رواية ما بين الألف وكوز الذرة كاملة بقلم رحمة نبيل عبر مدونة كوكب الروايات
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل السادس و الثلاثون 36
يعني اللي كانت في الصور دي مش مراتك، حسب الاخبار اللي وصلت لينا من مصدر خاص أنك على علاقة وثيقة بيها، والبعض بيقول أنه شهد على جوازكم من بعض ….”
كان يعلم، ميمو أخبرته وهو كان واثقًا أن دعوته لذلك البرنامج وفي هذا الوقت ليس لخير أبدًا أو للتحدث عن إنجازاته في مجال الكتابة في الآونة الأخيرة، هو يعلم كل ذلك، ولهذا تحديدًا وافق على المجئ فما اسرع من برنامج يُبث للجميع كي ينفي كل تلك الأخبار عنه، ويخبر الجميع توضيحًا يضب السانهم داخل فمهم ؟!
جاء بإرادته وانتظر أن يُسأل هذا السؤال وطال انتظاره حتى ظن أن البرنامج سيتعامل معه بشرف ويطرح عليه جميع الاسئلة التي عُرضت عليه قبل بدء البرنامج، ولا يتلاعب بقذارة كما المعتاد، لكن ها هم لا يخيبون أمله فيهم ويثبتون قذارتهم، وهو سيستغل كل ذلك لأجله، لكنه لن يتغاضى عن ردعهم ..
ابتسم صلاح يجيب بكل بساطة وهدوء كبير :
” وهو المصدر الخاص بتاعك ده مقالش ليك مين اللي في الصور ؟!”
ابتسم المذيع يخوض تلك اللعبة بجرأة كبيرة :
” لا هو بس جاب لينا المعلومة دي بدون تأكيد والتأكيد عايزينه منك لكل السادة المشاهدين اللي بيتابعوك،ه غير المعلومات الكتير اللي اتنشرت وحضرتك محتاج تأكدها لمتابعينك ”
أطلق صلاح ضحكات عالية رنّ صداها في المكان بأكمله، ثم مال بعض الشيء يقول بجدية كبيرة :
” حضرتك محتاج تقوي حصيلتك اللغوية شوية، لأن الخبر الغير مؤكد مش بيتقال عليه معلومة، بيتقال عليه إشاعة، واكيد حضرتك وبرنامجك اللطيف اكبر من انكم تكونوا منصة لترويج الاشاعات ”
بُهت وجه الرجل أمامه، وصلاح اتسعت بسمته، يعتدل في جلسته أكثر يوضح ما يريد إيصاله للجميع :
” حياتي الشخصية في الفترة الأخيرة استحلها البعض عديمي الاخلاق المهنية، وتجرأوا بالحديث عليا وعلى زوجتي، وأنا ترفعت عن الرد باعتبار أن السفيه افضل رد عليه هو الصمت، لكن زيادة الحديث عن الأمر سبب صداع لزوجتي وأنا ميرضنيش أنها تتعب بسببهم ”
صمت ثم أضاف بجدية يستغل تلك المنصة ليصل تحذيره لكن من تسول له نفسه وذكر زوجته بالسوء:
” زوجتي زي ما الكل يعرف أرملة جاد الاشموني، ده صحيح ونقدر نسميه معلومة، وده شيء لا يعيبها إلا إن كان البعض منكم لا يتقبل زواج الأرملة، فده شيء لا يعنيني ولا يهمني اساسا، لكن زوجتي سيدة لو كنت عيشت اعمار على عمري مش هلاقي ضفرها، زوجة صالحة وأم حنونة، فأنا مش مهتم الكل يتقبلها أو لا يكفيني إني أنا بتقبلها بكل الحب، والباقيين مجبرين يحترموها ”
نظر للمذيع جيدًا بأعين غامضة، ثم بلل شفتيه يقول بجدية كبيرة :
” أما بالنسبة للصور اللي اتنشرت من نفس الصحفي اللي بيخوض في حياتي انا وزوجتي وكتب عليها جملة عبيطة حضرتك ترجمتها أنت ومصادرك الخاصة إني متزوج واحدة تانية، الصورة دي صورة اخويا التوأم وزوجته اللي مش هيكون بنفس تفهمي ويمرر الموضوع بهدوء، ومش عارف حتى الآن ازاي بعض المتحذلقين جاهلين لحقيقة إن عندي أخ توأم”
أخذ أنفاسه يرى الصدمة تعلو وجهه المذيع، ثم سرعان ما خفتت وحل محلها نظرات خبث تدور على وجه المذيع الذي كان يتجهز لطرح سؤال آخر، لكن صلاح قاطعه يقول بمزاح غامض :
” صدقني بعيدًا عن اخلاصي التام لزوجتي وحبي الكبير لعيلتي وبيتي، فأنا شخص مشغول طوال الوقت سواء في الجريدة طول النهار والكتابة في الليل ”
ابتسم بسمة مريبة وهو ينظر للمذيع يقول بجدية :
” اصل أنا برضو مش عايش حياتي ٢٤ قيراط، ولا عندي مثلا برنامج بطلعه يومين في الاسبوع كل حلقة ساعتين، عشان يكون عندي الفراغ الكبير اني اتجوز واحدة تانية على زوجتي واقعدها في شقة في شارع سوريا في المهندسين مثلا، ولا أنت ايه رأيك ؟!”
ابتلع المذيع ريقه بقوة وقد شعر بالمكان حوله يضيق والأكسجين يقل، والحرارة تزداد، نظر بأعين صلاح الذي كان يرمقه ببسمة مريبة وكأنه يخبره أنه لم يفرغ بعد كل ما في جعبته، وأنه ما يزال يملك المزيد من التفاصيل عن زيجته الثانية التي يخفيها عن زوجته .
لذلك ابتسم المذيع بسمة متوترة يقول بصوت خافت خرج بصعوبة من بين ضحكات أراد بها وأد رعبه :
” وأنا برضو قولت إن دي اكيد إشاعات مش أكثر خاصة إن الصحفي اللي نزل كل الصور دي معروف عنه الأخبار المغلوطة، واكيد حضرتك مش من النوع ده ”
ابتسم له صلاح يقول ببساطة :
” مش كده برضو ؟؟”
أطلق الرجل ضحكات خافتة بعض الشيء :
” طبعًا طبعًا، يكفي حبك لزوجتك زي ما هو واضح في كلماتك ”
هز صلاح رأسه يجيب ببراءة شديد :
” فعلًا …”
غيّر المذيع مجرى الحديث تمامًا يطرح عليه الاسئلة التي اتفقا عليها قبل بداية الحلقة، وهو يمنحه بسمة حاول بها أن يبعد شرور صلاح عنه :
” صحيح تقدر تقولنا عن عملك الجديد في المعرض القادم ؟! ”
ارتاح صلاح على المقعد خلفه، يعود لهدوءه بعدما اوصل ما يريد إيصاله للجميع، يجيب أسئلته باندماج كبير وثقة أكبر..
وخلف الشاشات كان الجميع يتابع ما يحدث، وسعيد ينظر لميمو بريبة كبيرة، والأخيرة تتناول بعض الحلوى ببسمة تنافس بسمات صلاح خبثًا .
سحب سعيد مقعده للخلف بعيدًا عنها، وهو يشعر بالخوف منها ومن زوجها، يتمتم بصوت حانق :
” يا ستار يارب على اللي يقع تحت ايدكم، ربنا ينجينا من شركم، شياطين الانس ”
نظرت له ميمو بانتباه وهو تضع الصغير أعلى قدمها بحب :
” بتقول حاجة يا سعيد ؟؟ ”
سحب سعيد من الصغير بقوة كبيرة يضمه له بحماية خوفًا أن يتسرب له بعض الشر والخبث لنفسه النقية الطاهرة :
” هاتي الواد ده، بعينك تشوفيه أنتِ وابوه تاني، أنا اللي هربيه خلاص، مش هيرجع معاكم ”
كان صالح يتابع ما يحدث بابتسامة واسعة وسعادة كبيرة لما فعل شقيقه، يصفق بحماس شديد :
” يسلم بؤقك يا صلاح يا بني، اديهم، اديهم اياكش يخرسوا اللي ميعرفوش ربنا دول ”
نظرت له رانيا بحنق شديد جعله يقول :
” ايه بتبصي عليا ليه ؟! هو اللي بيقل أدبه عليه ”
تحدثت رانيا بسخرية لاذعة :
” زمان في كل الافلام أي توأم لازم يكون فيهم واحد طيب والتاني خبيث ومفتري يجيب حق الطيب من العالم، إنما أنت واخوك عايزين توأم تالت يجيب حق العالم منكم”
أشار صالح لنفسه، ثم لصلاح يوضح ويصحح حديثها :
” أنا مش خبيث صلاح هو اللي خبيث ”
” بس مش الطيب برضو ”
نظر لها بلوم وغيظ شديد، لكن هي فقط ابتسمت واكملت متابعة الحوار باهتمام شديد كما يفعل الجميع ..
___________________________
وصل المكان يركض بين الممرات لا يستطيع ايقاف أحدهم للسؤال عن مكانها أو حتى مكتب رائد كي يعرف أين هي، توقف في منتصف المكان ينظر حوله بحثًا عن أي لوحة تحمل اسمه، يشعر بالضياع، يشير للبعض أن يفهموه أو حتى يتوقفوا، لكن لا أحد ينتبه له، شعر أن المكان يدور وهو لا يمتلك سوى الركض بين الممرات يفحص جميع المكاتب حتى يعثر بنفسه ودون مساعدة على ما يريد، وبعد بحث دقيقة تقريبًا، وجد لوحة يعلوها اسم رائد..
توقف أمام المكتب يطرقه منتظرًا إجابة، وجاءته سريعة ليفتح الباب مندفعًا صوب الداخل يبحث عنها بلهفة، ونيرمينا كانت هي من اندفع له تدري خوفه في تلك اللحظة، تضمه بحنان هامسة :
” أنا بخير …بخير متقلقش تليفوني بس اتسرق مني فجيت ابلغ بسرعة ”
أبعدها عنه نادر بسرعة يحرك أصابعه بعصبية كبيرة في الهواء :
” لما اتسرق مجيتيش ليا ليه بسرعة، عارفة اتصلت كام مرة بيكِ ؟؟”
” أنا قولت ابلغ بسرعة في القسم القريب عشان يلحقوا يجيبوه ”
زفر نادر بصوت مرتفع ليقاطع رائد كل ذلك بهدوء شديد مبتسمًا :
” اطمن يا نادر هي كويسة ومحصلش حاجة، وكمان أنا بعت عساكر لتفريغ الكاميرات في محيط الجامعة والموضوع شوية وقت والتليفون يرجع متقلقوش ”
هز نادر رأسه ببطء شديد وهو يشدد من قبضته على يد نيرمينا، يضمها له، ثم أشار لها بحركات وملامحه جامدة بعض الشيء، لتهز نيرمينا رأسها وتنظر صوب رائد تخبره ما يود نادر قوله :
” هو كده فيه حاجة تاني، ولا عادي نمشي ؟؟”
قال رائد بهدوء شديد :
” لا أبدا مفيش حاجة تقدروا تمشوا وانا اول ما اعرف أي شيء هتواصل معاكم، بس باشمهندس نادر يسيب رقمه عشان لو حصل حاجة”
ارتسمت بسمة ساخرة على فم نادر، ثم تحرك يخرج بطاقة عمله المدون عليها رقمه، ومن ثم أشار لرائد بالوداع، يمسك بكف نيرمينا وخرج دون أي شيء، ونيرمينا تسير خلفه وهي ترمقه بعدم فهم، جموده ذلك ذكرها بمختار الذي كان يتفنن في الانعزال بنفسه عن الجميع، وهي لا تحب إطلاقًا هذا الجانب منهؤ خاصة بعدما تعاملت مع نادر بكل دفئه …
صعد الاثنان للسيارة وتحرك بها نادر وهي فقط تحدق به منتظرة كلمة تطمئن بها عليه، ليس وكأنه هو من اختفى ساعات إضافية بعد عمله دون أن يجيب هاتفه، أو حتى هو من كان كل ذلك الوقت في مركز شرطة .
” نادر هو أنت زعلان مني ؟؟”
نظر لها نادر ثواني، ثم هز رأسه بهدوء شديد ينفي سؤالها، وهي لم ترتح لرده، إذ لم ترى منه تلك البسمة التي تتبعها حركات لطيفة يخبرها أنه ما كان له أن يغضب منها يومًا .
” نادر أنا آسفة والله أنا مفتكرتش اتصل بيك غير لما رائد كلم تسبيح عشان يخليها تاخد رقمك من ميمو ”
صمتت ثم قالت مجددًا :
” نادر أنا …”
صمتت حينما زاد نادر سرعة سيارته ولا تفهم السبب، لكنها أكملت حديثها :
” هو أنا غلطت يا نادر بس مش لدرجة تسمعني ومتردش عليا بالشكل ده و…”
رفع نادر واخيرًا أصابعه كي يجيبها بكلمات مقتضبة :
” أرد ازاي ؟؟ أنا اخرس ”
شهقت نيرمينا بصدمة من تلك الكلمات والملامح التي رافقتها، ما هذا اليأس والسواد الذي يعلو وجهه :
” نادر أنت بتقول ايه ؟؟ أنت….”
صمتت ولا تعلم ما يجب عليها قوله، هل تلومه على وصف نفسه بهذا الشكل، أم تزجره عن الحديث؟؟
ونادر الذي شعر في تلك اللحظات بعجز يكبله أكثر وأكثر، شعر بالرغبة في البكاء لاول مرة، هو لم يهتم بشأن علته، يقسم أنه حتى لا يفكر في الأمر طالما أنه يجد حلقة وصل مع من يهمه أمره كزوجته وشقيقته، لكن حينما شعر بغياب نيرمينا عنه شعر بعجز يقتله، لم يستطع أن يخرج للبحث عنها والسؤال عنها في جامعتها …جامعتها حيث تعمل معلم مساعد بها تقديرًا لتفوقها، وهو من لم يكمل تعليمه حتى، وتعلم الإدارة وبعض المهارات من عمله، فرق آخر يضاف بينهما .
شعر نادر بيد نيرمينا تجبره على النظر لها :
” نادر بُصلي، نادر والله العظيم أنا آسفة حقك عليا مش هتأخر تاني ..”
نظر لها نادر يتوقف بالسيارة أمام منزلهم دون حتى أن يمر على المطعم يخبرهم أنه وجدها، هو فقط أخرج هاتفه يرسل لميمو رسالة أن تحضر زينب من الروضة وتأخذها عندها حتى يعود هو لأخذها .
صعد المنزل بسرعة كبيرة تاركًا خلفه نيرمينا تجلس في السيارة شاحبة الوجه لا تفهم ما حدث، لا تدري بصراعات نادر الداخلية ولا تعلم شيء سوى أنه غاضب منها .
خرجت من السيارة تركض خلفه للمنزل، وصلت وأغلقت الباب خلفها وكادت تتحرك صوب غرفتهم، لكن فجأة وجدته مستقر في بهو المنزل يجلس على الأريكة دافنًا رأسه بين يديه والأفكار تعصب به .
جلست نيرمينا ارضًا تحاول نزع يدها كي يراها :
” نادر …نادر مالك !؟ متخوفنيش ”
نظر نادر لعيونها قبل أن يرفع أصابعه يحركها ببساطة :
” حاسس إني مش قادر، مش قادر استحمل”
تعجبت نيرمينا كلماته، لينظر لها نادر ثواني قبل أن ينفجر في البكاء وكوابيس حياته تتجمع بأكملها أمام عيونه، كيف سيعتني بصغيرته، إن علمها هي لغته فهل سيعلم الجميع حولها؛ كي لا تشعر بالنقص أن لا أحد يفهمه سواها؟؟ ماذا إن نضجت وطلبته مدرستها يومًا لأجل أمرً ما ؟؟ ماذا إن أراد أن يناديها يومًا ولم تكن تنظر له ؟! إن فقدها يومًا في نزهة وعجز عن الصراخ باسمها ؟؟
كانت نيرمينا تنظر لنادر بوجه شاحب وملامح مصدومة، تشعر بالذهول مما يحدث، تجمعت الدموع في عيونها تقترب من نادر تضع رأسها على قدمه تهتف بصوت باكي :
” مالك يا نادر، بالله عليك متخوفنيش، حصل ايه ؟! أنا آسفة يا نادر ”
حاولت أن تبعد يده عن وجهه وهي تقول ببكاء عنيف :
” نادر بالله عليك ما تزعل مني، بصلي …يا نادر أنا آسفة والله مكانش قصدي ”
رفع نادر عيونه لها يشير بوجع :
” أنا عاجز يا نيرمينا، عاجز وضعيف، من غيرك ومن غير ميمو مش هقدر اتواصل مع حد، نيرمينا أنتِ لو عطتيني ضهرك مش هعرف اكلمك ولا هتعرفي أنا عايز ايه ”
أنهى حديثه يزداد في البكاء واصابعه المرتجفة تحاول إيصال ما يشعر به لها، يخفف ما يثقل كاهله منذ علم سوء حالته :
” خايف …خايف زينب تكبر وتتكسف مني، أو على الأقل تحس بالنقص، مش هتعرف تتعامل معايا زي ما أي طفل بيتعامل مع والده، أنا…حتى مش عارف اناديها، ودايما هكون واقف في الضلمة يا نيرمينا ومش هيكون ليا دور في حياتكم غير جوا البيت، بس برا مش هقدر اتصرف ولا اعمل حاجة ”
أنهى كلماته لتسقط يده بتعب شديد وكأنه بذل مجهود ألا تنهار خلال حديثه، ونيرمينا أمسكت يده بسرعة تهز رأسها بنفي، تشعر بقلبها يتصدع بالحزن لأجله :
” لا لا يا نادر والله العظيم عمر ما زينب هتتكسف منك او تحس بالنقص، يا نادر …نادر أنا…”
بكت بصوت مرتفع تشعر بالوجع الكبير يتمكن منها :
” نادر أنا عمر ما كان عندي أب زي أي حد وبقولك إن ده أكبر نقص ممكن يحس بيه الطفل، إن والده يكون بعيد عنه، يكفي أنك تكون معاها وجنبها في كل خطوة، زينب….زينب بتحبك اكتر ما بتحبني اساسا يا نادر، أنت احسن أب في الدنيا دي كلها ياقلبي، أنا لو بايدي إني اختار أب كنت اخترتك أنت ابويا والله العظيم عمرها ما هتحس لحظة بالنقص أو الاختلاف، دي هتحس نفسها محظوظة ومميزة بين الكل، صدقني مش الكل محظوظ يكون عنده أب زيك ”
مسحت دموعها بسرعة تكمل حديثها سعيدة أنها حازت اهتمامه وتوقف عن انهياره :
” وأنا…أنا يا نادر عمري ما هديك ضهري، عمري ما هفكر في لحظة إني ابعد عنك، ولا هتضطر في يوم تناديني لأني هكون جنبك، والله عندي استعداد اسيب شغلي وافضل لازقة فيك ٢٤ ساعة واعملك مكرونة بالوايت صوص زي زمان، فاكر ؟!”
ومن بين دموعه خرجت ضحكة نادر لتبتسم له نيرمينا تقبل يده بحنان :
” مفيش حاجة ممكن تخليني احس بالعجز قد حزنك، ولا حالتك فارقة معايا غير عشانك، أنت لو سعيد وراضي فأنا ويعلم ربنا راضية، يا نادر أنا كنت تايهة لغاية ما لقيتك ”
رفع نادر رأسه يحاول ابعاد عيونه عنها، لكنها لن تسمح تجذب رأسه لها بالقوة تستند بجبهتها على خاصته :
” بصلي يا نادر أو مختار أو ايًا كان مين اللي ماسك الشيفت دلوقتي، لو مفكر أن الكلمتين دول هيخلوني اقولك عندك حق وامشي وخلاص خلصنا يبقى بتحلم، أنا عشان اوصل للحظة دي اللي يجمعنا بيت واحد استهلت مكرونة وفراخ يأكلوا مدينة لشهور ”
ابتسم لها نادر لتميل هي مقبلة وجنته بحب :
” نادر أنت حاسس بأي عجز عشانك أنت ؟! سيبك مني أنا و زينب، هل في يوم حسيت أنك عايز تتكلم عشانك أنت أو عشان حياتك ؟! قبل ما نتجوز وقبل ما تفكر تكوّن عيلة كان الموضوع فارق معاك ؟!”
مسح نادر دموعه ينفي برأسه فهو يومًا لم يهتم بأي شيء يخص حياته بل كان يعيش فقط بلا روح ..
ابتسمت نيرمينا تقول :
” بس كده متشلش همي أنا وزينب، وخليك عارف أننا بس عايزينك جنبنا وسعيد، وياسيدي لو على أي حاجة فزينب هتتعلم تتواصل معاك، وهتكون قريبة منك ومش هيحصل أي أفكار سوداوية في راسك، عشان كلنا هنكون سوا طول الوقت ومع بعض ومش هنبعد عن بعض، تمام ؟؟”
هز رأسه ببطء، لتتسع بسمة نيرمينا تمنحه قبلة أخرى مكافئة له، ثم قالت بحنان جوار أذنه:
” عيش يا نادر من حقك تعيش بسعادة وراحة، كل شخص مهما كانت علته أو ظروفه من حقه يعيش حياة طبيعية، وأنت ماشاء الله عليك، مفيش و لا علة ولا ظروف، أنت زي الفل فليه منكد علينا عيشتنا يا اخي ؟؟ ”
نظر لها باستنكار يشير :
” أنا برضو اللي بنكد عيشتنا ؟؟ ”
أطلقت ضحكات عالية تتحرك جاذبة إياه ليقف :
” أيوة أنت، ودلوقتي تعالى معايا عشان نروح للكل في المطعم وناكل سوا، واعمل حسابك هتقعد كتير تراضيني عشان خوفتني انهاردة ”
تنهد نادر براحة شديدة وقد شعر أن نيرمينا أزاحت حملًا ثقيلًا عن كاهله، والآن يستطيع أن يتنفس دون أن يشعر بالقلق، سيترك الغد بيد الله وهو واثق أنه سيكرمه ويعوضه كل حزن في حياته …
_________________________
تمر الايام والحياة تستمر، رغم كل الاحزان ورغم الصعاب، هي تمر ولا يتبقى من تلك الصعاب سوى ذكريات قليلة .
وها هي تلك الذكريات السيئة تتلاشى أمام صوت ضحكاتهم والبسمات والكلمات الممازحة، من كان يعتقد يومًا أن سعيد الاشموني ذلك الرجل المتجبر الذي كان لا يخشى شيئًا يقف الان في منتصف مطعم أحلامه يجمع حوله اطفال العائلة اجمعين، يفرش ارضًا لوحة بيضاء يشاركهم تلويثها بالالوان وقد قرر أن يجعل أحد جدران مطعمه من تصميمهم الخاص .
ومن كان يظن أن صلاح، الصوت الذي ما خفت يومًا في وجه الفساد، واليد التي لم تنكمش يومًا أمام ظلم، سيكون هو أول الحاضرين لمساعدة سعيد، حيث كان يحمل بعض المقاعد ويقوم برصها مع صالح ومحمود، يستغل الجميع يوم العطلة ليتجهزوا لافتتاح المطعم ..
كان محمود يحمل طاولة خشبية وهو يردد بصوت خافت :
” هندوس ميمهمناش كلام الناس ولا الفلوس …وادينا اهو عايشين مفيش جرح ملوش دوا ”
نظر له صالح بسخرية لاذعة يضع المقعد أمام الطاولة التي أحضرها :
” ايه يا حبيبي هو احنا بنفتح مشروعنا ؟؟ ”
” مش عارف حسيت الأغنية ماشية مع الأجواء ”
ضرب صالح رأس رفيقه بحنق :
” خلص خلينا نستريح، أنا مش فاهم ايه اللي جابرني اعمل كل ده اساسا ؟؟”
سمع صوت ضحكات أطفاله لينظر لهم ويرى تعامل سعيد معهم وسعادتهم، ليبتسم ويقول بصوت خافت متحركًا للانتهاء مما تبقى :
” تمام، اعتقد المقابل مرضي اوي ”
كان المطعم يبدو كخلية نحل الجميع يعمل ويزين المكان بالبالونات والزينة المختلقة، ميمو تجلس على إحدى الطاولات تحاول أن تنتهي مع رانيا من طلب المفارش الخاصة بالطاولات، وتسبيح تساعد هاجر في ترتيب منطقة استقبال الطلبات والمطبخ نفسه، باعتبار أن هاجر أكثر من تفقه بتلك الأمور .
وصلاح يحمل المقاعد مع شقيقه ومحمود ويضعونها في المكان المحدد حسب أوامر ميمو بالطبع، بينما نادر يقف أعلى درج خشبي يقوم بتركيب مصابيح المكان، وفي الاسفل نيرمينا تحمل حقيبة المصابيح وتمسك له الدرج بصعوبة ..
نظر لها نادر بحنق يشير لها أن تثبت كي لا يسقط، وهي تزفر بتعب شديد :
” ما أنا ماسكة السلم اهو، اعمل ايه اكتر من كده، بعدين ده تقيل اوي يا نادر، انزل أنت وأنا هطلع اركب اللمب ”
أشار لها نادر بسخرية :
” هتعرفي ؟!”
” لا، أنت قولي ازاي وانا هعمل ”
زفر نادر وهو يكمل عمله مشيرًا لها بتحذير ألا تترك المقعد…..
دخل رائد المحل يحمل العديد من الحقائب بعدما رفض أن يساعدهم في حمل الأثاث ليجعلونه عامل توصيل، ومسؤول الشحن لكل ما يحتاجونه .
أمسكت منه تسبيح ما جاء به تقول ببسمة :
” حمدالله على سلامتك يا رائد استريح شوية لغاية ما تخـ ”
قاطعها صوت صلاح الذي خرج باردًا مستفزًا :
” لا لا يا مدام تسبيح يقعد يرتاح ايه ؟؟ لسه في طلبات تانية عايزينها، ميمو قولي لسيادة الرائد ناقصنا ايه ”
قال رائد بسخرية يتحرك صوب ميمو :
” مقدم لو سمحت ”
ترك صلاح ما يفعل وهو ينظر له بصدمة كبيرة :
” متقولش … أنت اترقيت ؟!”
نظر الجميع صوب رائد بانتباه شديد ليبتسم رائد ويخبرهم ما علمه البارحة بعد القبض على الشاب الذي طعن الطبيب وهرب :
” تقدر تقول الموضوع مسألة وقت لغاية ما النسر والنجمة يزينوا كتفي ”
أطلق صالح صيحة سعيد يترك المقعد من بين أصابعه متحركًا صوب رائد ينقض عليه بالاحضان وهو يصرخ بصوت مرتفع :
” ضهرنا اتحمى يا رجالة ”
أطلق رائد ضحكات مرتفعة يتلقى أحضان صالح بحب شديد، قبل أن يشعر بصلاح يهجم عليه سعيدًا، بل يكاد يطير سعادة، فها هو رفيقه الحبيب من شاركه طريقه واحلامه منذ كان طالبًا بكلية الشرطة يحلم فقط أن يصل لرتبة تؤهلة لدهس الجميع أسفل أقدامه، ها قد أصبح مقدمًا في الشرطة .
كان صالح وصلاح يهللون بسعادة كبيرة جعلت محمود ينضم لهم، فما جمعه برائد لم تكن مجرد سنوات قليلة، وتسبيح تراقب ما يحدث بحب وفخر شديد، سعيدة لسعادة رائد، وتلك اللمعة التي تعلو عيونه .
ابتسم سعيد يراقبهم وهو ينفض كفيه يمسح بعض الألوان في ثيابه دون اهتمام بنظرات ميمو الغاضبة والحانقة مما يفعل تتمتم بغضب :
” بوظ بوظ ما هو مش أنت اللي بتغسل ”
ابتسم لها سعيد باستفزاز، يتجاهلها متجهًا صوب الجميع يقول :
” طب بما أن الخبر الحلو ده في مطعمي وبكرة الافتتاح، فأنا هخرج أي وجبة بكرة ببلاش لوجه الله عشان ترقية سيادة المقدم ”
ابتسم له رائد، ثم تحرك له يعانقه شاكرًا إياه:
” تسلم يا سعيد، عقبال ما نجاملك لما المطعم يكبر ويبقى ناجح كده ”
شعر سعيد بالغرابة لاحتضان رائد له، وهو لم يفعل الكثير، حسنًا كان الأمر مريبًا له بعض الشيء، إذ أنه يومًا لم يحتضن رجلًا في حياته، لم يسبق له وحصل على صديق، فأمثاله قديمًا كانت حياتهم مقتصرة على الخبث والعداوة لا الصداقة، لكن الأمر لم يكن سيئًا، بل كان مؤثرًا به، إذ بادل رائد العناق يستشعر لذة أن تكون محاطًا بعائلة، عائلة لست مضطرًا للحذر حين بقائك بينهم، أو الحيطة حينما تقترب منهم .
ابتسم نادر الذي كان يقبع أعلى الدرج وهو يهبط لينضم لهم في المباركات …
وميمو تشاهد ما يحدث بأعين ملتمعة بالدموع، لا تصدق أنها واخيرًا استطاعت أن تعبر بسعيد لتلك النقطة، بعد كل ذلك، بعد سنوات وسنوات كادت تيأس فيها من الحرب مع شياطينه، هداه الله، هدى الله سعيد كما هداها لطريقه، الله كان رحيم بهم إذ ترك لهم طريق العودة بعد كل ذلك ..
مسحت دموعها تنهض من مكانها تتحرك صوب نادر تجذبه صوب الرجال تجبره أن يندمج بينهم حينما رأت نظراته لهم وهو ينعزل عنهم، كان نادر يحاول الابتعاد، لكن صلاح والذي رأى ما تفعل ميمو تحرك وجذبه من كتفه يضمه له بحنان شديد كشقيق اصغر، يجبره على الوقوف بينهم ومع الرجال يتحدثون بحماس حول مبارة كره قدم بينهم ..
الأمر الذي أثار تعجب سعيد ونادر، فلا أحد من بينهم خاض تلك التجربة سابقًا، خاصة سعيد الذي لم يُقبل يومًا على تلك الأمور سواء في شبابه أو طفولته، بينما نادر يمكننا القول أنه جرب الأمر مرات قليلة حين طفولته بين طرقات حارته…
قال صالح مصدرًا فرمان لا عودة به :
” خلاص انهاردة بعد ما نخلص تجهيز المطعم، ناكل سوا وبعدين نروح كلنا نلعب ماتش كورة، نجيب كام واحد من الشارع ونعمل فريقين ونلعب ماتش ”
علت الصرخات المتحمسة والأصوات المهللة الموافقة من الجميع، ليبتسم سعيد بغرابة وهو يشاركهم الموافقة دون أن يفهم أي شيء، لكن لا بأس إن كانت تلك المباراة تعني تقوية علاقات مع الجميع فهو يرحب بها، في النهاية لا يريد لأطفاله من زهرته أن ينشأوا دون عائلة مثله…..
_______________________
كانت تجلس في المنزل على فراشها تتفحص الهاتف بلا اهتمام قبل أن تسمع صوت رنين جرس المنزل لتركض بسرعة كي تجيب، لكن وبمجرد خروجها من الغرفة أبصرت والدها يغلق الباب بعدما استلم حقيبة طعام غريبة ..
” دي ليكِ ”
نظرت زهرة للحقيبة بين أصابع والده تشتم رائحة لا يمكن لانفها أن يخطاها، تحركت صوبه تقول ببسمة تختطف منه الحقيبة بحماس :
” أنت جيبتلي سجق يا بابا عشان عارف إني حزينة ؟؟ والله أنت أحسن أب في الدنيا دي كلها ”
نظر لها والدها بعدم فهم :
” سجق ايه ؟؟ أنا كنت هأكلك بواقي المكرونة المعجنة اللي طفحتيها لينا امبارح، بعدين مين دي اللي حزينة ؟؟ هو أنتِ فكراني سعيد وهتعمليهم عليا ؟؟”
رفعت زهرة حاجبها تتحرك صوب الأريكة تعترض على كلمات والدها :
” والله يا بابا حزينة، أنت بس اللي شايفني بتدلع، وده مش كويس على نفسيتي، الحزين مش محتاج اللي حواليه يستهونوا بحزنه، عشان مياخدش جنب ويتقلب باكتئاب ”
جلس والدها جوارها يراقبها تلتهم الشطائر بتلذذ شديد، تشعر أنها صنعت خصيصًا لها، فهي كما تحب وتشتهي ..
نظرت له تقول ببسمة :
” تاكل يا حامد ؟؟”
انتزع والدها شطيرة منها يتناولها بملل :
” اهو أي حاجة احسن من اكلك، بس مش تعرفي مين اللي بعتها ليكِ الاول، ليكون حد حابب يخلص منك ومسممها ”
نظرت له زهرة بصدمة، ومن ثم للحقيبة تقول بعدم فهم :
” هو مش أنت اللي جايبها بجد ؟؟”
” يا بنتي اجيب ايه ؟؟ بقولك أنا متحركتش من وقت ما رجعت من السفر، ومعرفش مطاعم هنا اطلبها منها، شوفي اسم المطعم ورقمهم على الشنطة لتكون جات بالغلط ”
تركت زهرة الشطيرة بين أسنانها تعدل من وضعية الحقيبة البلاستيكية كي تعلم هوية ذلك المطعم، بدأت تقرأ حروف الاسم قبل أن تتسع عيونها وتقول :
” La Fluer ؟؟ ”
تناول والدها قضمة من الشطائر أمامه يتبعها بقطعة مخلل حارة ومن ثم إصبع بطاطس مقلية :
” يعني ايه دي ؟! دي مؤسسة ايتام بيوزعوا اكلات لله ؟؟”
ابتلعت زهرة ما بفهما تحاول أن تفهم ما يحدث :
” يعني زهرة ..”
” يعني المطعم بتاعك، أنتِ قفلتي العيادة خالص بجد ولا ايه ؟؟”
نفت زهرة برأسها، تشعر بالريبة، هناك شيء غريب، تركت نصف شطريتها أعلى الطاولة وحملت الحقيبة في حجرها تحاول البحث عن أي شيء قد يؤكد شكوكها، ووالدها يأكل ما يحمل ويراقبها، لتجد هي ورقة مطوية أسفل الطعام، حملتها بريبة لتقرأها بصوت مرتفع :
” سجق اسبايسي شوية صغيرين من بطاطس كتير ومخلل زي ما بتحبي، وكل يوم ليكِ وجبة زي دي مني لغاية ما ابوكِ يرضى وتكوني في بيتك و برضو هفضل اجبلك اللي بتحبيه، اشوفك في افتتاح المطعم بعد يومين يا زهرة ”
صمتت وهي تشعر بالهواء يُسحب من حولها لم يخرجها من صمتها المريب سوى صوت والدها المتسائل :
” هو ليه بيقول لغاية ما ابوكِ يرضى ؟! هو كان جالي وانا رفضت ؟؟”
نظرت له زهرة بأعين تائهة لا تعي شيئًا :
” اصل أنا قولتله أنك رجعت من السفر وخليتني اقفل العيادة اول ما عرفت أنه خرج من السجن ومنعتني أخرج وعشان كنت بعيط فكرني بعيط بسببك برضو ؟!”
تشنج وجه والدها :
” يعني دلوقتي أنا الشرير في القصة ؟!”
هزت زهرة رأسها بنعم دون أن تنتبه لكلماته أو نظراته الحانقة المستنكرة لما سمع، تفكر فيما يقصد، هل …هل حقق واخيرًا حلمه ؟! كيف لم تخبرها ميمو عن ذلك ؟؟ سعيد …
صمتت تحاول أن تستوعب الأمر ليرتفع صوت والدها يجذب منها الحقيبة كي يتناول بعض المخلل :
” أصل أنتِ متربتيش والله، بس اقول ايه، مربتكيش وأنتِ صغيرة هربيكِ وأنتِ كبيرة ؟! هسييك كده بقلة تربيتك وياخدك هو يربيكِ ”
نظرت له زهرة وهي ما تزال تحاول استيعاب ما يحدث، إذ همسات بصوت خافت :
” ده عملها، سعيد فتح مطعم والافتتاح بعد يومين يا بابا …..”
________________________
” يعني ايه ؟! مش هتاخدني معاك الماتش ؟؟ ”
انتهى صلاح من عقد رباط حذائه، ثم رفع عيونه لميمو التي كانت قد ارتدت ثيابها وتجهزت بالكامل، بل والبست الصغير أنس ثوب رياضي وحذاء كذلك …
كان الاثنان يقفان بشكل متحفز أمام عيون صلاح الذي لا يعلم ما يخبرهم به، ضمت ميمو ذراعيها لصدرها، ثم مالت لتفعل الشيء نفسه مع أنس وهمست له بصوت منخفض :
” بوّز يا انس ”
رفع لها أنس عيونه يبتسم بعدم فهم، لتزجره هي بنظراتها :
” مش كده اعمل بوز زي ده ..”
ختمت حديثها ثم أوضحت له الوضع الذي تحتاجه منه، وأنس أطلق ضحكات عالية ظنًا أن والدته تصنع له وجوه مضحكة وتلاعبه، وميمو تنظر بطرف عيونها لصلاح الذي كان يرمقهما بسخرية :
” يابني متبوظش الدنيا، عايزينه يحس بالذنب ”
زفر صلاح يتركهما متحركًا خارج الغرفة يرتدي ساعته الرياضية، وعلى غير عادته ارتدى ثياب شبابيه مكونة من بنطال من خامة القطن المريح وسترة سوداء كي يستطيع اللعب بشكل جيد .
تحركت خلفه ميمو تراه يفتح باب الشقة للهرب منهما والذهاب وحده للمباراة :
_ صلاح بقولك عايزين نيجي معاك، احنا مش حابين نقعد هنا لوحدنا هنزهق، حتى أنس بيعيط لما تمشي وتسيبه مش كده يا أنس ؟؟”
نظر صلاح خلف ظهره لانس الذي يحاول جذب السترة بعيدًا عن جسده كي يرى تلك الرسومات التي تعلوها، ابتسمت ميمو تشير له جاذبة إياه صوب جسدها ترى صلاح يفتح الباب للخروج :
” حرام عليك تنيمنا زعلانين عشان مش عايز تاخدنا نتفرج عليكم وانتم بتلعبوا كورة، ده احنا حتى هنشجعكم ”
زفر صلاح لا يهون عليه أن يتركها حزينة مستاءة ويترك طفله …سعيدًا يضحك بهذا الشكل الغبي.
لكن هو يعلم أن الأمر لا يسير بهذا الشكل، هو لن يأخذهم كي لا ينزعج طفله من أصوات الصراخ هناك، ولا يتأذى الاثنان من السباب التي قد يطلقها الرجال حين الهزيمة أو الغضب، الأمر غير ملائمًا بالمرة لاصطحاب مشجعين وخاصة إن كانوا عائلته الحبيبة التي يخشى عليها .
فتح فمه يحاول أن يبرر الأمر :
_ ميمو حبيبتي، الحوارات اللي بيكون فيها رجالة وشباب دي من الأفضل ميحضرهاش اطفال ونساء أبدًا خوفًا واحد فيهم يقول لفظ سييء أو شيء يسوئكم، دي مش رحلة عائلية ياقلبي عشان كده مينفعش تيجوا معايا ..”
وقبل أن تنتهي كلماته سمع صوت فتح الباب المقابل لمنزله تبعه صوت تهليل وصراخ مرتفع لصالح الذي كان يمسك بيد بلال واليد الأخرى أميرة يقول بحماس شديد :
” جبتي الفشار والعصاير يا رانيا ؟؟ عايزكم تقعدوا في أول صف في الملعب عشان تشجعوني ”
ارتفعت زاوية فم ميمو بسخرية وهي تضم يديها لصدرها وترمق صلاح بسخرية كبيرة جعلت الاخير يزفر بصوت مرتفع مرددًا :
” الله يسامحك يا زفت الطين، كل ما احاول اتعامل مع عيلتي بشكل سليم الاقيك جاي قدامهم وتعرض ليهم طريقتك اللي على الله دي ”
انتبه صالح لوقوفهم أمامه يقول مبتسمًا :
” ايه ده ميمو وأنس جايين كمان ؟؟ كويس أن رانيا جابت فواكه وحلويات اكتر، ابقي اديهم يا رانيا واقعدوا جنب بعض و….”
وقبل أن يكمل كلماته شعر بمن يسحب ثيابه بعنف بعيدًا عن الجميع وصوت صلاح يخرج حانقًا غاضبًا :
” ايه ده يا عشوائي يا متخلف أنت ؟؟”
نظر له صالح بعدم فهم، ثم نظر لنفسه :
” ايه مش بتحبوا الحلويات ولا ايه ؟؟”
” حلويات ايه يا ….”
تنفس صلاح بصوت مرتفع جعل صالح يتعجب تصرفات شقيقه، لكن وقبل أن يبادر بالتسائل عما يريد قال صلاح :
” أنت ازاي جايب مراتك وعيالك معانا ؟؟ أنت مش عارف أن ده مش صح ؟؟”
نظر صالح صوب عائلته، ثم عاد بالنظر لصلاح لا يفهم مقصده، لكنه رغم ذلك قال ببسمة :
” جايين يشجعوني ”
زفر صلاح وقبل أن يخبره بعيوب ما يفعل ويفحمه بخطبة عصماء، سمع صوت صراخ مرتفع يأتي من نهاية الممر لمحمود الذي يحمل فوق كتفه جهاد يمسك بيدها وهو يقفز معها في الهواء وخلفه هاجر تسير مبتسمة كعادتها، كان محمود يهتف بحماس شديد لليوم :
” بص شوف محمود هيعمل ايه، ده أنا هقطع الشباك من كتر الاجوال النهاردة، ومن التالتة شمال بنهز جبال”
ابتسم صالح لرفيقه يرفع يده يرحب به، بينما صلاح شعر وسط موجة الحماقة تلك أنه هو الوحيد المخطئ، فهذه هي الحياة، حينما تصبح الصحيح الوحيد وسط موجة الخطأ تشعر أنك أنت الخطأ …
سار الجميع لاسفل البناية وصوت هتاف صالح ومحمود يرن صداه بين الجدران وهم يغنون ويهتفون بصوت مرتفع وصلاح يسير بالخلف حانقًا ملتوي الثغر حاملًا أنس، جوار ميمو التي تسير مبتسمة بسعادة تشير له :
” اهو بص يا أنس لبوز بابا، هو ده اللي كنت عايزاك تعمله”
رمقها صلاح بغضب لتطلق ضحكات وهي ترفع يدها تردد خلف صالح ومحمود الهتافات الخاصة بهما وشاركها الأمر بلال الذي أخذ يصفق يردد معهم بكلمات متعثرة وكذلك الأميرة التي تركض خلف والدها تهتف خلفه ما يريد ..
أخرج صالح سماعة صغيرة بحجم زجاجة المياه وقام بوضع عليها بعض النغمات والأناشيد التي كانت معروفة وقت كأس العالم وكأنه الآن في طريقه لقيادة فريقه الوطني صوب النصر وليس للعب مبارة ودية مع أصدقائه .
ورغمًا عن صلاح بدأ يضحك وهو يسير خلف صالح ومحمود اللذين بدئا بالغناء والحماس يشتعل وصلاح شاركهم وهو يضع أنس فوق كتفه يمسك يديه يحركها والصغير يطلق ضحكات عالية مستمتعة ..
وبمجرد خروجهم من البناية جذبوا جميع الأنظار لهم، ليعتقد البعض أن كأس العالم عاد مجددًا دون أن يشعروا ومصر هي الدولة المستضيفة له..
في ذلك الوقت كان سعيد يستند على سيارته يرتدي ثياب رياضية خاصة بفريقه المفضل يضحك عليهم بصوت مرتفع يراقب سيارة رائد التي توقفت جواره سيارته وهبط منها الاخير يقول باستمتاع شديد :
” بدأتوا احتفالات من غيري ..”
اقترب منه صالح يفتح باب السيارة للطفلين يجذبهما للخارج كي يشاركوه الجنون اجباري، وتسبيح تراقب من السيارة تكتم قهقهات عالية كادت تفلت منها، وسعيد أخذ أنس من صلاح يلاعبه بحب ..
واخيرًا كان آخر من وصل المكان هم نادر وعائلته، اجتمع الجميع وابتسموا يصعد كلٌ لسيارته، متحركين صوب ذلك الملعب الذي يقع بالقرب من منطقتهم السكنية، وصالح ما يزال يطلق زمور السيارة بسعادة والكل خلفه .
وفي الطريق بدأ بعض الأشخاص يصفقون ويصفرون لهم ظنًا أنها زفة عروسين ..
توقفت جميع السيارات أمام الملعب المراد وهبط الكل ونظروا له ببسمة، تحدث صلاح وهو يأخذ أنس من بين يديّ ميمو يساعدها على الهبوط :
” دلوقتي هنلعب ازاي ؟؟ احنا ستة بس، حتى مش مكلمين خماسي ”
نظر الجميع لبعضهم البعض واقترب محمود ببساطة محركًا كتفيه للأعلى والاسفل :
” ممكن نشوف شباب في الملعب جوا ونعمل فريقين سداسي ”
تشنج وجه صلاح وكاد يعترض على الأمر، لكن صالح وافقه دون أن يسمح بأي مناقشة :
” موافق يلا ندخل ”
وبالفعل سار خلفه الجميع وصلاح يقف بضيق شديد :
” مش فاهم ازاي بشر طبيعيين ربنا ميزهم بعقل يمشوا ورا الاتنين دول ؟!”
تحرك خلفهم حانقًا رافضًا لكل ما يحدث، وقبل حتى أن يجبر الجميع على التفكير في الأمر، كان محمود يشير لهم بيده :
” يلا يا جماعة لقيت فريق يلاعبنا ..”
____________________
تقف في منتصف غرفة الرياضة التي تؤدي بها تمارينها اليومية، طريقة أخرى غير قطتها للتخلص من أفكارها المتعلقة بسعيد، ابتسمت تمسك في كل ذراع وزن عشرة كيلو جرامات، تمسكهم وتقفز على درج أمامها، ثم تهبط وتكرر نفس العملية وفي رأسها يعود لقاء قريب لها مع الحرباء ميمو العزيزة …
” ميمو الموضوع خلص خلاص، أظن أنتِ كنتِ موجودة وسمعتي بودانك اللي قولته لسعيد قدام السجن ”
تركت ميمو مشروبها المفضل والذي لا ترتشف غيره كلما جاءت للنادي الذي كانت أحد أعضائه منذ سنوات :
” اديكِ قولتيها يا زوز، قولتيهم لسعيد مش ليا، يعني الحركتين دول على سعيد مش على ميمو يا قلبي، أنا وأنتِ وكل النادي وكل الناس ما عدا سعيد عارفين أنك هتموتي عليه وعايزة بس تربيه ..”
اشتدت ملامح زهرة برفض وكأنها تنفر من تلك الفكرة التي يقبلها جسدها بكل عضو به :
” ميمو أنتِ اكيد عارفة سعيد عمل فيا ايه، اكيد هو قالك على اللي عمله صح ؟؟”
” صح ”
ضرب زهرة الطاولة بعصبية مخيفة، لكن ميمو لم يتحرك بها شيء :
” يبقى على أي اساسا جاية تقولي ليا الكلام ده ؟؟ اكيد مش هروح اقوله معلش يا سعيد أنا مسامحة والمسامح كريم ويلا نتجوز ”
” لا طبعا مش هتروحي تقولي ليه كده، وإلا وقتها أنا اللي كنت خلصت عليكم أنتم الجوز، هو عشان تصرفاته وأنتِ عشان كرامتك اللي عملتيها ممسحة ليه ”
تنهدت بصوت مرتفع تنظر لعيونها بجدية كبيرة :
” زهرة هو أنا عبيطة ؟! خلال معرفتك بيا السنين اللي فاتت دي حسيتي للحظة اني عبيطة ؟؟ حتى لما كنت بتعالج عندك ؟؟”
عادت زهرة للخلف تنظر لميمو بجدية، فميمو كانت واحدة من مرضاها الأكثر تماسكًا وقوة، امرأة تعجبت في البداية رغبتها في العلاج، فثباتها على ما حدث كان أكبر دليل على صحة نفسيتها، مع بعض العطوب كنفورها من جسدها، لكنها تغلبت عليها :
” لا، بس أنتِ عارفة إن…”
” أنك بتحبي سعيد وهو بيحبك، وأنكم ضيعتوا من عمركم ١٥ سنة على الفاضي ”
صححت لها زهرة بأنفاس عالية :
” ١٦ ..١٦ سنة مش ١٥ ”
” ومش شايفة إن دي فترة كفاية اوي عشان تبدأي حياتك واخيرًا ؟؟ مش بقولك ترجعي، لاني اساسا مش هقبل بكده، أنا بقول تربيه ويتعلم أنه قبل ما ينطق كلمة يكون قدها ويكون عاقلها ”
تنفست زهرة بصوت مرتفع :
” اعمل ايه طيب ؟! من وقت ما خرج مشفتوش ”
” اقفلي العيادة، واختفي، اعملي نفسك هتسافري ، اقولك قوليله إن ابوكِ رجع من السفر ورافض جوازكم ”
نظرت لها زهرة بعدم فهم :
” بس بابا مش …بابا موافق على سعيد لما عرف أنه اتصلح حاله وإني مش ..مش هقدر اعيش من غيره ”
” وسعيد ميعرفش كده، قوليله الكلمتين دول خليه يتلحلح لأني اضمنلك أنك لو معملتيش كده، سعيد مش هياخد خطوة غير بعد شهرين تلاتة، لكن لو عملتي كده بعد ساعة أو ساعتين هتلاقيه أخد الخطوة ”
نظرت لها زهرة تمسح وجهها وهي تحاول التفكير في الأمر، هل تفعل؟ هل هي مستعدة لخسارة سنوات أخرى من حياتها لأجل لا شيء ؟؟
أفاقت زهرة من شرودها تلقي الاوازن ارضًا تتحرك صوب امتعتها تحضر منشفة لتبصر هاتفها به رسالة غير مقروءه، ولأنها جعلته بوضع صامت كي لا يزعجها لم تنتبه ..
فتحت الهاتف لتجد أنها لم تكن رسالة بل دزرينة رسائل من سعيد يحاول الوصول لها ..
رفعت حاجبها وهي تمرر عيونها على الرسائل..
” زهرة ارجوكِ بلاش تسافري، اديني فرصة والله العظيم مستعد اعمل اي حاجة ”
” زهرة مش كفاية كده، والله تعبت ”
” زهرة أنا هقنع ابوكِ، هكون لينا حياة مستقرة عشاني وعشانك، بس بلاش تسافري أو تبعدي ”
” زهرة أنا هستناكِ في الافتتاح، تعالي ”
” اوعي متحضريش ”
” زهرة أنتِ عملتي بلوك ؟؟”
” زهرة أنا آسف والله على كل كلمة قولتها، والله ما كنت بوعيي، اوعدك بعد كده هفكر في كل كلمة قبل ما انطقها، كل حاجة كانت غلط فيا صلحتها والله، ارجعي وهتشوفي بنفسك اني اتغيرت ….شوية يعني ”
” تعالي الافتتاح ”
أنهت قراءة الرسائل تبتسم بسمة واسعة تجفف عرف وجهها :
” كان عندها حق ميمو أنك محتاج محفز عشان تتلحلح ..”
نظرت حولها تحمل زجاجة المياه تتحرك خارج الغرفة صوب مكان تبديل الثياب وعيونها تلمع بنظرات خبيثة غريبة …
_________________________
” شوط يا محمود …شوط لنادر بسرعة ”
كانت تلك صيحات صلاح وهو يركض بسرعة كبيرة صوب هدف الخصم يشير لمحمود أن يمرر الكره صوب نادر الذي تلقفها منه بكل مهارة يركض مبتسمًا في منتصف الملعب يشعر بذرات الهواء ترتطم بوجهه، وحين ركضه يرى أمام عيونه صورة له قديمة حينما كان يجمع صبية الحارة ويصرخ بهم ويتحمس معهم للعب ..
أخذته ذاكرته لمشاهد متعددة له وهو يركض بسرعة كبيرة والعرق يملء وجهه يصرخ بصوت مرتفع :
” والله بيغشوا عمالين يزقوا فيا ”
نظر جواره يضرب صبي يحاول إسقاطه :
” بطل غش بقى ”
وبمجرد أن أسقط الصبي ارضًا ركض صوب الهدف يلقي بالكره داخله ليركض في المكان يفتح ذراعيه بسعادة كبيرة صارخًا أنه فعلها رغم أنه أسقط صبيًا إلا أنهم كاطفال لم يكونوا واعيين بقوانين تلك اللعبة .
أفاق نادر على صوت سعيد يصرخ به :
” يلا بسرعة يا نادر اضرب الكره ”
نظر صالح بحنق لسعيد يصحح له :
” اسمها شوط مش اضرب ”
رمقه سعيد ببلاهة، وصوت نيرمينا في الخلف مختلطًا بصوت الصغيرة زينب هو ما يمكن سماعه، إذ اخذت الفتاتين يشجعون نادر بكل حماس وكأنه يحمل فوق أكتافه مصير وطن بأكمله .
وبمجرد أن أحرز نادر الهدف أطلقت نيرمينا صيحة عالية وهي تحرك علم مصر في الهواء والذي كانت قد احضرته خصيصًا لأجل المباراة .
وميمو من شدة حماسها أطلقت صفير عالي تسبب في التفاف رأس صلاح لها، يعلم جيدًا أنها هي من أطلقتها، رمقها بشر لتتوقف عن الصفير، ترفع إبهامها في الهواء مبتسمة له .
والآن وبعد مرور نصف المباراة تقريبًا أصبح كلا الفريقين متعادلين، هدفين لكل فريق…
كان أحد أفراد الفريق الآخر _ والذي كان عبارة عن مجموعة من الأصدقاء الذين وجدوهم بالفعل في الملعب_ يركض في منتصف الملعب، وقد كان حارس المرمى الخاص بفريق صلاح هو رائد الذي استعد جيدًا للإمساك بالكره التالية، لكن وقبل أن تصل له، قطعها سعيد بشكل غير متوقع وركض بها في الملعب يبتسم بسمة واسعة وكأنه للتو قام بإنجاز كبير، وقد كان، فبالنسبة لشخص لم يلمس كرة سابقًا كان كل ما يحدث إنجاز كبير .
أطلق سعيد ضحكات عالية سعيد وهو يرى الجميع يركضون خلفه وصالح جواره، أشار له صالح أن يمرر الكره وكذلك فعل ..
ركض صالح بالكره حتى مررها بدوره لصلاح الذي ابتسم يركض بها صوب الهدف والذي كان محمود يقف جواره في ركن غير واضح، يشير صوب هاجر ويصنع لها قلوبًا بيده، لكن فجأة شعر بالكرة تصطدم باقدامه، نظر للاسفل بصدمة ليسمع صوت صلاح يصرخ به :
” بسرعة يا محمود، شوط الكورة، اخلص يا بني ادم ”
نظر محمود حوله لا يستوعب ما يحدث، لكن فجأة صُدم بجميع أفراد الفريق الخصم يتحركون صوبه ليصرخ وهو يسدد الكره للمرمى وبشكل غير مقصود حتى، ليحرز هدفًا جعل جميع أفراد فريقه يطلقون الصيحات والمدرجات تضج بالهتافات، ومحمود الذي لم يستوعب حتى ما فعل، ركض صوب المدرجات يرفع يده لهاجر يلقي لها بالقبلات ويقبل خاتم زواجه في حركة معتادة من بعض لاعبي الكرة .
في تلك اللحظة وخلف ظهر محمود الذي لم يكتفي بعد من الاحتفال بهدفه، نشأ شجار بين أفراد الفريق الخصم والرجال جميعهم بسبب اعتراضهم على الهدف وأنه كان تسللًا حسب القوانين، لكن صالح اعترض بصوت محتد :
” تسلل مين يا ابو تسلل، تكونش بتلعب في التتش أنت وهو، الهدف عادي وزي الفل ولو مش مصدقين أنتم حرين، بس احنا اللي فزنا ”
وافقه سعيد الحديث بهزة رأس، لكن يبدو أن الفريق الآخر لم يكن لديهم ما يسمى بـ ” سياسة تقبل الهزيمة ” إذ ازداد الغضب بينهم وهجم أحدهم على صالح بغيظ شديد بسبب استفزاز صالح لهم بحركات من كتفه .
وصالح كان بالمرصاد لهم إذ امسك بشجار ذلك الشاب، وصلاح اندفع بينهم يحاول الدفاع عن شقيقه صارخًا بالشاب أن يتراجع، ورائد ترك المرمى يركض لهم صارخًا بغضب :
” ولا ولا، ارجع ورا يا عسل منك ليه ”
تدخل سعيد في القتال يشاركهم الشجار هو ونادر الذي جذب أحدهم يسدد له الضربات وقد اشتدت حدة الأجواء وعلت الصرخات من المدرجات ..
وفي أحد الأركان كان محمود يحاصر هاجر وهو يهمس لها ببسمة وغمزة :
” لا بس ايه رأيك في الجول؟؟ عالمي، شوفتيني وانا ببوس الخاتم بعد ما جبت الجول ؟!”
ابتسمت هاجر بخجل ومحمود يميل عليها هامسًا :
” على فكرة أنا حريف اساسا، من زمان وأنا بيقولولي إني فيا شبه من ابو تريكة ”
أطلقت هاجر ضحكات صاخبة وهو قال بجدية :
” مش مصدقاني، طب ده انا مرة …”
وقبل أن يكمل جملته شعر بمن يجذبه من الخلف ملقيًا إياه في الشجار، ولم يكن ذلك سوى صالح الذي صرخ في وجهه :
” أنت واقف تضحك وأحنا بنتخانق ؟؟”
فرد محمود كفيه بعدم فهم :
” خناقة ايه أنا معملتش حـ ”
وفجأة قاطعته لكمة عنيفة سقطت على وجهه، تأوه وقد اشتعلت عيونه بشر يصرخ في ذلك الذي لكمه :
” اه يابن الـ ”
هجم عليه بغيظ وشر وقد بدأ الشجار يزداد حدة .
وعلى المدرجات كانت ميمو تحاول النزول تمسك بين يديها إحدى علب طعام رانيا صارخة بشر :
” هما فاكرين نفسهم ايه دول ؟! الهدف صحيح”
لكن تسبيح والتي كانت تكبلها قالت :
” معلش يا حبيبتي سيبي الرجالة يتفاهموا مع بعض، واحنا تعالوا نطلع برة عشان منتهزقش، رائد شاور ليا ميت مرة اروح للعربية ولو فضلت شوية كمان هيخلص عليا ”
وبهذه الكلمات أنهت الحديث تجذبها للخارج آمرة الجميع أن يتبعوها تاركين الرجال ينتهون مما بيدهم، وبالفعل خرج الجميع صوب السيارات وتوقفوا هناك في الانتظار، وتسبيح ويلها ميمو وويلها محمد الذي يصمم على الذهاب وضرب من يتشاجر مع والده .
ثواني حتى اشتمت رانيا رائحة جميلة جعلتها تهتف ببسمة متناسية خوفها وكل ما يحدث :
” ايه الريحة دي ؟؟”
في الداخل وبعد عشرين دقيقة من الشجار، ختم الرجال المباراة بالمصافحة والاحضان وكأن ذلك الشجار لم يكن، بكل بساطة قال صلاح ( يومكم زي الفل يا شباب) لتبتسم الأفواه ويتناسوا ما حدث .
ابتسم صالح يصافح أحد الشباب :
” أنتم هنا كل يوم ولا ايه ؟؟”
اجابه الشاب ببسمة :
” لا كل خميس هتلاقينا مقيمين هنا عشان إجازة من الجامعات الجمعة فبنسهر براحتنا ”
عدّل صلاح ثيابه يقول بهدوء أثناء تمرير أصابعه في شعره :
” أنتم لسه بتدرسوا ؟! مش باين عليكم والله، ربنا يوفقكم”
ابتسم له شاب آخر يجيب :
” أيوة احنا في كلية هندسة وانتم ؟؟”
ابتسم سعيد بسمة جانبية :
” تفتكر ايه ؟؟ ”
” شكلكم كبار، يعني متخرجين من فترة كويسة ”
ربت رائد على كتفه مبتسمًا بسمة جامدة بعض الشييء يستغل مكانته واخيرًا ليحذرهم من العبث معهم :
” أنا مقدم في الشرطة ”
اتسعت أعين الشباب وشحبت وجوههم، لكن رائد اكمل بنبرة عادية :
” وصالح ومحمود دكاتر تشريح ”
تحركت الأعين صوب الاثنين برعب شديد، ورائد يكمل :
” وصلاح يبقى صحفي وكاتب معروف وبيحب الفضايح ”
قال شاب بصوت خافت يبتلع ريقه :
” أيوة أنا سمعت عنه كتير ”
ابتسم له صلاح ورائد اكمل بجدية :
“ونادر بودي جارد سابقًا مدير شركة حاليًا ”
صمت ثم أشار لسعيد :
” أما ده راجل مسالم على باب الله مدير مطعم حاليًا، تاجر أعضاء سابقًا”
نظر الشباب لبعضهم البعض بريبة شديد، ليبادر أحدهم بالقول مبتسمًا :
” إحنا اتصافينا مش كده باشا ؟؟ مش احنا تمام سوا ؟؟”
أطلق صلاح ضحكات مرتفعة يربت على كتف الشاب بحنان :
” بلاش ياخدكم الحماس تاني وتتخانقوا لأجل لعبة، استمتعوا وبس يا شباب، ربنا يسترها عليكم ”
أشار بعدها صلاح للجميع كي يتبعونه، وتحركوا للخارج مبتسمين بسمة واسعة وقد بدأت ضحكاتهم تعلو والكلمات تتراشق بينهم ..
يسيرون كتف بكتف وصالح يغني نفس الأغنية التي كان يرددها قبل المباراة :
” هلا بيكم ارحبوا …يلا حيهم اجلطوا ”
نظر له صلاح بسخرية :
” اجلطوا ؟؟ ”
” اه هو بيقولها كده ”
أطلق الجميع ضحكات عالية عليه وهو مستمر في الغناء دون وضع اعتبار أن جميع الكلمات خرجت منه مشوهه كطفل يتعلم الحديث .
وبمجرد خروجهم تعجب الجميع أن السيارات فارغة ولا أحد جوارها، نظر رائد بتعجب يقول :
” أنا قولت لتسبيح أنهم يخرجوا للعربيات، هما راحوا فين ؟؟”
نظر الجميع لبعضهم البعض بريبة وصلاح أخرج هاتفه ولم يكد يتصل بميمو حتى سمع صوتًت قريبًا يأتي من الجهة المقابلة للملعب وميمو تلوح بيدها:
” صلاح احنا هنا ”
نظر الجميع لواجهة أحد المطاعم حيث اجتمعت النساء هناك يتناولون الطعام، ليس وكأن ازواجهم كانوا يتشاجرون، ابتسموا وتحركوا لهم، وسعيد يردد في أثرهم بحنق :
” ده آخر يوم ليكم تأكلوا في مطعم غير بتاعي، ومن بكرة مشوفش واحد يقعد على كرسي في مطعم تاني ….”
_______________________
وجاء يوم الافتتاح المنتظر حيث الجميع داخل مطعم سعيد يتحركون كخلية نحل منهم من يساعد في التجهيزات ومن يستقبل الأقارب كصالح الذي ذهب لاستقبال والده وسليمان ونعمة…
وميمو التي كانت تجلس على طاولة بأمر من صلاح إذ منعها من التحرك خطوة بعيدًا عن طاولتها كي لا ترهق نفسها، لكنها رغم ذلك كانت تراقب أنس بأعين حريصة .
ومحمود الذي يقف مع هاجر في المطبخ بعدما طلب منها سعيد أن تمد هي مطعمه ببعض حلواها لاستقبال الزبائن، وكانت تلك بداية تعاون بينهما، إذ وعدها أن مطعمه لن يتعامل مع مخبز آخر عداها، وهذا للحق كان بداية عمل جيد لهاجر لتتوسع أكثر .
ابتسم تراقب محمود يساعدها بشغف وبسمة واسعة سعيدًا لسعادتها وفخورًا لنجاحها :
” تعبتك معايا يا محمود ممكن تستريح وأنا هكمل ”
” تعبك راحة يا نواعم، أنا زي الفل، هخلص معاكِ عشان اعرف استريح ”
ابتسمت له بحب، ثم أكملت عملها تعطيه كل ثانية وأخرى قطعة حلوى ليتذوقها ويخبرها رأيه، فمحمود كان الناقد الاول والأخير لها …
وفي الخارج كانت رانيا تعانق إخوتها بسعادة كبيرة وترحب بوالدها وصالح يشاكس الجميع مستفزًا إياهم…
” عصافير الحب الأربعة، واضح أن الحب ساب آثار صعب تتمحي من عليكم حتى بعد سنين طويلة ”
رمقه جبريل بغضب ليطلق صالح ضحكات عالية يمسح وجهه قائلًا :
” يا اخي الدنيا دي مش بتسيب حد على حاله ”
لكن هم حقًا لم يهتموا بشيء سوى لبلال وأميرة فرحين بهم، متجاهلين استفزازات صالح الذي ضم له رانيا أمام أعينهم بحب شديد …
” صحيح مجبتوش زوجاتكم معاكم ليه ؟؟خير إن شاء الله يكون متنكد عليكم عيشتكم ؟؟”
نغزت رانيا خصر صالح وهي تكتم ضحكتها، وهو لم يجاهد حتى لكبتها .
وصلاح الذي كان بعض الحضور هم جمهوره الذين استغلوا إعلانه عن افتتاح مطعم قريبه ليأتوا له خصيصًا، وقد مازحه سعيد حينما رأى الجميع يأتي للسؤال عنه :
” أنا بفكر اعمل مكتبة هنا فيها اعمالك واجيبك كل خميس تعمل ندوة في المطعم واستفاد منك لمرة ”
رمقه صلاح بسخرية وهو يهمس له :
” ده لو عتبت مطعمك تاني ”
أطلق سعيد ضحكات مرتفعة يتحرك لتفقد العمل بالمطعم :
” هتيجي، ميمو هتجيبك ”
زفر صلاح بحنق شديد وهو يعود لاستقبال من جاءوا لأجله ..
و رائد يجلس على إحدى الطاولات، يراقب الجميع ببسمة وقد شعر براحة كبيرة، المكان نعمه سكينة هائلة خاصة بتلك الآيات القرآنية التي تصدح في المكان بصوت هادئ، شعر بتسبيح تجلس جواره، نظر لها مبتسمًا :
” ايه القمر ده يا توتا ؟؟”
هطلت تسبيح من تعليقه :
” بحد يا رائد ؟؟”
” بجد يا قلبي، أنتِ قمر على طول ”
ابتسمت له بسمة ظهرت في عيونها وهي تنظر له بحب شديد ..
وفي أحد الأركان كان سعيد يراقب كل ذلك بأعين شغوفة، يرى الجميع أمامه ويستمع للأصوات المرتفعة المتداخلة حوله، لكن كل ذلك لا يصل لعقله، بل كل ما يراه ويسمعه هو يوم فكّر في ذلك الحلم، يوم كان بعمر العشرين، في عامه الثاني من الجامعة .
يركض داخل منزله سعيدًا مبتهجًا يحمل بين يديه ورقة تفيد السماح له بالوقوف بإحدى عربات الطعام دون التعرض لأي مضايقات من الحي أو أحد، ورقة عانى هو ورفيقه حتى يستخرجونها بمساعدة عم رفيقه .
” ماما… ماما بصي ”
ركض على درجات المنزل بسعادة كبيرة يشعر أنه سيطير من الفرحة، لكن وحينما وصل للغرفة الخاصة بوالدته وجد والده يميل على الفراش يمسك بها بشكل غريب، وبمجرد أن سمع صوته تركها بحدة ونظر لها بشر، ثم تحرك للخارج تحت أنظار سعيد الغاضبة، الذي تحرك خلفه بسرعة كبيرة صارخًا :
” أنت كنت بتعمل ايه عندها ؟؟ كنت ماسكها كده ليه ؟؟ ”
توقف جاد ونظر له باستهزاء كبير، وسعيد لم يهمه ذلك الاستهزاء، بل اقترب منه يهمس بشر من تحت أنفاسه غاضبًا :
” امي متلمسهاش بايدك النجسة دي، سامع ؟”
ابتسم جاد بسمة جانبية ساخرة جلبت شياطين سعيد للسطح بعدما كان يكبلها في الاعماق السحيقة بقيود وعوده لوالدته ألا يتعرض لوالده ولا يخوض حديث معه .
قال جاد بنبرة مستفزة جلبت شياطين سعيد للقمة :
” متقلقش مش ايدي بس هي اللي نجسة، امك كمان طالهـ ..”
وقبل أن يكمل كلماته هجم عليه سعيد كالمجنون يصرخ به مطيحًا بكل شيء فوق رأس جاد :
” اخرس، أنت اللي زبالة وحقير، امي اشرف منك ومن اللي خلفوك يا زبالة ”
كان يصرخ وهو يمسك رأس والده يضربها في الجدار، يرى أمامه سواد فقط، والسواد يتحول للون الدماء شيئًا فشيء، ومن شدة غضبة لم ينتبه سعيد ليد جاد التي حملت إحدى المزهريات وهبط بها فوق رأسه يسقطه ارضًا صارخًا في وجهه :
” أنا زبالة يا حيوان، الزبالة ده هو اللي معيشكم عيشة متحلموش بيها ”
نظر له سعيد من بين الدماء التي بدأت تضلل رؤيته :
” مش عايزينها، العيشة دي مش عايزينها ولا عايزينك أنت كمان، أنا هاخد أمي واختي وامشي من هنا ”
مال جاد يجلس القرفصاء أمامه يردد بهسيس مرعب :
” ومين اللي هيسمح ليكم تعملوا كده ؟؟ ده أنا كنت خلصت عليك وعليهم قبلك عشان تشوف نهايتهم، فكر بس تخرج من تحت طوعي أنت أو حد منهم هقتلكم واحد واحد وهوريكم الويل ”
اشتدت عيون سعيد وقد على الشر ملامحه ودون تفكير ضرب قدم والده بغضب شديد وهو يصرخ في وجهه، يبحث عن شيء حوله يقتله به، يضربه دون وعي، وهو يشعر بالقهر يملء نفسه، يشعر بالدموع تندفع لعيونه وظلم والده لهم يظهر أمام عيونه …
نهض وركض بسرعة كبيرة على الدرج مصممًا على الذهاب للمطبخ يحضر سكين ويتخلص منه، سيقتله، انتهى كل شيء سيقتل جاد ويحرر روحه وروح والدته .
وبمجرد أن خرج من المطبخ يحمل السكين رأى جاد يقف له بالاعلى ينظر له كشيطان يعتلي عرش الفساد والقذارة، يحمل بين يديه تصريح التحرر منه :
” هي دي بقى اللي مخلياك تفكر أنك تقدر تمشي من هنا ؟؟ عربية اكل ؟! مفكر هتقدر تطير يا سعيد؟؟ هتعملها ازاي وأنا قصيت جناحاتك أول ما فقست من البيضة ؟!”
نظر له سعيد بأعين سوداء وجسد يرتجف بقوة مخيفة، يرى والده يمزق الورقة أمامه، يرى اشلائها تتطاير في المكان أمام عيونه، حلمه آماله ومستقبله ..كل ذلك تمزق بين أنامل جاد الذي أطلق ضحكات مرتفعة يتحرك خارج المنزل يمر به، وهو …هو ضعيف ينظر أمامه دون كلمة يشعر بنفسه تصرخ طلبًا للقصاص، ويده ترتجف …
سقطت السكين منه تزامنًا مع تساقط دموعه بقوة وتهدل أكتافه وسقوطه ارضًا، لكن لم يستشعر سعيد صلابة الأرض أسفل جسده، بل فقط شعر دفء احضان والدته التي رددت بحنان وصوت خافت تكتم بكاءها :
” حبيبي متزعلش، متزعلش يا سعيد، دي …دي ورقة وهساعدك تطلع غيرها ياقلبي، هدفعلك كل اللي تحتاجه وافتح العربية اللي تحبها، والعربية بكرة تكبر وتبقى مطعم وتبقى صاحب أكبر مطعم في البلد كلها، وهتسميه زهرة زي ما أنت حابب ”
سقطت دموع سعيد بقوة ينفجر في بكاء حار بين أحضان والدته، جاد احسن تربيته على الضعف، جاد أجاد بمهارة شديدة اطعامه الجبن، علم جاد أن قوة سعيد لن تكون يومًا في صالحه؛ لذلك منذ طفولته أراه الويل وعلمه ابجديات الخنوع، لكن لن يستمر هذا، اكتفى الضعف واكتفى ذلك الجانب الذي لا يجذب له سوى الألم، كي تتغلب على شيطان كجاد وتقف في وجهه، فعليك أن تصبح ابليس …
دفن سعيد نفسه بين احضان والدته معلنًا انتهاء حلمه وبداية كابوسه…
انتفض سعيد بقوة على يد تربت على كتفه، نظر جواره ليجد ميمو تبتسم له بحنان شديد :
” ماما زينب زمانها فرحانة اوي بيك يا سعيد، حققت حلمك وحلمها”
نظر لها سعيد يهز رأسه ينظر في جميع الأماكن عدا ميمو، لا يود أن ترى دموعه، لكنها بالتأكيد شعرت بغصته حين قالت :
“بس بعد ايه ؟؟ حققته بعد ما هي راحت وكمان سعيد ابنها راح، مبقاش منه غير أنقاض بحاول اعيد تعميرها”
سقطت دموعه أكثر لتبتسم له ميمو بسمة واسعة تربت على كتفه :
” هي فخورة أنك على الأقل بتحاول تعمير الأنقاض دي، سعيد أنت غلطت، وغلطك كبير، وكنت خلاص على وشك تضيع ده إن مكنتش ضعت، لكن …ربك غفور ورحيم يا سعيد، ربك رحيم وتواب، استغفره وحاول تكفر عن كل ذنوب، مش أنا اللي هقولك تعمل ايه يا شيخ سعيد ”
استغفر سعيد ربه وهو يمسح وجهه بقوة يحاول تمالك نفسه، وقد تذكر في تلك اللحظة صوت الشيخ شاهين يخبره بحنان وهو يدرسه القرآن :
” من رحمة ربنا يا سعيد إن الرحمة بيده، مش بيد عباده، ربنا هو الرحيم على عباده أكثر من رحمة عباده بنفسهم، ربنا ممكن يغفرلك اللي انت نفسك مش قادر تغفره لنفسك، ربنا بيسامحك وبيقولك ارجع، ارجع لأني عايزك معايا، بلاش تيأس ولا تسمع لحد، كل الناس خطائين وكلنا مذنبين متسمعش لمدعيين المثالية يا سعيد، هما نفسهم بيذنبوا وممكن ذنوبهم تكون أكبر من ذنوبك، الفرق بينك وبينهم أن ربنا لسه مكشفش سترهم، فاللهم استرنا جميعًا، عيش يا سعيد عيش وتوب واستغفر ومع كل فرصة تجيلك أنك تصلح حاجة افسدتها في الماضي ولو كانت الحاجة دي صغيرة كحبة خردل، صلحها ومتستهونش بيها، ربنا يريح قلبك ويهديك لنفسك وعيلتك ”
ابتسم سعيد يرى نظرات ميمو القلقة، امسك سعيد كف ميمو ولاول مرة يقبل يدها بامتنان وشكر، يشعر أن والدته تركت جزء من روحها قبل رحيلها داخل ميمو، كانت تشعر أنه سيضل وحده، تركت ميمو لأجله وكي تسانده .
” شكرًا يا مقدس ..”
نظرت له ميمو بصدمة مما فعل وشعرت بالريبة، وهو ابتسم لها يردد :
” وجودك في حياتي كان طوق نجاة ”
ابتسمت ميمو، ثم رفعت كفها تربت على رأسه كسيدة عجوز :
” روح يا بني ربنا يوفقك ويفتحلك ابواب الرزق ”
أطلق سعيد ضحكات مرتفعة، ولم يستفق إلا على صوت صلاح الذي تدخل يسحب جسده من أسفل قبضة زوجته، بعدما رأى أنهما انتهيا من لحظات البكاء والحنين :
” تبوس ايد مراتي وتناديها مقدس؟! أنت بتعدي كل خطوطك الحمرا وهتخليني اقلب عليك ”
نظر له سعيد ولم يكد يتحدث حتى أبصرها تعبر باب المطعم الخاص به، ابتسم يترك ميمو مع صلاح في نقاش جاد ..
وهو ركض صوبها يعدل من وضعية ثيابه، وبمجرد أن وصل لهم رحب بها وبوالدها ..
” اهلا وسهلا، نورتوا المكان كله …”
ابتسم له والد زهرة :
” منور بأهله يا بني، وعلى فكرة السجق بتاعك فظيع ”
نظر له سعيد للسنة متعجبة للهجته الودودة وحديثه الممازح، بينما زهرة رمقته بغيظ هامسة :
” يابابا فيه ايه أنت الشرير هنا ”
نظر لها والدها بحنق، يتركها متحركًا :
” ولا شرير ولا بطل أنا منسحب من الفيلم ده كله، وهروح اشوف الحلويات اللي هناك دي ”
ابتسم يقترب من المنصة التي كانت هاجر تجهزها بالحلوى لأجل الجميع، تاركًا خلفه زهرة ترمقه بضيق شديد تود الهرب من أعين سعيد الذي أشار لوالدها بعدم فهم :
” يعني ايه الكلام ده ؟؟ هو والدك قصده ايه ؟”
نظرت له زهرة ترفع ذقنها بهدوء تستعد للتحرك من أمامه كي تنضم لميمو :
” مش قصده شيء، عن اذنك ميمو بتناديني ”
وبالفعل تحركت من أمامه تاركة إياه يرمق أثرها بصدمة وعدم فهم، لكنه فجأة ابتسم ينظر لميمو التي كانت تنظر له بطرف عيونها .
مرت نصف ساعة وقد بدأ الجميع يستمتعون بالحلوى والطعام الذي يقدمه العمال الذين عينهم سعيد في المكان، وقد بدأت الأحاديث والضحكات تعلو المكان ليقاطع كل ذلك صوت سعيد الذي أراد جذب انتباههم :
” انتباه لو سمحتم، معلش لو بزعجكم بس كنت حابب أخد من وقتكم دقائق قليلة ”
نظر له الجميع ببسمة، وهو شرع يرحب بهم ببعض الكلمات ويعرب عن امتنانه الشديد لتشريفهم المكان الخاص به ..
” في الحقيقة المطعم ده يمكن عمره ايام على أرض الواقع، لكنه حلم عمره ١٦ سنة، تقريبا من اول ما شوفتها ”
حديثه ينظر لزهرة التي كانت تحاول تلاشي النظر لعيونه، وهو اكمل ببسمة :
” شوفتها كانت بتطلب سندوتش سجق ومستمتعة اوي وهي بتاكله فاخدت عهد على نفسي إن يوم ما افتح مطعم هيكون وجبته الرئيسية السجق، وده إجابة على سؤال البعض إن ليه الأكلة دي بالذات، وتمر السنين والحلم يتنسى بسبب ظروفي وأمور كتير أنتم في غنى عن سماعها، لكن يجي الوقت اللي ربنا يقدرني وافتح المطعم ده بفضله اولا وبمساعدة أقرب شخص ليا وأكثر شخص مستفز في حياتي ثانيا، ميمو العزيزة ”
ابتسمت ميمو تضم نفسها لصلاح تراقبه بفخر كأنها تراقب طفلها يحبو خطواته الأولى، غافلة عن أن ذلك الطفل يسبقها بسنوات وسنوات .
وسعيد اكمل :
” وكمان عيلتها اللي بقوا أكثر من عيلة ليا، على الأقل من طرفي، فعلا ساعدوني عشان المطعم يكون زي ما انتم شايفين كده وعشان اوصل لللحظة اللي انا واقف فيها دي داخل مطعم الزهرة، واللي سميته باسمها زي ما اخدت عهد على نفسي، وبمناسبة اليوم ده والمناسبة دي وفي الجمع اللطيف ده حبيت احقق حلمي التاني، بل حلمي الاول في الواقع، وحلمي الأغلى .”
تنفس بصوت عالي ينظر لزهرة التي كانت متسعة الأعين جوار والدها وقال هو ببسمة :
” زهرة تقبلي تكوني زوجتي على سنة الله ورسوله ….”
_________________________
أما عني، فلم أكن يومًا ذلك الشخص المتجبر الذي يعشق النهايات الحزينة والتي غالبًا ما تكون بموت أحد الأبطال او تفرقهم، فكنت دائمًا الشخص الحالم الذي يبحث عن النهاية السعيدة للجميع، يبحث عن نهاية عادلة مستحقة لهم بعد كل ما مروا به في القصة، فدائمًا ما اقول لنفسي ألا يستحقون على الأقل نهاية مفرحة سعيدة ؟؟؟
لذلك انتظروا نهاية قصتنا ..
يتبع…
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية ما بين الألف وكوز الذرة ) اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق