رواية مصطفى أبوحجر كاملة بقلم آلاء حسن عبر مدونة كوكب الروايات
رواية مصطفى أبوحجر الفصل السابع 7
ب
“وحشتيني”
خرجت منه تلك الكلمة بنبرة شبه هامسة بطريقة خافتة وكأنها أتت من أعماق أعماق قلبه المُتلهف وليس من على أطراف لسانه، كان يتشرب ملامحها باشتياق شديد بعدما قضى العديد من لياليه يُفكر فيما قد يكون تغير في شكلها …
كان قد تخيلها وقد ازداد وزنها بعض الشيء وفقدت بعضًا من ملامحها البريئة الرقيقة ولرُبما تغيرت نظراتها وشكل ابتسامتها، لكنه ما إن رآها حتى وجد عكس ما توقعه تمامًا؛ فها هي فتاته التي كان يبحث عنها، لقد نضجت وكأن قامتها قد طالت بل يبدو وكأن جمالها قد زاد، إلا أن تلك النظرة العابثة بعينيها والتي طالما أحبها لازالت أجمل ما يميز وجهها المُشرق رغمًا عن مسحة الحزن التي أطفأت بريقها وقللت من شغفها ..
لقد انشغل في تأملها وإشباع عدستيه منها لدرجة إنه لم ينتبه إلى رنين هاتفه المتواصل والموضوع أعلى الطاولة من أمامه، بعكسها هي التي حاولت اختلاس النظر إلى هوية المُتصل، وعندما فشلت في ذلك، رفعت بصرها إليه مُشيرة إلى هاتفه دون أن تتحدث، إلا أنه لم يُلاحظ من نظرتها تلك سوى لون الكراميل الذى تميزت به عدستيها، والذى طالما أحس بنعومتهما التي تجذبه إليهما دون مقاومة منه، تمامًا كالكُثبان الرملية المُتحركة الناعمة التي تُغريه برخاوتها للغوص بداخلها، فيُصبح قاب قوسين أو أدنى من الغرق بداخل أنهارها من العسل المُصفى ..
وتحت ذلك السيل من النظرات، لم تستطع هي التماسك وإظهار القوة لأكثر من ذلك، فبدأت في فرقعة أصابعها بتوتر وهى تقول راغبة في تشتيت أنظاره عنها :
_ أتفضل العصير ..
إلا إنه أعاد كلمته من جديد بنبرة أقرب للرجاء تلك المرة قائلًا بصدق :
_ وحشتيني …
ازدردت لُعابها بشكل ملحوظ قبل أن تتساءل بتهكم مُرتعش :
_ وحشتك ؟
ابتسم بهدوء وهو يتطلع إليها بشغف منتظرًا التماع ذلك البريق الخاص داخل عينيها من
أجله كما أعتاد، إلا أن نظراتها المُرتبكة لم تتغير فأصابه الإحباط لبضع ثوان قبل أن يتساءل باستغراب وكأنه لا يعلم سبب استنكارها :
_ آه وحشتيني.. هو أنا موحشتكيش ولا إيه !
رفعت هي نظرها إليه من جديد بإصرار وجدية كأنها تقوم بعمل هام مُحاولة التأكد من هوية ذلك الجالس أمامها، أهذا هو من رفضها من قبل ؟
أتلك هي نفس نظرات عيناه الصارمتين واللتين نادرًا ما تطلعتا إليها بإعجاب؟ الآن تطل مِنهُما كُل تلك اللهفة والصبابة مُشيرة إلى لسان حالُه فاضحة أشواقه إليها !
أهذا هو وجهه الصلد الضنين الذى أعتاد ألا يبتسم أمامها إلا فيما ندر؟ الآن تنفرج شفتيه عن آخرهما بابتسامة تحمل خفقات قلبه حتى ظهرت أسنانه المصطفة كاملة وكأنه في أوج سعادته لرؤيتها !
تُرى ماذا فعل به الزمن ليُغير طِباعُه ؟
هي لم تُلاحظ سوى أنه زاد من وسامته وأضعف من نظره قليلًا حتى أرتدى تلك النظارة الطبية التي خففت من ثُقب نظراته وحدتها فزادته جاذبية وجدية ..
وتلك الشعيرات البيضاء التي حددت مسار منبت رأسه واختلطت في المُنتصف مع أقرانها باللون الاسود، كنفس حالها في شُعيرات ذقنه والتي أنبتها على غير عادته فزادت ملامح وجهه القوي خشونة ورجولة ..
لأول وهلة شعرت أنها أمام شخص آخر غير ذلك الذى أعتادته، شخص أكثر اناقة وجاذبية ولينًا، حِلته المُنمقة الأنيقة جعلته يظهر بمظهر رِجال الأعمال الجادين ..
الشيء الوحيد الذى لم يتغير به، هو عطره الذى أعتاد عليه مُنذُ سنوات والذى أدمنته في فترة سابقة من حياتها حتى أنها احتفظت بزجاجة شبه فارغة داخل دولابها بين أغراضها الشخصية …
سرى الضعف في أوصالها عندما تذكرت ذلك العطر فتنبهت إلى رائحته التي تملأ أنفها، إلا أن تلك الرائحة ذكرتها بخُذلانها وتخليه عنها في وقت سابق، فسحبت نفسًا عميقًا قبل أن تتساءل بعدوانية لم تعيها :
_ جاي ليه ياأسامة ؟
استغرب هو من تلك اللهجة التي تُحدثه بها فأجابها بعدم فهم بعد أن انكمشت ابتسامته :
_ هو وجودي مضايقك !
تصنعت عدم الاهتمام قائلة بصرامة بعدما أشاحت ببصرها عنه :
_ لا مضايقني ولا مفرحني عادي ..
نظر إليها نظرة طويلة يتحرى من خلالها الصدق في كلماتها قبل أن يقول بتفاجؤ :
_ ياااه للدرجادي ..
ألتفتت إليه من جديد، وهبت واقفة من مقعدها قائلة بتحدِ وكأنها تعلم ما بداخل قرارة نفسه :
_ أنا أقولك .. أنت جاي توريني بقيت إيه ووصلت لإيه .. جاي تتفرج على الانبهار والإعجاب اللي مستني تشوفه في عنيا زي ما شوفته ففي عين بابا وماما .. جاي وراسم على وشك الابتسامة كأنك بتتصدق علينا ..
غادر مقعده هو الآخر بضيق قائلًا بعتاب واضح :
_ إنتى بتقولي إيه أنا عُمري ماكنت كده ..
تطلعت إلى طوله الفارع وحددت ببصرها فرق الطول بينهما والذى طالما أحبته، فأصابها الارتباك لبضع لحظات وشعرت بالضعف يسرى في أوصالها إلا إنها التفتت إلى الخلف وولته ظهرها قائلة بتردد وكأنها لم تعلم ما عليها قوله :
_ وعُمرك بردو ماقولتلي وحشتينى ..
أقترب منها خطوة واحدة حتى ألقى بظلاله عليها قائلًا بعدم فهم :
_ وهى دي حاجه تزعل إني أقولك وحشتينى !
جفلت من السؤال قبل أن تُجيبه دون تفكير :
_ آه تزعل .. بصفتك إيه جاي تقولها ..
ثُم ما لبثت أن أضافت بسخرية بعدما ألتفتت إليه عاقدة ذراعيها أمام صدرها :
_ ولا قولت بقى دي مُطلقه ومستنية كلمة حلوة من أي حد عشان تلين في ثواني .. وفاكرني أما هصدق ..
عبس أسامة بحاجبيه مُستنكرًا قولها ذلك قبل أن يقول بنبرة جاهد لإخراجها هادئة بينما تحمل الكثير من اللوم بين طياتها :
_ إنتى إزاى تفكري فيا كده ياشمس ده إنتى بنت خالي يعنى لحمي وعرضي .. وحقك عليا إني أخاف عليكى أكتر ما أخاف على نفسى .. إزاى مُتصورة إني جاي ألعب عليكي وأوقعك بكلمتين ..
رفعت حاجبيها مُجيبة بتهكم :
_ ها .. فإيه ؟
نظر إليها باستغراب مُتسائلًا بحيرة :
_ فإيه إيه؟
أجابته بالهدوء الذى يسبق العاصفة :
_ كمل كلامك أنت بقى جاي تستر على لحمك وعرضك وتتجوز المُطلقة اللي في عيلتكوا.
غلب على ملامحه علامات التوتر والاضطراب وهو يُجيبها بتلعثم وكأنه يحاول تبرئة نفسه من جُرمٍ ما :
_ إنتي ليه باصه للموضوع على إنه كدة ..
أجابته بثقة ودون تفكير :
_ لأنه كدة فعلاً .. اللي بيحصل ده ملوش إلا معنى واحد بس .. اللي قولتهولك ده ..
ارتعشت ابتسامته أعلى شفتيه بدفيء وهو يقول بأعين مُمتلئة بالحنان كأنه يُخاطب طفلته :
_ لا مش كده .. أنا فعلًا كلمت خالي وطلبتك منه بس مش عشان إنتى بنت خالي ولا بحاول أستر على عرضي زي ماإنتى بتقولي ..
خرجت كلماتها ساخرة وكأنها تتعمد إسكات صوت قلبها الذى يؤكد لها حُبه فتساءلت :
_ أُمال عشان إيه بتحبني مثلًا ؟
ضمها بعينيه ضمة طويلة وكأنه يحتوى كل سنتيمتراً بها قائلًا بابتسامة حملت خفقات قلبه :
_ وليه لا ؟
في تلك اللحظة ثار البُركان بداخلها واهتاجت العاصفة فقالت بحدة وبصوتٍ عال :
_ ليه لا ؟ حضرتك جاي تحبني دلوقتي بعد عشر سنين؟ بعد ما بقيت مُطلقه ومعايا بنت ؟
أجابها بانكسار وأعين حزينة :
_ ومين قال إني محبتكيش من الأول ؟
سرت رجفة قوية بداخل أوصالها أرغمتها على الجلوس بمكانها الأول مُتسائلة بخفوت :
_ يعني إيه ؟
أنحنى بقامته الطويلة كغُصن ضعيف يتلهف لقطرة ندى ترويه وتُعينه على الاستقامة، فبدا وكأنه سيجثو على رُكبتيه من فرط صدقه قائلًا بهمس :
_ يعنى أنا بحبك من قبل ماتعترفيلي بحُبك ..
أتسعت عيناها بتفاجؤ وازدادت ارتجافها وجف حلقها وكأنه قطعة من الصحراء، غير قادرة على الرد أو حتى تحريك لسانها الذى تجمد بمكانه، إلا إنها وفى النهاية عقب استيعاب عقلها لكلماته، تصاعدت ضحكاتها رغمًا عنها قائلة بسخرية عقب تذكرها قوله لها ذلك اليوم :
_ بتحبني ! وعشان كده قولتلي اللي قولته ساعتها !
خرجت كلماته مُمتلئة بالندم وهو يُجيبها بحسرة كمن يُعلن توبته :
_ صدقيني كان غصب عنى ..
ثُم أضاف وكأنه تذكر :
_ بدليل إني جيت بعدها أتقدملك ..
انكسرت نظراتها بِحُزن تأثرًا بندمه عندما شعرت بصدقه، وكادت أن تبتسم بضعف مُعلنة عن غُفرانها قبل أن تحتوى رأسه داخل أحضانها كأم اشتاقت لعناق طفلها الغائب، لكنها بالنهاية تذكرت ما عانته بسببه، تذكرت زواجها بآخر وطلاقها، تذكرت إبنتها، فانسحبت من أعلى مقعدها واقفة بعد أن فرت من نظراته وولته ظهرها بكبرياء فتابع هو بعدما أستقام جسده :
_ عُمري ما فكرت إني اتجوزك شفقة أو زي ما بتقولي عشان بنت خالي ..
ألتفتت إليه واقتربت منه ببطيء مُوضحة :
_ لا فعلا معاك حق .. عشان كدة روحت خطبت واحدة تانية ..
أجابها بعِناد وقد بدأ بفقدان صبره :
_ إنتي اللي رفضتيني بدون مبرر ومتنسيش إنك كمان أتخطبتي وبعدها أتجوزتي ..
ابتسمت شمس بضعف مُعلقة بحسرة :
_ وأديني أتطلقت .. تقدر تشمت براحتك ..
في تلك اللحظة لم يتمكن هو من تمالك أعصابه فقال بغضب :
_ إنتى أزاي شايفاني إنسان حقير كده ؟
صاحت هي الأُخرى قائلة بعناد بعد أن استفزها غضبه :
_ وانت إزاي شايفني هبلة أوى كده وهصدق اللي بتقوله ؟
ثُم أضافت دون أن تعي :
_ لدرجة إنك فاكر إني هقبل أتجوزك ..
اتسعت عيناه من وراء عويناته الطبية واستنفرت عروقه قائلًا بلهجة ملؤها التحذير :
_ يعنى إنتى دلوقتي ترفضيني تانى زي مارفضتيني زمان ؟
أجابته بنبرة استنزفها الألم :
_ قصدك زي ما أنت رفضتني زمان وكُنت السبب في كل حاجة حصلتلي ..
ثُم صمتت قليلًا قبل أن تُخبئ عدستيها بجفونها بعد أن بدأت العَبرات الساخنة بالزحف أعلاها وشرعت باحتلالها فقالت بضعف :
_ بسببك اتجوزت ماجد ودمرت حياتي بإيديا .. بسببك عشت خمس سنين في عذاب وقهر وجيت على نفسى وكرامتي فيهم ألف مرة عشان ميتقالش عليا مُطلقة وعشان بنتي ..
لكنها ما لبثت أن نظرت إليه قائلة بتحد وهى تُغالب دمعاتها وتمنعها من الانهمار :
_ ودلوقتي لما قدرت أنسى كُل اللي مريت بيه ده وأتعافى منه، ولسه هبدأ أستعيد ثقتي في نفسى وأعيش حياة جديدة، أنت جاي تعيد الكَرة من جديد، وكأني لعبة بين إيديك تبعد وقت ماتحب وترجع وقت ماتحب، متأسفة أوى أنت لو آخر راجل في الدنيا مش ممكن أتجوزك.
وكأنما أصابته كلماتها في مقتل، فارتخت عضلات وجهه بأسى ونظر إليها نظرة طويلة صامتة مستجدية وكأنه حُطام مدينة أهلكتها الحرب واستنزفت قُواها، وأحس بصدره يضيق وينقبض وبأعصابه تختنق وتتلوى، وعجز عن الكلام .. فماذا يستطيع أن يقول ؟
أرخى جفنيه في يأس وتحرك مُغادرًا في خطوات سريعة واسعة بعد أن التقط هاتفه ومُتعلقاته الشخصية، دون تحية أهل المنزل، والذين كانا يتهللان بالدُعاء في الداخل للم شمل الصِغار دون أن يعلما حقيقة ما يحدث بالخارج ..
حقًا هي لم تعي سببًا منطقيًا لانهمار دمعاتها بذلك القهر فور رحيله ! لماذا يُسيطر عليها هذا الشعور المقيت بالخسارة والندم بدلًا من إعلان انتصارها !
ألم تُخِرج جميع ما بجوفها دون خوف أو خجل بل وفازت في تلك الجولة بجدارة والتي أنهتها برفضها له للمرة الثانية مُذيقة إياه مرارة الانكسار وهوان التذلل لشخص تُحبه ..
إذًا فما سبب ذلك الإحساس بداخلها وكأنها انحرفت عن الصواب ؟ وكأنها سمحت لجانب الشر فيها أن ينتصر بتلك الصورة !
تعالى صوت عقلها سائلًا إياها بسُخرية :
_ هل أنتِ بالفعل بتلك السذاجة والبلاهة حتى تبتلعي حديثه بل وتشعري بالرثاء على حاله!
لكنها نفت ذلك مُوضحة .. فليست هي الساذجة في ذلك الموقف بل قلبها هو الأكثر سذاجة وتغافل مما تخيلت، هاهو يؤلمها بقوة مُؤنبًا لها، وكأنه ينتمى إلى الذى غادر وليس إليها، أحسته كالمسجون بين أضلعها تحت حراسة مُشددة من عقلها، ينتظر أي لحظة تغافل من حارسه للهرب من مكمنه إلى مكانه الطبيعي حيثُ الدفيء والأمان بداخل أضلاع محبوبه .
كفكفت دمعاتها بضعف قبل أن تشعر بانجذابها إلى ذلك المقعد، وأحست بساقيها تتقدم لا شعوريًا إلى المكان الذى ضم جسده مُنذُ دقائق، فاسترخت بجسدها داخلُه مُستمتعة بدفئه وكأنه يحتضنها، ووضعت راحتيها أعلى مسندي المقعد حُيث موضع كفيه، وأراحت رأسها إلى الوراء علها تُلامس موضع رأسه فتمنت لو بإمكانها وضع قلبها بذلك الجُزء الذى ضم قلبه، فاجئها ذلك الإحساس بالارتياح والطمأنينة يغزو نفسها، وراودها ذلك الشعور المؤنب من جديد مؤكدًا لها أنها قست عليه بكلماتها ..
إلا أن عقلها سُرعان ما أجابها باستخفاف مُذكرًا …
وما الأهمية ؟ فكلماتها مهما حملت بين طياتها من غِلظة وجفاء فهي لاتزال أقل قسوة من تلك الإهانة التي وجهها لها منذُ أكثر من عشر سنوات ..
عندما قلب شفتيه وسخر منها قائلًا باستنكار :
_ إنتى إزاى جريئة كده وجاية تقوليلى في وشى إنك بتحبينى ..
هي تتذكر ذلك اليوم جيدًا وكأنه البارحة…
كانت شمس الصيف الحارقة تُسلط حرارة لهيبها على المارة بصورة مُباشرة، فلم ينجو منها إلا من استظل بظل أسقف بعض المحلات الجانبية، أو ظل شجرة مُتهالكة لم تسع سوى جسد طفل صغير ..
الكُل يتصبب عرقًا وبعضًا منهم يتجرع زُجاجات الماء أو علب العصائر على دُفعة واحدة من شدة ارتفاع رطوبة الجو، إلا إنها لم تأبه بِكُل ذلك وهى في طريقها إليه ..
بل يبدو وأنها لم تشعر بتلك الحرارة رغم تبلل شُعيراتها من أسفل حِجابها وهى تحمل تلك الأشياء الشبه ثقيلة إلى بيت عمتها الذى يبعُد عن منزلهم عِدة حارات ..
ورغم إنهاك جسدها الضئيل ولُهاثها الذى أزداد بصورة ملحوظة قبل أن تصل إلى البيت المنشود بعدة أمتار، إلا إنها كانت تُمنى نفسها برؤية وجهه الوضاء والحديث معه، فيزداد نشاطها وتتسع ابتسامتها المُتحمسة وتعد الخطوات الفاصلة بينها وبين منزله ..
وماإن وطأت أقدامها ذلك الشارع الصغير الذى يقبع منزلهم بمُنتصفه، حتى لمحت قامته الطويلة التي تحفظها عن ظهر غيب، كان يقف أسفل المنزل بهيئة عابثة واضعًا إحدى راحتيه داخل جيب بنطاله بينما يتكأ بذراعه الآخر على الحائط بجواره ..
ظنته في البداية يقف بصُحبة إحدى أصدقائه أو جيرانه فتباطئت فى سيرها حتى يلمحها ويفض حديثه سريعًا ليُخلي لها الطريق للصعود كعادته، إلا إنه تلك المرة لم يفعل، بل لم يلحظها من الأساس وكأنه في عالم آخر جذب انتباهه وابتساماته، لذا ملأ الشك قلبها فأسرعت الخُطى حتى لمحت تلك الفتاة ..
فتاة بمنتصف العشرين من عمرها وقفت بتمايل إلى جواره، تاركة شُعيراتها السوداء الطويلة كليل العُشاق تتطاير حتى كادت أن تصطدم به بينما هي مُنشغلة بالتطلع إليه بإعجاب واضح أثناء حديثه من خلال أعينها السوداء الواسعة المُزينة بأدوات التجميل التي زادت من اتساعها، كانت تلك الفتاة جميلة وكُل ما فيها جميل، فشفتيها مُكتنزتين ووجنتيها ناضجتين مُشرأبتين بحُمرة الخجل، وهذا ما زاد من اشتعال الغيرة بداخلها ..
لأول مرة تشعر شمس بذلك الحريق ينشب بداخلها، وكأن شرارة صغيرة اندلعت لتلتهم على إثرها غابات السافانا بكامل حشائشها في حريق هائل لا يطفأه أو يحتويه سوى مُعجزة يختصها بها العناية الإلهية ..
حاولت التماسك وهى تقترب أكثر إلى أن وقفت بجواره وبالأخير شعر بها بعد أن توجهت إليها أنظار تلك الحسناء بتساؤل، فلم يُكلف نفسه عناء تعريفه لها بل لم يشعر بالدهشة لقدومها وأكتف بقوله دون اكتراث :
_ أطلعي ياشمس ماما فوق ..
إلا إنها تثاقلت في وقوفها وكأنها التصقت بالأرض من تحتها وتركت ما بيدها قائلة ببرود :
_ هستناك نطلع مع بعض .. أصل الحاجات تقيلة مش هقدر أطلعها..
أجابها ببساطة :
_ سيبيها أنا هطلعها ..
تصنعت شمس عدم وصول كلماته إليها ووقفت تتأمل صاحبته بنظرات فجة قبل أن تتساءل بهدوء :
_ مش هتعرفنا ياأسامة ولا إيه …
رمقتها الحسناء بنظرة ساخرة من أعلاها إلى أخمص قدميها قبل أن تقول له مُتجاهلة كلماتها وكأنها تستخف بحديثها :
_ أنا همشى بقى ياسمسم .. أشوفك بكرة في المكتب .. معلش بقى كان لازم آجي اديك الفلاشة بنفسي ..
ثُم أضافت وهى لازالت ترمق شمس باستخفاف :
_ حرام .. روح أطلع معاها السلم، شكلها بتخاف تطلع لوحدها ..
أرتفع إحدى حاجبي شمس باستنكار قبل أن تخرج عن هدوئها ويرتفع صوتها قائلة بحدة :
_ هي مين دي اللي بتخاف تطلع على السلم لوحدها !
ثُم وجهت كلماتها إليه مُعاتبة :
_ أنت إزاي تسمحلها تقولك يا سمسم كده ..
ثُم ما لبثت أن نظرت إليها من جديد قائلة بتهكم واضح :
_ على فكرة حاجة مش كيوت إنك تدلعي واحد غريب عنك ولا إنتى شكلك متعرفيش العيب ..
أتسعت عينا الفتاة بتفاجؤ بينما أسامة أوقفها على الفور ناهرًا إياها بلفظه لاسمها بحدة :
_ شمس !
دون تفكير ارتدت الحسناء وجه الانكسار قائلة :
_ خلاص ياأسامة .. هي فعلًا معاها حق عن إذنك ..
انصرفت على الفور مُتصنعة كفكفة دمعاتها التي لم تنهمر من الأساس، فكاد أن يلحق بها راغبًا فى الاعتذار منها إلا أن شمس أوقفته قائلة بتحكم :
_أستنى هِنا .. هو أنت كمان رايح وراها، دي واحدة مشافتش تربية معرفش أنت جايبها لحد البيت أزاي ..
استنفرت عروقه بغضب واحتدت نظراته وكأنه يود قتلها قائلًا بنفاذ صبر :
_ إنتى إيه اللي عملتيه وقولتيه ده وإزاي أصلًا تكلميها بالأسلوب ده وأنا واقف كمان ..
بدأت الدمعات بالتجمع داخل مقلتيها قائلة بضعف بعدما شعرت بالغيرة من اهتمامه بتلك الفتاة :
_ للدرجادي تهمك ..
أجابها بحدة :
_ دي حاجة متخصكيش ..
ترقرت العبرات داخل عينيها بصورة واضحة مُعلقة كالطفلة :
_ أنت كمان بتزعقلي عشانها ..
حاول هو تهدأة أعصابه فمسح وجهه براحته ونظر إلى الأسفل بقلة حيلة بعد أن ابتعدت الفتاة عن مرمى بصره، فقال بغيظ مكتوم :
_ أنا عاوز أعرف إنتى بتحشرى نفسك في حياتي وفى الناس اللي بعرفهم ليه ..
أجابته دون تفكير من بين دمعاتها قائلة ببراءة :
_ عشان بحبك ..
للوهلة الأولى ظن أنه لم يسمعها بوضوح، فحدق بها لبضع لحظات قبل أن يتساءل :
_ بتقولي إيه ؟
مسحت شمس دمعاتها بعدما تملكتها الشجاعة وأدركت أن لا سبيل للتراجع الآن، فقالت بخجل :
_ بحبك يا أسامة وبغير عليك من أي واحدة تكلمها ..
عبس بما بين حاجبيه وقال بصرامة :
_ إنتى واعية لنفسك ..
ابتسمت قائلة :
_ آه وعارفة أنا بقول إيه كويس …
قلب هو شفتيه قائلًا باستنكار :
_ إنتى إزاي جريئة كدة وجاية تقوليلى في وشى إنك بتحبينى ..
ثُم أضاف وسط استنكاره :
_ عمرى ما تصورت إنك إنتى بالذات تعملي أو تقولي كده ياشمس ..
حاولت هي الدفاع عن نفسها باضطراب قائلة :
_ أعمل كده إيه ؟ هو الحُب والاعتراف بيه غلط أو جريمة !
تجمدت ملامحه للحظة مُفكرًا قبل أن يُجيبها :
_ رَوَحّي بيتكوا ياشمس …
تساءلت بحيرة :
_ طب مش هتقول حاجة ؟ مش هترد عليا في اللي قولته …
ولاها ظهره قائلًا :
_ كلامي هيبقى مع خالي ..
اعتراها الخوف للحظات وامتقعت ملامحها مُتسائلة بكلمات مُرتعشة :
_ أنت هتقول لبابا ؟
ألتفت إليها بصرامة مُجيبًا :
_ أُمال عاوزاني أسمع اللي بتقوليه ده وأسكت، ولا مستنية إني أتجاوب معاكي وأقولك أنا كمان بحبك ا..
قال جُملته الأخيرة بحروف مُتقطعة فشعرت بسُخريته، مما دفعها للسؤال بانكسار ومذلة :
_ يعنى أنت مش بتحبنى ؟
عادت الصرامة إلى كلماته من جديد وهو يقول بلهجة قاطعة :
_ أتفضلى روحي ياشمس وياريت متجيش هِنا تانى غير لما أقابل خالي عشان بعد كلامك ده مش هينفع نتقابل إلا لما يحصل وقفة والأمور تتحط في أماكنها الطبيعية ..
في تلك اللحظة لم تشعر سوى بدمعاتها الساخنة تنهمر بغزارة مُغادرة مقلتيها، بينما هي أرتفع صوتها بنحيب قائلة :
_ أنت بتعمل معايا كدة ليه ..
لم يُجيبها بل بدأ بالتقاط ما جلبته لوالدته ووضعته أرضًا سابقًا وأعد نفسه للصعود على الدرج فتعالى صوتها قائلة من ورائه بكبرياء بعدما عزت عليها نفسها الذليلة :
_ أنت فاكر نفسك مين ..
ثُم أضافت بتصميم ثأراً لكرامتها :
_ أنا بمُجرد ما همشى من هِنا وأنا هنسى كُل اللي قولتهولك ده، وياريت أنت كمان تنساه لأنك متستحقش إحساسي ده وكلك على بعضك متساويش ذرة حُب من اللي جوايا ..
صمتت قليلًا مُحاولة السيطرة على نحيبها قبل أن تقول بكلمات حاولت إخراجها قوية مُتمساكة :
_ عاوز تقول لبابا أتفضل ..للأسف كُنت فاكراك راجل .. بس أتطمن بعد ما عرفتك على حقيقك عُمرى ماهفكر فيك تاني … ولا هاجى هِنا تاني …
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية مصطفى أبوحجر) اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق