رواية ما بين الألف وكوز الذرة كاملة بقلم رحمة نبيل عبر مدونة كوكب الروايات
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الخامس و الثلاثون 35
صلوا على النبي
_________________
خرج من المشفى يدسّ هاتفه داخل جيب بنطاله بعدما اسمع ذلك المتحذلق من لسانه ما لن يتجرأ صلاح يومًا على قوله لأجل صورته أمام الجميع ككاتب محترم راقي ذو لسان عذب، ولحسن حظه وسوء خاصتهم هو ليس صلاح وليس عذب اللسان حتى ليتغاضى عما حدث ولن يصمت …
ركض خلف محمود الذي كان يسير أمام الشرطة خارج المشفى بملامح جامدة لا يهتم بشيء ولا ينطق بكلمة واحدة، وصالح خلفه يقول بصوت مرتفع :
” متقلقش يا محمود أنا هكلم رائد يجيلك، مش هسيبهم يضيعوا شبابك جوا السجن يا صاحبي ”
نظر له محمود بحنق شديد وصالح منحه بسمة واسعة وكأنه يشمت به، لكن محمود قرر أن يتجاهله كي لا ينفجر في وجهه وتصبح القضية اثنتين .
وصالح لم يتوقف عن الحديث وهو يركض خلفه :
” متقلقش يا صاحبي لو باظت خالص واتحكم عليك هربيلك بنت واجوزها لابني ”
ازداد جنون محمود يترك رجال الشرطة راكضًا صوب صالح يسحبه من ثيابه صارخًا في وجهه :
” تجوز فراولة لمين يالا ؟! والله اروح فيك في داهية أنت وابنك يا زبالة ”
ابتسم صالح ببرود شديد يزيد من استفزازه فقط؛ كي يخرجه من حالة الجمود التي تلبسته ونظراته السوداء التي كانت تعلو وجهه حينما سمع كلمات الشرطي :
” يا حبيبي متستعجلش كده كده رايح في داهية، بعدين فراولة في عيوني، ثم هي تطول تتجوز ابن بنت خالتها ؟؟”
صمت صالح ثواني يستوعب ما قاله يتساءل بجدية :
” هو الموضوع عادي ولا حرام ولا ايه ؟؟”
تركه محمود بغيظ :
” بنتي اكبر من ابنك بسنتين وشهور يا حبيبي، فانسى ايدي تتحط في ايدك في يوم من الأيام”
” وأنت تطول يا معفن؟؟ مش كفاية ابوها هيبقى رد سجون ”
نظر له محمود بشر وقبل أن يتحدث بكلمة وجد يد الشرطي تسحبه، وهو يغادر مشيرًا صوب رقبته بعلامة سكين في إشارة واضحة لصالح عما سيكون مصيره إن اقترب من الفراولة خاصته .
لكن صالح ابتسم باستفزاز يتحرك خلفه صوب سيارته يود اللحاق به حتى يرى ما سيحدث ويوكل له محامٍ إن أراد .
وبعد دقائق طويلة بعض الشيء وصلت سيارة صالح وهبط منها يلحق بمحمود، يحاول التواصل مع رائد، لكن فجأة اهتز الهاتف بين أصابعه معلنًا إتصال من صلاح، أجاب متحركًا للداخل يبحث بعيونه عن الطريق الذي سلكه محمود مع الشرطة .
” الو يا صلاح ”
” الو يا صلاح ؟؟ أنت يا بني ايه اللي عملته ده ؟؟”
توقف صالح ينظر حوله بعدم فهم :
” عملت ايه ؟؟ أنا مع محمود في القسم !!”
” قسم ؟؟ قسم ايه ؟؟”
تحرك بين الممرات يتساءل عن مكان محمود :
“أصل محمود جم اخدوه من المستشفى ومش فاهم فيه ايه ويحاول اوصل لرائد بس مش بيجمع ”
زفر صلاح بصوت مرتفع يحاول أن يهدأ:
” سيبك من ده كله وقولي ايه اللي كتبته ده على المقال بتاع الزفت الصحفي ؟!”
توقف صالح أمام باب أحد المكاتب يأمل أن يكون هو المرجو له، يقول وهو يتذكر فجأة ما فعل :
” كتبت ايه ؟؟ ده واحد عبيط حاطط صورتي أنا ومراتي ويقولك ماذا يخفي صلاح في جعبته ؟!”
قال صلاح بحنق شديد :
“تقوم تقوله لو جيتلك ووريتك هتزعل ؟؟ ده كلام ناس طبيعيين بيفهموا ؟!
ابتسم صالح بسمة صغيرة يضيف على حديث صلاح :
” عندك حق مش كلام ناس طبيعية، بس لو نسيت أنا مش بمشي على القوانين والمبادئ اللي بيمشي عليها البشر الطبيعين امثالك، ولو هو فاكر أن التعليق ده هينجده مني يبقى بيستهبل وربي لأكون مضيع مستقبله ”
زفر صلاح بصوت مرتفع وصالح لم يهتم، هو فقط أراد أن يقول ذلك وفعل، الأمر لا يستحق كل هذا، سمع صوت صراخ يأتي من داخل المكتب الذي يقف أمامه، ليقول مسرعًا يغلق حديثه مع صلاح :
” طب يا صلاح اقفل دلوقتي لغاية ما اشوف القدر محبي لمحمود ايه في جعبته، حلوة جعبته دي هضيفها لقاموسي ”
اغلق الهاتف دون أن يعبأ بشيء وهو يقترب من الباب يتحدث مع العسكري المتوقف أمامه يطالبه بالسماح له بالدخول، لكن الأخير طلب منه الانتظار قليلًا كي ينتهي الشرطي مما يشغله في ذلك الوقت.
وفي الداخل كان محمود يقف ببرود شديد يواجه غضب ذلك الرجل أمامه الذي يتهمه بالوحشية والسادية والعنف فقط لتجرأه على طفل صغير_ بغض النظر أن ذلك الطفل هو مراهق فاسد_ ومحمود لا يجيبه سوى بنظرات هادئة باردة ..
” ده أنا هخليك تقضي باقية عمرك في السجن ”
نظر له محمود دون كلمة واحدة، ثم تحرك مقتربًا من المكتب يردد في جدية:
” قولتلي بقى القمر الصغنن يقربلك ايه ؟!”
نظر له الشرطي بأعين مشتعلة ليكمل محمود حديثه :
” لأن حرقة دمك دي وزعيقك لما عروقك هتنفجر دي، اكيد مش عشان أنت شخص مناصر لحقوق الطفل، ما كل يوم اطفال بتتقتل ونص اطفال الشوارع بتتعذب، تعرف أنا بشرح كام جثة طفل كل اسبوع مُفرغ الاعضاء ؟؟ ومش بشوف يعني واحد من الناس اللي بيعملوا كده واقف هنا يسمع زعيقك ”
ارتفع حاجب الشرطي يتنفس بصوت مرتفع :
” أنت بتدخل حوارات أنا مليش علاقة بيها في الكلام ليه؟! أنت دلوقتي متهم قدامي بأنك اعتديت على طفل بالضرب ”
” ماشي لو هنسمي عجل التسمين اللي أمه احسنت تغذيته وفشلت في تربيته طفل، فأنا اولا كل اللي عملته إني هددته وشديته من لبسه وضربته على خفيف لو عايز الدقة وكاميرات المخبز تثبت، في المقابل بقى حضرتك تعرف الاستاذ ده عمل ايه ؟!”
صمت الشرطي ولم يجب بكلمة بل كانت اعينة مشتعلة بالتحدي والكره لذلك المتذاكي الذي يقف أمامه، ومحمود ليس بالغبي ليتجاهل كل الإشارات التي تدل على أن ذلك الشرطي هو أحد أقارب الصبي، فمن يهتم لشكوى أم تقدمت بها لأجل مدللها، والذي لم يُمس بخدش واحد في الحقيقة، ثم هذا الصراخ ليس من فراغ .
لذلك مال على المكتب يهمس بصوت منخفض بعض الشيء :
” تحب أفرغ الكاميرات وافرجك هو عمل ايه ؟! بس صدقني أنا لو عملت كده هتزعل أنت والست أم الولد والولد وعيلتكم كلها هتزعل مني ”
انتفض الشرطي بقوة يصرخ بصوت مرتفع :
” أنت اتجننت ؟؟ بتهددني يا زبالة ؟؟”
” تمام بما أنك بتقول إني زبالة، فأنا هكمل زبالة لآخر لحظة، لو سمحت أنا عايز اتقدم دلوقتي بمحضر تحرش في حق بنتي اللي مكملتش خمس سنين من الطفل المسكين اللي جاي تدافع عنه ”
اتسعت عين الشرطي وشحب وجه وقد ظهر عليه الصدمة مما قيل، يردد باستنكار :
” تحرش !! أنت بتقول ايه ؟!”
” ايه هي المدام مقالتش ليك الملاك البريء عمل ايه ؟؟ بس معلش أنا هوريك صوت وصورة ومش أنت بس ده أنا هفضحه ومش هسكت غير لما ينور الأحداث، طالما الادب والذوق مش بيجيب معاكم سكة ”
جلس الشرطي وهو ما يزال يعاني أثار صدمة قوية مما قيل، لم يتوقع في احلك خيالاته أن يكون ابن شقيقه قد تمادى لهذه الدرجة من القذارة .
فجأة انتبه الاثنان على صوت فتح الباب العنيف، والذي تسبب في اشتعال نظرات الشرطي والتي سرعان ما خفتت حين رأى القادم ..
نظر وائل صوب الشرطي يقول بملامح هادئة لا تنذر بالخير :
” خير يا عصام باشا، ابن عمي مشرفك ليه ؟؟؟”
نظر عصام لمحمود الذي كان يضم ذراعيه لصدره غير مهتمًا بأحد، ومن ثم عاد بنظره لوائل يتساءل بخفوت وتوتر :
” ابن عمك ؟؟”
” أيوة ابن عمي، ايه اللي بيعمله ابن عمي هنا يا باشا ؟؟”
ابتسم محمود بسمة جانبية ساخرة يرى الرعب قد بدأ يخط ملامح عصام، هؤلاء الأشخاص لا يعترفون بسلطة سوى سلطتهم …
ابتلع عصام ريقه يحاول ايجاد كلماته وقد شعر أن زوجة شقيقه ستتسبب في نهاية عاجلة له، فمعنى أن ذلك الشاب ابن عم وائل، فهذا يعني أن عمه هو رأفت .
” يا باشا الموضوع مجرد سوء تفاهم مش اكتر و…”
قاطعه محمود بصوت حاد وملامح مخيفة وقد أدرك أنك إن تماديت بكرمك مع بعض الأشخاص الوحين سيظنون أن كرمك هذا حق وواجب عليك؛ لذلك هو اكتفى من الأمر :
” لا مش سوء تفاهم، أنا عايز دلوقتي اقدم بلاغ ضد المراهق الزبالة اللي حاول يتحرش ببنتي، ومش هقول بأي تعويضات أو مساومات …..”
__________________
حدقت في وجهه المنكمش حزنًا ورعبًا، لا تعلم ما تقوله في تلك اللحظة أو ما يدور في خلدها من مشاعر تجاه ذلك الرجل، سعيد كان كاللغز الذي لم تستطع يومًا حله، حنون وقاسٍ، جامد ولين، هو الشيء وعكسه ..
تحدث سعيد حينما طال صمتها ولم تجب سؤاله :
” ايه اللي حصل يا زهرة ؟! أنتِ …أنتِ سيبتي عيادتك؟! رايحة فين ؟؟ هتسبيني يا زهرة ؟!”
نظرت له ولم تحسن اختيار رد على حديثه، بل فقط قالت ببساطة شديدة :
” ايه اللي جابك يا سعيد مش كنا خلاص خلصنا ؟!”
صرخ سعيد بوجع من تلك الكلمة التي أصابت قلبه بدقة متسببة في ارتعاده وانتفاضه :
” لا يا زهرة مخلصناش، أنتِ بس اللي قولتي خلصنا، أنا مقولتش ”
اشتعلت عيون زهرة بقوة تعض شفتيها مانعة دموعها، وفي داخلها نبرة قهر وحسرة تحولت وترجمها لسانها لسخرية لا تدري من نفسها أم منه :
” لا قولت يا سعيد، ولا ناسي ؟! أنت اللي قولت الاول أنا بس بكرر كلامك مش اكتر ”
” مكنتش في وعيي يا زهرة، والله وقتها كنت مش شايف قدامي، كنت …كنت مريض، ليس على المريض حرج يا زهرة، اسمعيني، انزلي بس هكلمك شوية ارجوكِ، اسمعيني يا زهرة الله يكرمك ”
كان يتحدث بلهفة شديدة ويده ترتجف بقوة، هل ستضيع حياته ومستقبله الذي رسمه معها، ألم يكتب له الله سعادة في حياته البائسة تلك ؟؟ ألن يبتسم لمرة واحدة من قلبه ؟؟ لقد تعب الحزن وتجرع الوجع كؤوسًا حتى فاض قلبه به .
ابتلع ريقه يقترب من النافذة يحاول أن يهدأ ويُحكّم عقله، هو لم يعش ست سنوات يقوّم نفسها ويؤدبها، ليأتي ويفقد حلمه أمام الشخص الأول والوحيد الذي فعل كل هذا لأجلها بعد نفسه .
” زهرة أنا…بلاش ارجوكِ…بلاش تضيعي ١٦ سنة من عمرنا، بلاش تضيعي اكتر من كده يا زهرة، أنا تعبت وأنا بجري ورا سعادتي، هو أنا مش مكتوب ليا افرح؟؟”
أنهى حديثه يمنع غصته وقد شعر بالوجع يملئه ونفسه تمتلئ حسرة عليه، وكأن روحه استوعبت فقط في تلك اللحظة مقدار القهر الذي مر به، هو لم يختر شيء في حياته، لم يفعل شيء بإرادته يومًا، حتى الشيء الوحيد الذي تمناه من كل قلبه ونام يحلم بتحقيقه فشل به، فشل في تعذيب جاد وقتلت بيده، لم ينل شرف إزالة قذارته عن العالم، جاد كان يعلم جيدًا ما يفعل، منع عنه أي فرصة ليصبح ذو نفوذ كي لا ينقلب عليه ولا يمتلك قوة الأموال لاذيته، وهو لم ييأس فقد حاول أن يسير في طرق وعرة فقط ليصل إلى السبيل الذي سيمكنه من التخلص منه، وحينما كاد يفعل وصله خبر وفاة والده .
اغلق سعيد عيونه بقوة وشيطانه يعود بقوة، تلك الليلة التي أخذ يضحك ويصرخ، يبكي ويحتفل، يحطم ويرقص، تخلص من جاد، تخلص منه، لكن لحظة هو لم يفعل …هو لم يستطع أن ينظر في عيونه للمرة الاخيرة ويخبره بكل الحقد والكره في قلبه أن هذا لأجل والدته ولأجل الضعف الذي اشبعه إياه في طفولته ومراهقته، لم يتمكن من رؤية ملامح الخوف أو ربما الندم على وجه جاد، لم ينل لذة تلك اللحظة، طبيبه أخبره أنه لو انتقم يومًا من جاد ما كان وصل لهذه النقطة من حياته، لو نالت الضحية داخله القصاص العادل ما عاشت ذلك الجحيم، لكن الطبيب لم يكن يعلم أن الانتقام الوحيد الذي كان يفكر فيه سعيد ويعمل لأجله هو اسوء ميتة قد ينالها بشري على هذا الكوكب ..
ابتسم سعيد بسمة صغيرة موجوعة يحاول التنفس والاستغفار، هو تعالج أخرج كل تلك الشرور من داخله، والآن في هذه اللحظة لا يملك لجاد سوى شفقة مما سيلاقى في آخرته، وامتنان أن اطال الله بعمره كي يتوب ولا يلحق جاد بخطاياه، يرضى ويقتنع بقدر الله، هو يتقبل كل ذلك، يرضى بكل هذا، لكن هو اكتفى ولن يتحمل فقدانها….
ابتلع ريقه يقول بصوت خافت شارد وكأنه يتحدث مع نفسه :
” مكنتش في وعيي، وقتها كنت متعصب ولسه متعالجتش و…”
كانت زهرة في الاعلى تنظر له بجمود ظاهري، بينما داخلها تنتحب على كلماته ونظراته وملامحه، تتسائل إن كانت بالفعل قد عالج نفسه أم لا، لكن تلك النظرة الأخيرة والهدوء الذي ملء نفسه جعلها تتنفس الصعداء تقول :
” سعيد أنت مش واعي باللي قولته وقتها ؟؟ أنت قولتلي أنك بتكرهني ومش عايز تشوفني ”
” والله كنت غضبان، وساخط على حياتي، وأنا لما بتعصب والله ما بحس بنفسي، وأنتِ اكتر شخص عارف كده ”
كان يتحدث وهو ينظر لها علّه يجد منها استجابة، وهي كاد قلبها يترك جسدها ويحلق صوبه يربت عليه بحب وحنان مخبرًا إياه أنه يحبه رغم كل شيء، لكن عقلها منعه من الأمر، ليس قبل أن ينال جزاءه ويتعلم أن يبعد علاقتهم عن أي غضب أو سخط، ليش قبل أن تطمئن أن حياتها معه لن تكون على الحافة تنتظر نسمة هواء لتتهاوى للاعماق السحيقة، تريد حياة سعيدة هادئة مستقرة .
” ولو حصل واتجوزنا يا سعيد واتعصبت أو غضبت، وقتها ممكن بكل سهولة تتخلى عني او تطلقني كمان، طالما غضبك بيتحكم فيك فالحياة معاك هتبقى عاملة زي اللي ماشي على قشر بيض خايف يتكسر، هكون عايشة معاك وأنا مرعوبة من لحظات غضبك اللي ممكن فيها تتخلى عني بكل سهولة يا سعيد ”
” لا لا أنا … أنا اتعالجت يا زهرة والله اتعالجت هناك أنا قعدت تلات سنين في مصحة بتعالج و…وتوبت والله العظيم توبت لربنا يا زهرة، هو أنا…”
صمت يبتلع غصته وأكمل :
” هو أنا مش هيتقبل ليا توبة ؟؟”
نظرت له زهرة تحاول أن تتمالك نفسها، ليجيب سعيد على سؤاله :
” حشاه ربي يرد شخص وقف على بابه يتوسل رحمته، وانا اتوسلت رحمته ليالي، زهرة أنا كان عندي سنوات مش بعمل فيها غير اني احاسب نفسي واستغفر، أنا اتغيرت يا زهرة لو ما اخدتيش بالك، وعشان نفسي المرة دي مش عشان حد، عشان مش مستعد اموت واقف قدام ربنا وانا مملكش عمل خير واحد في كتابي، وكمان عشانك وعشان ….”
صمت يشعر بدموعه تغلبه وقلبه يرتجف حزنًا من ذكرى غبية كانت تراوده داخل جدران السجن تبث له أمل وهمي يساعده على قضاء لياليه :
” وعشان اولادنا، خوفت في يوم اشوف في عيونهم نفس نظرة نيرمينا ونظرتك، خوفت يتكسفوا مني، بس …والله العظيم أنا غيرت من نفسي يا زهرة ”
صمت ثم نظر للأرض أسفله كي يمسح دموعها، ومن ثم رفع رأسه يتنفس بصوت مرتفع :
” عملت كل ده عشان لما أخرج وأطالب بيكِ حق ليا أكون فعلا مستحق للحق ده، ومكونش مكسوف اقولها وبأعلى صوت أنك حقي، وأنا مش هتخلى عن حقي فيكِ، مش بعد ١٦ سنة عذاب ونار اسيبك يا زهرة ..”
أنهى حديثه يأخذ نفسًا عاليًا كي يزيد من هدوئه :
” أنا همشي دلوقتي، ومش هاجي تاني ولا تشوفيني غير لما اخبط باب بيتك وادخل اطلبك على سنة الله ورسوله، ووقتها أنتِ هتوافقي يا زهرة ”
ابتسمت زهرة بسمة ساخرة تخفي خلفها سعادة ولهفة كبيرة :
” واثق اوي من نفسك، بابا مش هيقبل يا سعيد انسى”
هز رأسه يتحرك للخلف بظهره :
” لا واثق في ربنا وأنه هيعوضني، هيعوضني عن كل اللي فات، وأنا طلبتك في كل صلاة عوض يا زهرة …”
ختم كلماته يتحرك من أمامها بسرعة كبيرة يتنفس بصوت مرتفع وصل لها، يجاهد نفسه كي لا يعود ويترجاها أن تذهب معه الآن وتصبح زوجته، بينما زهرة ابتسمت بسمة واسعة تراقب زهرة، ثم أغمضت عيونها تردد بصوت منخفض :
” هيعوضك يا سعيد …هيعوضك، بس لما أخد حق سنوات العذاب اللي عيشتها ليا، وحق الـ ١٦ سنة اللي عيشتهم بجري وراك عشان تتعالج ويتصلح حالك ..”
________________________
نظرت جوارها صوب صلاح الذي كان يمشط خصلات صغيره بحنان متسائلًا :
” مالك يا ميمو ؟؟”
نظرت له ميمو ثواني قبل أن تقول بريبة :
” صوت سعيد لما قفلت معاه كان مش طبيعي، خايفة يعمل في نفسه حاجة”
ابتسم صلاح يقبل رأس صغيره ضامًا إياها لصدره بحنان شديد، ثم رفع عيونه لميمو القلقة :
” تحبي نروح ليه شقته تطمني عليه ؟!”
نظرت له ميمو بشك، فمنذ متى كان صلاح بمثل هذا التفهم، حسنًا صلاح بالفعل متفهم في جميع الأمور، إن لم تكن متعلقة بسعيد، فهو على أية حال يشبه زوج والدته بالمعنى الحرفي .
” من امتى ده ؟!”
” هو ايه اللي من امتى ؟؟ أنا مش حابك تفضلي قلقانة كده، فلو هتستريحي لما تشوفيه نروح ”
هزت رأسها ببطء تقول :
” أنا… أنا بس استغربت أنك يعني عادي كده تاخدني لسعيد عشان اشوف ماله ”
ابتسم صلاح يربت أعلى شعرها بلطف شديد :
” لأجل الورد يسقى العليق يا ميمو، وبعدين سعيد بقى كويس وأنا عداوتي كانت مع الفاسد اللي هو كان عليه، مش معاه كشخص في العموم ”
ابتسمت تميل عليه متسائلة :
” يعني أنت مش بتغير عليا من سعيد ؟!”
” لا مش بغير، هو ابن جوزك و محرم ليكِ، ده علميًا، إنما عمليًا أنا بغير منه ومن اهتمامك بيه وكلامك عليه، وكلامك معاه، ومن حتى خناقك معاه ”
ابتسمت تحرك حاجبيها :
” ومش بتغير ؟؟”
” أبدًا، أنا متفهم كبير للوضع ”
أطلقت ميمو ضحكات عالية رنّ صداها في المكان بأكمله، وهو يراقبها ببسمة، بينما أنس ينظر لها ببسمة ويضحك معاها بصوت ينافس اصوات ضحكاتها، وصلاح يراقبهما بحب كبير وحنان قطعه صوت رنين هاتف مرتفع أخرج الجميع من تلك اللحظات الأسرية الدافئة …
” الو ..”
صمت يستمع للجانب الآخر :
” أيوة أنا اتفضل ؟؟”
نظر لميمو التي كانت ترمقه بفضول شديد، وهو فقط أجاب محدثه بهدوء :
” عن رواياتي وكتبي ؟؟ مفيش مشاكل، هشوف الدنيا وأبلغ حضرتك، سلام ”
ختم الحديث يغلق المكالمة وميمو اقتربت منه بفضول متسائلة :
” مين ده ؟؟”
” قناة حابة تعمل معايا لقاء عن أعمالي الكتابية ”
رفعت حاجبها تشعر بالريبة :
” أعمالك الكتابية ؟! ”
هز رأسه لتقترب منه أكثر تهمس بصوت مرتفع :
” يمكن يكون عايز يعمل معاك لقاء عشان الحوارات بتاعة عيلتنا، وآخرهم خيانتك ليا يا صلاح”
صمتت ثم أضافت :
” هنت عليك يا ابو أنس، بعد العشرة دي كلها ؟؟ تخوني مع واحدة تانية وفي وضح النهار وانت لابس لبس صالح وعامل شعرك زيه وماشي نفس مشيته مع مراته؟؟”
مال صلاح صوبها وبين رأسيهما يقبع رأس الصغير الذي كان ينظر لكلٍ منهما بأعين متعسة يحاول معرفة ما يحدث، وصلاح يهمس لميمو بصوت منخفض :
” يعني لو خنتك بليل عادي ؟!”
” اعتقد اه، على الأقل خيانتك بليل معناها أنك خايف ومكسوف على دمك، إنما في عز النهار يعني ايه ؟! محدش هامك ولا ايه ؟! ”
مال صلاح أكثر وهي تبتسم له، بينما أنس رفع كفيه يحاول بهما ابعاد رؤوس والديه بحنق وغيظ منهما، وصلاح أبعد كفه يهمس بصوت منخفض :
” أبعد كده يا أنس عشان والدتك بدأ يطلع ليها اضافر”
أطلقت ميمو ضحكات مرتفعة لا تتخيل أن البعض ما يزال يطهل حقيقة وجود توأم لزوجها، لدرجة أن التقطوا صور لتوأمه وزوجته أمام بنايتهم ونشروها تحت عنوان الخيانة والفسوق، حقًا لا تود تخيل رظة فعل صالح .
ابتسمت ميمو بسمة واسعة لنظرات لها، ثم قالت بصوت منخفض :
” تشرب حاجة يا صلاح ؟!”
أجابها بكل جدية يراقب ملامحها الخبيثة :
” أي حاجة ماعدا النسكافيه ”
أطلقت ميمو ضحكات صاخبة تجذب رأس صلاح لها تقبل جبهته بحب، ثم مالت تقبل رأس أنس الذي ابتسم لهما مجددًا .
رفعت رأسها تقول بحب :
” أنا مبقتش اعمل مشاريب سخنة من يوم ما عرفتك يا ابو صلاح ”
ابتسم لها صلاح يضمها له وبين أحضانه أنس الذي كان يحاول دفعها بعيدًا عن أحضان والده، ناقم من مشاركتها لمسكنه المؤقت، وهي تعانده كطفلة صعبة المراس، تلقي بنفسها أكثر بين أحضان صلاح :
” قول لابنك ملوش دعوة بيا يا صلاح ”
ضحك صلاح بصوت مرتفع يجذبها لأحضانه مبعدًا أنس للجانب الآخر، فأصبح هو جالسًا في المنتصف يضم أنس بذراع والآخر يضم ميمو بحب، يتنهد بصوت مرتفع :
” تفتكري اروح بكرة اللقاء يا ميمو ؟!”
نظرت له ميمو تقول بتفكير :
” مش عارفة افرض قلوا باصلهم ؟!”
” أنا عمري يا ميمو ما اروح لحد وأنا مش عامل حساب أي قلة أصل، عمري ما أواجه حد وأنا أعزل، لازم يكون معايا سلاح، وسلاح الصحفي كلمته ياقلبي ”
” زي ما عملت مع جودت كده ؟!”
ابتسم صلاح يغمز لها بخبث :
” الله ينور عليكِ، زي ما عملت مع جودت كده، بعدين أنا عايزهم يقلوا باصلهم بكرة، ده غرضي اساسا ”
ابتسمت له ميمو بمكر شديد تفهم غرضه وتفهم مقصده، ليقبل هو وجنتها يقول :
” مش هتروحي لسعيد ؟!”
انتفضت من مكانها تبحث عن الحجاب تقول بلهفة :
” لا تعالى نروح سوا نشوفه، تلاقي زهرة نكدت عليه ”
” وأنتِ رايحة عشان تراضيه ؟؟”
ابتسمت ميمو ببراءة شديد تتحرك صوب صلاح كي يقوم بوضع الحجاب لها بشكل صحيح ويساعدها في اراتدائه وهو فعل ذلك بأنامل متقنة، يسمعها تقول بهدوء شديد :
” لا هكمل عليه …”
______________________
كانت تجلس في المنزل تدور حول نفسها تشعر بالنيران داخلها وقد حمدت الله أن انشغلت طفلتها في اللعب مع أبناء رانيا ..
تنفست بصوت مرتفع قبل أن تعيد على مسامع رانيا نفس الجملة التي تستمر في الحديث بها منذ وطأت للمنزل :
” لو حصل حاجة لمحمود والله لأكون مودياها هي وابنها في ستين داهية، أنا استاهل الجذم اني مضيعتش مستقبله عشان دموع أمه وهي بتتحايل عليا، العقربة ”
زفرت رانيا تربت على الأريكة جوارها :
” معلش يا خالتو تعالي اقعدي واهدي، صالح قال الموضوع خلص ومحمود اساسا هو اللي هيقدم محضر فيهم ”
جلست هاجر بطاعة تحاول أن تهدأ :
” متأكدة ؟! يعني محمود هيرجع لينا ؟! ”
” هو ايه اللي هيرجع ليكم دي يا هاجر؟؟ هو متاخد جناية ؟! ده يا دوبك ضرب عيل ”
انتفضت هاجر ترفع إصبعها في الهواء تحذرها أن تتطاول بالحديث عن زوجها الحبيب الرقيق :
” لا مسمحلكيش، هو محمود ايه معندوش قلب عشان يضرب عيل حيوان عنده ١٣ سنة ؟؟ هو بس عطاه كام قلم وشده من لبسه كرمشه ”
” اصيل جوز خالتي ”
هزت هاجر رأسها توافقها الحديث، وفجأة انتفضت رانيا بقوة تركض خلف هاجر صوب باب المنزل حينما تناهى لهما صوت صالح وهو يقول:
” ما تتنيل ادخل، ايه عامل نفسك متعصب ؟!”
أبعد محمود يد صالح عنه بغضب :
” أنا مش عامل نفسي متعصب يا صالح، أنا فعلا متعصب وأقسم بالله ما ههدى غير لما اضيعلهم الحيلة اللي مبسوطين بيه ده ”
انقضت هاجر عليه في تلك اللحظة تمسك ذراعيه وهي تدور حوله كهرة تشتم صغارها كي تتعرف عليهم :
” حد عملك حاجة يا محمود ؟!”
تحرك صالح للداخل يجذب رأس رانيا له بحب أسفل ذراعه وكأنه على وشك خنقها :
” قولي هو عمل فيهم ايه، جوزك لم علينا القسم ولولا ابن عمه وعمه اللي مش بحبه جم كان كسر المكان فوق راس الظابط هناك ”
” طب هتعمل ايه يا محمود ؟!”
نظر محمود لهاجر بحنان شديد يربت أعلى رأسها، ثم قال بصوت خافت ليس وكأنه هو نفسه الذي كان يصرخ منذ ساعات في المركز، لكن عند حدود بسكوتته الهشة تتداعى جميع اسوار غضبه وتتهدم قلاع عصبيته :
” متشغليش بالك يا جوجو، روحي بس نادي لفراولة عشان نمشي ”
نظرت له بتردد، بينما رانيا تدخلت :
” ليه يا محمود أنا جهزت الاكل لينا، اصبر كل معانا أنا وصالح والعيال ”
هز صالح رأسه يرفض ذلك الاقتراح، لتضربه رانيا محذرة وهو قال بحنق :
” ايه، أنا قولتلك اعملي ليا أنا ورق العنب، هتقعديه عشان يخلصه وأنا مطولش حاجة ؟!”
نظر له محمود ببسمة واسعة قبل أن يقول :
” والله يا رانيا لو أنتِ مصرة فأنا مقدرش ارفضلك طلب، حطي يا ستي ورق العنب خلينا ناكل”
رمقه صالح بشر ومحمود بادله النظرات باستفزاز، لينقض فجأة الاثنان على بعضهما البعض كالاطفال، صالح يدافع عن ورق العنب المفضل لديه، ومحمود يحاول اخراج طاقة الشر داخله في وجهه .
نظرت لهما رانيا ثم قالت لهاجر بلا اهتمام :
” تعالي يا هاجر جهزي معايا السفرة ”
وبالفعل تحرك الاثنان صوب المطبخ ينتهيان من تجهيز الطعام، بينما صالح وحينما تعب من تلك اللعبة، ابعد عنه محمود بغيظ شديد يعدل من وضعية ثيابه التي افسدها محمود أكثر مما كانت عليه يردد حانقًا :
” كرمشت التيشيرت، رانيا هتزعل وتقولي مش بحافظ على هدومي ”
ختم حديثه يحاول تصفيف خصلات شعره بأصابعه ساخرًا :
” اتغيرت يا صاحبي، مكنتش كده قبل الجواز، الظاهر كتر الكيك والبسكويت غيرك ”
ابتسم له محمود بسمة واسعة مسترخية يريح جسده على الأريكة بكل أريحية :
” اه والله يا صالح، الواحد مبقاش عارف ازاي كان عايش حياته من غير كيك وبسكويت ”
نظر لصالح لتتبدل بسمته المسترخية لملامح مشمئزة :
” ازاي كنت عايش على الفسيخ والملوحة ؟؟”
ضرب صالح قدمه مسقطًا إياها ارضًا :
” والله وبقى ليك صوت يا ابن ماجد وبقيت تاكل كرواسون وتشيز كيك، الله يرحم ايام صباع الفينو والبقسماط المملح ”
أطلق محمود ضحكات عالية يرى صالح يجاوره على الأريكة :
” بس والله كانت احلى ايام يا صالح، رغم كل البهدلة اللي شوفتها كانت اجمل أيام لأني قضيتها معاك يا صاحبي ”
اتسعت بسمة صالح وهو يجذب محمود لاحضانه بحنان كبير، يربت على ظهره تربيتات كانت أشبه بوعود قطعها صالح على نفسه منذ سنوات، بأنه لن ولم يدع أحدهم يمس رفيقه وصديق العمر .
في تلك اللحظة خرجت هاجر مع رانيا والأخيرة تقول :
” مش قولتلك خمس دقايق ويبطلوا خناق ؟؟ اهو بقوا زي السمنة على العسل ”
ابتسم هاجر تتحرك صوب محمود الذي ابتعد عن صالح يستقبلها بحب شديد يحمل من بين أناملها الصحون متحركًا صوب السفرة وهو يقول :
” متتعبيش نفسك يا نواعم، أنا هساعدك ”
بينما رانيا تقف مكانها وهي تنظر لأثر محمود وهاجر بملامح حانقة، ثم حدقت بصالح الذي كان يجلس بهدوء على الأريكة وكأن شيئًا لم يحدث، وتلك المسكينة تنتظر منه بادرة لطف كما فعل محمود مع هاجر .
وعندما يأست فكرت أن تدفعه هي بقوة صوب تلك البادرة تتنحنح بصوت مسموع، جعل صالح ينظر لها بعدم فهم متسائلًا، وهي ابتسمت له بلطف تساعده أكثر مشيرة صوب اطباق الطعام بين يديها وكأنها تخبره ( بالله عليك تحلى ببعض الرقي وأحمل عني تلك الأطباق )
وصالح فجأة فتح فمه مستوعبًا، لينهض بسرعة يلتقط اصبع محشي من بين الاطباق التي تحملها :
” معلش يا رانيا ما اخدتش بالي .”
اكل الطعام ظنًا منه أن رانيا تقف لتأخذ رأيه في الطعام وقال :
” تسلم ايدك يا رانيا المحشي زي العسل، بعدين هو أنتِ يعني محتاجة رأي مني اساسا ؟؟”
ضغطت رانيا على أسنانها بحنق دافعة إياه بكتفها في قوة كبيرة :
” لا وأنت الصادق محتاجة شوية نظر ”
نظر صالح لاثرها بعدم فهم وسار خلفها ينضم للجميع على السفرة، وقبل أن يجلس بدأ يساعد الصغار في الجلوس على مقاعدهم، عدا بلال الصغير الذي أحضره ليجلس جواره هو حتى يهتم بطعامه، وبشكل عفوي أخذ يضع بعض الطعام أمام رانيا يقول ببسمة :
” كلي اكيد ما اكلتيش من الصبح ”
نظرت له رانيا تبتسم بسمة واسعة وكأنه لم يثر حنقها يومًا، تفرح وكأنه لم يزعجها لحظة، ذلك الرجل المعقد أمامها يستطيع أن يكون لوح ثلج لا يشعر ولا يفقه للحب مبدأ، ويمكنه أن يصبح شاعرًا رائدًا في مضمار الحب وطرقه، الأمر فقط يعتمد على طبيعته، وعفويته …
ابتسم لها صالح يراها تطيل النظر في وجهه ليشير بأعينه متسائلًا، وهي فقط هزت برأسها تخبره أن لا شيء :
” كل يا صالح أنت بتحب الاكل ده، عملته عشانك مخصوص ”
ابتسم صالح يرمقها بحنان شديد وعشق :
” تسلم ايدك يا رانيا تعبتك معايا ”
اتسعت بسمتها وشعرت أن لحظات التعب التي مرت بها بين ألسنة اللهب والحرارة العالية داخل مطبخها تبخرت بالكامل بعد كلماته وبسماته .
” تعبك راحة، أنا ليا كام صالح أتعب عشانه ”
وود صالح لو أنه كان من الوقاحة ليطرد محمود والجميع شر طردة، وحتى أولاده يخرجهم معه ويضم له رانيا بقوة يخبرها كم يحبها، وكم تؤثر به كلماتها الرقيقة المراعية…
لكن مهما كان وقحًا، فوقاحته تتوقف عند حدود عائلته، بمن فيهم محمود وأسرته…..
__________________
” يعني أنت زعلان دلوقتي عشان كنت محترم ومدخلتش خطفتها واتجوزتها غصب عن عين ابوها ؟؟”
نظر لها سعيد بأعين حانقة يتحرك في المنزل يحمل اشياء لا يريدها ومن ثم يضعها على الطاولات، لا يعلم ما يفعل، هو بالفعل مشتت، يحتاج لشيء يطمئنه، يحتاج لمن يخبره أن النهاية ستكون معها، والحكاية ستنتهي بين أحضانها…
اقترب من ميمو التي كانت مستقرة جوار صلاح على أريكة في منتصف منزله وأمامهم على الأرض يقبع الصغير يتناول حلوى أحضرها له سعيد :
” ميمو قوليلي الحقيقة، تفتكري أنها ممكن تسيبني وتمشي بعد ده كله، يعني شايفة إن فيه امل في الموضوع ؟! يعني ممكن ترضى بعدين تتجوزني؟؟”
ابتسمت ميمو بسمة واسعة وهي تنظر لوجه سعيد المترقب لاجابتها، اخذت نفس طويل وهي تستعد لإلقاء السموم في وجهه وتوضح للمرة المليون له شماتتها، وتصفعه صفعة عنيفة تخرجه من وهمه، لكن سعيد سرعان ما اعتدل يشير له بعدم الحديث :
” خلاص متقوليش حاجة أنا عارف ردك، ومش عايز اسمعه ”
حدق بصلاح الذي كان بالفعل لا يهتم بكل ذلك، يراقب صغيره بأعين حريصة، قبل أن ينتفض من سؤال سعيد الذي لأول مرة يلجأ له :
” صلاح أنت عاقل وهعتمد عليك بعيدًا عن مراتك دي، شايف أن فيه أمل ؟؟”
ابتسم صلاح بسمة صغيرة يخفي تعجبه من لجوء سعيد له وصمت ثواني، ثم قال بعد تفكير :
” لو هتكلم بالنظر لكل جوانب الموضوع، ولو هي حكمت عقلها …فلا مفيش ذرة أمل واحدة، وكل المؤشرات بتقول انك هتعيش عمرك كله وحيد ملكش حد يعبرك غير البركة اللي قاعدة جنبي ”
ابتسمت ميمو تشير على نفسها وكأنها تؤكد له حديث زوجها، ثم ربتت على كتف صلاح بحب شديد وكأنها تشكره على نصرها أمام سعيد وموافقتها الرأي وصلاح أطلق ضحكات عالية على حركاتها يهمس لها :
” مرات أبوه كما يقول الكتاب بجد ”
زفر سعيد يحرك خصلات شعره بغيظ شديد، ثم ألقى جسده على المقعد وعيونه تشرد في الفضاء أمامه لا يرى شيء حوله، ولم ينتبه على شيء على صوت صلاح الذي أكمل حينما رأى ملامحه التي تعود لغريق يبحث عن قشة تخرج من بحار الظلام تلك :
” ده لو هي حكمت عقلها …السؤال هنا هل هي كده ؟!”
نظر له سعيد بلهفة يتساءل عن معنى كلماته تلك، ليبتسم صلاح يقول بجدية كبيرة :
” يعني لو هي حكمت عقلها وفكرت في كل اللي انت عملته الفترة اللي فاتت، فمش هترجع، لكن يا سعيد من امتى كانت الست اللي بتحب بتحكم عقلها ؟!”
ابتسم سعيد بسمة واسعة جعلت ميمو تتشنج بغيظ شديد تزجر صلاح حانقة أنه يتحدث بهذا الشكل مع سعيد، هي لا تريده أن يطمئن هكذا، لا تريده أن يظن ما فعله أمر طبيعي كي لا يقرره.
والآن تحدق في صلاح بغيظ شديد وكأنها تلوم أحدهم على تدخله في تربية صغيرها .
نهض سعيد من مكانه يقترب من مقعد صلاح يجلس جواره بلهفة :
” طب بما أنك ذكي اوي كده يا صلاح وراجل زيي زيك وحاسس بيا، قولي ارجعها ازاي، لأحسن مراتك دي هتوديني في داهية ”
ارتفع حاجب ميمو بسخرية من كلماته، وصلاح نظر لالتصاق سعيد به، ومن ثم التوى ثغره بحنق :
” على فكرة أنا لسه مش طايقك عادي اللي بعمله ده شفقة، فاهم يا سعيد ؟!”
ابتسم سعيد يهز رأسه بقوة :
” ماشي يا غالي، إن كان ليك حاجة عند الكلب، هعصر على نفسي لمونة وامرر كلامك ”
” أنا كلب ؟؟ ”
نفى سعيد سريعًا يرى ملامح صلاح المنكمشة بغضب وشيك، ليندفع سريعًا قائلًا :
” لا دي ميمو اللي كلب وستين كلب، دلوقتي بقى قولي المفروض اعمل ايه مع زهرة عشان ترضى إني اتقدم ليها واتجوزها ”
نظرت له ميمو بتحذير وقد تولد داخلها حقد وشر لذلك السعيد النذل الذي باعها لصالح زوجها :
” متقولوش يا صلاح ..”
جذب سعيد رأس صلاح له، يود أن ينتبه له ويولي له كامل تركيزه واهتمامه وتفكيره، يستغله ويعلم أنه سيساعده، أوليس هو نفسه الذي كان ينغص عليه حياته بسبب تفكيره وعقله وكلماته ؟! إذن يستطيع أن يعكس تأثيرع ويصلح حياته .
” لا يا صلاح قول، وأنا مستعد اقعد معاك تعمل لقاء معايا بعد خروجي من السجن وافتن ليك عن كل المجرمين اللي جوا واللي عملوه ”
أطلق صلاح ضحكة عالية، وميمو تكتم ضحكتها فلهفة سعيد للحصول على زهرة بعد كل تلك السنوات من الجفاف حولته لطفل يشتاق لقطرة حليب بعد الفطام ..
نظر له صلاح بخبث، يميل عليه هامسًا :
” كل حاجة ؟؟”
هز رأسه لا يهتم بما سيطلب، لتتسع بسمة صلاح يقترب منه أكثر هامسًا ببعض الكلمات، بينما ميمو تضم ذراعيها لصدرها لا ترضى عن كل ذلك ولا يعجبها ما يحدث ….
________________________
يقف في مطبخ منزلهم يجلي اواني الطعام وجواره تقف زوجته تقوم بجمع الطعام المتبقى في بعض علب الحفظ، وعندما انتهت خرجت من المكان بأكمله متحركة صوب غرفة الصغار تتأكد أنهم خلدوا للفراش براحة …
ثم عادت صوب المطبخ تشمر اكمامها تدفع صالح جانبًا بلطف :
” تسلم ايدك يا صالح، أنا هكمل الباقي، تعبتك معايا ”
ابتسم صالح يتركها تفعل ما تشاء فهو يعلم أنه سيستمر في الاصرار وهي ستصر وتمضي نصف ساعة تقريبًا حتى تنتصر هي وتستلم منه المهمة، وهو كالعادة سيقول بغيظ لأنها انتصر ( حسنًا وأنا سأعد لنا مشروب لذيذ ) لذلك اختصر صالح كل ذلك الطريق يقول بهدوء :
” تمام، وانا هجهز لينا عصير حلو عشان السهرة ”
ابتسمت له تهز رأسها بحب وهو تحرك صوب الثلاجة يخرج منها بعض الفواكهة، ثم امسك السكين كي يقطعهم بمهارة شديدة ورانيا تشاهده باستمتاع، تفكر في سنوات سابقة حينما كانت ترى أحد المشاهد الدافئة للبطل رفقة البطلة داخل مطبخ منزلهم يعدون الطعام، كانت تبتسم متخيلة هل يمكن أن يتحقق في واقعها ذلك المشهد؟!
وحين تعرفت على صالح، وعلى شخصيته عامة شعرت لوهلة أن الأمر مستحيل بعض الشيء مع شخصية مثله، لكن حينما تعمقت به، علمت أن لا شخص في هذه الحياة قد يحسن تجسيد تلك المشاهد الدافئة سواه .
” قمر وانا بعمل العصير مش كده ؟!”
انتبهت رانيا أنها شردت به ويدها ما تزال أسفل المياه، لترمش بسرعة تحاول أن تتجاوز عن تلك الحالة التي تعيشها جواره، تبتسم له :
” أيوة فعلا قمر، أنت قمر على طول يا صالح ”
ابتسم لها صالح، ثم حمل قطع الفواكه يضعها داخل الخلاط ليمزجها مع بعض الحليب ورانيا تراقبه، ثم عادت لما تقوم به :
” عمري ما تخيلت أنك ممكن في يوم تقف تساعدني في المطبخ كده زي ابطال المسلسلات الرومانسية ”
” مش لايق عليا دور الرومانسية صح !!”
ابتسمت تحاول انتقاء كلمات تصف الأكثر الأمر:
” يعني مش حوار لايق أو لا، بس اعتقد الكوميدي والاكشن ماشي معاك أكثر ”
أطلق صالح ضحكات عالية بعض الشيء يصب لهما بعض العصير، ثم شرع يجهز لهما بعض المسليات لقضاء ليلة أخرى لطيفة هادئة :
” مش حوار اكشن أو كوميدي يا رانيا، بس أنا شخص كبرت ونضجت على الصورة الغير نمطية للأسرة المصرية، شوفت والدي كان بيخلص الأرض والدنيا ويرجع جري عشان يساعد والدتي وهي حامل وتعبانة ويقف معاها في المطبخ، وأنا كمان اتعودت إني اساعد امي طول الوقت واعمل معاها البيت والأكل وكل حاجة، فالموضوع بالنسبة ليا كان شيء معتاد وواجب ”
كانت رانيا تستمتع لحديثه بكل تأثر، تستشعر الحنين داخل نبراته، تحركت له تود احتضانه بحنان :
” صالح أنت بجد اكتر راجل مـ ”
فجأة توقفت بشكل مريب تقول بعدم فهم :
” شوفت والدك كان بيساعد والدتك وهي ايه ؟؟ حامل ازاي معلش ؟! هو أنتم جيتوا على مراحل يعني ؟! أنتم مش توأم ؟؟”
أطلق صالح ضحكات مرتفعة جعلتها تنظر له في فضول وهو لم يستطع الشرح لها بسبب ضحكاته، وبعد ثواني هدأ قائلًا :
” لا احنا منزلناش على مراحل ولا حاجة، وحتى لو نزلنا على مراحل، فصلاح هو الأكبر مني بدقيقتين”
صمت ثم قال بعدما تنفس :
” بعد ولادتنا بسنوات، مش فاكر كان عندي كام سنة كده، امي كانت حامل، لكن للأسف ربنا ما اردش تجيب الطفل ده ومات، وتعبت بسبب الإجهاض ”
هزت رانيا رأسها متفهمة تقول :
” يعني كان زمان عندكم اخ او اخت ؟؟”
” أخ، كان ولد مش بنت ”
ابتسمت تقول :
” تفتكر كان هيبقى شبه مين ؟؟”
صمت يحاول التخيل :
” على حسب التأثير الاقوى، ينضم لحزبي، اوصلاح يغريه بالثقافة والرقي ”
رفعت رانيا كفيها تضم وجه صالح بينهما كما لو كانت تلاعب صغيرها، تضغط عليهما حتى كادا يخرجان من وجهه، وصالح يرمقها بعدم فهم، لكن رانيا ابتسم تقول :
” هو يطول يبقى زيك، ده أنت عسل يا صالح، أنا نفسي بلال يكون زيك في كل حاجة، لطفك وطيبة قلبك وكل حاجة فيك، أنت في عيوني مثالي ”
ابتسم صالح يربت على كتف رانيا :
” القرد في عيون أمه غزال يا رانيا، حبيبتي أنا ناس كتير اوي مكانتش بتقدر تستحملني ولا تتعامل معايا، عامة محدش استحملني في الحياة دي غير صلاح ومحمود وابويا وأميرة وأنتِ ”
صمت ثم أضاف :
” ورائد برضو ساعات ”
ابتسمت رانيا تحاول جذب رأسه لتضمه لها، لكنها عجزت عن الوصول، ساعدها صالح إذ انحنى لها وهي جذبت رأسه بحب تقول :
” كلنا بنحبك، واللي بيفهم بس هو اللي هيحبك يا صالح، أنت أنقى واكتر شخص طيب في الدنيا كلها ”
” أنتِ اللي طيبة والله يا رانيا،و على الله، وأكبر دليل على كده، أنك فاكرة اخواتك برضو طيبين ومساكين ”
نظرت له تقول بجدية :
” هما كده فعلًا ”
ابتسم يربت على رأسها بحنان يعود لإكمال ما كان يفعل :
” مش قولتلك طيبة يا قلبي ”
عادت رانيا تنهي كل ما كانت تفعل، تلملم آخر ما تبقى من الأواني، ثم تغسل حوض الغسيل وهي تقول بصوت عادي :
” خلصت يا صالح !!”
حمل صالح الصينية يقول غامزًا :
” خلصت، يلا ورايا ”
وسريعًا جففت رانيا يدها، ثم تحركت خلفه وبمجرد أن توسط صالح الأريكة جلست رانيا بين أحضانه تتنفس براحة شديد، فبعد يوم مرهق لا تجد اجمل من الاستكانة لأحضانه، وصالح يضمها له بحب، يشعر بأن حياته في السابق كانت باهتة، يتعجب كيف عاش كل تلك السنوات دونها، كيف كان يتنفس دون رانيا ؟؟
نظر لملامحها التي كانت شاردة في التلفاز وهو قبل جبهتها بحنان يتنهد بصوت مرتفع يعود برأسه على الأريكة خلفه، ثم قال بجدية :
” صحيح أنتِ رايحة مع ميمو بكرة لمطعم سعيد ؟؟”
نظرت له تقول بتردد :
” هي قالتلي لو حابة اروح، عندك مانع ؟؟”
نظر لها مبتسمًا :
” لا طبعًا، أنتِ لو حابة روحي براحتك يا قلبي ”
هزت رانيا رأسها مبتسمة تقول بتقرير :
” تمام اتفقنا هبقى اروح بكرة، حابة إني أكون موجودة وهما بيخلصوا فيه عشان الافتتاح …”
______________________
توقف رائد بسيارته أمام ذلك المطعم الذي أخذت ميمو تدعو الجميع له وكأنه يخصها هي، نظر صوب تسبيح التي كادت تطير من الحماس، ليس لمشاركة الجميع تجديد المطعم، بل لتجمعها مع الجميع بعد غياب ايام قليلة في بلدتهم ..
نظر لساعة يده :
” هتكوني بخير ؟؟ معاكِ الأدوية بتاعتك ؟؟”
” يا رائد والله أنا بقيت زي الفل وخفيت وهنزل اتنطط قدامك عشان تصدقني اني بقيت تمام الحمدلله ”
ابتسم رائد :
” بسأل عشان اطمن يا تسبيح ولا مستكترة عليا اطمن عليكِ ؟؟”
ابتسمت له تسبيح تقول بحب شديد :
” سألت عليك العافية يارب يا رائد ”
ابتسم رائد لها بحنان يتحسس وجنتها بحب وهي أغمضت عيونها تستمتع كثيرًا بلمساته الحنونة، قبل أن يقاطع هو لحظات الاستمتاع تلك قائلًا :
” حاولي لما تقعدي مع امي وستات البلد متلقطيش منهم كلام يا تسبيح ”
نظرت له تسبيح بجهل وهو ابتسم يرتب لها النقاب بعدما أسقطه على وجهها قائلًا ببسمة :
” متاخديش في بالك، يلا فوتك بعافية يا حبيبتي ”
أجابته تسبيح بملامح بلهاء دون أن تدرك سخريته :
” الله يعافيك يا رب، ربنا يوقفلك في كل خطوة سلامة ويوقفلك ولاد الحلال يارب يا رائد، خد بالك من نفسك، وطمني عليك وقولي عملت ايه مع الشاب بتاع البلد ده ”
أطلق رائد ضحكات عالية، يميل على تسبيح يضمها له بقوة، يعشقها ويعشق ما يتعلق بها، بداية من بلاهتها أثناء حديثها معه، مرورًا بحنانها وحتى خوفها عليه كطفل مدلل وليس رجل بلغ بالفعل الخامسة والثلاثين تقريبًا .
” وأنتِ خدي بالك من نفسك يا توتا، وأي تعب تحسيه رني عليا ياقلبي ماشي ؟؟”
هزت رأسها وهو بدأ يعدل لها وضعية النقاب :
” تمام يا توتا أنتِ كده زي الفل، استمتعي يا حبيبتي مع الكل، ملكيش دعوة بأي ذكر جوا، ومتشليش هم الأولاد أو الأكل، أنا هجيب أكل لينا من برة انهاردة ”
كادت تعترض على حديثه مخبرة إياه أن ذلك الطعام ليس أبدًا الطعام الذي يمكنهم الاعتماد عليه كمصدر للغذاء والفائدة، لكنه قاطع حديثها :
” لو ريحتي يوم مش هيحصل حاجة يا تسبيح، يلا عشان تلحقي تقعدي معاهم براحتك ”
هزت تسبيح رأسها، ثم كادت تفتح باب السيارة لكنها توقفت فجأة بتردد ورائد نظر لها بعدم فهم، يراها تستدير له مرة أخرى تقول بتوتر :
” بقولك يا رائد هو ينفع يعني تديني فلوس عشان لو جبنا حاجة ؟؟”
ضيق رائد ما بين حاجبيه بتعجب، يخرج محفظة نقوده :
” وأنتِ ما اخدتيش ليه من الفلوس اللي معاكِ في البيت يا تسبيح ؟! مش انا بديكِ فلوس ؟!”
” أيوة دي فلوس البيت، واللي أنا هعمله ده مش من التزامات البيت فمينفعش اصرف منها ”
وضع لها رائد الأموال داخل حقيبتها، ثم اغلقها بهدوء واعتدل في جلسته يقول بهدوء :
” أنا فقدت الأمل فيكِ، اتفضلي يا تسبيح انزلي عشان متعصبش ”
” يا رائد افهمني أنا مش ….”
وقبل اكمال جملتها مال يقبل وجنتها من فوق النقاب، ثم ربت أعلى رأسها كما لو كان يعامل طفلة :
” يلا يا حبيبتي روحي اقعدي مع صحابك ولما ترجعي البيت يبقى نشوف الحوار ”
” يعني عادي مش زعلان ؟!”
هز رائد رأسه يكتم حنقه خلف بسمة مصطنعة :
” لا أبدا ده انا في قمة سعادتي، مراتي حبيبتي بتوفر مصروف البيت وبتحرم نفسها من كل حاجة، كأني ماسك ليها الكرباج واخر كل شهر بحاسبها بالقرش، ده انا دلوقتي هروح اجيب حلويات اوزعها على صحابي ”
علمت تسبيح فيما يفكر، لكن هو ينظر للأمر من منظور أنها زوجته وتفعل ما تشاء وهي تنظر من منظور الامانة، تلك الأموال تخص كل أمور منزلها واحتياجاتهم، ولا يحق لها التصرف بهم على متعها الشخصية .
ابتسمت تمازحه :
” طب ابقى اعمل حسابي أنا والاولاد من الحلويات دي ”
نظر لها رائد بشر لتهبط من السيارة تهرول صوب المطعم وهو هبط يود اللحاق بها، ثم سب بغيظ شديد يتوعد لها متحركًا صوب السيارة مجددًا :
” هعيش واموت وأنا لسه بحاول افهم دماغها شغالة ازاي”
زفر بحنق شديد، ثم تحرك بالسيارة يخرج هاتفه يكتب بعض الكلمات كتذكرة له كي لا يتناسى في خضم أموره اليومية ..
خط بأصابع سريعة كي ينتبه للقيادة ( حلويات لتوتا والاولاد ) ومن ثم عين وقت الرنين تزامنًا مع انتهاء عمله، يزيد سرعة السيارة :
” أما نشوف بقى حوار المصايب اللي بتتلقح على الواحد دي ”
فجأة صمت حينما تذكر فجأة أمر ترقيته التي تم التلميح له بها، اتسعت بسمة كثيرًا يشعر أن نحسه يكاد يتركه، حسنًا ليس بالكامل فهذه الترقية كان من المفترض أن تصبح له منذ عام، لكن تأجلت بسبب ما يحدث معه من مصائب خلال عمله، لكنه الآن لن يدع تلك القضية تمر دون أن يحمل فوق اكتافه ( نجمة ونسر ) ويصبح رسميًا المقدم رائد سليمان ….
__________________
كانت تتناول بعض الحلوى التي تركها صلاح لأجل أنس وحتى لا ينزعج من قضاء الوقت خارج المنزل، لكن هي من تناولتها وليس الصغير الذي انشغل يلهو هنا وهناك وحده بعدما غاب الجميع وذهبوا للروضة، وهذا الصغير تتمنى أن يكبر ليذهب معهم قليلًا فقط .
تحدثت ميمو تشير صوب أمرأة تسير مع سعيد هنا وهناك تخبر ما ستفعل في كل ركن من أركان المطعم كتجديد له :
” تفتكروا اقولها أنه رد سجون ؟!”
تحدثت رانيا بعدم فهم وهي تنظر صوب تسبيح التي كانت تساعدها في اختيار الالوان الخاصة بالجدران :
” هي مين دي ؟! بتقولي ايه ؟!”
أشارت ميمو صوب سعيد الذي كان يقف في أحد الأركان غافلًا أن ملامحه المختلفة عنهم جميعًا جذبت أنظار تلك السيدة الشابة التي كانت تبتسم :
” المهندسة اللي جابها الاستاذ”
” وهي عملت ايه يابنتي، ما هي شايفة شغلها عادي اهو ولا هو أي تلقيح جتت وخلاص ”
مالت ميمو على الطاولة تبتسم بخبث :
” هو أنا عبيطة ولا حاجة يا رانيا، مش هعرف افرق بين النظرات المعجبة والنظرات العادية العملية ؟!”
نفت رانيا برأسها تعود للخلف خوفًا من ملامح ميمو المرعبة، والأخيرة عادت بظهرها للخلف تتناول باقي الحلوى دفعة واحدة :
” أتحداكم أما على آخر الأسبوع كانت وقعت على بوزها وحبيته، خاصة وهو بيعاملها معاملة معاملهاش لحد من بعد المرحومة أمه”
صمتت ثم قالت :
“يمكن دلوقتي مجرد اعجاب بكلامه وشكله، لكن لو سيبنا الإعجاب ده هيزيد ويبقى اسوء ”
قالت تسبيح بتردد :
” طب ما يمكن هي تتقبل موضوع أنه كان مسجون عادي، سيبيه يمكن يتجوز ويعيش حياته ”
اشتدت ملامح ميمو بشكل مخيف :
” والمتخلفة اللي ضيعت عمرها عليه كل ده ؟!”
قالت رانيا بتفكير :
” أنتِ ؟!”
” لا، أنا مضيعتش عمري عليه، أنا كنت عايزة اضيع عمره هو، أنا بتكلم عن زهرة ”
اقتربت تسبيح منها بفضول :
” هي لسه زهرة حاطة أمل في الموضوع وممكن ترجع يعني ؟؟”
ابتسمت ميمو بسخرية لاذعة :
” ولو مش حاطة أمل، هترجع غصب عنها، مش بعد ما ضيعوا عمرهم يبعدوا، أنا مش هسمح بكده ”
هزت رانيا رأسها باقتناع :
” صالح كان عنده حق لما قال عليكِ أم سعيد، أنا شايفة أنك بتعامليه على أساس أنه ابنك فعلا يا ميمو، ومتغاضية تمامًا عن أنه راجل ناضج اكبر منك شخصيًا وشايلة همه ”
اطالت ميمو النظر في رانيا ثم هزت رأسها بكل بساطة :
” أنا فعلا شيفاه صغير وابني، سعيد شخص هش غبي وعايز اللي يمشي وراه بعصايا وكل ما يغلط يديه فوق دماغه، ثم أنا مش هينفع اسيبه كده غير لما اطمن عليه، كفاية اوي اللي شافه ”
صمتت ثواني ثم قالت بتنهيدة :
” بغض النظر عن كل القذارة اللي كان بيعوم فيها قبل كده، لكن أنا مش هسيبه غير لما ينضف ويستقر في حياته، عشان ماما زينب على الأقل تكون مرتاحة، واهو خلصنا نص الطريق باقي بس حوار زهرة يخلص ..”
ابتسمت تسبيح تنظر لميمو بتقدير، هي لطالما قدرت بها شجاعتها وذكاءها وكل شيء لأجل الآخرين :
” طب وده هيحصل ؟؟ يعني زهرة ممكن توافق ؟؟”
ابتسمت ميمو بخبث تطيل النظر بسعيد الذي ترك السيدة وحدها وذهب ينهي بعض الامور بعيدًا عنها وقالت :
” ومين قال إنها مش موافقة اساسًا ؟؟”
_____________________
خرجت من الجامعة التي عُينت بها مساعد معلم، تنظر حولها تبحث عن سيارة تحملها صوب مطعم شقيقها، وقد كانت تحاول التواصل مع نادر في ذلك الوقت، إلا أن فجأة شعرت بمن ينتزع منها الهاتف بسرعة مخيفة ويهرب على دراجة نارية، بعدما أسقطها ارضًا بعنف كبير تسبب أذية يدها .
كل ذلك ونرمينا لا تستوعب ما حدث، وحولها تجمع بعض الطلاب يحاولون التحدث والاطمئنان عليها .
” دكتور حضرتك كويسة ؟؟”
” نطلب الإسعاف يا دكتور ؟؟”
ونيرمينا فقط تنظر صوب الدراجة النارية التي أخذت هاتفها بصدمة كبيرة :
” ده سرق تليفوني، ده فيه …فيه كل حاجة”
ابتلعت ريقها تنتفض من بينهم تخبرهم أنها بخير، ثم ودعتهم بسرعة كبيرة تركض بين الطرقات تحمد ربها أنها لا تحمل حقيبة يد، بل تحمل أخرى خاصة بالظهر، أوقفت سيارة وهي تخبرها بصوت مبهوت ما يزال يحمل بين طياته صدمة :
” لو سمحت خدني على اقرب قسم من هنا، بسرعة الله يكرمك ”
وبالفعل تحرك السائق بالسيارة وهي تشعر بقلبها ما يزال يقرع، هي حتى لم تستطع أن تطمئن نادر أنها أنهت عملها وستذهب لسعيد، ابتلعت ريقها حينما توقفت السيارة قرب مركز الشرطة والذي يقع على بعد شوارع قليلة من الجامعة، وضعت الأموال للسائق، ثم تحركت داخل المركز تحاول البحث عمن يساعدها في ذلك الأمر.
وأثناء تحركها داخل الممرات رأت وجه تألفه لتركض صوبه بسرعة كبيرة تناديه بقلق وريبة، ورغم معرفتها السطحية وبشدة به إلا أنه وحيد الذي يستطيع مساعدتها.
” حضرة الظابط….رائد باشا ”
استدار رائد والذي كان يتحرك صوب مكتبه للصوت الصادر خلفه، ضيق عيونه بتعجب يقول :
” نيرمينا ؟؟”
توقفت نيرمينا أمامه تقول بأنفاس لاهثة تحاول أن تصف له ما حدث :
” اول ما خرجت من الجامعة حد سرق مني التليفون بتاعي، هو عليه كل حاجة ايميلات الشغل وكل حاجة عليه ووو…”
أوقفها رائد يحاول جعلها تهدأ :
” اهدي بس شوية، خدي نفسك، تعالي معايا للمكتب ارتاحي وقولي حصل ايه بالضبط ”
هزت رأسها تلحق به وهي تضم حقيبتها لصدرها، تفكر أن تستعير منه اتصالًا حينما تصل المكتب، نعم ستتحدث لنادر وتخبره كل ما حدث معها كي لا يقلق ..
_________________
وعلى الطرف الآخر كان نادر يقف في منتصف المطعم الخاص بسعيد يشعر بجسده يشتعل غضبًا وقلقًا، فهو جاء هنا بعدما انتهى من الأعمال المتعلقة، وقرر أن يذهب لأخذ نيرمينا حينما تخبره بانتهاء العمل، وها هو موعد انتهاء عملها قد ولى وانتهى، وهي لم تتحدث معه ولا تجيب اتصالًا من أحد.
ولم يكن وحده القلق، بل سعيد كان يجلس على جمر والخوف ينهش صدره، هل …هل يعقل أن هناك من عاد من مواضيع لينتقم منه فيها مجددًا، بالله هل سيعيش حياته بأكملها يشعر بهذا الذنب الذي يقتله؟؟ سيحيا مرتعبًا أن يؤذي أحدهم عائلته لأجل قذارته، أي حياة تلك صنعت لنفسك يا سعيد ؟؟
تنفس بصوت مرتفع وهو يسمع صوت ميمو تقول :
” خلاص يا نادر أنت وسعيد، الله يكرمكم أنا على أخري وحامل وممكن يحصلي حاجة من مناظركم دي ”
تنفست بحنق شديد تتمنى لو كان صلاح هنا يساعدها على الهدوء، لكن لسوء حظها كان صلاح في مقابلة التلفاز التي اتفق عليها بالأمس، تلك التي تُذاع الآن على التلفاز أمامهم لكن لا أحد يهتم أو في مزاج يسمح له بسماع ما يحدث.
فجأة ارتفع رنين تسبيح برنين مرتفع واسم رائد ينير شاشتها، ابتسمت بتوتر تبتعد عن الجميع تجيبه بصوت منخفض، وبعد حديث قصير عادت لهم بلهفة تقول :
” نيرمينا مع رائد..”
وفي تلك اللحظة استدار نادر كالرصاصة صوب تسبيح وعيونه تشتعل بخوف وغضب وجسده بأكمله متيبس بشكل مخيف …
ودون كلمة منها سحب الهاتف بكل وقاحة يتنحى به جانبًا، رغم معرفته أنه لن يستطيع التحدث، لكن تصرفه كان دون تفكير، هو فقط يريد أن يسمع صوتها ويعلم ما حدث .
وتسبيح ما تزال تنظر لكفها بعدم فهم ..
في تلك اللحظة دخلت هاجر المكان معها محمود وصالح اللذين انتهيا من أعمالهم ومروا بها، متجهين جميعًا صوب المطعم حيث الجميع .
تحرك نادر صوب تسبيح مجددًا يضع لها الهاتف بعدما أخبرته نيرمينا بمكانها حينما سمعت الصمت المصحوب بوجوده، أشار نادر بحركات سريعة صوب ميمو يخبرها باختصار ما علم، ثم تحرك للخارج تحت نظرات سعيد الذي فتح عيونه يقول :
” أنا معرفتش حصل ايه ؟؟ دي اختي أنا كمان على فكرة”
وقبل أن يلحق به، أوقفته ميمو تقول :
” سيبه نيمو كويسة ”
” هو طمنك عليها يعني ؟؟ هي كانت فين ؟؟”
هزت ميمو رأسها تنظر للتلفاز في اهتمام شديد تتابع ما يحدث مع صلاح، إذ كان يجري لقاءً مباشرًا :
” في القسم …”
اتسعت أعين سعيد بصدمة وما كاد يتحدث بكلمة حتى أمسكت ميمو جهاز التحكم عن بعد تزيد من ارتفاع الصوت حتى أصبح صوت صلاح هو المسموع فقط في الأجواء وانتبه له الجميع عدا سعيد الذي كان يصرخ في وجهها بغضب :
” ده مطعمي أنا وده تلفزيوني، اقفلي الزفت وقوليلي اختي حصل ليها ايه يا ميمو ؟!”
نظرت له ميمو بانزعاج كبير :
” ما قولتلك في القسم ونادر راح يجيبها خلاص اسكت شوية عايزة اتفرج على جوزي ”
ختمت حديثها ولم تكد تضيف كلمة حتى سمعت صوت المذيع يصدح بسؤال رنّ صداه في المكان بأكمله :
” يعني اللي كانت في الصور دي مش مراتك، حسب الاخبار اللي وصلت لينا من مصدر خاص أنك على علاقة وثيقة بيها، والبعض بيقول أنه شهد على جوازكم من بعض وشافكم كتير سوا في أماكن مختلفة ….”
اتسعت عيون ميمو بصدمة من كل تلك الأحاديث، بينما سعيد نسي شجاره يسحب مقعدًا جوار ميمو، ومن ثم امسك جهاز التحكم يزيد من ارتفاع الصوت أكثر قائلًا ببسمة واسعة :
” عندك حق خلينا نتفرج على جوزك …”
__________________
بداية النهاية، تبقت محطتين فقط ونصل لنقطة النهاية ….
يتبع…
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية ما بين الألف وكوز الذرة ) اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق