رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الثالث و الثلاثون 33 - بقلم ندى محمود
(( ميثاق الحرب والغفران ))
_ الفصل الثالث والثلاثون_
لم يلبث على اقتحام منصور للغرفة لحظة وكانت خلفه مباشرة جليلة التي ركضت متلهفة نحو آسيا، وراحت تحضتنها وتضمها لصدرها بكل تلقائية وكأن الماضي لا وجود له من الأساس، ضيقت آسيا عيناها بتعجب من اللهفة التي لم تكن تتوقعها من أمها أبدًا، فهي نفسها المرأة التي تخلت عنها وتركتها بلا مأوى حتى تكون فريسة سهلة لذئاب الطرق.
سكنت آسيا ولم تتحرك حتى لم ترفع ذراعيها وتحاوط أمها، كانت كالصنم الذي بلا روح تنظر لهم بجمود ملامح مريب وبالأخص لشقيقها الذي يحتل وجهه الندم والأسف القاسي، هو حتى لم يتجرأ على الاقتراب منها وكأنه يخجل من النظر داخل عينيها، لم تفق سوى على صوت أمها الباكي وهي تهتف بانهيار ورعب:
_آسيا كيفك يابتي طمنيني أنتي زينة؟
سحبت جسدها ببطء من بين ذراعين أمها وردت عليها ببرود مشاعر:
_زينة الحمدلله
اعتدلت جليلة في وقفتها وأخذت تنظر لابنتها بمرارة وندم بينما آسيا فكانت تشيح بوجهها للجهة الأخرى حتى تتفادى النظر لهم.
تقدم منصور من عمران الذي كان يقف بشموخ يثبت نظراته المخيفة عليهم، وعند وقوف منصور أمامه التقت نظراتهم القاتلة قبل أن يهتف منصور بلهجة صارمة:
_احنا چايين ناخد بتنا عشان ترچع لبيت أبوها وناسها
استمر جمود ملامح عمران للحظات قبل أن ترتفع البسمة الساخرة لثغره وهو ينقل نظره بينهم وبين والده الذي كان يقف بالخلف وعلى ثغره نفس الابتسامة ثم قال:
_طب مش تطمن الأول حتى على بتكم ياحچ منصور ولا إيه، معقول قاطعين الطريق ده كله عشان تاچوا تاخدوها مني بس!!
منصور بعصبية وقسوة:
_طول ماهي معاكم وچارك مش هتبقى كويسة واصل، وأهو كانت هتروح منينا لولا ستر ربنا؛ بسبب أن الراچل اللي معاها مكنش قادر يحمي مرته
احتقن وجه بشار وكان سيهم بالاندفاع نحو منصور لكن ابراهيم قبض على يده بقوة ونظر له في حدة يهمس:
_اهدى ومتتدخلش عشان الدنيا متولعش اكتر.. سيب عمران يتصرف معاهم
على عكس المتوقع تمامًا كان عمران مازال يحتفظ بهدوئه وابتسامته المستفزة حيث انحنى على أذن منصور وهمس له بصوت يحمل فتيل اشتعال النيران:
_بلاش نتكلم عن الرچولة وأنت بتك كانت ملبساكم العمم كلكم
أظلمت عيني منصور وأصبح كجمرة النيران المشتعلة وبلحظة رفع يده في الهواء لكنها علقت مكانها عندما قبض عمران عليها يهتف بصوت رجولي متحشرج:
_المرة الچاية صدقني يدك مش هتلاقيها
اندفع على نحو عمران ودفع يده بعنف عن والده ينظر له شزرًا ويصيح:
_بلاش تقوم حرب أنت مش قدها ياولد ابراهيم، بتنا هناخدها وهتطلقها برضاك أو غصب عنك
تدخل ابراهيم أخيرًا ووقف بالمنتصف يهتف يوجه حديثه الحازم لكل من منصور وعلي:
_أنا بقول بزيادة إكده، شفتوا بتكم واتطمنتوا عليها، كيف ما چيتوا ترچعوا بالحسنة احسن يامنصور
بتلك اللحظة كان عمران يتطلع لعلى في أعين مميتة تقذف الرعب في قلوب أعتى الرجال ثم همس له بنبرة تحمل الأنذار الحقيقي:
_خد أبوك وارچعوا بيتكم ياعلي لمصلحتكم، ومرتي سيرتها متچيش على لسانك ولو فكرت بس تقرب منها ولا توجه ليها كلام حتى تبقى چنيت على روحك، معدتش بت عمك اللي قصادك طول الوقت، بقت مرت المعلم عمران حطها في عقلك زين واوعاك تنساها
لم يبالي منصور بأي شيء وراح يقترب من آسيا يمسك بذراعها وهو يهتف:
_يلا يا آسيا قومي عشان ترچعي البيت معانا
قبض عمران على يده لينزعها عن ذراع زوجته بقوة وهو يصرخ به:
_أنا هادي وبتكلم بالحسنة بس شكلها إكده متنفعش معاك، معدش ليكم بت.. بقت مرتي واللي يفكر يقربلها هخلص عليه واصل
دس منصور يده في جيب جلبابه وأخرج سلاحه وراح يوجهه نحو رأس عمران يهتف بوعيد حقيقي:
_أنا اللي هخلص عليك أنت وأبوك كيف ما عملتوا مع أخويا ودلوك عاوزين تقتلوا بته كمان
خرجت صرخة مرعوبة من إخلاص وهي تصرخ:
_يامري ولدي الحق يا ابراهيم ولدك
زعرت آسيا وتسارعت نبضات قلبها رعبًا على زوجها فراحت تتشبث بذراع عمران في قوة تلوذ إليه وتطمئن قلبها المرتجف بوجوده وهي تصيح في غضب عل عمها ينزل سلاحه:
_أنا مش هرچع معاكم مش عاوزاكم.. ومش هسيب چوزي
اندفع ابراهيم نحو منصور وهو ينوي خنقه بيده على تعديه على ابنه أمامه، لكن جلال الذي كان يقف يشاهد شجارهم من البداية صامتًا تدخل أخيرًا وأوقف ابراهيم ليقترب من عمه ويهتف منفعلًا:
_عمي نزل سلاحك، لو حد ليه الحق يقرر آسيا هترچع ولا لا هو أنا وأنا مقولتش حاچة لغاية دلوك
رمق منصور ابن أخيه بدهشة ويده لا إراديًا نزلت بالسلاح ثم راح ينقل نظره بين الجميع في غيظ ثم هتف لجلال بسخط:
_بقى مليش حق في اختك خلاص ياولد أخوي
التزم جلال الصمت ولم يجيب على عمه الذي كان بانتظار رد من ابن أخيه يستعيد له كرامته المهدرة لكنه صمت، فوضع سلاحه في جيبه ثم استدار وغادر الغرفة بأكملها وبقى على ينظر لجلال بعتاب بسيط قبل أن ينصرف هو الآخر خلف والده.
نظر جليلة لابنتها وقالت لها بعينان دامعة ورجاء:
_يابتي اسمعي الكلام وتعالي معانا، مش كفاية خدوا أبوكي منينا عاوزاهم ياخدوكي أنتي كمان
تطلع عمران بوجه جلال المهموم وهو يتطلع لأمه وشقيقته، فاقترب منه وهتف له بصوت رجولي غليظ ومنخفض:
_أنا هطلع واسيبك تتكلم معاها لحالكم شوية، بس أوعى شيطانك يوزك تفكر تاخدها عشان مش هتطلع من الأوضة دي كيف ما دخلت ياچلال
لم يجيبه واكتفى بصمته كرد بالموافقة، بينما عمران فغادر وأشار للجميع بالخروج وجلال طلب من أمه الانصراف وتركهم بمفردهم.
***
جلس جلال على المقعد المجاور لفراشها ونظر لها بحزن يهتف باهتمام وحنو:
_كيفك دلوك؟
رمقته شزرًا وبوجه يميل الاحمرار من فرط الاستياء والخوف:
_أنتوا چايين بسلاح وبترفعوه على عمران، أنا مش هرچع معاكم ياچلال.. مكاني بقى چار چوزي ومش هسيبه
تطلع إليها مطولًا قبل أن يسألها بصرامة:
_ليه؟!
احتقن صوتها الناعم وأصبح أكثر شراسة رغم مرارته:
_عشان هو الوحيد اللي كان چاري لما أنتوا ادتوني ضهركم ورمتوني في الشارع هو خدني وضمني لصدره رغم كل اللي عملته فيه سامحني وحماني وفضل چاري وفي ضهري، لكن أنتوا لولاه كنتوا هتقتلوني.. ارجعلكم ليه دلوك
أجفل نظره عنها في أسف ثم ابتسم في تعجب مما يسقط على سمعه من كلمات، هذه ليست آسيا التي كانت تصرخ قبل الزواج بأنها لن تتزوجه، لكن يبدو أن عمران نجح بترويضها بالفعل وربما عشقته.
نظر لها مجددًا وقال بهدوء وهو ينتصب في جلسته:
_متقلقيش أنا أساسًا مش چاي عشان اخدك أنا چيت عشان اطمن عليكي، صحيح أنا مش حابب إنك تفضلي وسطيهم لكن أنا سبق وچبرتك على الچواز فمش هچبرك دلوك على الطلاق كمان، وطالما مرتاحة ومبسوطة ومش عاوزة تسيبي عمران خلاص براحتك
ابتلعت غصة مريرة في حلقها وقالت له بجفاء:
_زين يبقى قول الكلام ده لعمي وارچعوا تاني البلد، أنا مش متحملة مشاكل ولساتني تعبانة ولا عمران متحمل كمان بزيادة اللي هو فيه، ومش عاوزة يچراله حاچة ولا يتأذي بسببكم
مال ثغره للجانب في بسمة حزينة ونظراته كانت كلها أسى، رغم الألم الي اجتاح صدره من قسوتها وتحدثها معه كأنهم أعدائها لكنه لا يستطيع إيلامها فمهما فعلت ومهما قالت هي على حق.
رفع يده يمسح على ذقنه ويجيبها بخفوت غريب:
_أنا اتوحشتك قوي يا آسيا، وصدقيني هفضل ندمان طول حياتي على اللي عملته فيكي ياغالية
مالت بوجهه للجهة الأخرى حتى تخفي دموعها السابحة في عينيها بينما هو فتوقف وانحنى على رأسها يلثم جبهتها متمتمًا بصوت يقتله الندم والوجع:
_حقك عليا يابت أبوي سامحيني، انا ظلمتك ومحافظتش على أمانة أبوي بس ربنا بياخدلك حقك مني دلوك
لم تتمكن من حجب عبراتها التي انهمرت بغزارة فوق وجنتيها ثم تطلعته بعين مقهورة ونبرة ممتلئة بالقسوة قالت:
_أنا عمري ما تخيلت أن ممكن يچي يوم وافرح في وچعك ياچلال بس أنا دلوك فرحانة عشان أنت متستاهلش فريال بعد اللي عملته فيها ظلمتها كيف ما ظلمتني واديك بتدفع التمن غالي قوي، وبتبكي بدل الدموع دم عشان هتسيبك هي وعيالك، خلي منيرة والحچة جليلة ينفعوك بعد ما تلاقي روحك لحالك ومحدش چارك حتى عيالك خسرتهم بسبب غبائك، ولو لفيت الدنيا كلها مش هتلاقي كيف فريال ولا في واحدة هتحبك كيف ما كانت هي بتحبك، اختارتك أنت وفضلتك على ناسها واستحملت منينا كل حاچة عشانك ومكافأتها في النهاية تتچوز عليها
كانت تطلق سهام مسمومة بكلماتها تصوبها بمنتصف يساره، تلك القسوة والنفور الذي تتحدث بهم معه مزقته أربًا، لوهلة تمنى أن تخفف هي عنه وربما تحاول إقناع فريال بالرجوع عن قرار الطلاق، لكن هيهات هل ينتظر العون من يد تركها بمنتصف النيران لتأكلها ولم ينقذها.
انتصب في وقفته وألقى نظرة أخيرة مهمومة على شقيقته قبل أن يستدير وينصرف فيتركها وهي تزداد في البكاء أكثر.
***
هرولت جليلة نحو ابنها فور رؤيتها له يخرج من الغرفة، وقفت أمامه وسألته بلهفة:
_قالتلك إيه ياچلال وافقت ولا لا
رفع جلال نظره ودار بعيناه على وجوه عائلة الصاوي.. فرأى الثقة والقوة على قسماتهم، كانوا المتسببين في موت والدهم ولكن الآن هو وأمه المتسببين في خسارة ابنتهم، سلموها لهم كالبضاعة التي لا تباع ولا تسترد.
عاد بوجهه لأمه وقال في صوت متعب:
_آسيا مش هتاچي معانا ياما واحنا هنرچع بيتنا بزيادة إكده
اتسعت عين جليلة بدهشة واستاءت بشدة حيث راحت تهتف معترضة:
_مش هتاچي كيف يعني.. أنت هتسيب اختك وسطيهم بعد اللي حصل فيها.. أنا هدخل اتكلم معاها
كان عمران يقف على مسافة بعيدة نسبيًا ويتابع حديثهم بصمت تام بينما جلال فأمسك بذراع أمه يمنعها من الدخول وهو ينحني على أذنها ويهمس بمرارة:
_أما هي مش عاوزانا.. عاوزة تفضل مع چوزها هي مش لحالها وعمران معاها.. مش هچبرها على حاچة سبق وخسرناها بسبب اللي عملناه فيها بلاش نخليها تكرهنا اكتر
تطلعت في عين ابنها الموجوعة وتلأتلأت العبرات في عيناها هي أيضًا، ثم نظرت نحو باب غرفتها بحسرة وقلبها ينزف الدماء وهو يصرخ متوسلًا أن يسمح لها بالدخول لآخر مرة قبل رحيلهم لكن هيهات.
تقدمت إخلاص من جليلة ووقفت أمامها تردف بنظرة شيطانية كلها حقد:
_متزعليش قوي أنا مش هسيب ولدي لبتك الحرباية وقريب هخليه يطلقها وترچعلكم
تعمدت إخلاص أن تتحدث بنبرة منخفضة حتى لا يصل صوتها لأذن ابنها، بينما جليلة فالتهبت نظراتها واشتعل وجهها كجمرة من النار فراحت تقبض على ذراع إخلاص بعنف وتردف في تحذير مخيف لا يقل تجبّر وقوة عن ابنتها:
_بتي لو چربتي منها واذيتي شعرة واحدة منها يا إخلاص هاخد روحك بيدي سمعاني ولا لا
ضحكت إخلاص بخبث وردت عليها ساخرة:
_اطمني هحطها في عيوني دي مرت الغالي
كانت على وشك أن تنقض عليها لكن جلال أوقفها وهو يتأفف بنفاذ صبر ويقول بلهجة رجولية حازمة:
_بزيادة ياما احنا في إيه ولا إيه.. مش وقته كيد الحريم ده دلوك يلا
سارت مع ابنها مرغمة وعيناها عالقة على باب غرفة ابنتها لا تزيحها عنه حتى توارت واختفت تمامًا. توقف عمران وهو يمسح على وجهه متأففًا بتعب ثم تحرك بخطواته نحو الغرفة، دخل وأغلق الباب مجددًا خلفه وعندما سقط نظره عليها رآها نائمة في الفراش وتولي ظهرها للباب، فتقدم منها بتريث وجلس على المقعد المجاور لها يتمتم في لين:
_آسـيا!
خرج صوتها ضعيفًا ومبحوحًا وهي تسأله:
_مشيوا؟
_إيوة
لم يكن بحاجة ليرى وجهها حتى يتأكد أنها تبكي، يكفيه الشعور بارتجافة صوتها وشهقة أنفاسها السريعة، اعتدل في جلسته وكان على وشك أن يشاركها الفراش ويجلس بجوارها ويضمها لصدره لكنها أوقفته على آخر لحظة وهي تقول في شدة:
_هملني لحالي ياعمران عاوزة أنام وارتاح
حدقها بضيق ثم انتصب في وقفته وألقى عليها نظرة مغلوبة ومنزعجة قبل أن يستدير وينصرف ليتركها بمفردها كما طلبت.
***
داخل منزل خليل صفوان تحديدًا بغرفة فريال......
كانت تجلس التربيعة فوق الأريكة المقابلة للفراش وبمنتصف قدميها تضع صحن ممتلئ بسلطة الخضروات، تغرس المعلقة بالصحن وتملأها ثم تذهب بها لفمها وسط دموعها التي لا تتوقف عن الانهمار فوق وجنتيها.
ليست بالمزاج المناسب للأكل لكن حملها وشعورها بالجوع المستمر بجانب تعليمات الطبيب الصارمة لها حول اهتمامها بأكلها وبالأخص الصحى يجعلها تأكل مرغمة، لا تشعر بطعمه في فمها من فرط الحزن والقهر الذي يستحوذ عليها وهي لا تستطيع نزع خيانته لها من عقلها وليلته مع زوجته الثانية، كيف فعلها وهو كان يمطرها بالوعود أنه أبدًا لن يشم زهرة فوقها مهما حدث طوال حياته.. ستظل هي ملكة عرش قلبه لا شريك لها.
ملأت المعلقة ووضعتها في فمها وهي تبكي بصمت وتهتف بغيظ وعينان مشتعلة بنيران الغيرة والحقد:
_مش بعيد كمان شهر تاچي بواقي الحريم دي تقول أنا حامل عشان وقتها هقتلهم هما الاتنين، ماشي ياچلال مبقاش أنا بت ابراهيم الصاوي أما خليتك تبكي بدل الدموع دم أنا عارفة كيف هاخد حقي منك
القت بالملعقة في الصحن ثم وضعته على المنضدة بجوارها واعتدلت في جلستها تنزل قدميها على الأرض ورفعت أناملها لوجهها تجفف دموعها محاولة البقاء صامدة رغم كل ما حدث ومازال يحدث، ثم أنزلت يدها لبطنها واخذت تتحسس عليها حيث يسكن طفلها الصغير، لا إراديًا سالت عبراتها مجددًا وهي تتمعن النظر في بطنها وتقول بمرارة:
_أبوك ميستاهلش حتى يعرف بوجودك، أنا لو لساتني واقفة على رجلي ومنهارتش فده عشانك أنت وأخواتك بس
توقفت عن البكاء عندما اقتحم الغرفة ابنها الأكبر معاذ ودخل وهو يقول بتذمر:
_وينك ياما أنا بدور عليكي في البيت كله
رفعت أناملها وجففت دموعها بسرعة قبل أن يراها وردت عليه بهدوء:
_وهو أنا بطلع من اوضتي واروح مكان غيرها من أساسه ياولدي
اقترب منها وجلس بجوارها ثم دقق النظر في وجهها وعندما رأى آثار الدموع والبكاء في عينيها سألها بقلق وتعجب:
_أنتي بتبكي ليه ياما ؟
التفتت له وابتسمت بدفء وهي تهز رأسها بالنفي متمتمة:
_مش بيكي ياحبيبي دخلت حاچة في عيني وعشان إكده دمعت
اماء رأسه بالإيجاب دون أن يعلق بينما هي فكانت على وشك أن تسأله أين أخيه الصغير لكن فجأة صدح صوت صراخه وهو يقول:
_ياما الـحـقيني
انتفض قلبها زعرًا وبلحظة كانت تثب واقفة وتهرول للخارج مسرعة ومعاذ كان يسبقها بسبب خطواته الخفيفة وركضه السريع نحو أخيه.
كان صوت صراخ عمار يأتي من الطابق الثالث حيث غرفة منيرة فأسرعت شبه ركضًا من فرط الرعب وهي تصيح:
_عــمـار
فور وصوله للطابق وغرفة منيرة رأت ابنها يقف أمام الغرفة ويبكي بشدة وتقف هي تنظر لها بكل قسوة وعدم مبالاة، هرولت فريال نحوه وجثت أمامه تضمه لصدره مردفة بارتيعاد:
_مالك ياحبيبي إيه اللي حُصل؟
رفع الصغير نظراته المرتعدة لمنيرة وقال لأمه بغضب بسيط:
_چيت اسألها عن أبويا وضربتني ياما
اتسعت عيني فريال بصدمة وسرعان ما تحولت لظلام دامس وملامحها باتت أشبه بأثنى حيوان مفترس على أتم الاستعداد لالتهام فريستها، الم يكفيها أن بسببها كانت على وشك أن تفقد طفلها والآن تضرب ابنها، أيقظت الوحش النائم الذي بأعماقها يهدأ ثورانه إلا وهي تتلوى من الألم أسفله.
اعتدلت فريال وانتصبت واقفة بكل شموخ وهيبة ثم نظرت لمنيرة بعين تدب الرعب في الأوصال وسألتها باستنكار:
_ بقى أنتي رفعتي يدك على ولدي وضربتيه!
رمقتها منيرة بعدم اكتراث وقالت في فظاظة:
_ولدك مترباش وعاوز يتربى من أول وجديد، شكلك معرفتيش تربيه وكان لازم يتربى على اللي قاله
رفعت فريال حاجبها تتصنع الدهشة ثم نزلت بنظرت لابنها وسألته بلهجة ساخرة وهي تضحك:
_صُح أنت عاوز تتربى ياعمار وأنا معرفتش اربيك ياحبيبي!
كان على ثغر معاذ ابتسامة استهزاء وتشفي وهو يرى أمه كيف تقف أمامها بكل قوة وعلى وشك الانقضاض عليها أما عمار فابتسم لا إراديًا بعد عبارة أمه رغم وجهه الممتلئ بالدموع.
رفعت فريال رأسها لمنيرة مرة أخرى وضحكت وهي تقول بنظرات تشبه الأشباح التي عادت من الجحيم:
_طيب إيه رأيك تديني أنتي شوية نصائح في طرق التربية الصحيح طالما شايفة ولدي مترباش وأنا معرفتش اربى.. معلومك أنتي مفيش في تربيتك ولا أخلاقك ياطاهرة
لوت منيرة فمها بقرف وردت عليها بعدم اهتمام:
_أنا مش فايقالك يافريال عاوزة تربي ولدك خديه وربيه بعيد عني
استدارت وهمت بالدخول لغرفتها لكن فريال قبضت على ذراعها بعنف وحدقتها بهدوء مرعب هاتفة بإصرار:
_ابدًا ميصحش لازم نتكلم وتقوليلي قالك إيه، بس تعالي نتكلم چوا على رواق
ثم تحركت فريال ودخلت للغرفة بعد أن دفعت منيرة قبلها للداخل ووقفت أمام الباب وراحت تغلقه وتقول لأولادها بابتسامة شيطانية حتى لا يدخلوا:
_خليكم إهنه ياحبايبي لغاية ما مرت أبوكم تديني نصائح التربية
نظروا الأثنين لبعضهم وهم يضحكوا بخبث وتشفي وتابعوا أمهم وهي تغلق الباب بكل بطء وفور انغلاقه اسرعوا واقتربت منه يضعوا أذنه عليه ليسمعوا كل شيء.
نظرت منيرة لفريال بريبة وراحت تصيح به بعصبية:
_چرالك إيه يافريال اتجنيتي ولا إيه بتقفلي الباب ليه اطلعي برا يلا
رفعت فريال ذراعيها وشمرت عن أكمامها وهي تبتسم لها شرًا وتسألها للمرة الأخيرة:
_قوليلي بقى تاني إكده أنتي عملتي إيه في ولدي وكنتي بتقولي عليه إيه برا
تقهقهرت منيرة للخلف فى قلق بسيط من منظر فريال المريب، أما فريال فلم تنتظر ثانية واحدة وبلحظة وثبت على منيرة وهي تقبض على شعرها وتجذبها منه صارخة بها بهستيريا:
_بقى أنتي ياولية ياعرة بترفعي يدك على ولدي وتقولي عليه مترباش
ارتفع صراخ منيرة بالمنزل كله ولسوء حظها أن المنزل فارغ ولا يوجد سواهم به فلا يوجد أحد لينقذها من بين براثن جموح فريال القاتل.
ألقتها فريال على الأرض وهي مازالت لا تترك شعرها وراحت تجثي فوقها وبيد تمسك بوجهها وتصفعها واليد الأخرى تقبض على شعرها وتصرخ بها بكل غل:
_افتكرتي هدوئي ضعف مني بس أنا كان لازم اجيبك من شعرك وارنك العلقة التمام دي من زمان يا***** .. ده أنا هاخد روحك بيدي ياخطافة الرچالة وخرابة البيوت.. بس اقسم بالله وغلاوة ولادي ما هسيبك في البيت ده تاني وقريب قوي هرميكي أنا بيدي برا زي الكلبة.. نهايتك قربت وهتكون على يدي يا****
كان صراخ منيرة وهي أسفل فريال وتتلقي الصفعات منها يجلجل المنزل بأكملها ومعاذ وعمار بالخارج يسمعون صراخها وأمهم وهي تصيح بها ويبتسمون بفرحة وانتشاء.
بعد وقت طويل نسبيًا تركتها فريال واستقامت واقفة وهي تصرخ به محذرة بعين ملتهبة:
_يدك لو رفعتيها على ولادي تاني ولا لمستي شعرة منهم هقطعالك واصل، اعتبري ده تحذيري الأول ليكي المرة الچاية هكسر ضلوعك
بقت منيرة بالأرض تبكي وتصرخ وشعرها المشعت حولها منظره يثير الضحك والخوف بنفس الوقت أما فريال فنفضت عن يديها وملابسها بقرف ثم ألقت عليها نظرة أخيرة كلها نصر قبل أن تتجه لخارج الغرفة وتفتح الباب وتخرج لأولادها وهي تبتسم لهم وتقول بثقة:
_إيه رأيكم في درس التربية ياعيال؟
ضحكوا بصوت مرتفع ورد عمار متشفيًا:
_حلو قوي ياما احسن تستاهل
ارتفع صوت قهقهتهم ثم عادوا لغرفة والدتهم بالطابق الثاني مجددًا وتركوا منيرة مازالت وسط صراخها المتغاظ وبكائها.
***
بصباح اليوم التالي بالقاهرة......
فتح عمران باب المنزل ثم التفت ينظر لها بابتسامة دافئة لم تبادله إياها بل كانت تحدق بالمنزل في وجه جامد لا روح فيه، التفت خلفها وأمسك بجانبي المقعد المتحرك الذي تجلس عليه ودفعها للداخل بحرص.
ظل يدفعها بالمقعد حتى وصل لغرفة نومهم، توقف بمنتصف الغرفة ثم التفت لها وعندما نظر في وجهها رأى العبرات تملأ وجنتيها فابتعد خطوتين عنها يجذب المقعد ثم عاد لها مجددًا وجلس أمامها ثم رفع أنامله يكفكف دموعها بحنو هامسًا:
_ليه بتعملي في روحك إكده ياغزالي، الدكتور قال فترة صغيرة وترچعي كيف الأول واحسن
أبعدت يديه عنها ببطء وابتسمت له ساخرة تقول في يأس:
_وممكن مرچعش ياعمران وافضل على الكرسي ده لآخر عمري
اقترب بمقعده منها أكثر ومد يديه ليمسك بكفها يحتضنه بين قبضته باحتواء متمتمًا في حنو يملأ نبرته ومعالمه الرجولية الجذابة:
_متقوليش إكده تاني.. ربنا قادر على كل شيء وخليكي واثقة فيه ومع العلاچ وايمانك في ربنا هترچعي تقفي تاني وأنا چارك مش هسيبك لحظة واحدة
سحبت يدها من قبضته ببطء وقالت له بعبوس وهي تلوي فمها ساخرة:
_مش يمكن تزهق مني وتسيبني محدش عارف إيه الي ممكن يحُصل ولا إيه يتغير، في يوم وليلة الحال بيتغير واديني قصادك أهو!
تنهد الصعداء مغلوبًا ونظر لها يقول بضيق ملحوظ:
_آسيا أنا لو كنت عاوز اسيبك كنت سبتك من زمان، أنا بقيت حاسس أني شايف واحدة معرفهاش قصادي لا ده كلامك ولا تفكيرك
أشاحت بوجهها للجانب وقالت بألم:
_ وضعي الأول حاچة ودلوك حاچة تاني
أطلق تنهيدة حارة وطويلة، ثم رفع أنامله ووضعها أسفل ذقنها يدير وجهها نحوه مجددًا ويثبت نظره في عيناها يتمتم ببحة رجولية ساحرة:
_أنا مش شايف اختلاف لساتك كيف ما أنتي متغيرتيش
ابتسمت له بحزن مستنكرة محاولاته لأثبات تعلقه ورغبته الحقيقة بها، وعادت تشيح بوجهها مرة أخرى عنه وهي تجاهد في عدم انهمار عبراتها مرة أخرى، لكنها سمعته يسألها بجدية تامة:
_لو أنا مكانك وحصل معايا إكده كنتي هتهمليني وتمشي ولا تفضلي چاري
نظرت له مطولًا بعيناها الدامعة دون رد، كان صمتها خير إجابة على سؤاله بأنها أبدًا لن تتركه، ابتسم بعدما فهم ردها من خلال نظراتها وعاد يسألها مرة أخرى بلهجة استنكارية:
_لما أنتي مش واثقة فيا ومش عاوزاني ليه قولتي لناسك أنا مش هسيب چوزي وممشتيش معاهم!
سقطت دموعها رغمًا عنها وقالت له بقوة وسط انهيارها النفسي:
_عشان أنت عارف زين أن أنا مينفعش ارچعلهم ومليش غيرك
ابتسم لها بعاطفية ثم عاد يجفف لها دموعها مرة أخرى ويتمتم بنبرة تذيب القلب:
_لا عشان كيف ما أنا مهقدرش أسيبك أنتي كمان مهتقدريش، لكن لو كنتي عاوزة ترچعليهم صُح كنتي هترچعي ومكنتش حاچة هتهمك
أجفلت نظراتها عنه باستسلام تام بينما هو فانحنى عليها ولثم جبهتها بقلة دافئة وهو يتمتم:
_بلاش تخلي الشيطان يسيطر عليكي بالكلام الفارغ اللي في راسك ده، واطمني أنا چارك ومش هسيب يدك واصل لغاية ما تعدي الفترة دي وترچعي بصحتك وعافيتك ياغزالي
رفعت عينيها إليه دون أن تجيبه فقط تحدقه بهدوء، مازالت لا يمكنها تقبل وجودها معه بهذا الوضع وهي تعلم أنه لا يحبها وربما فقط يشفق عليها وعلى حالها المزري.
لم تبدي أي اعتراض عندما وجدتها يقربها منه ويضمها بين ذراعيه فتستكين برأسها على صدره الدافيء، ابتسمت بحزن وتركت نفسها المعذبة تتذوق النعيم بين ذراعيه، تسقي روحها المشتاقة لأنفاسه ورائحته الرجولية المُسكرة، قد يكون هذا هو اقصى درجات الحب التي يمكنها الحصول عليها منه، ولا تنكر أنها بحاجة حتى لمجرد عناق منه ليبث الطمأنينة لقلبها الخائف.
***
بتمام الساعة السادسة مساءًا.. بعد عدوة الجميع للمنزل كل منهم ذهب لغرفته ليرتاح من السفر الطويل، أما جلال فقاد خطواته المتعثرة نحو غرفة فريال، وقف أمام الباب للحظات وهو يزفر بحزن يفكر كيف سيبرر لها ما فعله.. وكيف يجعلها تسامحه، هو يعرف أن لا يوجد لديها فرصة أخرى للغفران لكنه لن يتخلى عنها سيظل يحاول حتى تسامحه.
فتح الباب ببطء بعد تفكيره الطويل ودخل ثم اغلقه خلفه وعندما التفت رآها نائمة في الفراش بثبات عميق، فأطلق تنهيدة طويلة ثم تحرك نحوها بهدوء تام، وجلس على طرف الفراش بجوارها بينما هي فكانت نائمة على جنبها الأيمن وتولي ظهرها للباب.
شعرت به وبوجوده بجوارها لكن لم تتحرك وتصنعت النوم، ليس تعبًا لكنها لم تكن حتى ترغب برؤية وجهه ولا مخاطبته، بينما هو فظل يتمعن بها مطولًا في أعين متلألأة بالعبرات، نفورها وكرهها له يقتله بالبطيء، اشتاق لها ولحبها ونظراتها العاشقة له.. ليتها تدرك وتفهم مدى عشقه الجنوني لها.
انحنى عليها من الخلف وراح يلثم شعرها ورأسها بعدة قبلات متتالية وطويلة يبث بها كل أسفه وندمه على ما فعله بها، كانت قبلاته تتحدث بدلًا عن شفتيه وتسألها الغفران، شعر بوغزة لا إرادية في جسدها عندما لمستها شفتيه فعرف أنها ليست نائمة، رفع جسده عنه واعتدل في جلسته ثم راح يتحدث إليها بصوت مبحوح وضائع:
_سامحيني يافريال أنتي عارفة أني لا يمكن واحدة تاخد مكانك في قلبي ولا المس ست بإرادتي، بس صدقيني أنا مكنتش في وعي ومعرفش كيف عملت إكده، بقيت احاول ابعد بس كنت بحس في حاچة بتمنعني وبتچبرني ومكنتش حاسس بروحي ولا باللي بعمله، أنا حتى كنت شايفها أنتي وكنت فاكر روحي معاكي معرفش كيف صورتك بقت قصادي بدالها، كنت كيف المسحور اللي مش داري بالدنيا حواليه
كانت تستمع لتوسله في طلب العفو وهو يسرد لها ما حدث محاولًا الدفاع عن نفسه، ودموعها أخذت طريقها لوجنتيها تنهمر بغزارة في ألم يمزق قلبها أربًا، أما هو فتابع كلامه ولكن هذه المرة نبرة صوته كانت تثبت انهياره الداخلي وعبراتها التي سقطت من عينيه رغمًا عنه:
_أنا تعبت قوي ونفسي اتقطع وأنا بجري في طريق معرفلوش أول من آخر، حاسس روحي تايه ومش عارف أنا وين ولا بعمل إيه بقيت مش شايف قصادي غيرك كرهك ليا اللي عمري ما تخيلت إني ممكن اشوفه في يوم من الأيام، وكرهك ده بيقتلني بالبطيء، أنا مش هطلب منك تسامحيني وترچعي كيف الأول عشان أنا عارف زين أنه صعب قوي بس على الأقل خليكي چاري ومتهملنيش أنا مهقدرش أعيش من غيرك أنتي وعيالي، ومش هقولك اديني فرصة تانية بس متدمريش كل حاچة بينا بسبب غلطة أنا ندمان عليها واوعدك إني هصلحها وهرچع كل حاچة كيف ما كانت قريب قوي، وكل اللي أنتي عاوزاه بعد إكده هيحُصل
ابتعدت فريال عنه وهبت جالسة وهي تنظر لها بشراسة وتختفي بغضب وسط وجهها الممتلئ بالدموع:
_مفيش حاچة هترچع كيف ما كانت، خلصت خلاص والخيانة ملهاش غفران عندي
رأت دموعه في عينيه تحارب من أجل السقوط وهو يهتف بقلة حيلة وعجز:
_اقسم بالله ما كنت داري بروحي أنا لغاية دلوك مش عارف كيف ده حُصل ولا امتى ولا فين، أنا حاسس كأني كنت بحلم ومش حقيقي، أنا بحبك وبعشقك أنتي ومفيش واحدة تقدر تدخل قلبي لا في وچودك ولا غيابك
صرخت به منفعلة وهي تبكي بشدة:
_اطلع برا مش متحملة اسمع صوتك ولا اشوف وشك
ظل مكانه وهو يتطلع إليه بأسى بينما هي ففقدت السيطرة على نفسها وراحت تضربه بقبضتيها في صدره بعنف وسط صراخها الهستيري به:
_اطلع برا قولتلك مش عاوزة اشوف خلقتك قصادي
كبل يديها حتى يهدأها ثم جذبها لصدره وضمها محاولًا امتصاص جموحها وثورانها ولكن حدث العكس حيث انتفضت بعيدًا عنه ودفعته بكل قوتها حتى كاد يسقط من فوق الفراش وهي تصرخ به وتلتقط أي شيء يقع تحت يديها وتلقيه عليها:
_بعد عني واطلع برا
كان يحاول تفادي الأشياء المؤذية التي تلقيها عليه والأخير رفع يديه يصيح باستسلام:
_خلاص اهدي هطلع اهدي
لم يهدأ ثورانها إلا عندما رأته يتجه للخارج ويتركها، فألقت بجسدها مجددًا فوق الفراش وهي تتنفس بصعوبة وتبكي بعنف.
***
بمنزل عمران بالقاهرة......
منذ حديثهم الأخير بصباح اليوم وهي لا تنظر له ولا تحدثه حتى حين يحاول تقديم المساعدة لها والبقاء بالقرب منها ترفض وتبعده.. ليس نفور منه لكنه خوف وانعدام ثقة والأثنين أسوء من بعض بالنسبة له، بات لا يفهم ما الذي تريده بالضبط حتى تتأكد أنه لا ينظر لها بشفقة ويمد لها يد العون فقط رفقًا بحالتها، هو يريد أن يكون بجوارها ويغمرها بحنانه وحبه خصوصًا في تلك الفترة لكنها لا تسمح له، ورفضها المستمر لا يزعجه بقدر ما هو يؤلمه.
لكنه حسم الأمر أن ينهي تلك السخافة الليلة فلم يعد هناك مجال للمرواغة أكثر، هو ليس برجل يتحمل تلك التصرفات وبالأخص أن كانت من امرأة يريدها ويحبها.
استقام واقفًا من الأريكة التي بالصالة وقاد خطواته نحو غرفتهم بالداخل حيث تجلس هي ولا تغادرها، فتح الباب ودخل فوجدها فوق الفراش تحدق في الفراغ أمامها بشرود، أخذ نفسًا عميقًا وتقدم إليها ثم جلس على حافة الفراش بجوارها وظل يتطلع إليها في قسمات وجه منزعجة، بينما هي فكانت تتفادى النظر إليه وتشيح بعينيها للجهة الأخرى حتى لا تلتقي بعيناه، لكنها سمعته يهتف بصوت رجولي غليظ:
_هتفضلي على الحال ده كتير إكده؟!
ردت عليه بخفوت تتصنع عدم فهم مقصده:
_ماله حالي؟!
عمران بخنق ملحوظ ونفاذ صبر:
_مش عاوزة تبصي في وشي ولا تكلميني كأني عدوك ولا عاوزاني اقرب منك
أجابته بحزن وهي مازالت تنظر للجهة الأخرى:
_مش عاوزة اتعبك معايا واخليك تشيل همي وتخدمني عشان بس مچرد شعور بالشفقة چواك ناحيتي
حدقها بنظرات ثاقبة كلها غيظ وقلة حيلة، عندما قالت ذلك الكلام بأول مرة ظنها تفوهت به دون وعي منها بسبب حزنها وحالتها النفسية السيئة، لكن يبدو أنها حقًا تعتقده ينظر لها بتلك النظرة الضيقة والسخيفة.
مسح على وجهه وهو يتأفف بعصبية تظهر على ملامح وجهه الصلبة ثم هتف بانزعاج تام:
_شكلك مش عاوزة تچبيها لبر ولا الطلقة يمكن أثرت على نفوخك لو بتفكري إكده صُح
التفتت له أخيرًا وصرخت به منفعلة:
_إيوة بفكر إكده عشان دي الحقيقة
ارتفعت نبرته الرجولية وأصبحت مخيفة بسبب عصبيته وهو يقول بصدق:
_قصدك الحقيقة اللي أنتي رسماها في راسك، لكن الحقيقة صُح اللي أنتي مفكرتيش فيها أن مش يمكن أكون بعمل إكده عشان بحبك!.. لو مش عارفة تفرقي بين حبي وشفقتي يبقى متسمميش سمعي بكلامك الماسخ ده تاني
سقطت تلك الكلمات التي تفوه بها وبالأخص اعترافه بحبه لها كالبرق عليها، فتجمدت مكانها وعيناها اتسعت بصدمة وعدم استيعاب، لوهلة ظنت نفسها تحلم وأنها ستستيقظ الآن أو ربما هذا ليس عمران، كانت معالم وجهها غريبة تمامًا كالأصنام التي لا حركة فيهم، ترمقه بنظراتها التي ترسل إشارات الاستفهام واسألة التأكيد عن حقيقة ما تفوه به، لكنه لم يمنحها أكثر من ذلك واستقام من جانبها غاضبًا ثم تركها وانصرف، وبقيت هي كما على وضعها متصنمة لا ترمش حتى بعينيها!
........... نهاية الفصل...............
•تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق