردد ثم تقول له:

_مش هقدر ياعمران

انحنى عليها أكثر وأمسك بذراعيها ولفهم حول رقبته ثم تمتم لها مبتسمًا بثقة:

_هتقدري ارمي حملك كله عليا وحاولي تقفي واحدة واحدة 

التقت نظراته المرتبكة مع عيناه الثاقبة فابتسمت تلقائيًا برقة، وبدأت تحاول النهوض من المقعد والوقوف على قدميها، بعد محاولات صعبة وطويلة نجحت في الوقوف أخيرًا، فابتسم هو له بفرحة ثم ضمها احضنه وتعلقت هي برقبته ودفنت وجهها بين ثنايا رقبته وكان هو يحاوط خصرها بذراعيها ويساعدها على الحركة بكل حرص وبطء، وهي رغم الصعوبة التي تواجهها في رفع قدميها حتى لكنها كانت تفعلها لتسمعه يهمس لها في أذنها وهو يضحك بلؤم:

_ إيه مرتاحة في حضني

ابتعدت برأسها عن كتفه ونظرت له تهتف في غيظ:

_متبقاش مستغل للفرص 

كان لا يفصل بين وجهيهم عن بعض سوى سنتي مترات بسيطة، فابتسم ونظراته تتجول على وجهها برضا واضح عن ذلك الوضع، ثم همس لها ببحة رجولية تذهب العقل:

_اللي أنا شايفه إنك أنتي اللي لغاية دلوك لساتك بتستغلي أي فرصة عشان تفضلي فيها چاري وفي حضني

شعرت نفسها مغيبة مغنطسيًا أمام نظراته وبحته الرجولية وبكل خضوع سألته في نعومة أنثوية:

_أنت عاوز إيه ياعمران؟!

ابتسم بمكر ثم انحنى عليها ولثم وجنتيها بقبلة دافئة وابتعد للخلف مجددًا ليتأمل في تلك العيون الساحرة التي تسحبه وتجذبه لداخلها بكل مرة ينظر لها ويهمس برد منحرف تمامًا عن سؤالها:

_عيون الغزال دي خدت عقلي، جمالها كيف السحر اللي بيجرني لطريق معرفلوش آخر

انعقد لسانها وتلونت وجنتيها بحمرة الخجل، أو بالمعنى الأدق وجهها كلها أصبح عبارة عن بندورة من الطماطم الأحمر، لا تملك القدرة على الرد ولا حتى الابتعاد عنه والتوقف عن التأمل في ملامحه الرجولية الجذابة، كان لديها فقط عجز في الحركة والآن أصبح الكلام أيضًا.

ضربت إنذارات الخطر بعقلها عندما شعرت به يقترب منها لا إراديًا والفراشات بدأت تحلق في معدتها وقلبها ينبض بعنف، للحظة كانت ستضعف وتستسلم لكل شيء لكن بسرعة قالت في صوت مبحوح ومتلعثم:

_عمران أنا تعبت وعاوزة اقعد 

فاق من سحر تلك العينان وحالة الغرام ليدرك الوضع الحقيقي أنها مازالت مريضة ولا يجب أن تقف لوقت أكثر من الذي حدده الطبيب، فانحنى عليها وحملها فوق ذراعيها لتهشق هي وتسأله بتعجب:

_شلتني ليه؟ 

تمتم بهدوء وهو يتجه بها نحو الفراش:

_هريحك على السرير 

وضعها فوق الفراش برفق وحذر شديد ثم انتصب في وقفته واستدار ليهم بالخروج لكنها قبضت على كفه برقة ونظرت في عينيه تهمس له:

_خليك چاري يامعلم

ابتسم لها باتساع وظهر تأثره الشديد برقتها وأنوثتها فتمدد بجوارها وراح يضمها لحضنه مرة أخرى وهو يتمتم بسعادة:

_بس بس.. أنتي تطلبي بس ياغزال 

رفعت رأسها عن صدره وابتسمت بسخرية لتردف:

_شوفت عاد مين اللي مستغل للفرص! 

وجدته ينفجر في الضحك فأخذت تتمعنه بحب حتى رأته يغمز لها ويسألها بهيام ملحوظ:

_أنتي قولتي إيه من شوية لما مسكتي يدي 

صمتت لبرهة تحاول فهم ما يريد سماعه وفور إدراكها ضحكت وراحت ترسم الدلال والغنج على محياها وهي تتمتم بأنوثة تذهب العقل:

_يامــعــلم

راقبت تعابيرات وجهه الذائبة وهي تضحك ثم سمعته يقول بصوت يتصنع الصمود:

_نامي يا آسيا وارتاحي نامي 

هتفت وسط ضحكها:

_أنا مش عاوزة أنام 

عمران بنفاذ صبر مغلوبًا:

_خلاص اقعدي ساكتة واستمتعي بالهدوء

قالت باسمة بلؤم:

_حاضر يامعلم 

رمقها بطرف عيناه رافعًا حاجبه فقهقهت بقوة وسكنت بين ذراعيه بينما هو فكان بأنامله يعبث بخصلات شعرها في رقة...

                                    ***

بعد انتهاء الطبيب من فحصه لفريال خرج جلال معه خارج الغرفة ليتحدثوا وراح يسأله باهتمام:

_الإغماء ده طبيعي ولا إيه يادكتور؟ 

ابتسم له الطبيب وتمتم بالنفي:

_هو للأسف مش طبيعي بيكون بسبب المجهود الكبير أو الضغط النفسي وعدم الأكل والاهتمام بالصحة وكله ده مؤشر خطر لو استمر الوضع على الحال ده وخصوصًا أن المدام لسا في الشهور الأولى بس هي حاليًا كويسة ومفيش أي خطر أو قلق على صحة المدام والجنين كمان 

اتسعت عيني جلال بصدمة واستحوذ عليه السكون الغريب للحظات يحاول استيعاب ما يقوله الطبيب ثم ردد خلفه بعدم فهم:

_چنين!!.. چنين إيه؟ 

ضيق الطبيب عيناه باستغراب وهتف:

_أيوة المدام حامل في الشهر التالت 


........... نهاية الفصل...........

  •تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية

reaction:

تعليقات