Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الرابع 4 - بقلم آلاء حسن

   رواية مصطفى أبوحجر كاملة  بقلم آلاء حسن   عبر مدونة كوكب الروايات 

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الرابع 4

 
بداخل إحدى المطاعم الراقية والتي تحتل مكانها في الطابق الأخير لفُندق من فئة السبع نجوم والمُطل على النيل مُباشرة، ظهر انعكاس واضح لقسمات رجولية وسيمة؛ أعتلت اللوح الزجاجي الشفاف للواجهة اللامعة للمطعم، فاختلطت تفاصيل وجهه بالمنظر الخارجي حيثُ صفحات المياه الواسعة الهادئة التي تلألأت باللون الفضي تحت ضوء القمر الوّضاء ..
كان يجلس بهدوء حول مائدته المُفضلة التي تحتل رُكن من الأركان ذات الإضاءة الخافتة، ورغمًا عن برودة الطقس إلا إنه استمتع بنسمات الهواء الباردة التي تسللت إليه من الفتحة الصغيرة بجانب طاولته والتي اعتاد نادلي المطعم إعدادها له خصيصاً كُلما تردد على المكان، داعبت الريح اللينة وجهه بلُطف قبل أن يبدأ في تناول وجبته المُفضلة احتفالًا بنفاذ الطبعة الأولى كاملة لروايته الجديدة مع بداية اليوم الثاني للمعرض ..

ارتشف رشفته الثانية من كأس المياه الموضوع أمامه في نفس الوقت الذى التقطت فيه أُذناه تلك الموسيقى الكلاسيكية الخاصة بموتزارت والتي بدأت سمفونياتها الرائعة تملأ المكان وكأنها عُزفت خصيصًا له تكريمًا لنجاحه المُتوَقع …
أقتطع بسكين طعامه اللامعة قطعة صغيرة من صدور الفراخ الموضوعة بداخل صحنه الرئيسي والمُغطاة بكمية وفيرة من الصوص الفرنسي الخاص بها والمُعَد له خصيصًا بواسطة الشيف الرئيسي للفُندق ..
قضم قضمته الأولى بتلذذ شديد مُحركًا أصابعه التي تحمل السكين بانسيابية وبصورة تتماشى مع الموسيقى التي تملأ الأرجاء وكأنه مايسترو مُتمرس يقف وسط مسرح كبير عارضًا فَنُه على قطعة الدجاج اللذيذة الماثلة أمامه قبل أن يبتلعها وتختفى بداخل جوفه ..
بالنهاية ومع الدقائق الأخيرة في لحن الختام كان هو الآخر قد انتهى من وجبته التي أجهز عليها حتى آخرها باستمتاع شديد، وعِند شعوره بالامتلاء أشار للنادل إشارة صغيرة فهم منها ذلك الأخير رغبة الأول في تناول قهوته فأومأ له مُتفهمًا بابتسامة ..
نفث مُصطفى دُخان سيجارته للأعلى باستمتاع مُتأملًا النجمات الصغيرة المُرصَعة للسماء المُظلِمة التي تفشى فيها السواد إلا في بقعة كبيرة جذبت إليها الأنظار بقوة بعد أن أضاءها قُرص القمر الشبه مُكتمل ..

ظل على ذلك الحال لعدة دقائق حتى أنتهى من سيجارته في نفس الوقت الذى تقدم فيه النادل إليه بفنجان القهوة والذى ارتشف منه مصطفى رشفة صغيرة قبل أن يتطلع إلى شاشة هاتفه التي امتلأت بالإشعارات وضمت العديد من رسائل المُعجبين والمُعجبات ..
ذلك هو وقته المُفضل .. عندما يقرأ كلمات الإطراء عليه وعلى كِتاباته ..
التهمت عيناه مُحتوى تلك الرسائل بنهم شديد أقترن به إلتماعة عينيه وابتسامة ظفر ملأت شفتيه، وبالأخير لم يكُلف نفسه عناء الرد على أحدهم، فهُناك من يُديرون صفحته الشخصية ومن صميم عملهم الرد على تلك النوعية من الرسائل ..
لكن تلك الرسالة المُبهمة لفتت أنظاره إليها ولاقت اهتمامه، من فتاة تطلب الدعم منه راغبة بمعرفة رأيه في أولى كتاباتها التي أقرنتها برسالتها؛ قام مصطفى بتحميل الملف بعد أن بدأ بتصفح الصفحة الشخصية لتلك الفتاة باهتمام واضح، ورغمًا عن خِلو صفحتها من أي صورة شخصية لها إلا أن اسمها وحده كان كفيلاً بإحياء الأمل داخله فلرُبما تكون هي …..
دون تفكير قام بإرسال رقمه الشخصي إليها طالبًا منها التواصل معه في أقرب وقت مُمكن، فلم تمر أكثر من عشر دقائق مُنذُ إرساله لتلك الرسالة إليها؛ أنهى فيها ما تبقى من قهوته قبل أن يرتفع رنين هاتفه برقم غير مُسجل، تردد قليلاً قبل أن يُقرر الإجابة عليه قائلاً بجدية :
_ مصطفى أبو حجر .. مين بيتكلم !
آتاه صوتها رقيقًا مُرتعشًا وهى تقول بخفوت :
_ حضرتك كُنت بعتلي رقمك من شويه .. أنا اللي بعت الرواية بتاعتى ..
حاول قدر الإمكان إخفاء لهفته قائلاً بلهجة رسمية :
_ أستاذه شمس مش كده ..
أجابته باقتضاب مُقترنًا بالخجل :
_ أيوة تمام ..
مصطفى بنفس اللهجة الجادة :
_ آه أهلاً بيكي .. أنا حفظت الملف اللي بعتهولي ولسه هطلع عليه ممكن تقوليلي باختصار محتوى الرواية أو مُلخصها ..
خرجت شمس عن خجلها واستجمعت شجاعتها قائلة برزانة :
_ أولًا إعجابي بروايات حضرتك كان السبب الرئيسي إني أحاول أكتب وطبعًا أتأثرت بيها جدًا، هي الرواية تُعتبر رومانسية وقصة حُب عادية جدًا مش عاوزة أحرق أحداثها بس أنا كُنت عاوزة أنشرها على المواقع الإلكترونية وحبيت أعرف رأيك الأول في أسلوب كتابتي لأنى لسه في البداية وعلى قدى، فلو كان عند حضرتك وقت وقدرت تقرآها تقولي إذا كُنت محتاجة أضيف حاجة أو أشيل منها حاجة ..
أرهف مصطفى السمع إليها خلال تحدثها مُحاولاً تبين ما إذا كانت هي من أحتلت تفكيره أم لا، لكنه أيضاً لم يتيقن من شكوكه، فما كان منه إلا أن زفر بضيق مُجيبًا :

_ طبعًا أكيد .. عمومًا أنا هطّلع عليها في أقرب فرصة وأبلغك برأيي …
ملأت الفرحة نبراتها بشكل واضح وهى تقول بامتنان :
_ شكرًا جدًا بجد مش عارفة أقولك ايه .. مقابلتي لحضرتك وتعاملك المتواضع معايا إمبارح أكدلي إنك مش ممكن تخذلني .. السلام عليكم ..
تسمرت عيناه على الفراغ من أمامه مُحاولًا استيعاب ما لفظته للتو، هل يعنى هذا أنها هي من يبحث عنها أم هي مُجرد فتاة من ضمن المئات اللاتي حضرن ندوته الخاصة بالأمس !
وضع مصطفى هاتفه أعلى الطاولة من أمامه بذهن شارد مُفكرًا في طريقة للتأكد من شكوكه، لابُد له من مُقابلتها بأي شكل من الأشكال، فلأول مرة تشغل فتاة عقله إلى تلك الدرجة التي تجعله يُفكر في حيلة للقائها، وبعد لحظات من التفكير الجاد في حُجة مُناسبة لطلب رؤيتها؛ أنتبه لنفسه وقد أهتز كيانه وتغير حاله وكأنه فتى في العشرين من عُمره، لذا زفر بعُمق مُحاولًا استعادة اتزانه والرجوع إلى رُشده مُذكراً نفسه بمكانته الأدبية فى المُجتمع ..
((الكاتب الكبير مصطفى أبو حجر)) !!
خرجت تلك الكلمات بنعومة بالغة من بين شفتي أُنثى في العِقد الثالث من عُمرها كانت تقف على بُعد خطوتين منه مُنذُ عدة لحظات لكنه لم ينتبه لها، رفع رأسه إليها بتساؤل وهو لايزال جالسًا بنفس وضعيته السابقة واضعًا ساقًا فوق أُخرى، أرتفع إحدى حاجبيه باندهاش بينما عدستيه تجولا بكُل تفصيلة بوجهها المُمتلئ بالأصباغ بطريقة زائدة عن الحد والمُزين بشعر مُستعار قرمزي اللون لايُناسب رُقى ولا مكانة ذلك المكان الجالسين داخله، فقال بتحفظ ظنًا منه للوهلة الأولى أنها إحدى السيدات سيئات السُمعة :
_ أيوة أنا يافندم ..
بدون خجل اقتربت هي منه الخطوات الفاصلة بينهما، وحركت المقعد المُجاور له لتعتليه بثقة قائلة بصوت خفيض اقترب للهمس وهى تُمِد يده إليها قائلة :
_ لينا الوهداني ..
لم يجد مصطفى مفرًا من التقاط يدها، ففعل ذلك على مضض قائلًا برسمية بعد أن لاحظ ردائها الفاضح :
_ تشرفنا ..
تلعثمت هي لبضع لحظات من تعامله المُقتضب معها بعكس ما توقعت فحاولت التغاض عن ذلك مُتسائلة بعد أن وضعت ساقًا فوق الاُخرى بتباه :
_ إيه مسمعتش الاسم ده قبل كده ؟
هز رأسه نافيًا قبل أن يقول بتهكم :
_ ليه هو المفروض إني أسمع عنه ؟
أراحت هي جزعها العُلوى على مسند المقعد مُوضحة مكانتها :
_ أنا صاحبة المكان اللي أنت موجود فيه أو بمعنى أدق بنت أهم شريك في الفندق ده ..

انفرجت شفتاه عن ابتسامة ساخرة قبل أن يقوم بإشعال سيجارة وينفث دخانها للأعلى قائلاً بعدم اهتمام :
_ وبعدين ..
أرتفع حاجباها بدهشة من ردة فعله تلك وأصابها الارتباك لبضع لحظات، فازدادت ابتسامته تيهًا قبل أن يقول بلهجة ذات معنى :
_ عموماً تشرفنا ياآنسه .. ولا أقول مدام ..
كان ينتظر ازدياد ارتباكها أو احمرار وجهها لكنه فُوجئ بها تقترب منه من جديد قائلة بهمس :
_ تقدر تقولي يالينا بس ..
رمقها بنظرة طويلة خالية من أي تعبير قبل أن يُطالع ساعته باهتمام قائلًا برسمية :
_ طيب يااا .. لينا أنا تشرفت جدًا بمعرفتك وحقيقي كان نفسى أقعد معاكي أكتر من كده بس للأسف معنديش وقت أضيعه … ولازم أتحرك دلوقتي ..
غضت لينا الطرف عن كلماته تلك التي تحط من قدرها فاقتربت منه واضعة إحدى يديها أعلى كفه قائلة بدلال مُصطنع :
_ معقول عندك حاجة أهم مني .. ولا تكونش بتكتب في رواية جديدة ..
مدد مصطفى شفتيه إلى الأمام قائلاً بسخرية :
_ تكونش !
فى النهاية لم تمتلك هي سوى أن تزفر بضيق قائلة بعدما نجح فى استفزازها :
_ ماتيجى نخش في الموضوع على طول ..
ألتقط نفساً طويلاً من سيجارته قبل أن يقول بهدوء :
_ ياريت …
أجابته على الفور دون تفكير :
_ عاوزاك تكتبلي فيلم ..
على عكس توقعها ارتفعت ضحكته الساخرة بصخب قبل أن يقف بهدوء فى مكانه مُشيرًا إلى النادل براحة يده في نفس الوقت الذى وجه فيه كلماته إليها قائلاً :
_ أكتبلك فيلم مرة واحدة ! وإنتى بقى هتنتجي ولا تمثلي !

توجهت نظراتها إليه بإعجاب مُتأملة جسده الرياضي وطوله الفارع قبل أن تقول بأعين لامعة مُشيرة بإصبعيها السبابة والوُسطى :
_ الإثنين ..
أخرج مصطفى من مِحفظته عدة وريقات من فئة المائتين واضعًا إياهم أعلى طاولته قبل أن يتساءل بتهكم :
_ و بتعرفي تمثلي ؟
غمزت هي بإحدى عينيها مُجيبة بدلال :
_ أتعلم ..
اطفأ مصطفى سيجارته بداخل المنفضة قائلًا بجديه قبل مُغادرته :
_ طيب ياحلوة لما تتعلمي أبقى تعاليلى أكتبلك فيلم .. أو خلى بابي يشتريلك قصة تليق بيكي وبمواهبك، إنتى مش محتاجاني فى حاجة ..
تركها وسط ذهولها ذلك وأنسحب إلى الخارج بخطوات ثابتة تعرف مسارها جيدًا بعد أن تناول هاتفه وقداحته وعلبة سجائره اللامعة مُحييًا النادل الذى قام بخدمته تلك الليلة، ظلت الأنظار مُعلقة عليه والتي سُلطت عليه باهتمام مُنذُ دقائق فور انضمام صاحبة المكان إليه، والتي ما إن غادرها بتلك الطريقة حتى تعالت الهمسات من حولهم خاصة أعلى هذه المائدة المستديرة التي جلس حولها رجل وسيم في العِقد الرابع من عمره وأمامه فتاة يبدو أنها تهيم به حُبًا بالرغم من انشغاله عنها بهاتفه فحاولت هي لفت أنظاره إليها قائلة وكأنها على وشك الإفضاء له بسر حربى خطير :
_ عارف مين اللي كان على الطرابيزة اللي قدامنا ده وماشي دلوقتي ..
رفع رأسه إليها بغير اكتراث مُتسائلاً دون أن يلتفت إلى ذلك الرجل :
_ حد نعرفه ؟
أجابته على الفور :
_ مصطفى أبو حجر .. كاتب مشهور ..
اومأ لها برأسه دون أن يُعلق قبل أن يعود إلى هاتفه من جديد فأضافت هي بأعين لامعة :
_ وعارف مين اللي كانت قاعدة معاه ..
ثُم أضافت مُشيرة بعدستيها :
_ اللي على الطرابيزة هناك دي ..
رفع رأسه من جديد مُلقيًا نظرة طويلة على تلك الجالسة بطريقة مُتحفزة والتي أخدت تفرك كفيها بتوتر بينما قسماتها العابسة بدا عليها الغضب، مما دعاه للقول مازحًا :
_ مين مراته ولا خطيبته !
صدرت ضحكة خجلة من بين شفتي (جيداء) التي قالت بمرح :
_ لا دي (لينا الوهداني) أبوها من أكبر رجال الأعمال في البلد وشريك في الفندق ده ..

تلاقى حاجبي (أسامة) باستغراب قائلاً وهو لازال يُسلط نظراته عليها :
_ لينا الوهداني !! أعتقد إني سمعت الأسم ده قبل كده ..
************
((لِما وافقت على طَلُبه للقائها !))
ظل ذلك التساؤل يَلُح عليها طوال الطريق، بِدايةً من استقلالها لعربة الأُجرة إلى تلك اللحظة وهى تجلس في انتظاره داخل حديقة إحدى النوادي الرياضية ..
وصلت إلى المكان قبل موعدهما المُحدد برُبع ساعة كاملة فأخذت تتجول فى الأرجاء مُحاولة التخلص من توترها قبل أن يقع اختيارها على طاولة فى الحيز الهادئ بعيدًا عن صخب الأطفال وأصوات المُدربين بالقُرب من حمام السباحة، حيثُ بدأ بعض الأطفال في استكمال تدريباتهم بعد تحسن الجو بشكل ملحوظ في الأسبوع الثاني من فبراير ..
كان اليوم مُشمسًا دافئًا خاصة مع اقتراب الساعة على الثانية عشر مساءًا، لذا ارتدت شمس نظارتها بعدم انزعاج مُحاولة إخفاء لهفة عدستيها المُتطلعتين لتأمل ملامحه من جديد، هبت نسمات رقيقة مُحملة بروائح الورد البلدي فداعبت وجهها بِلُطف قبل أن تمر على أنفها فتستنشقه بارتياح مُحاولة قدر الإمكان مِلئ رئتيها بذلك الهواء النقي المُنعش ..
كانت تجلس بجسد مُتصلب فوق إحدى المقاعد البلاستيكية تُراقب بعينيها كُل من مرّ بجانبها أو أقترب من طاولتها، مُتحفزة لقدومه فى أي لحظة …
وخلال مُراقبتها لاحت شبه ابتسامة أعلى شفتيها مُتذكرة اتصاله بها بعد ما يقارب الأسبوعين من إرسالها لروايتها الخاصة له، حين كادت أن تستجيب لشعورها الداخلي بأن كِتاباتها لم تنل إعجابه أو لرُبما تناسى أمرها ولم يقرأها من الأساس، فلم تتوقع سماع تلك الكلمات المادحة المُهنئة لها تخرج من فمه، وذلك ما دفعها للموافقة على الفور دون تفكير عِند طلبه مُقابلتها لتوضيح بعد الأخطاء وإحداث بعض التعديلات اللازمة ..
ملأها الحماس مُنذُ تلقى مُكالمته تلك بالأمس وأعتدّت للقائه فور استيقاظها وكأنها على وشك حضور لقاء غرامي مُفكرة في ردة فعله عِند رؤيتها .. تُرى هل سيتذكرها !
انكمشت ابتسامتها عندما قفزت العديد من التساؤلات داخل عقلها مُنبهة ..
لماذا لم يطلب لِقائها في المكتب الخاص به أو بداخل مكان عمله؟ بل لِما أقتطع من وقته وأهتم بها إلى درجة رؤيتها في إحدى الأماكن العامة ؟؟
ألتلك الدرجة نالت كتابتها استحسانه ! إلا إن ذلك ليس مُبررًا على الإطلاق لذلك الاجتماع …
وكأن عقلها قد أستيقظ أخيرًا وبدأ بالتفكير في تلك الخطوة التي أقدمت عليها دون حِساب مدفوعة بإعجابها الزائد لكاتبها المُفضل، حاولت شمس نفض ذلك التفكير عنها رغمًا عن اقتناعها بصحته، لكنها في النهاية تمتمت داخلها مُبررة وهى تنظر إلى ساعتها :
_ يعنى هعمل إيه دلوقتي ما أنا خلاص جيت وفاضل خمس دقايق على المعاد، معقول هقوم أمشى وهو زمانه على وصول …

بدأ ذلك الإحساس بالتأنيب والشعور بالخطأ يُسيطر عليها وهى تُحاول تجاهل صوت حالها الذى يأمرها بالتحرك والرحيل على الفور، إلا أن تلك الطاولة على بُعد خطوات منها نجحت في لفت أنظارها إليه فتخافت صوت عقلها بالتدريج إلى أن أنشغل بما يحدث أعلى تلك الطاولة، حيثُ فتاة تجلس بتململ برفقة شاب لم ينقطع لسانه عن الحديث إليها رغمًا عن عدم اهتمام الفتاة به وانشغالها بالنظر إلى الأطفال داخل حمام السباحة دونما العبء بالمُتحدث …
ذكرتها تلك الفتاة بحالها عندما كانت تجلس بنفس الوضعية بصُحبة زوجها الأسبق أثناء خروجهما ذات مرة في فترة خِطبتهما المشؤومة ..
هي تذكر ذلك اليوم جيدًا عندما وافق هو على مضض بخروجهما لتناول الغداء فى إحدى الأماكن المفتوحة عندما أخبرته بأنها هي من ستقوم بالدفع للتخلص من رفضه ..
لم تُفارق الابتسامة المُستفزة وجهه وهو يتحدث بلا انقطاع مثل ذلك الشاب، كان يرتدى قميصًا أصفر اللون ذلك اليوم؛ أضاف ضيًا خاصًا أعلى ملامحه وبشرته البيضاء العاجية فجعله وسيمًا إلى حدٍ ما، إلا أن وسامته تلك لم تُغرها بالنظر إليه فتوجهت بعدستيها إلى الجوار بلا هدف مُحاولة الاستمتاع بأي شيء من حولها يُعينها على تحمل مُجالسته والاستماع إلى حديثه الذى أنقطع فور وصول النادل لتدوين مايطلُبانُه، لم تطلب هي سوى كوب من عصير البُرتقال بينما هو تفنن في اختيار ما لذ وطاب من مأكولات ومشروبات بل وتحلية أيضًا وكأنه لن يتناول طعامًا بعد ذلك قط، وحين انتهائه وانصراف النادل نظر إليها باستغراب مُتسائلًا :
_ مطلبتيش حاجة تكليها ليه !
أجابته بابتسامة مرسومة :
_ كفاية أنت قومت بالواجب …
في تلك اللحظة ظهرت ابتسامته المُتملقة من جديد قائلًا بتخوف حاول إخفائه :
_ أوعى تقولي كل واحد يحاسب لنفسه، أنتى اللي عازمة .. هههه
رمقته بنظرة مُزدرية قبل أن تتجول بعينيها في الأرجاء من جديد قائلة :
_ لا أتطمن …
فرك ماجد كفيه بحماس وشمر عن ذراعيه استعدادًا لاستقبال الطعام قائلًا بتأنيب لا يتناسب مع نظرة النهم التي تملأ عينيه :
_ ماكُنا اتغذينا عندكوا في البيت بدل ماتكلفى نفسك ..وفلوس العزومة دي كُنا أحنا أولى بيها وأهي كانت تنفع في أي حاجة في الشقة ..
حاولت شمس السيطرة على أعصابها قائلة بهدوء :
_ معلش ماما كانت تعبانة النهاردة معملناش أكل..
خرجت كلماته من بين شفتيه بطريقة زادت من اشمئزازها قائلًا وهو لازال على ابتسامته :
_ لا سلامتها حماتي .. خلاص أنا المرة الجاية قبل ماآجى هسأل بقى عملتوا أكل ولا لا ..

أقرن جملته بضحكة طويلة مُستفزة وكأنه قد ألقى إحدى النِكات مما جعل شفتيها تتجعد إلى الأسفل بتقزز قبل أن تقول دون تفكير :
_ وهو أنت بتيجى غير عشان تتغدى بس ..
أحس ماجد أخيرًا بثِقل ظِله فتجاهل كلماتها واحتفظ بابتسامته قائلًا برقة لا تناسبه :
_ لا ياشموسة طبعًا أنا باجي عشان أتكلم معاكي .. أصلك بتوحشيني ..
وضعت شمس حقيبتها أعلى بطنها تحتضنها بقوة بعدما شعرت برغبتها في التقيؤ قائلة بوجه خلا من أي تعبير :
_ طيب ادينا فيها أهو .. أتفضل أتكلم ..
تحركت أصابع ماجد أعلى الطاولة مُحاولًا لمس يدها الموضوعة أمامها إلا إنها سحبتها على الفور بعد أن شعرت بقشعريرة مُقبضة وكأن ثُعبانًا مَرّ من فوق أصابعها، فتجاهل هو ذلك قائلًا بجدية :
_ إنتي طبعًا عارفه إني حاليًا بجهز الشقة ولسه هجيب الأجهزة وأوضة النوم وغير الفرح.
اهتزت ساقى شمس بعصبية من أسفل الطاولة مُجيبة بتحفز وقد عَلِمت نيته :
_ زي ما أنا كمان عليا المطبخ وباقي الأوض كلها غير الستاير والسجاد والمراتب وحاجات المطبخ وشيلنا كمان الخطوبة كلها ..
حاول ماجد تملقها بعدما لاحظ تحفزها فقال بهدوء :
_ ياحبيبتي أنا واثق في ذوقك فسايبك تجيبي كل الحاجات دي، مش ده هيبقى بيتك …
ثُم أضاف مُقهقهًا بابتسامته اللزجة :
_ ربنا يخليك ماما وبابا بقى ياستي مدلعينك على الآخر …
تأففت شمس من حديثه الغير مُباشر فقاطعته بنفاذ صبر قائلة :
_ ماجد أنت عاوز إيه ! خش في الموضوع ..
صمت هو لبضع لحظات مُفكرًا في كلماته قبل أن يتفوه بها قائلًا :
_ زي ما إنتى عارفة ياشمس أنا أبويا مُتوفى وماما ربنا يديها الصحة مجوزه أخواتي الرجالة ولسه البنات وأنا محدش بيساعدني في حاجة بالعكس ده أنا بساعد في جهازهم .
حاولت المُستمعة تمالك أعصابها قائلة بصوت مكظوم من بين أسنانها :
_ ما هو علشان محدش بيساعدك مطلبتش منك شبكة ولا أي حاجة للخطوبة سواء فُستان ولا كوافير ومكلفتكش غير الدبلة والباقي عملته من معايا من غير ما ماما وبابا يعرفوا ..
صمتت قليلاً مُحاولة عدم رفع صوتها قبل أن تقول بانفعال :
_ والشقة بتاعتك وافقت عليها رغم إنها في بيت عيلة وسيبتك براحتك تجيب الحمام والمطبخ أي نوع وأي جودة وقولتلك شقتك أعمل فيها اللي أنت عاوزه .. والأجهزة اللي أنت لسه مجبتهاش بردو متدخلتش فيها ولا شرطت عليك ماركات مُعينة رغم إنك بتتدخل في كُل كبيرة وصغيرة بابا بيجيبها وصممت تنزل معانا ونقيت على ذوقك كُل الأوض اللي عليا واللي عدوا ال ٥٠ ألف وحجزناها قدامك وخلاص قربت استلمها وأنت لسة حتى مجبتش أوضة النوم الحاجة الوحيدة اللي عليك هي والأجهزة .. فها إيه المطلوب بعد ده كله !
بعكس ما انتظرته منه تفاجئت بنظراته الحارة إليها وبصوته قد شابته حشرجة غريبة كأنه يكتم شيئًا كاد أن ينفلت منه قائلًا :
_ ده إنتى هتنبهري .. كُله إلا أوضة النوم ده أحنا مش هنطلع منها .. مش كدة ولا إيه !
حاولت شمس إخفاء جسدها الصغير بحقيبتها بعدما شعرت بالخوف من نظراته قائلة بصوت حاولت إخراجه قويًا مُتجاهلة جملته الأخيرة :
_ مقولتليش إيه المطلوب !
تنحنح ماجد بقوة لإخفاء أثر انفعاله قائلًا بصوت خفيض :
_ أنا لو عليا أجبلك نجمة من السما ومخلكيش تجيبي أي حاجة بس إنتى عارفة الظروف.
ثُم أضاف بخُبث مُتصنعًا الانكسار :
_ وإنتى مش عاوزة تساعديني شوية نبنى بيتنا مع بعض..
في تلك اللحظة فشلت شمس في السيطرة على أعصابها بعد تلك الكلمات فقالت باحتجاج مُتذكرة كُل ما تحملته رغمًا عنها كي لا تفشل تلك الخِطبة :
_ كُل ده ومش بساعدك ؟ لا بطلب منك هدايا ولا بتخرجني ولا بتجبيلي حتى كيس لب ولا بتخش علينا بكيس فاكهة ولا إزازتين حاجة ساقعة ومنظري بقى زفت قدام ماما وبابا، أتقي الله ده أنا ناقص أديك مرتبي عشان تصرف عليا بيه ..
أجابها بلا تفكير وكأنه كان ينتظر تلك الجُملة :
_ ما أنا كُنت عاوز أكلمك في كده ..
تطلعت إليه بعدم فهم قبل أن تتساءل بغير تصديق :
_ تكلمني ففي إيه ؟ عازوني أديك مرتبي ؟
عادت الابتسامة السمجة تُزين وجهه قائلًا بعد عدة ضحكات مُتقطعة :
_ لا ياحُبي مش للدرجادي ..هههه أنا بس كُنت عاوز قرشين سلف كدة لحد أول الشهر …
اتسعت عيناها بذهول وكادت أن تتلفظ بأبشع الألفاظ ردًا عليه لولا أنه تدارك قوله قائلًا بثِقل ظِل :
_ بهزر ياشموسة عشان تفكي شوية ..ههههه
في الحقيقة أنه تراجع عن كلماته فقط عندما لاحظ تحول لون وجهها مما أرغمه على نفي قوله في نفس الوقت الذى كبحت فيه جماحها وزفرت بضيق واضح أمام وجهه مُتسائلة :
_ ماجد أنت عاوز إيه أتكلم دوغرى الله يخليك، أنا مليش خُلق للف والدوران بتاعك ده ..
تصنع الانكسار وهو يقول مُومأً برأسه إلى الأسفل :
_ أصل بصراحة مصاريف الفرح كتيره عليا ..
اتسعت عيني شمس بصدمة فهذا كان آخر ما تتوقعه، فقالت باستنكار :
_ أنت كمان مش عاوز تعملي فرح ! ده أنا أخترت أرخص قاعة لقيناها .. عاوز أكتر من كده إيه !
أجابها مُتصنعًا الحزن وقلة الحيلة :
_ ما هو ده اللي محسسني بتأنيب الضمير ياشمس، إنك بتنازلي عشاني وأنا أبسط طلباتك مش عارف حتى أحققهالك .. وإنتى من حقك يتعملك أحسن فرح .. بس ..
تنهد بعُمق قبل أن يستكمل :
_ كله على يدك .. إنتى عارفة الدنيا مزنقة معايا إزاى و الفرح والفستان والكوافير كل ده كتير أوى عليا ..
للوهلة الأولى لمس قلبها حُزنه واعترافه بتنازلاتها التى لا حصر لها، مما دفعها للقول بدافع الشفقة :
_ خلاص ياماجد أنا هدفع فلوس الفستان والكوافير بجملة المصاريف ..
ارتفعت نظراته إليها بتلهف قائلًا بأعين لامعة :
_ طب والقاعة !
كورت شمس قبضتها بتحفز من أسفل الطاولة قبل أن تسأله راغبة فى لكمه إذا ما أجاب على سؤالها بالإيجاب قائلة :
_ مالها دي كمان تحب أدفع النص !
أجابها بجشع دون تفكير :
_ لا التلت والتلتين ..
اتسعت عيناها بذهول قائلة بعدما تراخت قبضتها لبضع لحظات من فرط الصدمة :
_ أنا مش مصدقاك .. بعد كُل اللي بشيله عنك ده كمان عاوزني أدفع تلت القاعة !
هز هو رأسه نافيًا مُوضحًا ما يقصده من بين شفتيه المُبتسمتين :
_ لا التلتين ياحبيبتى وأنا هدفع التِلت ..
ضربت شمس الطاولة بقبضتها بدلًا من أن تُحطم وجهه، قبل أن تهُب واقفة فى الحال وهى تقول بأعلى نبرة استطاعت إخراجها :
_ لا ده أنت أتجننت رسمي .. دي كانت خطوبة منيلة بنيلة ياشيخ .. أنا أستاهل كُل اللي بيجرالي عشان وافقت عليك ..
ارتدت حقيبتها على الفور وتركته مُغادرة وسط نظرات الذهول التي ملأته وابتسامته التي انكمشت عِند رؤيته للنادل يتقدم إليه بما طلبه من مأكولات، فصاح مُناديًا عليها بنبرة أشبه للرجاء :
_ حبيبتي رايحة فين الأكل وصل، انتي نسيتي إنك عزماني ولا إيه …

reaction:

تعليقات