رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل السادس و العشرون 26 - بقلم ندى محمود
(( ميثاق الحرب والغفران ))
_الفصل السادس والعشرون_
خرجت همسة مندهشة من جليلة بعينان متسعة:
_آسيا!!
تطلعت لأمها في ثبات وقسوة ليست معهودة عليها وقالت:
_چاية أشوف خلود
غضنت جليلة حاجبيها ورددت خلفها باستغراب وعدم فهم:
_خلود!
تنفست آسيا الصعداء بقوة وتمتمت بقسمات وجه صلبة ونظرات كلها شموخ ووقار:
_ممكن ادخل ولا لا ياحچة چليلة؟
انعقد لسان جليلة وعينيها تلألأت بمرارة بعد رؤية حال ابنتها الغريب الذي وصلت إليه.. تتصرف كأنها لا تعرفها وتناديها بالألقاب دون أن تلفظ بكلمة أمي، سحق قلبها تحت الأسى والحزن وهي تراها أمامها بهذا الوضع حتى لو كانت قوية كالسابق وبعينيها نفس الجبروت والعزة لكن وقوفها أمامها وهي تطلب منها الأذن لدخول منزل والدها مزق قلبها وللحظة نقمت نفسها على ما فعلته بها فهي باتت شبه متأكدة أنها لم تفعل شيء وهم حكموا عليها ظلمًا.
اكتفت بأنها أفسحت لها الطريق لتدخل.. فقادت آسيا خطواتها السريعة الدرج تقصد الطابق الثاني حيث غرفة خلود لكن أثناء مرورها من أمام غرفة شقيقها خرجت فريال بالصدفة ورأتها فهتفت بصدمة:
_آسيا بتعملي إيه إهنه؟
اقتربت آسيا منها حتى أصبحت شبه ملتصقة بها وهمست لها بنظرات جافة وهي تثبت عيناها على باب الغرفة:
_چلال چوا؟
هزت فريال رأسها بالإيجاب وهي تضيق عيناها بعدم فهم لتجد الأخرى تكمل ببسمة شرسة:
_طيب خليه يطلع ويستنى تحت عشان ميفتهوش العرض
التزمت الصمت للحظات وهي تحاول فهم مقصدها بينما آسيا فتركتها وأكملت طريقها لغرفة خلود وفريال كانت تتابعها بنظراتها حتى وجدتها تقف أمام غرفة خلود فاتسعت عيناها بصدمة وباللحظة التالية فورًا كانت تبتسم بفرحة وخبث بعدما أدركت ما تعنيه.
استدارت برأسها للخلف تجاه غرفتها وعادت لها مجددًا وفور دخولها رأت زوجها وهو يستعد للخروج وقد كان انتهى من ارتداء ملابسه فعقدت ذراعيها أسفل صدرها ووقفت خلفه على مسافة بعيدة نسبيًا وهي تبتسم بسخرية، بعد دقيقة التفت بجسده للخلف وفور وقوع عينيه عليها هتف بتعجب:
_واقفة إكده ليه؟
ابتسمت له بغضب وتقدمت بخطواتها نحوه حتى أصبحت على بعد سنتي مترات قليلة منه ثم قالت:
_مستنية أشوف شكلك هيبقى كيف بعد ما تعرف الحقيقة.. كيف ما ظلمت أختك ظلمتني أنا كمان
ضيق عيناه بعدم فهم وقال في لهجة غليظة:
_ظلم إيه ده يافريال وإيه اللي چاب سيرة آسيا!
رمقته باستنكار وقالت وهي تستدير وتبتعد عنه متجهة نحو الباب:
_انزل تحت وهتعرف كل حاچة
تصلب مكانه لثواني بعد رحيلها وفورًا كان يجذب هاتفه ويرتدي حذائه ويسرع للخارج يقصد الطابق الأرضي تحديدًا كما قالت زوجته للتو.......
***
فتحت آسيا الباب ودخلت دون انتظار الأذن من خلود التي انتفضت واقفة بزعر فور رؤيتها لآسيها أمامها وبمنتصف غرفتها.
هدرت بذهول:
_آسيا أنتي كيف دخلتي البيت؟!!
ابتسمت لها بتلكف وردت في سخرية:
_دخلت من الباب هكون دخلت كيف يعني ياخلود!
هزت خلود رأسها بالنفي وقالت بعدم استيعاب توضح لها مقصدها:
_قصدي هما كيف دخلوكي البيت؟
أخذت نفسًا عميقًا وأخرجته زفيرًا متهملًا ثم تقدمت نحو خلود وهي تهمس بنبرة تثير القلق:
_صحتك كيفها؟
سكتت للحظة وهي ترمقها باستغراب من سؤالها لكنها بالأخير أجابت في هدوء:
_زينة الحمدلله.. أنتي چيتي عشان تسألي على صحتي؟!!
عادت البسمة لثغر آسيا مرة أخرى ودارت بنظرها على طول جسد خلود لتهمس بالأخير وبعينان مريبة:
_امال انتي محتاچة اهتمام ورعاية خاصة ولا عاوزة عيلك يحصله حاچة
تجمدت الدماء في وجه خلود وأصفر لونه حتى أنها ازدردت ريقها بصعوبة من صدمتها وأخذت تحدق في آسيا بارتباك ثم أردفت بتصنع عدم الفهم:
_عيل إيه ده!!
ضحكت آسيا بشيطانية وقالت وهي ترفع يدها وتربت فوق ذراع خلود بلؤم:
_أنا عارفة كل حاچة ياخلود.. متقلقيش مش هفضحك بس قصاد إكده هتقولي للكل إنك افتريتي عليا وغلطتي فيا وفي شرفي وخلتيني في نظر ناسي واحدة فاچرة وزانية
وهاهي عادت آسيا التي تعرفها لكن التي كانت منذ أيام وهي تتحدث معها بالمقهي كانت فتاة أخرى، وللأسف هي نجحت في خداعها هذه المرة.. اضطربت خلود وظهر الخوف على محياها فقالت برفض قاطع:
_أقول كيف أنتي عارف أبويا وچدي وعلي هيعملوا فيا إيه لو عرفوا اللي عملته فيكي
انتصبت آسيا بوقفتها وهي ترفع رأسها بشموخ وترد بكل قسوة وحدة تلقي عليها تهديداته الصريحة:
_لو عاوزة اخليهم يعرفوا أن بتهم الشريفة متچوزة عرفي وحامل كمان معنديش مشكلة
زعرت بشدة وراحت تمسك بيد آسيا تتوسلها ببكاء ورعب:
_لا أبوس يدك يا آسيا ما تقوليلهم حاچة.. دول يقتلوني فيها
أخفضت نظرها لها بتشفي والأخرى تتوسلها ببكاء وارتيعاد.. كان منظرها يعيد تكرار ذكريات ذلك اليوم عندما كانت تتوسل الجميع وسط انهيارها ووجهها المتورم لكي يصدقوها لكن الجميع اختار الطريق المعاكس لها وتخلوا عنها.
هتفت خلود باستسلام في صوت مبحوح:
_خلاص هعمل كل اللي انتي عاوزاه بس متچيبيش ليهم سيرة أبوس يدك
زفرت يد خلود بعيدًا عنها باشمئزاز وقالت في شراسة:
_هتنزلي دلوك قصاد الكل وتقولي الحقيقة وقصادي
انتصبت خلود في وقفتها وطالعتها بصدمة تردد خلفها:
_دلوك؟!!
انحنت آسيا بجسدها على الفراش المجاور لها وجذبت حجابها ثم ألقته بوجه خلود وهي تصيح بها:
_البسي خلصي يلا عشان ننزل زمان الكل مستنينا تحت
طالت نظرة خلود المرتعدة لآسيا وبقت متشكرة بأرضها لدقائق قبل أن تبدأ في ارتداء حجابها مرغمة وسط دموعها التي تنهمر فوق وجنتيها بغزارة والأخرى كانت تتابعها بتشفي وقرف.....
***
بعد مرور عشر دقائق تقريبًا كانت خلود تنزل درجات السلم ببطء وخلفها آسيا حتى وقفت على الأرض ونقلت نظرها بين الجميع كانت العائلة بأكملها متواجدة.
ألقت آسيا نظرة على فريال التي ابتسمت لها بدفء وفهمت من نظراتها أنها هي التي قامت بجمع العائلة كلها فرمقتها آسيا بامتنان وحب نقي.. لم يلبث للحظة حتى صاح منصور بغضب:
_أنتي بتعملي إيه إهنه؟
هتف حمزة بحزم يسكت ابنه عن الحديث:
_منصور.. استنى خلينا نشوف عاوزة تقول إيه!
نقلت آسيا نظرها على وجه أمها التي كانت عيناها لامعة بالدموع وحين نظرت لشقيقها وجدته ساكن تمامًا يتابعها بنظرات غاضبة مثل جدها والبقية، وجدت البسمة الساخرة تصعد لثغرها بتلقائية وقالت تجيب على جدها دون أن تنظر له حتى:
_مش أنا اللي هقول.. بتكم هي اللي هتقول وتتكلم
كان الرعب والصمت يستحوذ على خلود وهي تتنقل بنظرها بين وجوه عائلاتها، تحاول توقع ردة فعلهم بعدما تكشف لهم فعلتها الشنيعة، لكن حين استقرت عيناها على وجه آسيا رأت التحذير المرعب فتنفست الصعداء بتريث وبدأت تتحدث وهي مطأطأة أرضًا لا تتجرأ على رفع عينيها بوجوههم:
_آسيا معملتش حاچة.. يعني مكنش في حاچة بينها هي وعمران
رفعت آسيا نظرها ورأت السكون والذهول مهيمن على الجميع فابتسمت بثقة وهتفت بحدة توجه حديثها لخلود:
_كملي
ازدردت خلود ريقها بتوتر وتابعت بصوت مرتجف:
_أنا عدلت الصور وقولت إن هي وعمران بيحبوا بعض وفي بينهم حاچة
كانت الصدمة تستحوذ على منصور هو وعلي وكذلك حمزة بينما چلال فأظلمت نظراته وهي واقفًا يندفع نحو ابنة عمه يصرخ بها بانفعال مرعب:
_عدلتيها كيف يعني؟!!
هدرت بصوت باكي دون أن ترفع نظرها لوجه جلال:
_أنا لما شوفتها هي وعمران كانت بتتخانق معاه وبتتهمه أنه هو اللي قتل عمي خليل وأنا صورتهم وعدلت الصور عشان يبان أن في بينهم حاچة
احتقن الدماء في وجه جلال وراح ينظر لوجه خلود بعصبية يرغب بفعل الكثير بها لكنه لا يستطيع لمسها رفع يده في الهواء وراح يمسح على وجهه وحين سقطت نظراته على شقيقته رآها ترمقهم بخذي وسخرية، ولم يزيح نظره عنها إلا عندما صك سمع الجميع صوت صفعة جليلة القوية لخلود وهي تصرخ بها:
_افتريتي على بتي ولعبتي بشرفها وخليتنا نعمل فيها كل ده.. ودلوك چاية تعترفي بعملتك ماهو العيب على أبوكي وأمك اللي معرفوش يربوكي
استشاط علي واندفع نحو شقيقته يبعد زوجة عمه عنها ويوجه لها صفعته العنيفة وراح يجذبها من حجابها قابضًا على شعرها من فوق الحجات وهو يصرخ بصوته الرجولي:
_چبتي الفُجر ده منين
كانت تبكي وتصرخ بين يدين شقيقها وآسيا تتابعهم مبتسمة بسخرية.. تتشفي في منظرهم جميعهم وهم يسمعون الحقيقة التي لم يصدقوها عندما توسلتهم وهي تخبرهم بها، انحنت على أذن خلود وهمست لها بنبرة لا تحمل من الشفقة أو الرحمة شيء:
_سبق وقولتلك فتحتي على روحك طاقة جهنم لما فكرتي تأذيني.. وجه وقت الحساب أنا كنت قاطعة عهد على روحي إني هخلي نهايتك ابشع من نهايتي يابت عمي
كان علي يسمع كلمات آسيا ولا يفهم منها شيء لكن نظراته كانت متسعة بدهشة وباللحظة التالية كان يتابع ابنة عمه وهي تقترب من جده ووالده وتقف أمامهم ثم تضع بيد أبيه ورقتين وتهتف باشمئزاز ونقم:
_ده عشان تعرف حقيقة بتك الشريفة.. بتكم متچوزة عرفي وحامل والدليل في يدكم أهو
صرخت إنصاف بصوت مرتفع واتسعت عيني كل من منيرة وفريال بذهول بينما البقية فكان صمتهم مرعب أكثر.. راح منصور يتفقد الورقتين بتدقيق ومن ثم جذبها حمزة من يده وبالأخير كان علي.
أما جليلة فلم يكن يهمها شيء وسط كل هذا سوى ابنتها.. تفكر كيف ستجعلها تغفر لها وتسامحها، وجلال كان يقف مصدومًا يتلقى الصدمات دفعة واحدة لا يدري كيف يتصرف لكنه ألقى نظرة نارية ومشمئزة على خلود وتابع بنظره عمه وهو ينقض على ابنته وينهال عليها بالصفعات والضربات القوية وهذه المرة حتى جدها نالت من نقمه وجموحه نصيبًا وسط صراخ زوجة عمه وبكائها العالي على ابنتها، لكن منصور كان لا يرى شيء أمامه وكأنه أصاب بالعمى يضرب ابنته بأي مكان تطوله يداه ويساعده حمزة وسط صراخهم عليها ونعتهم لها بالفُجر والألفاظ الاخرى.
انطفأت نيران آسيا المشتعلة في صدرها بعد أن رأت ذلك المشهد أمامها ثم استدارت وكانت تنوي الرحيل لكنها توقفت عنوة على أثر قبضة أمها على ذراعها وهي تهتف برجاء وبكاء:
_متمشيش يا آسيا.. حقك علينا يابتي سامحينا
رفعت آسيا نظرها لجلال ورأت نظرات الندم والحزن في عيناه ثم عادت لأمها تنظر لها ولوجهها الغارق بالدموع.. ولأول مرة لا تشعر تجاههم بأي شيء سوى النقم والنفور، فأبعدت يد أمها عنها وهتفت بجفاء ونظرات كلها قوة وعدم مبالاة:
_بتكم ماتت
استدارت وقادت خطواتها لخارج المنزل فلحقت بها جليلة وهي تصرخ عليها ببكاء لتركض منيرة تحاول إيقافها وكان خلفها چلال ينوي اللحاق بشقيقته ليوقفها.. لكنه تسمر بأرضه عند باب المنزل بعدما رأى عمران وهو يقف أمام سيارته يستند عليها بظهره منتظرًا زوجته وعندما اقتربت منه آسيا انتصب في وقفته وانحنى عليها يقبل رأسها بحنو مبتسمًا لها ثم امسك بيدها واتجه نحو باب السيارة ليفتح الباب لها، وقبل أن تستقل بالسيارة ألقت نظرة عليهم خالية من المشاعر وصعدت وبعد ثواني كان عمران يستقل بجوارها وينطلق بالسيارة مبتعدًا عن المنزل وسط بكاء جليلة وهي تردد بندم:
_آسيا.. آسيا، حقك عليا يابتي سامحيني آاااه
***
داخل منزل ابراهيم الصاوي......
كانوا بطريقتهم لغرفتهم لكن عمران توقف عندما سمع صوت والده فنظر لآسيا وهمس لها بخفوت:
_أسبقيني وأنا چاي وراكي
كانت تتجول وتسير معه طوال الطريق كالجسد بلا روح، عيناها منطفئة ووجهها ذابل.. شفتيها عابسة وملامحها تعكس الألم والقهر الذي بقلبها، رغم أنه أخذها وتجولوا قليلًا لكي يزيح الهم عنها قليلًا لكن دون جدوى.
هزت رأسها له بالموافقة وتابعت طريقها لغرفتها بالأعلى وهو اتجه لوالده، دخلت الغرفة واغلقت الباب ثم تقدمت نحو الفراش وجلست على حافته.. وأخذت تستعيد الساعات السابقة في عقلها تتذكر نظرات الجميع وتوسلات أمها وندم شقيقها وبنفس اللحظة كان يقذف بعقلها ذكرى اليوم المشوؤم عندما كانت تتوسلهم لكي يصدقوها ولا يتركوها طعم لتلك العائلة وتتزوج من رجل لا تريده وتكرهه لكنهم لم يتلفتوا لها وصدقوا ما رأته عيناهم.
بعد مرور خمسة عشر دقيقة تقريبًا وهي على نفس الوضع وصل عمران أخيرًا.. دخل وثبت نظره عليها لكنها كانت لا تنتبه له تنظر في الفراغ بضياع.. فتنهد الصعداء بقوة واقترب منها حتى جلس بجوارها وراح يرفع يده يمسح على رأسها بحنو متمتمًا:
_اتكلمي يا آسيا إيه اللي مضايقك؟
رفعت نظرها الضائع له وبلحظة تجمعت العبرات بمقلتيها فقالت بصوت مبحوح يغلفه البكاء:
_مش قادرة انسى اللي عملوه فيا ياعمران
سكتت للحظة ثم تابعت وكانت دموعها انهمرت فوق وجنتيها وأصبح صوتها مهزوزًا:
_مش هقدر اسامحهم واصل على الظلم اللي ظلموه ليا.. رموني كأني مش بتهم وچابوني على البيت ده وچوزني منك غصبن عني ومحدش فيهم سأل فيا واعتبروني مُت.. مفيش حد فكر يسأل ولا يهتم أنا عايشة كيف وسطيكم وإيه بتعملوا فيا، ودلوك عاوزني اسامحهم وانسى كل حاچة كيف بعد ما هملوني لحالي وأنا مليش حد
فرد ذراعه ولفه حول كتفيها ثم ضمها لصدره وراح يملس فوق ذراعها بكفه العريض وهو يهمس بصوت رزين وجاد:
_متغصبيش روحك على حاچة وقت ما تحسي نفسك قادرة تنسي وتسامحي وقتها ترچعي ليهم لكن دلوك متفكريش في حاچة، وأنا چارك وچوزك يعني أنتي مش لوحدك
ابتسمت بغرام وسط دموعها ثم رفعت نظرها له دون أن تبتعد عن صدره لتهمس بعينان كلها امتنان وعاطفة:
_أنت الوحيد اللي كنت چاري رغم كل اللي عملته فيك.. كنت ضهري وسندي
صمتت للحظة ثم تابعت بعين عادت تغرق بالدموع مرة أخرى:
_تعرف ياعمران أنا بشوف فيك حنان وحب أبويا.. كل اللي عملته وكل حاچة بعملها حتى لو غلط أنا ببقى عارفة إنك في ضهري وهتحميني وببقى مرتاحة ومطمنة طول ما أنت چاري
ابتسم لها ثم انحنى عليها ولثم جبهتها بقبلة مطولة هامسًا:
_بظبط وعشان إكده متزعليش روحك ووقت ما تبقي مستعدة تواچهي ناسك وتسامحيهم ارچعيلهم
التزمت الصمت لثواني وهي تفكر ثم ابتعدت عنه لتسأله بوجه عابس:
_هو أنت عاوزني ارچعلهم وتطلقني؟!
ضحك بخفة ليرد عليها بصوت الرجولي القوي:
_ترچعيلهم بمعنى تسامحيهم وترچع المايه لمجاريها من تاني يا آسيا مش إنك ترچعي وتسيبي بيت چوزك طبعًا
عادت البسمة لثغرها من جديد فوجدته يهب واقفًا ويهتف بجدية:
_يلا عاد قومي اغسلي وشك وچهزي روحك عشان أنا معايا شغل في القاهرة ومسافرين الفچر الليلة
اتسعت عيناها بدهشة لتردد بتعجب:
_القاهرة والفچر!!
رد مبتسمًا بخبث وهو يتجه نحو الخزانة ويبدأ في تبديل ملابسه:
_اممممم هناخد اسبوعين لو مش عاوزة تاچي معايا خليكي إهنه في البيت عادي
ردت على نفسها ساخرة بقرف وفي صوت منخفض:
_وإيه اللي يقعدني في بيت العقارب ده لحالي وأنت مش قاعد
تنهدت الصعداء ورفعت أناملها تمسح دموعها من فوق وجنتيها برقة وعندما التفتت نحوه ورأته شبه عاري صرخت بفزع وسرعان ما أشاحت بوجهها للجانب الآخر وهي تهتف بغيظ:
_قولتلك مليون مرة ياعمران متغيرش قصادي إكده!
رد ببرود مبتسمًا وبلهجة صعيدية غليظة:
_امال اقلع خلچاتي وين يعني في الطرقة برا مثلًا ولا إيه!!
استقامت واقفة وهي مازالت تتحاشى النظر لجسده وسارت باتجاه الحمام.. أخذ يتابعها بنظراته وهو يضحك.. كانت تسير هي تنظر للجانب خشية من أن يسقط نظرها عليه دون قصد وعندما وصلت للحمام دخلت واغلقت الباب ثم راحت تهتف من الداخل بغيظ ممزوج بخجلها:
_الناس بتغير في الحمام مش قصاد أي حد إكده
رفع حاجبه باستنكار لعبارتها المتناقضة التي لا تناسب زوجين أبدًا، لكنه اكتفى ببسمته المغلوبة عليها وتابع ارتداء ملابسه ثم التقط هاتفه وأجرى اتصال يخص العمل.......
***
كان صوت صراخ إنصاف هو فقط المسموع بالمنزل بعدما رأت ابنتها فاقدة الوعي أمامها والدماء التي تسيل منها جعلت النصف السفلي من ملابسها الصفراء كله أحمر اللون.. فقد فشلت هي في انتشالها من بين براثن زوجها وجدها لكن جلال بعد رؤيته لمنظر الدماء هرول نحو عمه ودفعه بعيدًا عن خلود يصيح به:
_متستاهلش تقتلها وتدخل روحك السچن.. بزيادة ياعمي
كان علي يقف يحدق بشقيقته مذهولًا وهو يرى دمائها تملأ ملابسها.. هذا يعني أن آسيا لم تكن تكذب فيما يخص حملها وهي بالفعل كانت حامل، بتلك اللحظة كان منصور يصرخ بجلال وهو كالثور الهائج:
_حطت راسي في الطين وجابتلنا العار بت *** دي **** هقتلها واغسل عاري عشان ارتاح
كانت جليلة بعالم آخر تجلس بركن بعيد عنهم وتبكي على ابنتها بندم وكل من فريال ومنيرة يتابعون ما يحدث أمامهم بصمت دون أن يتجرأ أحد منهم على التدخل على عكس إنصاف التي كان صوتها المرتفع يزلزل المنزل وهي تولول وتلطم بصراخ وبكاء من خوفها على ابنتها.
فتحت خلود جزء بسيط من عيناها بضعف وهي تتأوه بألم.. كانت بين الوعي واللاوعي تسمع أصواتهم لكن لا تفهم ولا تشعر بشيء، وفجأة انقض عليها علي يقبض على فكها عندما رآها تفتح عينيها يلقنها بألفاظ نابية:
_يافاچرة يا**** كيف ما العيل اللي في بطنك ده مات هتحصليه أنتي و**** اللي عملتي عملتك معاه ده.. وعزة جلالة الله يا خلود لأقتلكم انتوا الاتنين
دفعه جلال عنها وصرخ به بعصبية:
_عــلــي
ثم رفع نظره ليحدق بزوجة عمه ويقول بحزم:
_اتصلي بالإسعاف خليها تاچي بسرعة
أسرعت انصاف شبه ركضًا تجاه هاتفها وبظرف لحظة كانت تضغط على الأرقام وتجري اتصالها بالإسعاف.. بينما الجد حمزة فاقترب من مقعد خشبي مبطن وجلس فوقه وهو يضع رأسه بين راحة كفه مغلقًا عيناه بتعب من فرط الهم والتعب وماهي إلا لحظات حتى توقف وكان ينوي الذهاب لغرفة الجلوس حتى يرتاح لكنه فجأة سقط على الأرض فاقدًا الوعي.
هرول الجميع نحوه يحاولون إفاقته لكن دون جدوى.. أصبحت الكارثة كارثتين الآن والمنزل أصبح يملأه الصراخ كمنزل الميت الذي يتلقى واجب العزاء من الناس.
***
مرت ساعات طويلة دون أن تحصل على أي خبر منهم.. كانت تحاول الاتصال بزوجها لكن لا يجيب عليها وبدأ قلقها يزداد على الجد من أن يكون قد صابه مكروه، لم تكن تهتم بخلود ولا يهمها أمرها فهي نالت جزاء أفعالها الدنيئة.
عاد الأولاد من المدرسة للمنزل ووجهتهم الأولى كانت لغرفة والدتهم بعدما وجدوا المنزل فارغ ولا يوجد أحد.. انفتح الباب ودخل عمار أولًا وهو يهتف بسرعة:
_أما هي جدتي وجدي حمزة والكل وينهم مفيش حد في البيت
تنهدت الصعداء بضيق ورتبت بكفها على الفراش بجوارها تشير لهم أن يقتربوا ويجلسوا بجوارها ففعلوا بسرعة وسألتهم هي باهتمام:
_إيه اخبار المدرسة النهاردة حليتوا زين مع الأبلة؟
رد عمار بحماس طفولي وسعادة:
_إيوة وادتني نچمة كمان في الكراسة وخلت الفصل كله يصقفلي عشان أنا شاطر
ابتسمت فريال بحب لابنها وانحنت عليه تلثم شعره بحنو ثم رفعت رأسها ونظرت لابنها الأكبر فترى السكون يستحوذ عليه يحدق بأمه وكأنه يود قول شيء لكنه مترددًا، تجاهلت ما رأته بتلك اللحظة وأجابتهم على فضولهم بعبوس:
_جدكم حمزة تعب شوية وهما راحوا معاه المستشفى
رد معاذ بهذه اللحظة في خوف:
_طيب هو بقى كويس دلوك ولا لسا تعبان؟
زمت شفتيها بحزن وقالت وهي تهز كتفيها بجهل:
_معرفش ياولدي أبوك مش بيرد عليا.. أن شاء الله يكون كويس.. أنتوا قوموا دلوك غيروا هدومكم عشان تتغدوا وبعدين تراجعوا على الحفظ قبل ما تروحوا الدرس.. ولما أبوكم يرد عليا هقولكم قالي إيه
زموا شفتيهم بعبوس طفولي واستقام عمار أولًا ممتثلًا لأوامر والدتهم وهو يتجه لخارج الغرفة وكان معاذ سيهم بالنهوض واللحاق به لكنها قبضت على ذراعه تثبته مكانه وتسأله بجدية:
_مالك يامعاذ ياحبيبي في حاچة عاوزة تقولها وخايف؟
هز رأسه بالنفي ورد على أمه متنهدًا بخنق:
_لا أنا مش خايف ياما بس مش عارف أقولك ولا أقول لأبويا
ضيقت عيناها باستغراب وعادت تسأله باهتمام وفضول:
_تقولنا إيه.. قولي عاوز تقول إيه لأبوك؟!
أخذ نفسًا عميقًا قبل أن ينظر لعينان أمه ويتمتم بغضب ملحوظ واقتضاب:
_شوفت مرت أبوي وهي كانت في مكتبه وبتفتح خزنته وكانت بتاخد فلوس ولما دخلت اتفزعت وحطت الفلوس مكانها تاني وقفلت الخزنة بسرعة.. كانت بتسرق من فلوس أبوي ياما
اتسعت عيني فريال بصدمة وهيمن السكون عليها لبرهة من الوقت قبل أن تسأل ابنها بترقب:
_شفت الكلام ده ميتا؟
رد بثقة تامة وثبات:
_امبارح الصبح
التزمت فريال الصمت وانحرفت عيناها من على وجه ابنها لتحدق في اللاشيء بشرود وملامح وجه ساخطة وماهي إلا دقيقتين بالضبط حتى عادت بنظرها لصغيرها وأملت عليه تعليماتها الصارمة:
_طيب متجيبش سيرة لابوك واصل باللي شفته يا معاذ ولو حصل وشفت أي حاچة من مرت أبوك تاني تاچي وتقولي أنا علطول ياحبيبي تمام
لوى فمه بعدم فهم لكن قال بانصياع لأوامر أمه:
_حاضر ياما.. بس ليه مجيبش سيرة لأبوي؟
ابتسمت له بحنو وغمزت له بخبث ثم همست:
_لا أنا ولا أنت ولا عمار عاوزين مرت أبوك تفضل إهنه في البيت معانا صُح
ابتسم لأمه وهو رأسه بالإيجاب فضحكت هي على ابنها الداعم لأمه وانحنت عليه تقبل شعره هامسة بلؤم:
_عشان إكده مش هتجيب سيرة لأبوك وهتقولولي كل حاچة بتعملها مرت أبوك وتعمل اللي أقولك عليه أنت وعمار.. عشان نمشيها من بيتنا
ضحك بخفة وراح يلقي بحمل جسده كله على أمه يعانقها بقوة وهي يقول بسعادة وحماس:
_اتفقنا.. عشان تمشي مرت أبوي ونرچع كلنا كيف ما كنا في الأول وأنتي وأبوي متتخانقوش تاني بسببها
ابتسمت لابنها وهو بين ذراعيها وراحت تلثم رأسه بقبلات أمومية دافئة بينما هو فسكن داخل أحضان أمه وهي يغلق عينيه براحة....
***
داخل المستشفى بتمام الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل.. كان كل من منصور وعلي وجلال يجلسون بالخارج في انتظار الطبيب ليخرج من غرفة العمليات ويطلعهم على وضع الجد.. ينتظرون منذ ساعات طويلة وحالتهم المزرية كانت مختلفة ما بين الغضب والهم والقلق وبين الجمود والسكون التام، كأن صاعقة من السماء ضربت رأسهم بنفس اللحظة وحرقتهم كلهم بأرضهم.
رأوا الطبيب وهو يخرج من الغرفة أخيرًا ويقترب منهم فتوقف جلال وتقدم نحوه يسألها باهتمام:
_إيه يادكتور طمنا كيفه چدي؟
رد الطبيب براحة وهدوء:
_اطمنوا هو بخير حاليًا الحمدلله اتدخلنا في الوقت المناسب هي كانت بداية جلطة في المخ لكن الحمدلله ربنا ستر
تنهد جلال وهو يردد الحمدلله بينما منصور فسأل الطبيب بمضض:
_وخلود؟
أجابه الطبيب بوجه عابس:
_للأسف مدام خلود دخلت العمليات فورًا عشان عملية الإجهاض وهي حاليًا هيتم نقلها لغرفة عادية.. هو حصل معاها إيه بظبط لأن واضح أن كان في آثار عنف على وشها!
نعته لها بالمدام جعلت شقيقها ووالدها يستشيطون من جديد لكن جلال تولى هو المهمة ورد على الطبيب بهدوء:
_وقعت يادكتور من فوق السلالم والواقعة كانت شديدة قوي
هز الطبيب رأسه بتفهم رغم عدم اقتناعه لكنه أجاب بالأخير في جدية:
_طيب ياريت لو زوجها موجود خلوه يجيلي على المكتب عشان في إجراءات مهمة لازم يخلصها تخص الطفل والمدام
أنهى عبارته واندفع بعيدًا عنهم يسير باتجاه غرفته التي بالطابق السفلي، بينما منصور فاستشاط وراح يهتف بوعيد وهو يترنح من فرط الغضب:
_يا ***** جبتيلنا العار كان لازم اقتلك وارتاح منك واصل.. تطلعي أنتي بس وأنا هقتلك أنتي وال**** اللي عملتي عملتك **** معاه
ترك علي والده وعاد مرة أخرى لمقعده يجلس فوقه وقد أخذت قدماه تهتز بعنف وهو يضع كفه فوق فكه يضغط عليه بقوة من فرط نيران غضبه الملتهبة.
***
داخل منزل ابراهيم الصاوي......
هتفت إخلاص باعتراض:
_هتاخدها معاك ليه عاد؟!
رد عمران على أمه بضيق:
_هاخدها عشان مرتي ياما اسيبها إهنه ليه!!
قالت إخلاص في غيظ شديد:
_أنت مش رايح تخلص شغلك.. يبقى تفضل إهنه إيه اللي يوديها معاك
مسح عمران على وجهه متأففًا بنفاذ صبر ونظر لأمه بخنق يقول في حدة:
_أما أنا هاخد أسبوعين في القاهرة وأنا راچل متچوز اقعد لحالي ليه ومرتي موچودة.. مطرح ما أكون موچود تكون هي ولا اروح أچيب حرمة غريبة تخدمني وتقعد معايا في الشقة!
استاءت إخلاص بشدة وراحت تهز قدميه بعنف في غيظ لتقول له بقسمات وجه ملتهبة:
_وأنا خايفة تضحك عليك ياولدي وتاخدك تحت جناحتها، دلوك أنت عاوزها تروح معاك مطرح ما تتحرك بعدين كمان هلاقيها جايبالك الواد
زفر حرارة أنفاسه الملتهبة من الغضب واستقام واقفًا يجيب على أمه بحدة:
_ومتجيبش ليه مش مرتي ولا أنا مليش نفس أشوف عيالي
اتسعت عين إخلاص بصدمة من رده لكنها هدأت من ثورانها بأنه قال هكذا فقط ليسكتها ولأنها استفزته، تابعته بنظراتها النارية وهي تراه يندفع لخارج الغرفة ليتركها ويرحل...
داخل الغرفة كانت آسيا تقوم بجمع ملابسهم في الحقائب تستعد لرحلتهم التي ستكون بعد ساعات معدودة وبعدما انتهت من توضيب حقيبتها انتقلت لحقيبتها وبدأت في جمع ملابسه ووضعها بالحقيبة.. كانت جميعها من الجلابيب البلدي ذات الطابع الصعيدي لكن يدها توقفت بدهشة عندما سقطت يداها فوق بعض البناطيل والقمصان مختلفة الألوان فراحت تمسك بقميص منهم وتحدق به بتعجب لا تفهم سبب وجودهم بخزانته.. فهي أبدًا لم تراه يرتدي بنطال وقميص!
بتلك اللحظة دخل الغرفة ومعالم وجهه كانت تنم على وجود بركان بداخله لكن فور رؤيته لها وهي تمسك بملابسه وتتأملهم بشرود سألها بصوته الرجولي الذي نفضها في أرضها:
_بتعملي إيه؟!
ضمت قميصه لصدره وقالت بخفوت مبتسمة:
_ولا حاچة كنت بلم الشنط مش أنت قولتلي هنمشي الليلة في الفچر
لانت حدة ملامحه قليلًا ليقول بجدية:
_آه خلصي الشنط ونامي شوية عشان متتعبيش في الطريق
اماءت له بالموافقة دون أن تصدر أي صوت بينما هو فاستقرت عيناه على قميصه الذي بيدها وأردف:
_مسكاه ليه ده؟!
أخفضت نظرها للقميص ثم عادت بنظرها له مجددًا تقول ببسمة ناعمة:
_عادي أنا كنت بلم هدومك ولقيتهم وسطهم فاستغربت عشان عمري ما شفتك لابس غير الجلالليب
دس يده في جيب جلبابه وأخرج مفاتيح سيارته وهاتفه وحافظة نقوده وهو يجيب بلهجة غريبة وصوت غليظ:
_سبيهم مكانهم متمليش الشنطة على الفاضي بحاچات مش بلبسها كيف ماقولتي
ضيقت عيناها بتعجب من أسلوبه الجاف لكنها تصنعت عدم الاهتمام وبقت مكانها تقف كالصنم تتابع حركاته بنظراتها حتى وجدتها يتجه نحو الحمام ويختفي داخله فسقطت بنظرها للقميص الذي بيدها وهي تبتسم بمكر وبسرعة راحت تخرج بقية القمصان وتختار منها ما يتماشى مع ذوقها وتضعها بالحقيبة وفعلت المثل مع البناطيل حيث بالنهاية جعلت حقيبته نصفها ملابسه المعتادة جلابيبه والنصف الثاني من القمصان والبناطيل ثم اغلقتها بسرعة قبل أن يخرج ويراها وأغلقت كذلك خزانته ووضعت الحقائب فوق الأرض وهي تضحك باستمتاع وخبث لكنها انتفضت على أثر صوته وهو يسألها:
_بتضحكي علي إيه؟
رددت بزعر وصوت منخفض:
_بسم الله الرحمن الرحيم.. إيه ياعمران فزعتني هو الضحك حرام وأنا معرفش!!
لم يهتم بردها ولم يجيبها فقد كان يجفف شعره بالمنشفة الصغيرة من قطرات المياه، تنهدت مغلوبة وتقدمت نحوه لتقف أمامه تسأله برقة:
_أنت في حاچة مضيقاك؟
طالت نظرته الدقيقة لها ليجيبها بنبرة خشنة:
_لو قولتلك آه هتعملي إيه يعني!
صمتت للحظات قبل أن تبتسم بنعومة وتقول بنظرة لئيمة:
_هعملك جلسة استرخاء تريحك وتنسيك كل حاچة
رفع حاجبه بتعجب ودهشة من ردها ولم تمهله اللحظة ليجيب عليها حتى حيث جذبته من يده وسارت نحو الأريكة لتجعله يجلس فوقها، ثم التفت حولها لتقف خلفه وتمسك برأسه بكل لطف لتعود بها على ظهر الأريكة، رغم حيرته من تصرفاتها لكنه ترك نفسه لها بسبب فضوله ليعرف ما الذي ستفعله به، ولم يلبث للحظة حتى شعر بأناملها الناعمة وهي فوق جبهته ورأسه تدلكهم بكل رقة واحترافية، أغلق عينيه لا إداريًا عندما انتشرت اللذة في جسده من لمساتها المتمرثة والناعمة فوق رأسه.. ضحكت هي عندما رأت منظره وانحنت عليه تهمس بصوتها الأنثوي الجميل:
_إيه رأيك؟
حصلت على الرد منه بصوت يحمل بحة رجولية منيرة ومثيرة:
_كملي متوقفيش يدك واصل
ضحكت بأنثوية اخترقت عقله وليس أذنه فقط ثم استطردت:
_عيوني يامعلم
مال ثغره للجانب في ابتسامة بالكاد تظهر وهو مازال مغمضًا عيناه ومع مرور الوقت بدأت تسمع صوت تأوهاته المتلذذة بحركات يدها ولمساتها فتتسع ابتسامتها هي أكثر، وبعد تقريبًا عشر دقائق توقفت يديها عندما شعرت بالتعب ففتح عينيه بخمول من شدة الاسترخاء واللذة التي كانت تغمره للتو ويتمتم لها مبتسمًا:
_تسلم يدك
ضحكت وقالت بدلال غير مقصود وهي تغمز:
_أي خدمة يامعلم
ثم تابعت وهي تتحرك نحو الفراش:
_أنا هنام شوية قبل الفچر عشان اقدر اكمل اليوم بكرا
لم يجيب واكتفى بنظراته الدقيقة لها مع ابتسامته اللعوب وهو يراها تتسطح فوق الفراش وتبدأ تستسلم لنومها....
***
داخل منزل خليل صفوان......
كانت منيرة تقف بالمطبخ تقوم بتحضير شاي لها وكانت في انتظار معرفة أي خبر سواء كان عن الجد أو خلود لكن جلال لا يجيب على هاتفه، لكن انتبهت كل حواسها فور سماعها لصوت الباب وبسرعة قادت خطواتها السريعة للخارج فرأت جلال وهو يجلس فوق مقعد الأريكة ويدفن رأسه بين راحتي كفيه فأسرعت نحوه وجلست بجواره تسأله في اهتمام:
_إيه ياچلال الحج حمزة وخلود كيفهم؟
رفع رأسه عن كفيه وتنهد الصعداء ليكتفى بإماءة رأسه كرد على سؤالها بأنهم بخير فتنفست هي براحة، دام السكون بينهم لدقائق كان هو يحاول ترتيب أفكاره وأخذ قسطًا من الراحة قبل أن يعود للمستشفى لكن سماعه لمنيرة وهي تقول بعدم تصديق ويلمس نبرة التشفي في صوتها التي جعلت الغضب يتسحوذه مرة أخرى:
_أنا مش مصدقة أن خلود عملت إكده.. معقول تتچوز عرفي وتحمل كمان كيف عملتها، طلعت صُح مش كيف ما كنت مفكراها غلبانة
ثم ظهرت بسمة السخرية والبحث فوق ثغرها وهي تتبع:
_بس آسيا خدت حقها تالت وتالت منها وطلع چوازها من عمران مش عشان الصلح كيف ما كلنا فاهمين.. أنت ليه مقولتليش الموضوع ده!
تحولت نظرات جلال وأصبحت مخيفة وكأنه وحش يستعد للانقضاض على فريسته وبلحظة كانت تجده يقبض على شعرها بعنف هاتفًا في نبرة صوت قفذت الرعب في أوصالها:
_متفتحيش خشمك تاني واصل في الموضوع ده.. أنتي النهاردة كنتي خرسة وطرشة لا شفتي ولا سمعتي حاچة.. اقسم برب العزة لو صنف مخلوق عرف باللي حُصل في البيت النهاردة وسمعتيه وبذات على موضوع آسيا لأكون موريكي النچوم في عز الضهر ومطلقك وراميكي في بيت ناسك.. فاهمة ولا لا
انهي عبارته الأخيرة بصرخة نفضتها مكانها فأخذت هي توميء له عدة مرات متتالية بموافقة في خوف من جموحه المرعب الذي تشهده للوهلة الأولى، بينما هو فتركها واستقام واقفًا يتجه نحو الدرج يقصد غرفته هو وفريال بالطابق الثاني.....
***
هبت فريال واقفة عندما وجدت الباب ينفتح ويظهر جلال من خلفه فأسرعت نحوه تسأله بقلق:
_چلال طمني چدي حمزة كيفه؟.. برن عليك من الصبح مبتردش!
تنهد بعبوس ووجه مهموم ثم أجابها بخفوت:
_لغاية دلوك زين يافريال الحمدلله
تنهد الراحة بفرحة ثم تابعته وهو يتجه نحو الفراش ويجلس فوقه ماسحًا على وجهه وهو يتأفف بقلة حيلة فراحت تجلس بجواره وتلوى فمه بخنق لتسأله على مضض:
_وخلود سقطت العيل اللي في بطنها صُح؟
اماء لها بالإيجار ثم تمتم بغضب وغيظ:
_كان نفسي اسيب عمي يقتلها وياخد روحها معرفش إيه اللي خلاني امنعه
فريال بخنق واشمئزاز:
_هي خدت جزائها على اللي عملته ولسا كمان
دام صمته للحظات حتى خرج صوته مكتومًا وهو يسألها دون أن يرفع رأسه وينظر لوجهها:
_أنتي كنتي عارفة باللي عملته في آسيا؟
ابتسمت فريال باستنكار وردت عليه في قسوة واستياء:
_كنت عارفة آسيا حكتلي وحتى لو مكنتش حكتلي أنا كنت مستحيل اصدق الصور.. أنا عارفة أن لا أخويا ولا آسيا يعملوا حاچة إكده، لكن أنتوا كلكم صدقتوا فيها وظلموتها ورمتوها كأنها ملهاش ناس.. لما چات البيت عندنا كانت بتلبس نقاب أول كام يوم عشان تداري الورم اللي في وشها من كتر ضربك ليها أنت وعمك وچاتلي تطلب مني مكياچ عشان تحطه لما تنزل ومحدش يلاحظ اللي في وشها.. محدش كان واقف چارها وفي ضهرها وبيحميها غير عمران اللي أنت كنت بتتهمه في قتل أبوك
كان مازال لا يرفع رأسه لها فقط يستمع لعبارتها وهي تسرد له معاناة شقيقته بسبب ما فعلوه بها أو ما فعله هو بالأخص، تلألأت العبرات في مقلتيه وخرج صوته مبحوح ممتليء بالندم الصادق:
_مكنتش شايف قصادي يافريال والشيطان أتمكن مني لدرچة أني مبقيتش حاسس أن دي آسيا ويمكن لغاية اللحظة اللي اعترفت فيها خلود وأنا كنت مش حاسس بحاچة.. معرفش كيف هخليها تسامحني وارچعها لينا
ابتسمت فريال بمرارة وردت في ألم:
_أنت خسرت أختك كيف ماخسرتني ياچلال متنتظرش من آسيا الغفران بعد اللي عملتوه فيها
أنهت عبارته وهمت بالوقوف لكنه قبض على رسغها يمنعها من الرحيل يتطلع إليها بعينيه الدامعة ويهتف لها بعجز وألم:
_أنا تعبان قوي يافريال أبوس يدك بلاش تبقي أنتي كمان عليا.. الليلة دي على الأقل حتى أقفي چاري أنا محتاچك
لأنت نظراتها ورق قلبها له بعد توسله وحالته المزرية التي تراه فيها فقد ذكرتها تمامًا بليلة وفاة والده كان بنفس الضياع والتشتت أيضًا.. لوهلة كانت ستضمه لصدرها وتحاول التخفيف عنه لكن تراجعت بقهر عندما تذكرت ما فعله بها وزواجه وخيانته لها، جذبت يدها من قبضته ببطء واكتفت بنظرتها الدامعة والمنكسرة له قبل أن تتركه وتذهب للحمام، بقى مكانه يحدق في أثرها بقلب ممزق وروح تائهة ولا إراديًا سالت دموعه الحارقة فوق وجنتيه.....
***
بعد مرور دقائق طويلة نسبيًا خرجت فريال وكانت بطريقها للمطبخ بالأسفل حتى تقوم بتحضير طعام لها بسبب شعورها الشديد بالجوع لكنها اصطدمت في طريقها بمنيرة التي وقفت وحدقت بها بغل تهتف:
_إيه واستيه زين ولا لا؟!
ابتسمت فريال ببرود ثم ردت عليها بلؤم متعمد:
_اتعودي من إهنه ورايح أن چلال أول ما يكون مضايق هيچيلي أنا.. أنا الوحيدة اللي بقدر أخفف عنه همه، ةصدقيني هيكون اريحلك لو تقبلتي فكرة أنه بيعشقني أنا وأنتي ملكيش أي تلاتين لزمة
التهبت نيران منيرة أكثر فهي أساسًا مستاءة بالقدر الكافي منذ تهديده لها للتو وانفعاله عليها، ثم التجأ لفريال حتى تزيح عن كتفيه القليل من الهموم.. تقدمت نحو فريال بخطواتها المتربصة بينما فريال فأخذت تتقهقهر للخلف بقلق خشية أن تأذيها هي وطفلها.
هتفت منيرة بوعيد وحقد:
_متفرحيش قوي عشان أنا مش هيخليكي تقعدي إهنه كتير وقريب هفرح لما يطلقك وهيبقالي أنا لوحدي
ظلت قدمي فريال في التراجع دون أن تنتبه أن خلفها الدرج وفجأة أطلقت صرخة مدوية عندما انزلقت قدماها من فوق الدرج..........
........... نهاية الفصل ...........
•تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق