رواية وجلا الليل الفصل السادس 6
االفصل السادس
استمرت تصرخ وهي تحتضن أخيها الغارق في دمائه، حتى كادت أن تنقطع احبالها الصوتية، تهزه بجنون وعدم تصديق تنادي باسمه كي يفتح عينيه ويطمئنها أنه على ما يرام :- طايع قوم الله يرضى عنيك، فَتِح عنيك يا أخوي واعمل اللي أنت رايده فيني بس قوم يا أخوي ….
تسمر في محله وهو يحملق في جثة من قام بإزهاق روحه للتو، لينتبه أخيرًا لفعلته ليفر بسرعة هاربًا، تاركًا إياه غارقًا في بحر دمائه دون ذرة ندم أو شفقة نحوه، لم ينقطع عويلها وهي لا تزال على حالتها، لتهتدي بالأخير لطريقة لإنقاذ أخيها من الموت الذي ينتظره إن لم يكن أخذه إلى دروبه .
تركته وأسرعت تعدو حتى وصلت للشارع الرئيسي، وأخذت تستغيث بالمارة حتى أتى معها بعضهم، والذين حملوا جثته فورًا وبخلدهم ألف سؤال، ولكن هذا ليس مهمًا الآن، فمهمة إنقاذه تفوق أي شيء آخر .
بعد مرور ساعات قليلة، داهمت الشرطة المنزل ليفزع من بداخله، وقف هو مصعوقًا واهتز فكه برهبة، وازدادت نسبة الأدرينالين بدمائه وقد ظن أنهم أتوا للقبض عليه، هتف عامر الذي دلف المنزل لتوه بغرابة واحترام :- خير يا حضرة الظابط ؟ چايين لمين إهنة ؟
هتف الضابط بعملية وهو يأمر عناصر الشرطة التي قدمت معه :- عندنا أمر بالقبض على المدعو راضي سالم الدهشوري .
ضربت على صدرها بقوة قائلة بصراخ :- ولدي ! ليه يا حضرة الظابط عمل إيه ؟
نهرها سالم بحدة قائلًا :- اكتمي يا مرة، ثم وجه حديثه للماثل أمامه بقلق :- بتهمة إيه چاي تاخده ؟
زفر بحنق مرددًا بعملية :- متهم في قتل طايع منصور . بقلم زكية محمد
لم تستطع أن تظل صامدة، إذ أطلقت صرخة أحدثت دويًا هائلًا بالمكان، فتقدمت منها ” أمينة” بتعاطف ومسكت بذراعها، بينما أردفت هي بلوع وخوف أم :- لاه أحب على يدك ولدي ما عملش حاچة عفشة .
لم يسمع لها وأشار للرجال بالبحث عنه، ليتجمعوا بعد دقائق وأخبروه بأنه ليس موجود، فوجه عدستيه نحوهما قائلًا :- ياريت تقول لوِلدك يسلم نفسه لأننا مش هنهمله .
تدخل عامر ليقول بهدوء :- إيه ملابسات الحادث يا حضرة الظابط؟ مفهمينش أيوتها حاچة واصل .
ردد بتوضيح :- چالنا إخطار بالحادثة دي والواد بين الحيا والموت في المستشفي بس السبب مبهم لحد دلوقتي، علشان كدة هنستنى يفوق أو أخته اللي كانت معاه تتكلم، بعد أذنكم .
ظل ” سالم ” مبهوتًا بمحله وردد بعدم تصديق :- كيف دة وميتا حُصُل ؟
انخرطت في نشيج مرير، منذ أن وقع الخبر على مسامعها، وهي بالكاد تصدقه ولم تختلف حالة البقية عنها، أردف”عامر” بروية :- متقلقش تعال نشوف الموضوع إيه ونفهم من المركز بدل قعادنا إكدة .
سار معه بدون وعي، وشغله الشاغل هو أن يخبروه بأن ما سمعه مجرد ترهات أو مزاح ثقيل .
بعد وقت تم القبض عليه، وسط اعتراضه على ذلك الجرم الذي التصق به، وأنها تكذب وتدعي ذلك لأنها طلبت منه أن يتزوجها بعد أن قام أحدهم بإغوائها، وعندما رفض قامت بلصق التهمة به، ولكن الشرطة أخذت سلاحه لتتطابقه بالرصاصة التي انطلقت منه، لمعرفة مدى صدق حديثه .
ذاع الخبر في كافة أنحاء القرية، والتي إستقبل قاطنيها النبأ بتعبيرات متغايرة، فمنهم من استنكر الحادث، ومنهم من أضاف بعض البهارات الحارة على الحدث لتزيده إثارة وتشويقًا، تناقلت النسوة الحديث والذي شاع كما تنتشر النيران في كومة القش، فلم تتوقف ألسنتهم عن الكلام ولو للحظة .
..…………….……………………………………
ليلًا دلف المحقق المسؤول عن القضية، بعد أن أكد له الطبيب استقرار حالة المجني عليه، وأنه في أتم الاستعداد لأخذ أقواله .
بالخارج تجلس ترتجف بشدة، على الرغم من حرارة الجو، إلا أنها تشعر أنها في ليال شتاء قارس، لفحتها بردوته فسرى الصقيع بعظامها، فجعلها متراخية غير قادرة على الحركة، حبست أنفاسها حينما علمت أنه استعاد وعيه، والموت الآن يحوم حولها يتربص لها بشدة .
كان يجلس إلى جوارها والدها، الذي اشرق وجهه فور سماعه أن ابنه استعاد عافيته، فهو خرج من الدنيا بهما بعد وفاة زوجته الحبيبة، فنشأهم تنشأة سليمة وأنفق على تعليمهم كل ما لديه، فهو لا يريد أن يصيروا مثله، بل يود لهم المكانة المرموقة حتى لا يتعرضوا للسخرية، كما يتعرض لها في عمله في أراضي سالم الزراعية، ولا يعلم أن من وضع ثقته بها طعنته بظهره نكرانًا للجميل .
خرج المحقق بعد دقائق وغادر، ليدلف بعدها والده للإطمئنان عليه، فينشرح صدره ويذهب همه، ما إن رآه سالمًا نصب عينيه.
ابتسم بتكلف لوالده، ومن داخله يود لو ينهض ويقوم بخنقها والتخلص منها، تلك التي غرست رأسه في الوحل دون أن تنظر خلفها، وضعوا ثقتهم بها ولكن ماذا حدث ؟ ضربتهم في الصميم، يخشى أن يعلم والده ولكنه إن لم يعرف من خلاله، فسيعلم من فم القرية، تنهد بصعوبة لألم صدره، وهتف بكمد مكبوت :- وينها ملك يا أبوي ؟
أجابه بحسن نية وحزن اعتلى ملامحه :- برة يا ولدي مقدراش تنصب طولها، مقطعة روحها من البُكا من خوفها عليك، هروح أندهها تاچي تطمن .
قال ذلك ثم خرج مسرعًا، لتظهر شبح ابتسامة ساخرة على ثغره، ليتجهم وجهه فجأة وهو يتوعد لهما .
دلفت معه وهي تنكس رأسها بخزي من نفسها، عيناها تأبى أن تترك الأرضية، فبأي وجه ستقابله وهي السبب فيما حدث له ؟
أردف والدها بحنو وهو يحاوطها من ذراعيها :- متخافيش يا بتي أهو زين قدامك أها، قربي منيه واطمني عليه .
تمنت لو أنها ترتدي زيًا يمكنها من الاختفاء فلا تراه، أو يقوم بقتلها فورًا كي لا تشعر بمزيد من الذعر الذي استوطن مدن قلبها، واستعمرها غير موافق على الجلاء . بقلم زكية محمد
هتفت بصوت شبه مسموع، وهي لم تجرؤ على أن ترفع مقلتيها لتقابل خاصته، فحينئذ سيحدث قتال من نوع آخر ستكون الغلبة له فيه، فهي بحالة يرثى لها :- ألف سلامة عليك يا أخوي إن شاء الله اللي يكرهك .
رفع حاجبه باستهجان قائلًا باستخفاف :- الله يسلمك يا ملك يا خيتي يا اللي رافعة راسنا ومشرفانا .
شهقت بفزع ودقات قلبها تعدو في سباق حواجز، أما عن وجهها تحول إلى صفار الليمونة، بينما ردد والدها بفخر :- أومال إيه دي هتبقى الدكتورة ملك اللي هتتحاكى بيها البلد كلاتها .
ردد من بين أسنانه بسخط ووعيد :- لما نشوف يا أبوي، محدش خابر هيچرا إيه بكرة .
ردد بود وابتسامة مطمئنة لرؤيته لأولاده غانمين :- طيب أنا هروح أچبلها حاچة تاكلها من الصبح على لحم بطنها .
ما إن ترك الوالد الغرفة، صرخت بوجع حينما قبض بذراعه على شعرها بعنف رغم إصابته، وهمس بفحيح خطير :- بتستغفلينا يا ملك ؟ بتستغلي ثقتنا فيكِ غلط !
هزت رأسها بألم تنفي قائلة بهلع :- لاه والله يا أخوي ما عِملت حاچة عفشة واصل تحط راسك في الأرض لا أنت ولا أبوي .
شد بقبضته بقوة أكثر عن أختها السابقة وهدر بحدة وهو يشعر بالاعياء :- وأنتِ فاكرة إن إكدة هصدقك ؟ بعد اللي عملتيه واللي شوفته ! اقري على روحك الفاتحة من دلوك أنتِ والخسيس الواطي .
أردفت بدموع :- معملتش حاچة اه غلطت عاقبني كيف ما أنت رايد بس والله ما عملت حاچة تضرك .
دفعها بشدة ترنحت على إثرها، وكادت أن تسقط لولا أنها استندت بجسدها الهزيل على الحائط، وهي تشعر بدوار شديد يداهمها.
دلف والدهم فمسحت عبراتها بسرعة، ولكنه رآها ليردف بمرح :- وه على المخبولة دي يا ولاد ! ما قولنا زين أها .
تمتمت بخفوت كاذب كي لا تثير ريبته :- ممصدقاش حالي يا أبوي أنه زين الحمد لله .
أخذ بيدها وردد بحنان وصرامة لا تقبل النقاش :- طيب يلا تعالي عشان تاكلي .
لم ترفض طلبه، فشرعت بتناول بعض اللقيمات التي شعرت وكأنها علقم بثغرها، ولكنها بلعتها رغمًا عنها وهي تحبس دموعها حتى لا تنفجر أمامه، فيكفي ما هو فيه حتى على الأقل الآن .
………………………………………………………..
بعد أسبوع تم فيه حبس راضي خمسة عشر يومًا على ذمة التحقيقات، بينما كاد سالم وزوجته أن يتمكن منهما الجنون، أخذا يفكران بحيلة تخرج ابنهم الوحيد من السجن، فكرت هي بفكرة خبيثة اهتدت لها واخبرتها لزوجها الذي رحب بها بسرعة، فسلامة ابنه أهم من أي شيء آخر .
على الجانب الآخر دلف للمنزل وهو يشعر بالعري مما التقطته أذنيه، يا ليته ما بقي حيًا ليرى تلك اللحظة والتي يشعر فيها بالعجز، غير قادر على تبرأتها وغير قادر على أن يقص ألسنة القوم، نظر لوالده الذي يجلس على الأريكة المهترئة بقهر، فهو يمنعه من أن ينظف الغبار الذي تم نثره بواسطتها على سمعتهم بالبلدة، هتف بحدة وقد تمكن الاحتدام منه :- عاچبك إكدة يا أبوي ! هملني أقتلها واغسل عاري أنت ما دريش باللي برة واللي بيقولوه ؟
رفع مقلتيه اللتان تمكن الحزن منهما، وملامحه التي تغيرت وكأنه كَبُر مائة عام فوق عمره، فقد أثقلت كاهله وقصفته بقوة، خرج صوته المعبأ بالأنين :- هتقتلها وهتستفاد إيه بقتلها ؟ هتدخل السچن وبدل ما يبقى واحد تبقوا اتنين، بزيداك يا طايع عاد .
صرخ بغضب كفيل بأن يزلزل جدران المنزل البسيط :- ميهمش يا أبوي، بس أعرف كيف أرفع راسي وسط الخلق، بتك عرتنا يا أبوي وسيرتها على كل لسان .
ضغط شفتيه بقلة حيلة، فهو محق ولكن ليس القتل حلًا ردد بروية :- أعقل يا ولدي إحنا نطلع بيها على الحكيمة وتطمنا عليها وساعتها نحط بلغة في حنك اللي هيتحدت ويچيب سيرتها بالعفش .
ضحك بسخرية وغلب وتابع بتهكم :- أيوة عشان الفضيحة تبقى اتنين .
قاطعه بصرامة قائلًا :- وه يا طايع بزيداك رط بحديتك الماسخ دة، أنا متوكد أنها زينة وهتشوف، أنا هدخل لها أشوفها .
نهض من مكانه وتوجه ناحية الغرفة التي تختفي فيها منهم بداخلها، طرق الباب قبل أن يدلف ولكنها لم تجب، فولج يبحث عنها بعينيه، ليتفاجئ بأنها ليست بالغرفة، خرج يبحث عنها في أركان المنزل بجنون، وهو يصيح باسمها لعلها تجيبه، أردف بفزع :- خيتك مش في الدار يا طايع .
……………………………………………….
تسير بضعف في طريقها للعودة، بعد أن ذهبت لشراء طعام المواشي والتي تشرف عليه بنفسها، خشيت أن تسقط أرضًا لعدم تناولها الكثير من الوجبات فقد امتنعت عن الطعام إلا القليل منه، شهقت بصدمة عندما وجدت جسدًا ضخمًا يعيق طريقها، تراجعت للخلف لخطوات وهي تنوي أن تلقنه درسًا، ولكنها تسمرت مكانها ما إن رأته يبتسم لها بسماجة، يطالعها بنظرات أصابت معدتها بتقلصات شديدة، وكادت أن تتقيأ على إثرها، رسمت معالم النفور على صفحة وجهها، الذي تحول إلى اللون النبيذي بفعل غضبها المكتوم والحرارة المرتفعة، بينما هتف وهو يبرم شاربه بتفاخر :- كيفك يا عروسة ؟
جعدت أنفها بضيق ولم ترد عليه، وما كادت أن تخط بقدمها للأمام جذبها بكفه الغليظ قائلًا بخشونة :- مفيش حُرمة أكلمها وتهملني وتمشي، وخصوصًا اللي بتبقى من حريمي .
أخذت تعافر لتحرير كفها الرقيق من سجن يده الكبيرة قائلة بحدة :- هملني يا راچل أنت، أطخيت في نافوخك إياك ؟
اتسعت عيناه ببريق ينم عن الشر وردد بوعيد :- ولسانك طويل ! لاه دة أنا هقصهولك من العشية .
نجحت في فك أسر يدها، لتردف بتوبيخ :- بالذمة مش مكسوف من حالك، وأنت رايد تتچوز واحدة من دور عيالك، يا راچل عيب على شنبك .
أصابته صاعقة كهربائية، فهو منذ أن نشأ وترعرع إلى يومه هذا، لم يجرؤ أحد أن يتطاول عليه، ومن يفعل ذلك يلاقي عقابًا عسيرًا، لتأتي هي وتتطاول عليه بهذا الشكل ! ردد بخبث وهو يهز رأسه :- وماله أتدلعي كيف ما أنتِ رايدة، بكرة تبقي تحت طوعي واعمل فيكِ اللي أنا رايده .
ضمت حاجبيها بخوف من وقع كلماته عليها، ولكنها أظهرت القوة وأردفت بسخرية :- دة لما تشوف حلمة ودنك يبقى ساعتها أتچوزك، ويلا بعد من وشي .
إلى هنا وكفى فقد أثارت حفيظته، وجعلت الدماء تغلي بداخله فسحبها مجددًا من يدها عنوة، وهو يشدد ضغطه عليها حتى كاد أن يحطمها وتابع بغيظ :- وبعدهالك يا بت شكلك مناوياش تچيبيها البر ! بقلم زكية محمد
أردفت بوجع :- هملني يا راچل أنت الخلق تقول عليا إيه ؟
ولكنه لم يسمع لها، فنظرت حولها لعلها تجد من يغيثها، فصرخت بصوتها كله حينما رأت سيارة معشوقها السري مقدمة نحوهم :- يحيى ..
ردد بشك وهو يضغط على كفها أكثر :- مين يحيى دة كمان ؟ هو أنتِ مفكرة إني هخاف منيه ؟ لا هو ولا عشرة زيه .
توقفت سيارته فجأة حينما سمعها تصرخ باسمه، فنزل مسرعًا يرى ما بها، فجز على أسنانه بعنف عندما رأى ذلك المشهد الذي أثار حميته، فتوجه ناحيتهما وفك وثاق يده من كفها قائلًا بجمود :- يدك يا عم راشد، إيه هقولك أنا على الأصول بردو !
كز على أسنانه باحتداد مكتوم وردد بسخط :- ملكش صالح حديتي مش وياك، ويا أبوها أنت يدوب ولد عمها .
ابتسم ابتسامة صفراء، وتابع بنفس البرود :- والله أنت ملكش كلمة عليها طالما مش في بيتك .
ثم نظر للأخرى وهدر بصرامة :- قدامي على العربية .
هزت رأسها بموافقة وبلحظة كانت بداخلها، تلتقط أنفاسها براحة فأمانها إلى جوارها، فلم الخوف إذًا ؟
تبعها هو تاركًا الآخر يغلي في مكانه، دار محرك السيارة، وخرج صوته الجامد :- واقفة وياه ليه ؟
رفعت شفتها العليا بتهكم، وكأنها بانتظار سؤاله السمج مثله، ورددت بغيظ :- مكنتش واقفة ويا حد، هو اللي وقف في طريقي .
ردد بسخرية دون أن يعي أنه يخط بقدميه على جروحها التي ذادت لهيبًا فأحرقها :- وه مقادرش يستنى العريس !
صرخت بحدة في وجهه :- متقولش عريس دي تاني أنا مهتچوزهوش واصل .
تابع بتهكم وهو يرفع حاجبه باستخفاف :- أومال هتچوزي مين ؟ دة أمه داعية عليه ..
احتقن وجهها وتجمعت عبراتها سريعًا، وأردفت بوجع :- ملكش صالح أديك قولت أمه مش أمك أنت .
رفع حاجبه باستنكار من حدة لسانها، فهو كان يقصد ذلك من البداية وليس ما فهمته هي، ولكنه آثر الصمت فلتفهم مثلما شاءت، ود لو يقص لسانها ذاك الذي يلفظ بما يثير غضبه، بينما نظرت هي تجاه نافذة السيارة وهي تحارب دمعاتها، تمنعها من السقوط على الأقل ليس الآن، وأمامه هو بالتحديد .
التزم الطرفان الصمت، وبعد وقت وصلا للمنزل، فاصطف سيارته لتترجل منها بغضب جلي، وقامت بإغلاق الباب بعنف حتى كادت أن تقتلعه في يدها، ثم توجهت للداخل تحت أنظاره الحانقة، فهتف بمكر وبصوت عال ليصل إليها :- براحة الباب مش قدك يا سوكة .
توقفت قدميها على الفور، وهي تشعر بالدوار قد تمكن منها هذه المرة، ولكنها أقسمت أن ترد له الصاع صاعين، انحنت لتلتقط حجرًا ومن ثم قامت بقذفه على زجاج السيارة، فتهشم الزجاج في الحال، نظرت له باحتداد قائلة بأنفاس متسارعة :- أبقى شوف كيف هتمشي بيها يا دكتور الشوم والندامة .
طوى الأرض تحت قدميه، ليكون في مواجهتها مانعًا إياها من الفرار ليردد بوعيد :- أنتِ قد عملتك دي ؟
نظرت له بتشوش قائلة بتوتر وتبرير :- أنت اللي غلط فيا الأول، خليني أمشي مقدراش أوقف .
أردف بسخرية :- لكن قادرة تدشدشي العربية، وقادرة ترمي طوب من حنكك اللي عاوز كسره دة !
تمسكت بالجدار قائلة بوهن قبل أن تغلق عينيها :- يحيى نادي مرت عمي .
أنهت حديثها وسقطت فاقدة وعيها تحت قدميه، بينما نتأت مقلتيه بذهول من سقوطها المفاجئ ذاك .
…………………………….…………………
ليلًا في وقت متأخر، بعد أن عالجت يدها التي انسكب عليها الماء الساخن أثناء عملها بالمطبخ، لم يزورها النوم وكيف وهي لم تلمح طيفه منذ أن نهرتها والدتها على وقوفها في شباك المطبخ تراقب دلوفه للداخل .
تنهدت بشوق رغمًا عنها، فما على القلب سلطان إنها تحبه و عشقه تغلغل في أوردتها دون سابق إنذار، نظرت لوالدتها الغافية بجوارها فنهضت بخفة ترضخ لما يمليه عليها قلبها وألغت تمامًا عقلها، وتغاضت عن توابع ما تفعله.
خرجت للخارج و توجهت لحديقة المنزل ومن ثم إلى الإسطبل الخاص بالخيول، وقفت أمام حصان أسود عربي أصيل ومدت يدها نحوه بحذر حتى وضعتها عليه قائلة بخفوت :- وه صاحبك هملك النهاردة لحالك !
ثم أخذت تمسد على شعره الكثيف الناعم قائلة بهيام :- خابِر أنا بحسدك قوي عشان أنت چاره علطول إنما أنا مليش حق حتى أشوفه، ما يخبرش إني عشقاه وحتى لو عرف أكيد هيفوتني عشان هو البيه وأنا……. مصمصت شفتيها بتهكم :- كيف ما أنت شايف . بقلم زكية محمد
كان عائدًا مبكرًا لمنزله على غير عادته وهو يترنح بفعل الخمر الذي شربه برفقة أحد زملائه، عندما أخذوه عنوة وأخبروه بأنهم سيذهبون ل”المولد” السنوي، الذي يقام في البلدة، وليرفه عن نفسه ذهب معهم، وتفاجئ هناك أنهم يقدمون له ذلك المشروب، وعندما أبدى اعتراضه، سخروا منه وقللوا من شأنه وأنه ليس برجل كافيًا ليقدم على فعلة مثل هذه، وكانت هذه النتيجة عائد وهو في حالة مزرية،
كان على وشك أن يدلف للمنزل، ولكنه سمع صوت صهيل الحصان الخاص به، فتوجه لهناك ليتفقده وما إن دلف للإسطبل وجد تلك الفتاة تمسد على فرسه بحنان فاقترب منها قائلًا بحدة :- بتعملي إيه إهنة !
شهقت بصوت عالٍ وهي تنظر له بصدمة وحب خوف ولهفة ومشاعر أخرى متضاربة تزاحمت عليها، شحب وجهها ما إن اقتربت خطواته منها أما قلبها كاد أن يقفز من بين ضلوعها .
لم يتبين ملامحها بفعل حالة السُّكر التي فيها فهيئ له عقله إنها ابنة عمه فابتسم بعذوبة قائلًا :- أنتِ چيتي إهنة ! أنا رايد أقولك حاچة مهمة قوي …..
أخذ يهذي بكلماته تلك وهو مازال يتقدم ناحيتها حتى احتجزها في إحدى الزوايا مما زادها رعبًا من القادم .
مال ناحية وجهها فلفحت أنفاسه الدافئة صفحة وجهها البيضاء فزادته لهبًا من فرط الخجل، وما أن اقترب منها على ذلك النحو واستنشقت رائحة كريهة مختلطة بأنفاسه منبعثة منه هتفت بخوف وهي تحاول أن تتملص من بين يديه :- خالد بَعِّد ..
هتف بحرارة وهو يمرر أصابعه على وجهها :- لاه مهبعدش أنتِ حلوة قوي ….. وأنا بحبك قوي…….
…………………………………….
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية وجلا الليل ) اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق