Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الخامس و العشرون 25 - بقلم ندى محمود

 رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الخامس و العشرون 25 - بقلم ندى محمود 

((ميثاق الحرب والغفران))

_الفصل الخامس عشر_ 


قبل خمس ساعات........

 

كانت آسيا تسير في طريق المقهى الصغير القريب من المنزل وبيدها هاتفها تجري اتصال بأحدهم، ثم رفعت الهاتف تضعه فوق أذنها تنتظر الرد حتى سمعت الرد بـ " الو " أخذت نفسًا عميقًا تحاول إظهار نبرة صوتها ودودة:

_ أيوة ياخلود كيفك؟ 

ضيقت خلود عيناها باستغراب بعد سماعها لصوت آسيا لكنها ردت بخفوت:

_زينة يا آسيا الحمدلله.. خير في حاچة ولا إيه؟

آسيا بنبرة رقيقة تحمل لمسة الاكتئاب:

_عاوزة اتكلم معاكي في موضوع ضروري لو تقدري تاچي على نفس الكافية اللي اتكلمنا فيه المرة اللي فاتت أنا هستناكي هناك 

خلود بدهشة:

_دلوك؟!!! 

آسيا برجاء وحزن يخرج في نبرتها بوضوح:

_معلش ياخلود حاولي الموضوع مهم ومحتچاكي قوي


كانت الأخرى تغضن حاجبيها بحيرة وقلق.. حتى لو بدأت تشعر أن آسيا تغيرت للأفضل وتريد إصلاح العلاقات لكنها مازالت لا تثق بها ثقة عمياء وتخشى أن تسقطها بوحل لا عودة منه.... 

ردت بالأخير في استسلام:

_طيب چاية يا آسيا 

أنهت آسيا الاتصال وهي تبتسم بشيطانية ثم تابعت طريقها بخطواتها الواثقة والقوية حتى وصولت للمقهي فاختارت إحدى الطاولات الفارغة وجلست على مقعدها تنتظر وصول الأخرى ونظراتها عالقة على طاولة أخرى مجاورة لها كانت لعائلة صغيرة مكونة من زوجين وابنة.. تأملتهم ببسمة ثغر دافئة وعينان لامعة، كان الأب يداعب ابنته الصغيرة ويضحك معها متبادلًا أطراف الحديث مع زوجته ثم لاحظته وهو ينحني متعمدًا على كف زوجته يلثم ظاهره بحنو ثم انطلقت ضحكتهم على ابنته التي اقتربت وجلست فوق أقدام والدها ودخلت بين ذراعيه تبعده عن أمها بغيرة طفولية وهي تضحك بكل براءة لأمها.

قطع تأملها لتلك اللوحة العائلية الدافئة وصول خلود التي جلست على المقعد المقابل لها وسألتها بجدية:

_نعم يا آسيا موضوع إيه الضروري ده

قبل أن تتحدث وصل النادل وهو يحمل كأسين من عصير الفراولة كما طلبت آسيا منذ قليل قبل وصول خلود، استقامت آسيا وجذبت منه الكأسين ووضعت الكأس الخاص بها أمامها وعندما أخذت كأس خلود راحت تمد إليها الكأس  يدها مالت بالكأس عمدًا وسكبت جزء صغير منه فوق ملابس خلود التي انتفضت فورًا مبتعدة في فزع فوضعت آسيا الكأس بسرعة فوق سطح الطاولة وقالت معتذرة بضيق:

_يقطعني معلش ياخلود مخدتش بالي والله 

التقطت خلود ممسحة ورقية وحاولت تنظيف ملابسها لكن بلا جدوى فقالت آسيا بنبرة جادة:

_روحي الحمام ونضفي هدومك زين

هبت خلود واقفة وهي تتأفف بنفاذ صبر واتجهت نحو الحمام بخطوات سريعة بينما آسيا فشكرت النادل وفور انصرافه جلست مرة أخرى فوق مقعدها ومدت يدها في حقيبتها تخرج علبة بها أقراص صغيرة وأخرجت قرص منها ثم تلفتت حولها تتأكد من أنظار الناس وهل هناك أحد يلاحظها أم لا وفورًا رفعت يدها ووضعت القرص بكأس العصير الخاص بخلود.

بعد مرور خمس دقائق تقريبًا عادت وقد نجحت بصعوبة في تنظيف العصير من فوق ملابسها.. جلست على مقعدها وهي تتنهد بخنق فراحت آسيا تهتف مرة أخرى بأسف أشد:

_معرفش كيف يدي مالت إكده ياخلود معلش مكنش قصدي 

ردت الأخرى في نبرة حاولت إظهارها طبيعية:

_ولا يهمك حاچة بسيطة.. المهم قوليلي عاوزة تتكلمي معايا في آيه؟ 

تنهدت آسيا وقالت وهي تنظر لكأس العصير وتقول مبتسمة بود مزيف:

_اشربي كملي العصير وشك لونه اتخطف من الخضة 

زفرت خلود بمضض ثم رفعت الكأس بفمها ترتشف منه وسط نظرات آسيا الحاقدة لها لكنها سيطرت على نفسها بسرعة وراحت تهتف في حزن متصنع:

_أنتي عارفة أن محدش في البيت عاوز يشوف وشي ولا بقدر أشوفهم والصراحة أنا وحشوني قوي ومعرفش أي حاچة عنهم 


أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تكمل بصوت مبحوح ونظرات منكسرة:

_كنت عاوزاكي تطمنيني عليهم وتحكيلي هما كيفهم ولو في حاچة حصلت في البيت طول الفترة اللي فاتت ولا لا وبالأخص أمي وچلال كيفهم.. محدش فيهم بيجيب سيرتي واصل 

ابتسمت خلود بسخرية وردت في قسوة:

_هيجيبوا سيرتك كيف يا آسيا بعد اللي عملتيه! 

تحولت قسمات وجهها في لحظة من الود والانكسار للشراسة، لتجيب على ابنة عمها بنظرة قذفت الرعب في قلبها:

_بس انتي عارفة زين أني معملتش حاچة غلط وأنا وعمران مكنش في بينا حاچة واصل قبل الچواز 

اضطربت بعض الشيء من نظرات آسيا فبدلت أسلوبها وانتبهت على ردودها أكثر وهي تجيبها:

_أيوة بس هما ميعرفوش إكده.. وچدي مانع أن اسمك يتقال في البيت واصل ومحدش بيجيب سيرتك.. بمعنى أصح الكل اعتبرك ميتة

شعرت بوغزة مؤلمة في يسارها مزقتها إربًا وعيناها تلألأت بعبرات القهر والوعيد، وسرعان ما مالت بوجهها للجانب تخفي الانكسار الحقيقي الذي في عينيها عن نظرات خلود، دام الصمت بينهم لدقائق طويلة نسبيًا حتى صدح صوت خلود أخيرًا وهي تطلق تأوهًا متألمة ضاغطة بيدها فوق معدتها.. فابتسمت آسيا بخبث وعادت بنظرها لها ترسم الاهتمام المزيف وهي تسألها:

_مالك ياخلود؟ 

خلود بألم شديد وهي تتأوه بصوت عالي:

_معرفش في سكاكين بتقطع في بطني.. آاااه 

هبت آسيا واقفة فورًا واقتربت منها تمسك بذراعها لتساعدها على الوقوف وهي تهتف بجدية:

_طيب يلا هنروح المستشفى

اعترضت خلود بسرعة في خوف وسط تأملها:

_ لا لا مش عاوزة المستشفى.. آاااه

آسيا بحدة وغضب:

_مش عاوزة المستشفى كيف يعني.. أنتي مش شايفة روحك كيف بتتألمي الله اعلم فيكي إيه خلينا نروح ونطمن 

لم تتمكن خلود من المقاومة أكثر من ذلك بسبب المها الشديد وخوفها على طفلها أيضًا، فاستسلمت لاقتراح آسيا وسارت معها لخارج المقهي ينون الذهاب لأقرب مستشفى....

                                  ***

بالوقت الحاضر.......

 بعد محاولات طويلة مع صديقتها الطبيبة اقنعتها بإجراء تحليل الحمل لخلود وها هي الآن تمسك بنتيجة التحليل الإيجابية بيدها، كانت نظرات آسيا لورقة التحليل كلها اشمئزاز وغضب.


اتهمتها بالفسق والفجور زورًا ودمرت حياتها كلها بيوم وليلة، تزوجت من رجل لا تريده بسببها ودخلت زوجة ابن لعائلة تسببت في قتل والدها وفوق كل هذا فقدت أهلها، والآن هي تثبت لها وللجميع أنها هي الزانية والمذنبة.. تزوجت زورًا من رجل تعشقه ومارست معه علاقة محرمة حتى باتت تحمل طفله بأحشائها، لم تترك لها فرصة لتشفق عليها فأمثالها لا يستحقون حتى الشفقة.


هبت واقفة وطوت ورقة التحليل ووضعتها بحقييتها بعدما رأت ابن عمها علي وهو يتقدم نحوها فقد أجرت اتصال به ليأتي ويأخذ شقيقته، توقف علي أمام آسيا مباشرة وسألها بنبرة غليظة:

_بتعملي إيه إهنه يا آسيا؟

تجاهلت سؤاله وردت عليه باقتضاب:

_اختك چوا في الأوضة ادخلها 

همت بالانصراف لكنه أوقفها بسؤاله الثاني في حزم:

_أنتي كنتي بتعملي إيه معاها وهي چرالها إيه؟

نظرت له بغضب ثم أردفت في شراسة:

_اسألها وهي تچاوبك كنت بعمل إيه معاها وهي فيها إيه! 


كان سيهم باللحاق بها بعدما تحركت وسارت مبتعدة عنه بخطوات سريعة.. لكنه تراجع واستدار نحو غرفة شقيقته يتحرك نحوها حتى يطمئن عليها.....

                                     ***

داخل منزل خليل صفوان......

كان معاذ بطريقه لغرفة المكتب الخاصة بوالده ليتحدث معه.. لكنه توقف عند الباب عندما وجده مواربًا، القي بنظره للداخل فرأى منيرة وهي تفتح الخزنة الصغيرة تمسك ببعض المال بدت وكأنها تسرق الأموال حيث كانت كل لحظة تلتفت نحو الباب لتتأكد أن لا يوجد أحد.. لكن معاذ فتح الباب ودخل وهو يقول بنظراته الثاقبة:

_مرت أبوي! 

انتفضت بزعر وكأن عقرب لدغتها وبسرعة وضعت المال مكانه وأغلقت الخزانة والتفتت بجسدها نحو معاذ تقول:

_نعم يامعاذ 

سألها بكل صراحة وبضيق:

_كنتي بتاخدي إيه من الخزنة بتاعت أبوي؟!

كانت ستجيبه لكن وصول چلال نقذها حيث أسرعت نحو زوجها وقالت مبتسمة بنعومة:

_كنت بدور عليك وينك إكده من الصبح 

چلال بنبرة عادية:

_كان معايا شوية شغل خلصته ورچعت

ثم اخفض نظره لابنه الكبير الذي يقف وينظر لزوجة أبيه بغضب وغل ليسأله بجدية:

_مالك يامعاذ؟ 

نظر لوالده وقال بهدوء محاولًا عدم التركيز على منيرة:

_مليش يابوي كنت بدور على عمار وافتكرته إهنه 

ولم يمهل اللحظة لأبيه ليجيب عليه حيث اندفع لخارج الغرفة وتركه وهو يتابعه بنظراته المتعجبة ثم نظر لمنيرة وسألها:

_أنتي قولتيلوا حاچة ولا إيه؟

ردت منيرة بالنفي التام:

_لا هو يدوب دخل وأنت جيت وأنا كنت مستنياكي

 التزم الصمت وهو يمسح على وجهه متأففًا بتعب ثم توجه نحو الأريكة وجلس فوقها وهو يستند برأسها على ظهر الأريكة مغمضًا عيناه.

ابتسمت منيرة واتجهت نحو الباب تغلقه جيدًا ثم عادت له وجلست بجواره ترفع يديها تمسح فوق شعره ووجنته ولحيته متمتمة بدلال:

_مالك ياحبيبي إيه اللي تاعبك؟! 

أجابها بصوت مختنق وبألم وهو يرفع كفه يفرك جبهته بقوة:

_الصداع هيفرتك نفوخي وجسمي كل متكسر

استقامت واقفة ثم تحركت لخارج الغرفة وتركته بمفرده لعشر دقائق تقريبًا ثم عادت مجددًا وهي تمسك بيدها أقراص لالآم الصداع وباليد الأخرى كوب الماء، جلست بجواره ومدت يديها له وهي تقول برقة:

_خد البرشام ده للصداع كويس قوي باخد منه دايمًا لما بيكون عندي صداع

جذب القرص من يدها ومن ثم التقط كوب الماء وابتلع القرص أولًا ثم شرب الماء فأخذت هي من يده الكوب بعدما انتهى ووضعته بجوارها ثم اقتربت منه أكثر حتى أصبحت شبه ملتصقة به فسألها باستغراب:

_بتعملي إيه؟! 

رفعت يديها لكتفيه وأخذت تدلكهم بحنو متمتمة في ابتسامة خبيثة:

_أنت مش قولت جسمك متكسر اديني بريحك شوية أهو


لم يعترض وترك نفسه لها حتي تُهدأ الآم جسده التي لا تحتمل، حتى لو لم تكن يديها تعطي نفس مفعول السحر لأنامل حبيبته وفرياله عندما تلمس جسده وتزيح عنه كل التعب لكن ربما تريحه قليلًا.

بذلك الوقت انفتح الباب ودخلت فريال لكنها تسمرت بأرضها عندما رأت ذلك المشهد أمام عيناها بينما الأخرى فابتسمت بخبث وسرعان ما تصنعت الضيق وهي تقول:

_إيه يافريال هو انتي معرفاش إني قاعدة مع چلال إهنه ولا إيه.. يعني خبطي على الأقل

اعتدل جلال في جلسته وأبعد يدين منيرة عن كتفيه ورأى نظرات فريال النارية لمنيرة وهي تعقد ذراعيها أسفل صدرها حتى هتفت بانزعاج ملحوظ:

_اطلعي برا عاوزة اتكلم مع چوزي!

اتسعت عيني منيرة بصدمة وسرعان ما وثبت واقفة وردت على فريال بغضب:

_إيه بتطرديني ولا إيه ولا فكرك البيت بيتك لوحدك كيف ماهو چوزك يبقى چوزي أنا كمان

تأججت نيران فريال التي اندفعت نحو الأخرى ووقفت أمامها تصرخ بها بانفعال:

_قولتلك اطلعي برا يامنيرة متختبريش صبري 

عقدت منيرة ذراعيها أسفل صدرها وقالت مبتسمة بسخرية واصرار:

_ولو مطلعتش هتعملي إيه عاد

كان چلال بالمنتصف بينهم يجلس على الأريكة مكانه ويتابع شجارهم وصياحهم.. هذه المرة الأولى الذي يشهد على شجارهم معًا ويعلم أنها ليست الأخيرة، لكنه الآن بوضع صحي لا يسمح له بتحمل أي صوت أو شخص حتي ولذلك فقد أعصابه وهب وافقًا يصرخ بصوته الرجولي المخيف:

_معاوزش اسمع حس واحدة فيكم

ردت منيرة بعصبية:

_أنت مشيفهاش بتقو.... 

أخرسها بصرخته المرعبة:

_منيرة اقفلي خشمك وأكتمي واصل 

التزمت الصمت على مضض بينما هو فقبض على ذراع فريال بلطف وهو يجذبها معه هاتفًا:

_تعالي على الأوضة فوق ونتكلم في اللي عاوزاه 

سارت معه عنوة بسبب جذبه لها من ذراعها، وقبل أن تغادر من الغرفة القت نظرة مشتعلة ومتوعدة على منيرة التي كانت تشتعل من الغيظ....

                                    ***

اعتدلت خلود في نومها بسرعة في فزع عندما رأت شقيقها وهو يدخل من باب الغرفة هاتفة:

_علي! 

اقترب من فراشها وجذب مقعد خشبي متوسط ليجلس بجوار الفراش ويحدق بها بتدقيق متمتمًا في اهتمام:

_مالك ياخلود إيه اللي حُصل؟ 

ازدردت ريقها بتوتر وسألته بتعجب:

_أنت كيف عرفت؟ 

_آسيا اتصلت بيا وقالتلي

ضيقت عيناها بدهشة وراحت تسأله للمرة الثانية بقلق:

_آسيا!! .. هي وين دلوك طيب؟ 

علي بتنهيدة قوية ونظرات جادة:

_مشيت يا خلود.. أنتي كنتي معاها ليه؟! 

طالت نظرات خلود المرتعدة لشقيقها لكنها اخذت نفسًا عميقًا وحاولت السيطرة على توترها لتجيبه بنبرة بدت طبيعية:

_مفيش حاچة أنا شوفتها واتكلمنا شوية.. هي سألتني عن اللي في البيت وعن چلال ومرت عمي 

رفع حاجبه بعدم اقتناع ثم رد على شقيقته بغلظة صوته الرجولي:

_آسيا قعدت تتحدت معاكي وتسألك عنينا بعد العداوة اللي بينكم وبعد ما فضحتيها قصاد الكل!!! 

ابتسمت بارتباك وردت بخفوت:

_وأنا استغربت كيفك إكده برضوا في البداية بس شكلها اتغيرت لأنها كانت بتتصرف معايا طبيعي ومفيش حاچة وكانت عاوزة تصالحني

ظهرت الدهشة الحقيقية فوق معالم وجهه بعدما سمع اعتراف شقيقته عن حقيقة التقائها بابنة عمه.. لا يصدق أبدًا أن آسيا يمكنها التصرف بهذا الود مع أعدائها لو مهما حدث لكنه تمتم بحيرة:

_غريبة! 

قطع حديثهم دخول الطبيبة التي ابتسمت لخلود ولعلي بعذوبة ثم اقتربت من خلود وهي تقول:

_عاملة إيه دلوقتي؟ 

فرت الدماء من وجه خلود عندما رأت الطبيبة وللحظة كانت تستعد لكشف كل شيء ونهاية حياتها على يد شقيقها أن علم بزواجها السري وحملها.

انتبهت على صوت علي وهو يسأل الطبيبة:

_هي فيها إيه يا دكتورة يعني چرالها إيه؟

ابتسمت الطبيبة وردت عليه بود:

_حضرتك زوجها؟ 

اتسعت عيني علي باستغراب ونقل نظره بين شقيقته وبين الطبيبة بنظرة مستفهمة ثم أردف بخشونة:

_چوزها كيف يعني!!!

تسارعت نبضات قلب خلود والبرودة انتشرت في جسدها كلها حتى أن يديها بدأت بالارتجاف بينما الطبيبة فغضنت حاجبيها باستغراب من رد علي ثم التفتت تجاه خلود بنظرة قوية فرأتها تنظر لها بعينان لامعة وتتوسلها من خلالهم حتى لا تفضح أمرها.


عندما حصلت خلود على الرد بالصمت من الطبيبة أسرعت محاولة إنقاذ الموقف وهي تهتم بصوت مرتبك وابتسامة متكلفة:

_أنا خلود يادكتورة اللي چيت على مع آسيا نسيتيني ولا إيه؟!

لوت الطبيبة فمها بضيق لكنها ردت عليها بتكلف مماثل:

_أه معلش أصل في واحدة شبهك كانت جاية مع جوزها وواضح إني اختلط عليا الأمر بينكم 

ثم تابعت بجدية قبل أن تبدأ بفحصها:

_خليني اكشف عليكي واطمن على وضعك 

اماءت لها بالموافقة وسكنت تمامًا أمام الطبيبة التي بدأت في إجراء فحصها بملامح واضح عليها الانزعاج.. وكان علي ينقل نظره بينهم هما الأثنين بعينان مرعبة بات شبه متأكدًا أن شقيقته تخفي سر خطير عنهم، عاد يسأل الطبيبة من جديد وهذه المرة كانت بلهجة مريبة:

_مقولتيلش يادكتورة هي فيها إيه؟!

انتهت الطبيب من فحصها وردت عليه وهي توجه حديثها وتعليماتها الغامضة لخلود:

_حاجة بسيطة اطمن هي شربت حاچة فيها مادة تقيلة وعملتلها ألم شديد في المعدة.. ياريت تاخدي بالك من نفسك وصحتك وكمان من اكلك كويس عشان ميحصلش أي ضرر ليكي وتتعبي


هزت رأسها خلود بالموافقة في نظرات زائغة عن شقيقها الذي بدأ يظهر الغضب فوق قمساته ثم سألت الطبيبة:

_ينفع أطلع دلوك ولا إيه يادكتورة 

_ينفع، خلصوا اجراءات الخروج وامشوا 

فور انصراف الطبيبة عادت بنظرها لشقيقها وابتسمت بطبيعية مزيفة هاتفة:

_مش يلا بينا عاد يا علي! 

رد عليها بنبرة صلبة ونظرة مميتة قبل أن يستقيم واقفًا:

_جهزي روحك لغاية ما اخلص حساب المستشفى وآجي اخدك 


اماءت له بالموافقة وفور رحيله تنفست الصعداء براحة ورفعت أناملها تجفف عبراتها المتجمعة بمقلتيها.....

                                  ***

داخل منزل ابراهيم الصاوي.......

تصعد درجات السلم ببطء شديد وعقل شارد بزوجها.. تفكر بطريقة وأسلوب مناسب لتخبره بما فعلته وأنها تصرفت دون علمه رغم أنه حذرها من التحرك خطوة واحدة حتى دون أن يكون على علم بما ستفعله، لكنها لو أخبرته لم يكن سيوافق وربما سيعترض.. كان تصرفها القرار الصحيح، لكنها الآن لا تستطيع المتابعة دون أن تخبره بكل شيء.

وصلت للغرفة وفتحت الباب ودخلت ثم تقدمت نحو الفراش والقت بحقيبتها عليه في إهمال وهي تتنهد بقلة حيلة وجلست فوقه، وماهي إلا دقائق قصيرة حتى سمعت صوت باب الحمام ينفتح ويخرج منه مرتديًا بنطال أبيض فقط ونصفه العلوي عاري وبيده من منشفة يجفف شعره، لم تنتبه لشيء وكانت كأنها لا ترى جسده العاري فكان عقلها مشغول بالتفكير بشيء آخر.

أخذت نفسًا طويلًا واخرجته زفيرًا متهملًا ثم توقفت واقتربت منه تقف أمامه مباشرة تهتف:

_عمران مش عاوز تعرف كنت وين؟ 

ضيق عيناه باستغراب وهتف في حزم:

_أنتي مش قولتي رايحة السوق تشتري حچات ليكي!

ثم التفت برأسه حوله يبحث عن أكياس تدل على شرائها لبعض مستلزماتها الشخصية لكنه لم يجد وكان على وشك أن يسألها لكنها ردت عليه بخفوت وهي تتطلع بعينيه في قوة:

_لا ماهو أنا مروحتش السوق 

ارتفع حاجبه وأظلمت نظراته لتصبح أكثر رعبًا فأسرعت هي تحاول التحكم بزمام الموقف قبل أنفعالها هاتفة باعتذار:

_قبل ما تتعصب أنا كدبت عليك عشان كنت عارفة إنك مش هتوافق حقك عليا

ارتفعت نبرة صوته المخيفة قليلًا وهو يسألها:

_كنتي وين يا آسيا؟ 

تنهدت بقوة ثم ردت عليه بهدوء:

_كنت مع خلود 

رأته يضيق عينيه بتعجب ودهشة فتابعت وهي تمسك بيده وتجذبه معها نحو الفراش لتجلسه فوقه متمتمة:

_هحكيلك كل حاچة

تركته وابتعدت خطوتين لتجذب حقيبتها وتخرج منها ورقة الزواج السري وكذلك اختبار الحمل ثم عادت له وجلست بجواره واعطته الورقتين قبل أن تبدأ بسرد كافة التفاصيل التي حدثت وكيف تمكنت من الحصول على الورقتين وخداع ابنة عمها للسقوط بفخها.

كان ينظر للورقتين الذي بيديه باشمئزاز وفور انتهائها من الحديث نظر لها وقال بغضب شديد:

_أنا مش نبهت عليكي مش هتتحركي خطوة واحدة من غير ما أكون عارف يا آسيا 

هزت رأسها بالإيجاب له ثم قالت برقة:

_أيوة بس أنت مكنتش هتوافق وبذات اللي عملته النهاردة مكنتش هتوافق عليه 

عمران بصرامة:

_طبعًا مكنتش هوافق أنتي إيه عرفك أن اللي حطتهولها ده ميأذيهاش

آسيا بثقة:

_معملهاش حاچة أنا سألت الدكتورة يعني ده هيعملها ألم شديد بس وهو ده اللي حصل فعلًا وهي كيف الجن دلوك

رأته يعود ليتفحص الورقتين مرة أخرى وبالأخص ورقة الزواج فابتسمت وقالت بخبث:

_دلوك جه معاد اللحظة الأخيرة عاد 

رفع نظره له وحدقها بعدم فهم واستفهام فاتسعت ابتسامتها وراحت تسرد عليه خطتها الأخيرة وما تريد فعله.. وبعد انتهائها تمعنت النظر في قمساته فرأت الجمود والسكون التام، عبس وجهها فورًا وهتفت برجاء:

_اوعاك تقول مش موافق.. أبوس يدك ياعمران أقف چاري دي اللحظة اللي هاخد فيها حقي منها ومن الكل بعد ما طعنوا في شرفي وغلطوا فيا وفيك كمان

مال ثغره للجانب في ابتسامة ساحرة ثم سألها بهمس رجولي يذيب القلب:

_يعني بعد ما تعملي إكده هترتاحي ونارك هتهدى وتتبسطي

 

ابتسمت لبسمته وراحت توميء برأسها عدة مرات متتالية لتجد بسمته تتحول لضحكة صامتة قبل أن يلف ذراعه حول كتفيها ويضمها لصدره متمتمًا بحنو وصوت يحمل الآمان  الذي تحتاجه:

_أنا چارك دايمًا وطالما ده اللي هيريحك اطمني أنا ضهرك وسندك 


ابتسمت بسعادة وحب ثم أغلقت عيناها تترك روحها تتلذذ بشعور الدفء والآمان بين ذراعيه.. كانت فقط تشعر به وهي بين ذراعين والدها والآن بين ذراعين زوجها أيضًا....

                                    ***

داخل غرفة جلال وفريال.....

كانت هي تجلس فوق الأريكة وقدميها تهتز بعنف من فرط الغيظ.. فاقترب منها وجلس بجوارها هاتفًا:

_فريال اهدي شوية؟

التفتت له ورمقته شزرًا لتصيح به بغضب:

_قاعد چاري ليه انزل عندها خليها تكمل اللي كانت بتعمله معلش قطعت عليكم 

مسح على وجهه ولحيته وهو يزفر بعدم حيلة وتعب ثم هتف محاولًا تهدأتها:

_طيب سيبك من الحديت ده دلوك.. أنتي كنتي عاوزاني في إيه؟ 

عادت تنظر له من جديد لكن بنارية وبلحظة هبت واقفة وصرخت منفعلة:

_مش عاوزة حاچة منك ولا عاوزة اشوف وشك.. اطلع وهملني لحالي

طالت نظرته المنزعجة لها في صمت بعد عبارتها.. لم يعد يحتمل نفورها فروحه تتعذب كلما ينظر في عينيها ويرى النقم.. أما هي فعادت تهتف مرة أخرى بسخط:

_قولتلك هملني لحالي ياچلال 

استقام هو الآخر واقفًا وقال بمرارة وخنق:

_بزيادة يافريال أنا معدتش متحمل بعدك والله

لمعت عيناها بوميض الألم وتلألأت العبرات في مقلتيها لتهتف  بصوت مبحوح:

_واللي أنت عملته فيا مكنش زيادة وتقيل عليا.. لما قتلت حبنا ونهيت حياتنا بچوازك عليا، أنت مش متحمل كرهي ليك طيب حط نفسك مكاني لو شفتني مع راچل تاني هتعمل إيه.. أنا كل ما بشوفك معاها وهي قريبة منك وبتلمسك بكرهك اكتر

 

صرخ بها بصوت رجولي نفضها بأرضها:

_مفيش في قلبي غيرك مش عاوزة تفهمي ليه.. أنا غلطت لما اتچوزت بس والله العظيم ما لمستها ولا قربت منها، اتوحشتك واتوحشت اشوف ضحكتك في وشي وحبك ولما بتقوليلي ياچلالي.. اشتقت لكل حاچة فيكي وكانت بينا يا فريالي حس بيا عاد أبوس يدك واغفريلي

انهمرت دموعها فوق وجنتيها وهتفت بقسوة وقلب مجروح:

_كل اللي بتقوله ده مفيش منه فايدة وسبق وقولتلك الخيانة ملهاش غفران ياچلال 

تقدم منها أكثر وراح يضمها لصدره رغمًا عنه هامسًا بصوت يحمل بحة تمزق القلوب:

_مخنكتيش والله ياحبيبتي.. دي أول مرة أغلط مش قادرة تغفريلي ذلتي معقول للدرچادي معدش في قلبك شوية حب ليا حتى


سالت دموعها بغزارة وهي بين ذراعيه ولوهلة استسلمت لنبرته ولمسته التي اشتاقت لها لكن سرعان ما عادت لوعيها ودفعته بعيدًا عنها بكل قوتها صارخة به:

_قولتلك متلمسنيش 

حدقها بمرارة وضيق وهذه المرة كان سيميل عليها ويروي شوقه منها حتى يبث لها حبه وندمه علها تشعر بصدق ما يقوله ويذوب الجليد قليلًا، لكنها انحنت للأمام وهي ممسكة ببطنها تصدر تأوهًا عاليًا بألم فأمسك بها بسرعة يسألها في قلق:

_مالك يافريال؟!

لم تجيبه واستمرت بالتأوه المرتفع، فحاوطها بذراعيه وساعدها على التحرك حتى الفراش ثم حملها ووضعها عليه برفق.. لكن ألمها لم يتوقف وصوت صراخها بدأ يزداد أكثر فجلس بجوارها ومد يده يمسح على شعرها بحنو هاتفًا في قلق حقيقي وجدية:

_فريال اتصل بالدكتور؟

ردت عليه بصوت ضعيف وهي تحاول التحكم بتأوهاتها:

_لا لا مش عاوزة دكتور أنا هبقى زينة

رد عليها بحدة وغضب من عنادها:

_مش عاوزة كيف يعني أنتي مش شايفة روحك بتتألمي كيف.. إيه اللي چرالك؟ 

سكتت وتحملت الألم الذي بدأ يهدأ تدريجيًا، لن تسمح بمعرفته بحملها الآن أبدًا.. إذا عرف ستتعقد الأمور أكثر ولن تتمكن من الطلاق منه.

حين رأى أنفاسها هدأت وصوت صراخها اختفى حتى أنها أغلقت عيناها بتعب، انحني عليها يلثم شعرها وجبهتها بحب متمتمًا:

_كيفك دلوك ياحبيبتي؟ 

هزت رأسها ببطء متمتمة بصوت خافت يكاد يسمع بصعوبة:

_احسن الحمدلله

تنهد الصعداء براحة وردد خلفها "الحمدلله " في بسمة دافئة ويده مازالت تمسح فوق شعرها بكل لطف فرفعت كفها وازاحت أنامله عن شعرها متمتمة بقسوة:

_امشي ياچلال عاوزة اقعد لحالي 

أنهت عبارتها واستدارت في نومها فوق الفراش توليه ظهرها بينما هو فلم يكترث برغبتها وتمدد على الفراش بجوارها لكنها التفتت برأسها نحوه عندما شعرت به وهتفت بغضب:

_أنت هتنام چاري قوم امشي قولتلك مش عاوزاك تفضل إهنه 

رد ببرود متصنع ولهجة هادئة:

_عاوز أنام شوية يا فريال أنا كمان تعبان ومحتاچ ارتاح.. نامي ياحبيبتي ومتخافيش مش هقربلك

لم تكن بوضع يسمح لها بخوض شجار جديد معه خصوصًا بعد نوبة الألم المميتة التي داهتمها للتو، وتخشي أن تتكرر وتأذي طفلها فاستسلمت للوضع واكتفت بأنها فقط ابتعدت عنه لآخر الفراش لتصنع بينهم فچوة كبيرة بالمنتصف.. وهو كان ينظر للفراغ الذي بينهم وابتعادها عنه بنظرات تعكس العذاب الذي يعانيه من الداخل.....

                                     ***

داخل منزل ابراهيم الصاوي بغرفة بلال.....

كان يقف بشرفة غرفته شارد الذهن.. تفكيره عالق بتلك الحورية التي سلبت منه عقله، تتأجج نيران الغيظ والخنق في صدره كلما يتذكر مرافقتها الدائمة لابن خالتها، لا يفهم سبب غضبه وانزعاجه الشديد لكنه لا يريد اقتراب ذلك الشاب منها ويتوسط في ثناياه خوف من أن يغلق عيناه ويفتحها بيوم وليلة فيجد نفسه فقدها للأبد كما فقد الفتاة التي كان ينوي الارتباط بها، ويدور بعقله ألف فكرة وألف شيء والخوف هو الجزء الأكبر المهيمن عليه.


انفتح الباب ودخلت عفاف ثم أغلقت الباب خلفها وتقدمت نحو ابنها لتقف بجواره بالشرفة تسأله في حيرة:

_إيه يابلال عاوزني في إيه ياولدي؟ 

رمق والدته بنظرة طويلة يفكر للحظة الأخيرة قبل أن يتخذ قراره ثم أشاح بوجهه والقى بنظره من الشرفة للشارع مجددًا هاتفًا:

_أنتي مش كنتي عاوزاني اتچوز ياما

اتسعت عيني عفاف بصدمة استغرقت للحظات وسرعان ما أشرق وجهها وشقت الضحكة العريضة طريقها لثغرها قبل أن تجيبه بتأكيد:

_امال ياولدي هو أنا افديك الساعة لما أشيل عيالك وافرح بيك.. إيه هو أنت نويت وعاوزني اشوفلك عروسة؟ 

أخذ نفسًا عميقًا ورد عليها بخشونة:

_هو أنتي مش عندك العروسة أساسًا وبنفسك كنتي عاوزاني اخطبها

ضيقت عيناها بتعجب وسألته في حيرة محاولة تذكر الفتاة التي يقصدها:

_مين هي؟ 

هتف بنبرته الرجولية الجادة:

_حور 

عفاف بدهشة:

_حور بت سمية؟!! 

نظر لها بلال وقال بجدية وسط بسمته المتعجبة:

_هو في حور غيرها ياما!!.. أيوة هي عاوز اخطبها شوفي أمها واتكلمي معاها 

التزمت عفاف الصمت بذهول وهي تتمعن في ابنها بعدم تصديق، فجديته وإصراره بدت لها غريبة وكأنه ليس ابنها الذي كان رافضًا فكرة الارتباط ولا يلتفت لمحاولاتها في إيجاد فتاة له، والآن هو بنفسه يطلب الفتاة موضحًا رغبته في الزواج منها!!.


لمعت عيناها بوميض السعادة وقالت بحماس ضاحكة:

_عيوني ياغالي متقلقش من بكرا هتصل بسمية وأقولها وأن شاء الله تكون من نصيبك وافرح بيك واشوفك مبسوط 

ابتسم لوالدته بحنو ثم انحنى عليه يقبل رأسها مردفًا:

_يارب ياما يارب 

                                      *** 

بتمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل......

وصل عمران لغرفته ودخل ثم أغلق الباب بهدوء وتحرك نحو الأريكة يلقي بجسده عليها جالسًا وهو يستند برأسه على ظهرها مغمضًا عيناه بتعب بعد ذلك اليوم الشاق منذ الصباح.


فتح عينيه دفعة واحدة عندما وصل لأذنه صوت همهمات وآهات خافتة منبعثة من آسيا النائمة في الفراش، فاستقام واقفًا واقترب منها يجلس بجوارها يهتف باسمها في صوت رخيم لكي يوقظها بعدما ظن أنها داخل حلم مزعج، لكنه لم يحصل على رد منها فمد يده لوجهها وأزاح خصلات شعرها عن عينيها لكن فور ملامسته لبشرتها انتقلت ليده حرارة جسدها المرتفعة، غضن حاجبيه بتعجب ثم راح يتحسس بظهر كفه على جبهتها ووجنتها ليجد حرارتها مرتفعة وكأنها تحترق، فهتف بسرعة وهو يمرر أنامله على شعرها ووجهها حتى تستعيد وعيها:

_آسيا أنتي سمعاني فوقي.. آسيا 

فتحت جزء صغير من عينيها بضعف واغقلتها مجددًا دون أن تجيبه، فمد يده في جيب بنطاله وأخرج هاتفه يتفقد الساعة فوجدها تخطت الثانية هتف بقلق:

_مفيش دكتور فاتح في الوقت ده

ترك هاتفه فوق المنضدة الصغيرة وعاد يتفحصها بنظراته مجددًا، وجهها كله تحول للون الأحمر من فرط ارتفاع حرارتها ولا تتمكن من فتح عينيها فقط تطلق آهات خافتة متألمة، سكن مكانه لدقيقة وهو يفكر ماذا يفعل حتى توقف فجأة ونزع عنه عباءته وبقى فقط بجلبابه الأسود ثم انحنى عليها وحملها فوق ذراعيه واتجه بها نحو الحمام.. انزلها على الأرض أمام صنبور الاستحمام وراح يهز وجهها بلطف حتى يجعلها تنتبه له وتفتح عيناها وهو ممسكًا بها ويضمها لصدره هاتفًا:

_آسيا فتحي عينك.. آسيا بصيلي 

فتحت عيناها بصعوبة والقت عليها نظرة خاطفة قبل أن تغلق عيناها مجددًا وتلقي برأسها فوق صدره في تعب شديد، فمد هو يده للصنبور وفتح المياه الباردة ثم جذبها وادخلها تحت المياه فانتفضت بشدة وقالت بصوت مرتجف:

_المايه سـ..اقعة قوي 

حاولت الخروج من أسفلها لكنه ثبتها ودخل معها وهو يضمها إليه هاتفًا:

_معلش استحملي عشان الحرارة تنزل

ضمت ذراعيها لصدرها والقت بجسدها بين ذراعيه وهي تنتفض أسفل المياه هاتفة:

_باردة قوي ياعمران 

حين وجدها تنتفض بعنف بين ذراعيه مد يده للصنبور وأغلق المياه ثم جذب المنشفة ولفها بها قبل أن يتركها ويغادر الحمام ليجذب لها ملابس نظيفة ويعود.. نزع عنه جلبابه المبتل ثم بدأ يجفف شعرها بالمنشفة من المياه وعندما انتقلت يده لملابسها ينوي نزعها حتي يساعدها في ارتداء الملابس النظيفة أمسكت يده وقالت بخجل وصوت يكاد يخرج بصعوبة:

_هتعمل إيه! 

رد بكل بساطة وجدية تامة:

_هغيرلك هدومك مش هتقعدي بيها مبلولة إكده يعني طبعًا

هزت رأسها بالرفض وقالت بخفوت:

_لا أنا هغير لحالي

رد عليه بحزم ونظرة قوية:

_هتغيري لحالك كيف يعني هو أنتي قادرة تقفي على رجلك أساسًا


تمتمت بخفوت محاولة الظهور بثبات أمامه حتى لا يصر على رأيه:

_أيوة هقدر اطلع وأنا هغير وآجي وراك 

طالت نظرته لها وكان سيهم بالاعتراض خشية من أن يتركها فتسقط لكنها توسلته بنظراتها الخجلة أن يخرج ليتنهد مغلوبًا ويبتعد عنها قبل أن يقول بتنبيه صارم:

_هستناكي برا ولو عوزتي حاچة اندهي عليا فاهمة  


اماءت له بالموافقة وفور مغادرته بدأت في تبديل ملابسها وهو بالخارج أيضًا بدل ملابسه كلها وبعد ثلاث دقائق تقريبًا خرجت بخطوات بطيئة وكانت تنتفض من شعورها بالبرودة.. فأخذ بيدها ومدد جسدها فوق الفراش ثم دثرها بالغطاء وجلس بجوارها يمسح على شعرها لكنها كانت تنتفض بعنف وهي تهتف بتعب وصوت يرتعش:

_بـ..ردانة ياعمران 

استقام واقفًا وجذب غطاء آخر ووضعه فوقها ثم عاد يجلس بجانبها ويسأله في اهتمام وحنو:

_لسا بردانة؟ 

هزت رأسها له بالإيجاب ثم سمعها تقول بتلقائية دون وعي:

_خدني في حضنك

اندهش من عبارتها وطلبها فبقى ساكنًا لثواني قبل أن يبتسم وينضم لها ثم يضمها لصدره يحتضنها بدفء مردفًا بضحكة ماكرة:

_حتى أنتي وتعبانة مش قادرة تضيعي الفرصة


سمعته وفهمت مقصده فابتسمت برقة رغم أنها حقًا كانت تشعر بالبرد وطلبت أن يحتضنها عله يبث الدفء لجسدها قليلًا، لكنها لم تكن تملك القدرة لتجيب عليه بسبب تعبها واكتفت بابتسامتها المغرمة، ثم أغلقت عيناها وانكمشت كالطفل وهي بين ذراعيه تدفن وجهها بين ثنايا صدره وبذراعها تحاوط خصره وفور شعورها بالدفء استسلمت للنوم بسبب تعبها.

بقى مستقيظًا لوقت طويل نسبيًا وحين نزل بنظره لها ووجدها نائمة فمد أنامله لوجهها يتفقد حرارتها فوجدها هدأت وانخفضت، ابتسم براحة وانحنى بشفتيه يلثم شعرها ثم أغلق هو الآخر عينيه يستسلم للنوم حتى يريح جسده من الإرهاق.

                                     ***

فتحت آسيا عينيها بصباح اليوم التالي وقبل أن تتحرك أنشًا واحدًا شعرت بشيء ضخم يحاوطها وكأنه يحتجزها فرفعت نظرها وحين رأته نائمًا وأدركت أنها قضت ليلة الأمس نائمة على هذا الوضع ابتسمت بحب وسكنت بين ذراعيه دون حركة مستمرة في تأمله بغرام وهو نائم.. كأن وسامته ازدادت الضعف أثناء النوم وملامحه الرجولية الجذابة تسحرها بكل مرة تتأمله فيها، لحيته الكيثفة وشاربه أكثر ما يزيدانه وسامة ولطالما رغبت بالأيام السابقة أن تتحسسهم وتخلل أناملها الناعمة بين لحيته لكن خجلها وتوترها منعها.. الآن هي ستفعلها وتقضي على توترها.

رفعت يدها ببطء ومدت أناملها بتردد ورقة لوجهه ثم أخذت تتحسس فوق لحيته تارة أناملها ترتفع لشاربه وتارة تخلل أصابعها بها بكل رقة وهي تبتسم، لكن تجمدت يدها مكانها عندما وجدته يفتح عينيه وينظر لها رافعًا حاجبه بتعجب ليسألها:

_بتعملي إيه! 

سحبت يدها بسرعة وانتفضت جالسة مبتعدة عنه وهي تقول بتلعثم:

_ولا حاچة كنت هصحيك 

قال بنظرة لعوب يقول ساخرًا:

_هتصحيني وأنتي بتلعبي في دقني!! 

تلونت وجنتيها باللون الأحمر ودون أن تجيب عليه استقامت واقفة من الفراش تسرع في خطاها نحو الحمام، تتركه يبتسم عليها بمكر ثم اعتدل في نومته وهب جالسًا وهو يتمطع بذراعيه متثاوبًا ويمسح على وجهه بكفه.

دقائق طويلة نسبيًا وخرجت من الحمام فوجدته يجلس فوق الفراش وعيناه عالقة على الحمام وكأنه ينتظر خروجها، تجاهلت نظرته وكأنها لا تراه ثم توجهت نحو المرآة ووقفت أمامها تبدأ بتسريح شعرها، وماهي إلا لحظات معدودة حتى رأته في انعكاس المرآة خلفها، انحسبت أنفاسها وتسارعت نبضات قلبها حتى سمعته يسألها باهتمام:

_كيفك دلوك؟ 

هزت رأسها له كرد على سؤاله أنها بخير لكنه امسكها من كتفيها وأدارها إليه ليرفع يده يتفقد حرارتها متحسسًا وجهها، فوجد جسدها بارد ولا يوجد أي أثر على الحرارة المرتفعة.. ابتسم ونظر في عيناها الزائغة يقول بخبث غامزًا:

_شكل النوم في حضني مفعوله سحري 

صعدت الحمرة الشديدة لوجنتيها وشعرت للحظة وكان لسانها انعقد ولا تستطيع التكلم لكنها حاربت ذلك الشعور والتفتت بجسدها نحو المرآة مجددًا توليه ظهرها تهمس بخفوت مرتبك:

_أنت امبارح كنت قايل أنك معاك شغل كتير ومهم النهاردة ولو فضلت واقف إكده كتير هتتأخر

ضحك بصمت عليها ثم سقط نظره على قلادة الغزال التي فوق سطح طاولة التسريحة فانحني والتقطها ليضعها بكفها الناعم ويهمس بأذنها مبتسمًا مع غمزة عينيه التي رأتها في انعكاس المرآة وهو يتحدث:

_البسيها ومتقلعهاش 

سرت برودة بجسدها كله وكأن دلو من المياه المثلجة سقط فوقها وفور ابتعاده عنها واختفائه داخل الحمام رفعت القلادة وتأملتها وهي تضحك.....

                                   ***

 داخل منزل خليل صفوان تحديدًا بغرفة جلال وفريال......

دخل جلال الغرفة وقاد خطواته نحو الخزانة ليأخذ شيء يخص العمل، لكنه تسمر مكانه عندما رآها تجلس فوق المقعد وأمامها صحن ممتليء بفاكهة العنب وتأكل منها بشراهة شديدة وتلذذ، رفعت رأسها له وعندما رأت نظراته المندهشة والحائرة تركت العنب الذي بيدها وازدردت ريقها لتهتف بخنق:

_مالك بتبص إكده ليه؟! 

رفع حاجبه وأجابها باستغراب:

_يعني أنتي مش شايفة أن في حاچة غريبة تخليني ابصلك إكده!! 

عادت تضع حبات العنب بفمها مرة أخرى وتردف ببرود:

_ لا أنا مشيفاش حاچة

اقترب منها وجلس على حافة الفراش أمام مقعدها وطالعها بتدقيق متمتمًا:

_فريال أنتي مبتحبيش العنب ومبتاكلهوش.. مالية الطبق وبتاكلي بالاستمتاع ده كيف؟!! 

اضطربت للحظة لكنها تابعت الأكل ولم تتوقف محاولة عدم إظهار توترها له حتى لا يشك بها ثم راحت تجيبه بجفاء وابتسامة صفراء:

_حبيته ياچلال في عندك مانع ولا إيه! 

رفع حاجبه بنظرة حادة وهتف مستنكرًا ردها:

_فجأة إكده حبتيه يعني!!! 

نظرت لها وقالت بغضب حتى تنهي جلسة استجوابها ونظرات التعجب الذي تسبح في عينيه واسألة عقله الكثيرة:

_إيوة فجأة.. في إيه أنت هتقفلي على الوكل كمان وتقولي آكل إيه وماكلش إيه!!

حدقها مطولًا بنظرات مريبة قبل أن يتنهد ويقول بنبرة تثير القلق:

_لا براحتك ياحبيبتي بالهنا والشفا كُلي اللي تحبيه ولو نفسك في حاچة تاني كمان قوليلي واچبهالك

رمقته بعين متسعة وارتباك ملحوظ بعد عبارته الأخيرة التي أثبتت شكه بها وعدم تصديقه لحججها الواهية في شراهتها بأكل فاكهة لا تحبها من الأساس.

علقت نظرها عليه وهي تراه يستقيم واقفًا ويغادر الغرفة ويتركها ليظهر القلق والخوف فوق معالمها وراحت تضع يدها فوق بطنها تهتف محدثة طفلها:

_شكل أبوك شك فينا.. ملقيتش غير العنب يعني

انتفضت ونزعت يدها من فوق بطنها بزعر عندما انفتح الباب مجددًا فقد ظنته عاد لكن الدخيل كان أولادها وركضوا نحوها يهتفون بحماس:

_ في حفلة في المدرسة بعد بكرا ياما؟ 

ضيقت عيناها باستغراب وسألتهم ضاحكة على حماسهم:

_حفلة إيه دي؟!

تجاهلوا سؤال أمهم ونظروا لصحن العنب الذي بيدها بصدمة فنظرت هي للصحن ولوت فمها بنفاذ صبر ثم وضعته فوق المنضدة الصغيرة بجانبها ولم تلبث لحظة حتى سمعت صوت عمار وهو يسألها بذهول:

_أنتي بتاكلي عنب ياما؟!!

زمت شفتيها مغلوبة وردت عليهم بطريقة كوميدية من خنقها:

_آااه وقعت على نفوخي وصحيت تاني يوم لقيت نفسي بحب العنب فجأة.. اقتنعتوا ولا لا كيف أبوكم كمان

قهقهوا بصوت مرتفع فابتسمت هي بحنو عليهم ثم عادت تسألهم من جديد عن تلك الحفلة ليجيبها معاذ بفرحة:

_المدرسة عاملة حفلة عشان آخر السنة وهتكرم الأوائل وهتديلهم هدايا واحنا من الأوائل يعني هنتكرم وناخد هدايا 

ضحكت بسعادة وراحت تضمهم لصدرها وهي تقبلهم بحنان أمومي:

_حبايبي ولادي الشطار.. عاوزاكم ترفعوا راسي إكده علطول، عقبال ما افرح بشهادة تخرجكم وفرحكم ياحبايب أمكم

ابتعد عمار عن صدر والدته وسألها متشوقًا للإجابة:

_هتاچي معانا الحفلة ياما صُح أنتي وأبويا؟ 

انحنت عليه ولثمت وجنته بحب هاتفة:

_طبعًا هنروح أمال اسيب ولادي الشطار وحديهم وهما بيتكرموا 


اقترب معاذ من أمه وقبلها من وجنتها وفعل شقيقه الصغير المثل من وجنتها الأخرى فابتسمت لهم وضمتهم لها تمطرهم بوابل من قبلاتها.......

                                      ***

بتمام الساعة السابعة مساءًا........

توقف چليلة وقادت خطواتها تجاه الباب بعدما سمعت صوت الطرق، أمسكت بالمقبض وأدارته ثم فتحت الباب وجذبته عليها لتتسع عيناها بصدمة فور رؤيتها لابنتها تقف أمامها بكل شموخ وقوة........


............. نهاية الفصل..........

  •تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية

reaction:

تعليقات