رواية سند الكبير الفصل الثامن 8
بعد مرور شهر…
بالوحدة الصحية..
تعينت وعد بالوحدة الصحية بمساعدة سند، أزالت نظارتها الطبية بعدما كتبت الدواء لأحد الأشخاص، دلفت إليها الممرضة و هي تحمل صينية عليها ما لذ و طاب، حدقت بها وعد متعجبة ثم قالت :
_ إيه ده يا سناء؟!…
ابتسمت إليها الأخرى بمحبة ثم وضعت الصينية على المكتب مزيلة عنها الغطاء ليظهر الفطير اللذيذ مع العسل الأسود و طبق كبير من فاكهة، أشارت إلى الفطير مردفة :
_ ده فطار يا دكتورة من عند ست الحبايب أمي قولت لازم تدوقي الفطير الفلاحي الأصيل، يلا مدى أيدك عشان يكون بنا عيش و ملح…
أومات بابتسامة متحمسة و بدأت بتذوق الطعام، راحة نفسية عجيبة و رائحة المحبة بدون مقابل، سناء فتاة بسيطة منذ أول لقاء معها و هي تحبها تتعامل و كأنها تعرفها و تربوا سويا، أخذت نفسها بعد بضعة لقيمات ثم أردفت :
_ الحمد لله شبعت قولي لوالدتك إن الأكل تحفة تسلم ايديها، احنا كدة خلاص أمشى و الا في حالات تانية…
ردت سناء و هي تكمل طعامها :
_ لأ إحنا كدة الحمد لله خلصنا دلوقتي… الإستقبال بتاع الطوارئ فتح نمشي إحنا بقى..
أومأت وعد بهدوء و قامت لترتب ملابسها و مكياجها قبل العودة للبيت الكبير، تذكرت سند لم تراه منذ آخر حديث بينهما و لا تعلم أين هو، حاولت كثيراً سؤال السيدة حكمت عنه إلا أنها فضلت الصمت بآخر لحظة، سمعت حديث سناء خلفها الذي جعل الفضول يأخذ حيز كبير برأسها :
_ سي سند بيه هيرجع النهاردة و الكفر كله هيعمل له حفلة كبيرة، تروحي ليه خليكي معانا على أول الكفر عشان كلنا نستقبله..
وقفت مكانها لعدة لحظات بدقات قلب متعالية ستراه اليوم و تأخذ جرعتها المميزة من رائحة عطره، قشعريرة لذيذة أصابتها لتعود الي مقعدها غير متحكمة بجسدها، اسمه بمفرده ينير بداخلها نيران الإشتياق التي تحاول محاربتها بقدر المستطاع..
بللت شفتيها قائلة بتوتر :
_ هو سند أقصد الكبير جاي النهاردة، أقصد يعني هو كان مسافر فين، أقصد يعني كان مسافر؟!..
تعجبت سناء من هذا الارتباك الواضح عليها لتقول بهدوء :
_ بقى أنتي عايشة في البيت الكبير و مش عارفة صاحبه مسافر و الا لأ؟!…
ظهر الضيق على ملامح وعد، هي بالفعل تقطن بجناحه طوال هذا الشهر و لا تعلم أين هو، من حال الأصل لا يهمها وجوده من عدمه، أكملت سناء حديثها :
_ سي سند بيه بيروح القاهرة كل فترة يقعد هناك شهر أو أقل، في ناس بتقول عشان شغله هناك و في ناس بتقول و الله أعلم له بيت تاني هناك و بيروح يشوف الجماعة بتاعته…
توقف عقلها عند كلمة بيت آخر، هل هذا اللعين متزوج بالقاهرة و يلعب بها هنا؟!.. لا يكفي أنها متحملة فكرة زواجه أكثر من مرة قبل أن يتعرف عليها، نغزة قوية بقلبها جعلتها تضع كفها عليه تريد منه الصمود و من عينيها عدم البكاء.
ضغطت على شفتيها بقوة قبل أن تسأل بملامح لا تبشر بالخير :
_ محدش يعرف طلق أكتر من مرة قبل كدة ليه يا سناء…
أومأت إليها سناء ببعض الحزن قائلة :.
_ عشان العيال يا دكتورة مفيش و لا واحدة من حريم سي سند شالت الكبير الجديد و هو مكنش صبور بصراحة سنة بالكتير و يطلق و يجيب غيرها، بس بعد الجوازة الأخيرة فضل من غير جواز زي سنتين أهو…
سألتها من جديد :
_ طيب ليه قعد سنتين هو مش عايز عيال زي ما بتقولي…
قبل أن تجيب الأخرى انتفضت من مكانها بحماس مع وصول الطلقات النارية المحتفلة بعودة سند الكبير، أخذت وعد من يدها قائلة :
_ يلا يا دكتورة دي بتبقى حفلة حلوة أوي…
على أول الكفر دلفت سيارات الحراسة، سيارته في المنتصف، وقفت السيارات ليفتح إليه الغفير الباب، وضع أول ساق له على الأرض و بعدها أنزل عصاته، أشار للغفير بفتح الباب الآخر للسيارة لتخرج منها امرأة في غاية الجمال من لا يعرفها سماح الكبير ابنة عم سند و كانت بيوم زوجته الأولى…
مدت كفها إليها ليأخذ كفها بين يديه مبتسما للناس، بدأت الهمهمات عنها لماذا عادت؟!.. و هل هي زوجته الآن؟!… صمت الجميع مع نظرة منه ليقول هو بهدوء :
_ كلكم عارفين الست سماح، هي راجعة تقعد في البيت الكبير وسط أهلها و ناسها و قدامكم و قدام ربنا دي أختي الصغيرة، شكراً على المقابلة يلا كل واحد على بيته…
بطرف عينه رآها تأكل نفسها و عينيها تكشف كل قطعة بجسد ابنة عمه، انتظر رحيل الجميع ثم اقترب منها، بداخل عينيه لمعة مشتاقة قابلتها هي بغضب مصاحب بغيرة واضحة مثل الشمس، إبتسم إليها قائلا و هو يشير لابنة عمه :
_ سماح الكبير بنت عمي و دي الدكتورة وعد يا سماح…
ترقرقت الدموع بعينيها و هي ترى تعلق هذه الجميلة بذراعيه كأنها تقولها أمام الجميع هو ملكي، تلون وجهها باللون الأحمر و هي تضغط على نفسها بعدم البكاء مردفة بجملة واحدة قبل أن تركض بعيدا :
_ حمد لله على السلامة يا سند بيه…
_____________
جلس بغرفة الصالون منتظرا قدوم السيدة الصغيرة “همت” ليعطي لها أول درس باللغة العربية، أخذ البعض من عصير البرتقال ثم جاء ليضع الكأس إلا أن يده تجمدت مكانها، امرأة في غاية الجمال و الأنوثة تحمل عقل طفلة صغيرة…
ابتسم بلا إرادة مع كل خطوة تقترب بها منه و يرى ابتسامتها البريئة المزينة بحماس شديد، علم من سند أنه كان يعمل مهندسا بالكفر و قريبا جداً من العائلة، بداخله يقين غريب أنه كان قريب منها هي فقط و ليس باقي العائلة، ذكريات بسيطة و صور مشوشة تجمع بينهما بعقله ثم تذهب سريعا دون معرفة أين الصورة أو ما سببها…
انتبه لجلوسها على المقعد المجاور إليه مقدمة كفها الذي يحمل كشكول الورق و قلم جاف أزرق مردفة :
_ الورقة و القلم أهم يا مسيو يلا نبدأ الحصة بقى…
أخذ منها القلم و الكشكول ثم بدأ الحصة، مر الوقت سريعا دون أن يشعر به، لا يعلم كيف أخذ يشرح لها ثلاث ساعات دون ملل و كيف هي تحملت تلك المدة؟!… ألقى القلم على الطاولة قائلا :
_ بس يا ستي لحد كدة كفاية النهاردة فهمتي بقى الدرس؟!…
أومأت اليه سريعا ليقول بنصف إبتسامة :
_ يعني لو سألتك في أي كلام قولته تعرفي تجاوبي؟!…
أومأت إليه مرة أخرى بابتسامة رائعة تأخذ قطعة من روحه معها ثم اردفت بسعادة :
_ أيوة طبعاً أنا شطورة و فاهمة كل حاجة قولتها ليا، تعرف يا مسيو دي أول مرة أحب الفرنساوي بالشكل ده…
جذابة بكل تفاصيلها رغم أنها عفوية بسيطة لا تفعل أي مجهود و لو بسيط للإثارة، طفلة الجلوس معها محبب لقلبه، بعدم وعي سألها :
_ إيه رأيك نلعب سوا بعد ما الدرس يخلص؟!…
لم تقل شي بل ركضت للأعلى بسرعة البرق و أتت بعدها بثواني معها دميتها همت الصغيرة كما أطلقت عليها و دمية أخرى على هيئة رجل، جلست قائلة :
_ بص بقي يا مسيو دي عروستي همت الصغيرة اللي كانت بتتعالج و ده بقى عريسها؟!..
قال بمرح و هو يحمل عنها الدمية الرجل مشيراً إلى الدمية الموضوعة بيدها :
_ ماشي يا ستي اللي معاكي همت و عريسها بقى له إسم و الا نجيب له إسم سوا؟!…
رفضت ببعض الضيق قائلة :
_ نجيب له إسم ليه!! لا طبعاً هو له إسم حلو أوي و أنا بحبه…
ابتسم لها يحاول كتم ضحكته على ضيقها الطفولي اللذيذ قائلا بجدية مصطنعة :
_ بس بس يا ستي خلاص بلاش تقلبي وشك، من غير زعل إسمه ايه البيه ده بقى…
رفعت كفها تخطف الدمية من بين يديه و هي تضمها إليها :
_ إسمه حمد ما همت و حمد بيحبوا بعض…
___________
عادت للبيت الكبير بوجه جامد، تصنعت الإبتسامة للسيدة حكمت التى تجلس بغرفة الإستقبال، أشارت إليها العجوز بالاقتراب لا تريد الجلوس مع أحد أقصى أمنياتها العودة لغرفتها و الجلوس بها بعيدا عن الجميع، إلا أنها أومأت بهدوء ثم جلست بجوارها مردفة :
_ مساء الخير يا تيتة..
ضربتها الأخرى على ظهرها بخفة قبل أن تقول بعتاب :
_ في إيه يا وعد تروحي شغلك من أول ما النور يطلع و ترجعي تهربي في الاوضة مالك مش عايزة تقعدي معانا و الا إيه؟!…
حركت رأسها نافية ثم قالت بصدق :
_ لأ و الله يا تيتة بس أنا جديدة في الشغل و حابة أثبت وجودي و لما برجع بكون تعبانة جداً، النهاردة عشان سند بيه رجع الكل مشي بدري…
ابتلعت لعابها مع تلك النظرات المتفحصة لأقل تفصيلة بها، دائما تشعر أن تلك السيدة تحاصرها بنظراتها و كأنها تقرأ ما بها، أخفضت وجهها لتسمع صوت السيدة حكمت بوقار :
_ ليه مصممة تعذبي قلبك و تعذبي قلبه هو كمان معاكي، و إياكي تفكري إني بتدخل بنكم أنا بس نفسي أشوفكم في أفضل حال…
رفعت وجهها إليها بابتسامة ساخرة من حظها التعيس الذي جعلها تقع بغرامه، رجل بلا قلب أناني لا يفكر بأحد سوي نفسه، هو يريد، هو يرى، هو أخذ القرار، فقط كأن العالم يدور من أجله، أخذت نفس مرهق قائلة :
_ أنا عارفة إن حضرتك كل اللي يهمك راحة حفيدك، و معاكي كل الحق بس أنا مش مرتاحة لا في البيت و لا في أي مكان هو موجود فيه، لو سمحتي يا تيتة لو أنا فعلا غالية عندك بلاش كلام في الموضوع ده تاني نفسيا مش مؤهلة للكلام في أي حاجة تخص سند بيه…
_ أنا عايزك في مكتبي يا دكتورة معاكي خمس دقايق…
تعلم صاحب هذا الصوت و من غيره يتعامل بصيغة الأمر، قامت من مكانها دون الالتفات إليه مقبلة رأس السيدة حكمت بهدوء قائلة :
_ أنا جاية من الواحدة هلكانة هروح أنام شوية بعد إذن حضرتك يا تيتة…
لابد لهذا العصيان من حدود حتى لا يصبح الأمر خارج عن السيطرة، كلما حاول التعامل معها بهدوء حتى لا يزيدها جرحا على جرحها تفعل ما لا يحمد عقابه، مل من تلك الحالة الباردة هو اعتاد عليها قوية تحاربه و تتحدث معه لما تبتعد ألف خطوة بتلك الطريقة، أ كل هذا لأنه قالها لها صريحة يرغب بها دون شعائر الحب الكاذبة؟!.. نظر إليها بقوة و هي تحاول الخروج من جواره مردفا :
_ قولت عايزك في المكتب يا دكتورة…
ليس لديها طاقة للجدال لذلك قالت :
_ حاضر يا سند بيه اتفضل أغير هدومي و هكون عند حضرتك….
______________
بعد مرور خمسة عشر دقيقة…
يجلس على نار منتظرا قدومها، يسير بغرفة المكتب ذهابا و إيابا متبقي دقيقة واحدة و يخرج نيران من أذنيه، غاضب لأكبر درجة ممكنة، تخيل أي شيء إلا هذا البرود خصوصاً بعد غياب شهر عنها، رسم برأسه نظرات الاشتياق التي سوف تستقبله بها لتخيب كل أحلامه و تذهب مع الرياح…
قلب المقعد بقدمه صارخا بالخادمة التي أتت إليه بسرعة البرق مرتعبة ابتلعت ريقها من ملامحه التي لا تبشر بالخير مردفة بتقطع :
_ أمرك يا سي…
رد عليها بصوته الخشن مصحوبا برنين الغضب :
_ روحي نادي الدكتورة وعد…
دلفت وعد بملابس بيتية مريحة عبارة عن عباية إستقبال باللون الأحمر الغامق و حذاء بيتي أسود، ابتسمت للخادمة باحترام قائلة :
_ اتفضلي أنتي يا طنط أنا جيت أهو…
أغلق الباب خلف الخادمة ثم قامت بالجلوس على المقعد السليم مردفة بتعجب :
_ ايه اللي عمل في الاوضة كدة يا سند بيه؟!.. حضرتك كويس؟!…
ابتسم باتساع ها هي تسأل عليه و أزالت قناع البرود الذي ليس له مكان، تعشقه مهما حاولت إظهار عكس ذلك، رفع رأسه بزهو قائلا :
_ أنا كويس أو مش كويس ده مش موضوعنا يا دكتورة و الا ايه؟!…
لم يبدو عليها أي ردة فعل بل أردفت بلا مبالاة و هدوء :
_ عندك حق؟!.. ايه بقى الموضوع اللي حضرتك عايزني عشانه….
صك على أسنانه بغيظ من هذه الحمقاء، ضغط على كفه بقوة حتى لا يخرج عن السيطرة و ينزل بها على عنقها يخنقها، لحظة ما هو الموضوع المهم الذي يريدها به؟!. شعر بالتوتر لعدة ثواني لا يعلم ماذا يقول يحاول البحث عن أي موضوع، قطعت أفكارها و هي ترفع حاجبها مردفة ببراءة :
_ إيه يا سند بيه حضرتك نسيت الموضوع أجي في وقت تاني؟!…
جلس على مقعده ثم أردف بانتباه :
_ ها لا استني عايز أقولك موضوع مهم بس مش عارف ابدأ منين..
ضرب الفضول عقلها لتقول سريعاً :
_ قول أنا سامعة حضرتك…
حدق بها بخبث أخيراً علم ماذا يقول، أخذ نفس عميق قبل أن يتحدث بجدية :
_ طبعاً أنتي شوفتي سماح بنت عمي من شوية، في الحقيقة يا وعد هي مش بنت عمي بس دي كمان كانت أول زوجة ليا، أنا فكرت كتير قبل ما أسافر أجيبها بس قعدت مع نفسي و أخيرا قدرت آخد قرار في علاقتي بيها، دي بنت عمي و رفضت الجواز من أي راجل بعدي عشان كدة أنا قررت أرجع لها تاني…
هزة كهربائية عنيفة أصابتها بمقتل، أهذا ما يرغب به العودة لزوجته الأولى؟!.. اكتشف فجأة أنه يحبها و لا يستطيع العيش بدونها، كأن العالم بأكمله توقف من حولها حتى أنفاسها ترفض الخروج من بين ضلوعها بسهولة، ماذا يريد منها ان يراها فاقدة للروح أمامه ليرتاح هو؟!..
ضمت كفيها ببعض لتعطي لنفسها القليل من القوة ثم حاولت إخراج صوتها طبيعي قدر المستطاع متسائلة :
_ ربنا يتمم بخير عين العقل أنتوا أهل و لازم ترجعوا لبعض تاني، بس السؤال هنا يا سند بيه أنا مالي و مال الموضوع ده مش شايف إنه خاص شوية و أنا ماليش علاقة بيه؟!…
إبتسم إليها ببراءة لا تمت إليه بصلة ثم اردف :
_ مهو أنا طالب منك تقربي بنا أنتوا ستات زي بعض و ااااا…
قطعت حديثه مردفة بذهول :
_ أنت عايزني أكون مرسال بينك و بين طليقتك؟!…
_____________
يتبع…..
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية سند الكبير ) اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق