Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية أوصيك بقلبي عشقا الفصل الاربعون 40 - بقلم مريم محمد غريب

       رواية أوصيك بقلبي عشقا كاملة  بقلم مريم محمد غريب  عبر مدونة كوكب الروايات


 رواية أوصيك بقلبي عشقا الفصل الاربعون 40

 
“أكان هذا كله.. مجرد حلمًا لعين !”
_ إيمان
كانت العودة من عند جدتها هي أمنية ظلّت تدعو بها، و لقد تنفست الصعداء و هدأ خوفها ما إن أخذتها عمتها الشابة و أقلتها إلى منزل زوج أمها، حيث كان “مراد” بانتظارها في نفس المكان الذي ودّعها فيه …
نزلت “لمى” من سيارة “مايا” محتضنة حقيبتها الصغيرة بكلتا يداها، و لأول مرة تقبل نحو “مراد” بكل هذه اللهفة، ارتمت دون ترددٍ بين ذراعيه إذ فتح أحضانه على مصراعيها في استقبالها، لدهشته ضحك بسعادة و هو يشعر بمحبتها لأول مرة
ضمّها إليه بأبوةٍ خالصة و هو يقول :
-حمدلله على السلامة. وحشتيني يا حبيبتي. وحشتيني أوي يا لمى !
لم ترد عليه الصغيرة، فلم يأبه، و تحرّك بها عائدًا إلى الداخل ما حتى قبل أن تنطلق سيارة “مايا” مغادرة …
-حبيبة مامي ! .. استقبلتها “إيمان” بابتسامةٍ جذلى
كانت بالمطبخ، تعد المائدة الصغيرة هناك، في أبهى شكلٍ لها و هي ترتدي منامةٍ زرقاء عارية الكتفين، طويلة بفتحة من أعلى الفخذين، و تضع القليل من زينة الوجه، و الكثير من حمرة الشفاه، و كانت رائحتها الزكية تفوح في المكان كله في تجانس مع روائح الطعام و الحلوى الشهيّة التي قامت باعدادهم في الساعات القليلة الماضية بعد قضاء بعض الوقت الحميمي برفقة زوجها …
-تعالي في حضني يا روحي !
لبّت الصغيرة دعوة أمها في الحال، استدارت حول العازل الخسراني و هرولت إلى أحضان “إيمان” متعلّقة بعنقها، جثت “إيمان” على ركبتها كي تتمكن من احتضان طفلتها، و طبعت القبلات على وجنتيها مغمغمة :
-قوليلي اتبسطي إنهاردة. عملتي إيه هناك ؟
و أبعدتها قليلًا لتنظر إليها، لتجاوب الصغيرة بقليل من الشحوب :
-ماعملتش حاجة. مايا عملت لي نودلز و تيتة جابت لي شوكولاتة. و مالك ماكنش هناك تيتة قالت لي مسافر !
كان “مراد” يتحرّك بارجاء المطبخ حولهما، بصعوبةٍ تمالك نفسه و هو يستمع إلى اسم ذلك الوغد الحقير الذي نال من حبيبته و اغتصبها بورقة زواج، للأسف، هو لم يتجاوز تلك الحادثة حتى الآن، و لكنه يتجاهلها من أجل زوجته
أحسّت “إيمان” بتوتره، فغيّرت الحديث مع ابنتها و أمرتها بالصعود إلى غرفتها و تبديل ملابسها ثم النزول لتناول العشاء، نفذت “لمى” أمر أمها، و عندما تأكدت “إيمان” من انسحابها التام، إلتفتت نحو “مراد” …
رأته يهتم بصحن الخضروات، يضيف القليل من عصير الليمون عليه و بعض الزعتر، سحبت نفسًا عميقًا، ثم مشت إليه مادة يديها صوبه، عانقت ظهره متمتمة :
-حبيبي !
رد عليها مهمهمًا :
-همم. عايزة حاجة ؟
شعر بهزة رأسها على كتفه، ثم سمعها تقول :
-حسيت إنك اضّايقت فجأة.. لمى قالت حاجة ضايقتك !؟
يترك “مراد” ما بيديه في هذه اللحظة، تسمعه يتنهد بقوةٍ، ثم تمتد يده مبعدة إيّاها قليلًا ليتمكن من الإلتفات إليها، رأت وجهه جامد خالٍ من التعابير و هو يقول ممسكًا بكتفيها :
-لازم تعرفي إني مش حجر. و إن أي سيرة يكون فيها اسم سيف أو مالك بتيجي أوي على رجولتي. و أنا صريح معاكي و عارف إني غلطت في حقك كتير. لكن بردو و مهما حصل. دي حاجة في دمي. مقدرش أنسى إللي عمله فيكي مالك بالذات. لأني كنت معاكي. و مقدرتش أحميكي !!
شعر بارتجفاتها تحت لمساته و هو يسمعها ترد باضطرابٍ واضح :
-انت ليه بس بتفتكر و بتفكرني. احنا مش اتفقنا هاننسى الماضي كله !؟
مراد بجدية : عشان ننسى فعلًا. و أنا عارف إن كل إللي مرينا بيه مايتنسيش. لكن عشان نقدر نعيش في سلام و نكون مبسوطين في حياتنا. ماينفعش نصحي أشباحنا. ماينفعش نحاوط نفسنا بأماكن أو ناس تفتح جرح كبير بنحاول نشفيه. الجرح هايفضل أثره لكن لما نشفيه مش هايوجعنا. انتي مش فاكرة لما رجعنا مش شهر العسل قولتيلي مش عايزة أروح البيت عند خالتي ؟ انتي نفسك عارفة إيه إللي بيئذيكي يا إيمان و اجتنبتيه مرة. ليه عاملة نفسك جاهلة المرة دي. لمى مالهاش مرواح عند الناس دي أساسًا …
أقرّت بصدق كلامه و هي تومئ له قائلة بهدوء :
-انت صح. انت صح و الله يا حبيبي.. خلاص. أنا مش هاوديها تاني عندهم. هاعمل إللي تقول عليه من هنا و رايح !
قطب “مراد” متأثرًا و رفع كفيّه يحيط بوجهها …
-أنا عايز أساعدك تتعافي. بس ! .. تمتم برفقٍ و قد بان الصدق في نبرته و نظرة عينيه
ابتسمت له و شبت على أطراف أصابعها لتهمس أمام شفتيه :
-عارفة. و أنا بحبك مهما حصل. بحبك يا مراد !
ثم قبّلته على فمه مطوّلًا، و بادلها القبل بحب اختبرت جيدًا مدى عمقه طوال الفترة الماضية التي أمضاها سويًا، منذ صارت زوجته، و على اسمه
تباعدا حين صار وقع خطوات “لمى” الراكضة قريبًا، ظهرت الصغيرة عند أعتباب المطبخ، لتجدهما يضعان اللمسات الأخيرة على المائدة، كانت تخفي في جيب بيجامتها ما سبق و اتفقت مع جدتها على دسّه بأيّ غذاء تتناوله أمها
تنفست الصغيرة بعمقٍ متحسسة موضع القنينة الصغيرة بجيبها، ثم مضت نحو أمها و زوجها، رحّب “مراد” بها من جديد و حملها على ذراعه كالريشة، أخذ يداعبها قليلًا و يراقصها بحركاتٍ عفوية بينما تتردد أصداء ضحكات “إيمان” من حولهما …
__________
بحلول نهاية الأمسية، أعلنت “إيمان” عن كفاية الصغيرة الليلة من مشاهدة الرسوم المتحرّكة، أطفأت التلفاز، و قد كانت “لمى” مستسلمة لأحضان “مراد” الذي جلس يضمّها بأبوّة، لم يتوقف عقلها عن التفكير بإمكانية فعل ما طلبته منها جدتها
و لكن فكرة واحدة سيطرت عليها …
لن تضع هذا الشيء لأمها، بل لـ”مراد”.. لا يمكن أن تؤذي والدتها
لا يمكن …
-أنا هاحضر اللبن عشان لولي يا إيمان ! .. هتف “مراد” مستوقفًا زوجته التي أرادت العروج تجاه المطبخ
وقف حاملًا الصغيرة بين ذراعيه و أردف بابتسامة :
-أطلعي انتي ريّحي عشان تعبتي جدًا إنهاردة. أنا هاخد لمى لأوضتها و مش هاسيبها غير لما تشرب اللبن بتاعها و تنام
ابتسمت له “إيمان” و شكرته بإيماءة، و بالفعل أذعنت لكلمته و صعدت للأعلى، ليأخذ “مراد” الطفلة و يجلسها فوق سطح رخام المطبخ، يضع قِدر الحليب فوق الموقد و يتركه قليلًا ليدفأ، ثم يتجه نحو الثلاجة، رأته يصب أمامها كأسًا من العصير، و تذكرت بأن أمها تصنع ذلك العصير الطازج من أجله يوميًا، فبدون تفكيرٍ استغلّت إلتفاته عنها ليُعيد دورق العصير إلى الثلاجة، استلّت من جيبها تلك القنينة و على الفور انتزعت غطائها و سكبت محتواها كلّه بالكأس، قلّبته باصبعها بسرعة، ثم اخفت القنينة بجيبها ثانيةً في لحظة إلتفاف “مراد” ناحيتها مرةً أخرى …
تلاقت أعينهم، فابتسم لها، ثم مضى يصبّ لها الحليب بكأسها، أنزلها على الأرض أولًا، ثم حمل الكأسين على صينية صغيرة و طلب منها أن تتقدّمه، أخذها إلى غرفتها و وضعها بالفراش، حرص على أن يراها تُنهي كاس الحليب خاصتها أمامه، و قد كان صبورًا و مراعيًا جدًا، لم يمل و قد قضى معها أكثر من ثلث ساعة حتى رآها تغفو أخيرًا، أو أن هذا ما أرادته أن يظنّه !
طبع قبلة رقيقة على جبينها، تأكد من غلق الستائر جيدًا لكي لا تُخيفها ظلال الأشجار بالخارج كما فعلت من قبل، أشعل لها ضوء خافت، ثم ألقى عليها النظرة الأخيرة، و غادر مغلقًا الباب من خلفه
لتفتح الطفلة عيناها الآن.. و قد علمت إنها لن تنام الليلة …
*****
كانت بالفعل تنوي الإستراحة هذه الليلة، إذ نالت ما يكفي ليومٍ واحد من حب و غرام خلال الساعات التي غابتها طفلتها، و لم يُخطط هو لعكس ذلك
أقبل عليها حاملًا الصينية البيضاوية، جلس بجوارها على طرف السرير، وضع الصينية فوق طاولة محاذية، ثم حمل الكأس و فتح كفّه الآخر مقدمًا لها دوائها :
-يلا يا حبيبتي. معاد الدوا بتاعك. قبل النوم علطول زي ما الدكتورة قالت. و كمان هاتشربي العصير ده وراه.. يلا
-انت مدلعني أوي على فكرة ! .. قالتها “إيمان” مبتسمة بغنجٍ
رد لها الإبتسامة و مد يده ليدس حبة الدواء بين شفتيها، و دفع بكأس العصير نحو فمها مباشرةً، ثم قال :
-أنا دلوقتي عندي بنتين. الكبيرة إيمان و الصغيرة لمى. طبعًا مدلعك و هادلعك طول ما أنا عايش
ازدردت “إيمان” حبة الدواء بجرعة من العصير، ظل يراقبها مستمتعًا، حتى أنهت الكأس، أعادته له فارغًا، فوضعه فوق الصينية و عاود النظر إليها ثانيةً
تلاشت ابتسامته فجأة و هو يرى وجهها يمتقع بغرابةٍ الآن …
-في إيه ؟ .. تساءل “مراد” باهتمامٍ :
-مالك يا إيمان !؟
تقلّصت ملامحها أكثر و هي تحاول كبح شعور بالغثيان …
-مش عارفة ! .. جاوبته لاهثة :
-حسيت بدوخة فجأة. و في مرارة شديدة على لساني !
أجفل “مراد” متمتمًا :
-ما يمكن الدوا له آثار جانبية. ماتنسيش إنه بيتحكم في الأعصاب و ..
لم يكمل جملته، فقدت “إيمان” وعيها على الفور و كادت تسقط من فورق الفراش لولا ذراعه التي لحقت بها، شحب وجهه على الأخير و هو يصرخ بأسمها :
-إيمـــــــــــان !!!
*****
حالة من الوجوم التام إنتابت “لمى”.. منذ اخترقت أذنيها صرخة الرعب لزوج أمها، أدركت حينها إنها قد فقدتها هي، ركوضها إلى غرفتها كانت التأكيد على ظنّها، هناك حيث وجدت أمها ملقاة بأحضان “مراد” و الخير يحاول إفاقتها بشتّى الطرق، و لأول مرة تختبر “لمى” الصدمة عندما رأت كأس العصير الفارغ، و عرفت بأنها و بيدها قد قتلت أمها !!!!
كابد “مراد” المشقّة و هو يعتني بكلًا من الأم و إبنتها، و بجهدٍ يُحسب إليه استطاع نقل زوجته إلى المشفى في زمنٍ قياسي دون أن يغفل عن الطفلة طرفة عينٍ، و لم يشأ إخبار خالته أو “أدهم” بل أراد أن يتولّى المر كليًا، متأملًا في شفاء زوجته العاجل …
أبقى الصغيرة أمامه بينما يهرع نحو الطبيب الذي خرج لتوّه من غرفة الفحص :
-دكتور. أرجوك طمنّي. مراتي مالها حصلها إيه بالظبط !؟؟
انتزع الطبيب نظّارته و هو يخبره عابسًا بشدة :
-بصراحة يافندم أنا لأول مرة في تاريخي الطبّي أقف عاجز قدام حالة. مش أنا بس. زمايلي إللي كانوا جوا معايا و لا حد فيهم قدر يفهم حاجة !!
برزت عينيّ “مراد” بخوفٍ كبير و هو يسأله :
-قصدك إيه ؟ إيمان هاتموت ؟؟؟؟؟
نفى الطبيب في الحال :
-لالالا مش كده خالص. مافيش أي مؤشر بيقول إن حالتها خطيرة
مراد بعصبيةٍ : أومال إيه طيب. فهمني مالها إيه إللي حصلها فجأة كده !!؟
الطبيب حائرًا : ما هي دي المشكلة. أنا مش فاهم إيه إللي حصلها. حالتها طبيعية جدًا. مافيش مشاكل خالص عندها. كله طبيعي.. رغم كده فاقدة الوعي. مش بتستجيب لأي محاولة تفوقها. مش بتفوق. يعني من الآخر دخلت في غيبوبة. و بدون أي أسباب !
رفع “مراد” حاجبيه مرددًا باستنكار :
-يعني إيه بدون أسباب. هو في حاجة اسمها كده. طيب إيه العمل بردو مش فاهم !؟؟؟
تنهد الطبيب بعمقٍ و قال :
-و الله يافندم العمل دلوقتي عمل ربنا. يمكن السبب نفسي. هانكلم الدكتورة إللي حضرتك قلت إنها مسؤولة عن علاجها النفسي. هاتيجي تشوفها هي كمان و هاتفضل تحت الملاحظة عندنا. و ربنا معانا
-طيب أنا عاوز أشوفها ! .. تمتم “مراد” باقتضابٍ
تأهب الطبيب للرحيل و هو يقول بهدوءٍ :
-أكيد. دلوقتي تتنقل لغرفة خاصة و تقدر تشوفها هناك. عن أذنك !
و تركه متوجهًا إلى صالة الطوارئ لإستئناف مناوبته …
يسحب “مراد” نفسًا عميقًا و هو لا يزال بمكانه، يحدق بغرفة الفحص المغلقة، خلفها حيث تخضع زوجته لجهود الأطباء الحثيثة لإنعاش وعيها.. ترى ماذا أصابها ؟
ماذا جرى لك يا “إيمان” !؟
انتبه “مراد” لوجود “لمى” الآن، استدار ماضيًا صوبها فوجدها تبكي، و ما كانت تبكي طوال الطريق إلى هنا، الحقيقة إنها تنهار أمام عينيه من البكاء …
جلس فوق المقعد المعدني بجوارها، و اجتذبها بلطفٍ، حملها ليجلسها فوق قدمه، مسح على رأسها بحنو و قبّلها على خدّها متمتمًا :
-ماتخافيش يا لولي. مامي هاتصحى. هاتبقى كويسة يا حبيبتي. ماتخافيش …
تعالت نهنهات الصغيرة و هي تبكي بحرقةٍ و ترد عليه بصعوبةٍ :
-لأ. مامي مش هاتصحى. مامي هاتموت !!
فزع “مراد” من كلمتها و قال مؤنبًا في الحال :
-ماتقوليش كده يا لمى. اوعي تقولي على مامتك كده. إيمان هاتخف. مافيهاش حاجة و انتي سمعتي الدكتور صح ؟
تطلعت إليه من خلال دموعها و قالت بأسى :
-أنا كنت عارفة إنها مش هاتصحى. لما شربت العصير كنت عارفة إنها مش هاتصحى تاني !
عبس بشدة متسائلًا :
-عصير إيه !؟؟
مضت تفصح له و لا تزال تبكي و لم تخفَ نبرة الحقد في صوتها :
-العصير إللي كنت هاتشربه انت. تيتة راجية قالت لي لازم مامي تشربه. لكن أنا حطيت لك انت الدوا.. بس انت شربته لمامي. انت إللي شربته ليها بإيدك. انت إللي لازم تموت مش مامي !!!!
*****
الغضب
و الغضب وحده الذي حرّكه بعد سماع تصريحات الصغيرة، ربما حرى به أن يشعر بالصدمة، و لكن ما روته عليه كان كارثي، عقله لم يستوعب هذا الكم من الشر
لا يتصوّر أن تستخدم الجدة حفيدتها في عملية قتلٍ !!!
أو أيًّا كان.. تلك المجرمة أم المجرمين السفلة
إن كان “أدهم” قد عفى عنها من قبل فهو لن يعفو، لن يعفو أبدًا، سيكون لها عقابًا من نوعٍ خاص، و لن يرحم عجزها …
قبل أن يرحل أضطر “مراد” للإتصال بخالته و إخبارها بإيجاز عمّا حدث، طلب منها أن تأتي لتعتني بـ”لمى” ريثما يقضي حاجةً و يعود، لم تتسنّى له فرصة الشرح أكثر عندما جاءت، ترك الكرة بملعبها مشيرًا إلى “لمى” لتعرف منها كل شيء، طلب منها فقط عنوان السيدة “راجية، ثم غادر المشفى متجهًا إلى هناك و الشياطين في إثره
للمرة الثالثة لهذه الليلة يرى وجه “مايا”.. الآن كانت مذعورة حين فتحت له باب الشقة و رأت الإجرام التام على سحنته الغاضبة …
-الست الوالدة فيــن ؟ .. هتف “مراد” بشرٍ مستطير و هو يزيح “مايا من طريقه بعنفٍ ليدخل
أطلقت “مايا” آهة متألمة و هي تتبعه للداخل صائحة :
-انت يا مجنون. حصلت تتهجم علينا في بيتنا. تعالى هنا. لو ماطلعتش برا حالًا هاطلب لك البوليس !!!
كان يقتحم الغرف بالفعل أثناء سماعه تهديداتها، في نفس اللحظة التي عثر فيها على غرفة “راجية”.. تعلّقت أنظاره عليها، حيث رآها تجلس في سريرها المحتل صدر الغرفة، تطالعه بتشفٍ و تحدٍ سافر، تلك الابتسامة الشيطانية تنبلج على محيّاها، تخبره بأنها كانت تنتظر قدومه بالفعل …
-أطلبي البوليس يا آنسة مايا ! .. غمغم “مراد” من بين أسنانه و لم يحيد عن “راجية” لحظةٍ واحدة
مشى ناحيتها ببطءٍ و هو يردف بوعيد :
-أطلبيه بسرعة. عشان ياخدنا كلنا و هناك أحرر محضر في والدتك المصونة أتهمها فيه بقتل إيمان. مراتي. بنت أخوها. و مش كده و بس. كمان في تهمة استغلال طفلة في جريمة بشعة زي دي.. أطلبيه يا آنسة مايا !
انتفضت “مايا” مع نطقه بالكلمة الخيرة بكل هذا العنف، و لا تعلم لماذا خرس لسانها، فقط بقيت عند أعتاب الغرفة تراقب ما يحدث و الصدمة تبدو جلية على ملامحها و تصلّب جسدها، و كأنها لم تعرف بجريرة أمها إلا الآن، و كأنها لا تصدق عودة أمها لتلك الظلمات و المستنقعات القذرة …
-إديني سبب واحد يمنعني عن آذيتك. دلوقتي حالًا ! .. هس “مراد” و هو يحني جزعه ليكون وجهه بمستوى وجهها
حدقت “راجية” بعينيه الحمراوين و قالت بشماتة :
-أعمل إللي تعمله. أنا من بعد سيف ابني و مافيش حاجة تفرق لي. و أكتر حاجة تبسطني إني أموت و أنا واخدة بتاره. إيمان مش هاتشوف ساعة واحدة هنا من بعدي أنا و ابني. و عذابها ابتدا من الليلة دي لآخر يوم في عمرها …
كوّر “مراد” قبضته و رفعها عاجزًا عن تفريغ غضبه على امرأة مسنّة مثلها، كبح نفسه بصعوبةٍ و هو يشد على فكيّه، هدأ أعصابه بأعجوبة و تريث لحظاتٍ، ثم قال و شبح ابتسامة ماكرة تلوح على شفتيه :
-لسا عندك بنت و دكر. صحيح هو فين.. مش سافر دبي بردو ؟ أنا حبايبي كلهم هناك عنده !
اختفى أيّ مظهر من مظاهر العبث على وجهها عندما قال ذلك، و كأنها لم تفكر جيدًا قبل أن تقدم على ما فعلت، لم تفكر بابنها و ابنتها الباقيان، لم تفكر بأنهما لا يزالا على قيد الحياة …
يشهر “مراد” هاتفه أمام عينيها و هو يهس بوحشيةٍ :
-أنا أقدر أدمره. أنهيه بمكالمة واحدة.. إيه رأيك ؟
قطبت بشدة و قد نجح بدب الخوف في قلبها، لترد بفحيحٍ نزق و كأنها الأفعى بنفسها تواجهه :
-أنا مافيش في إيدي حاجة أعملها لك أو أعملها لها !!
صاح بها بعنفٍ :
-أيًّا إن كان إللي حصل. قوليلي مين إللي عمله. لو مش عايزة تتحسّري إللي باقي من عمرك على ابنك و بنتك هاتقوليلي مين إللي عمل كده في إيمان. مين و ألاقيه فيــن ؟؟؟؟
عادت تكشر عن ابتسامةٍ مستخفّة من جديد و هي تقول :
-هقولك.. بس افتكر. مش هاتقدر تعمل حاجة !
*****
لم يكن الأمر يشبه الروايات و الأفلام التي عادةً ما يراها، بيت تلك المشعوذة التي أخذ عنوانها من العمّة المجرمة، كان مجرد بيتًا عاديًا، شقة بسيطة في حي متواضع، تقطن بالطابق الأرضي امرأة عجوز، يعطف عليها الجميع، و قد دلّه على بيتها عشرات من الجيران
أوصله فتى صغير إلى بابها، الباب الذي يُغلق أبدًا كما سمع، ليراها تجلس فوق أريكة ملاصقة لشباكٍ يطل على الحارة الصاخبة، روائح الرطوبة و العفن تحيط به، لكنه يركز على هدفٍ وحيد، ما دفعه للإتيان إلى هنا …
-خطوة عزيزة يا بيه. اتفضل خش. نخدمك بإيه ؟
ينظر “مراد” إلى المرأة بإباءٍ يتخلله القرف، المقرفة بعباءتها السوداء التي تحمل قذراة مخفية، وجهها المسوّد و ابتسامتها السمجة، أسنانها الصدئة و خصيلات شعرها الرمادية تتدلّى من وشاح رأسها المهلهل، ما يجبره على البقاء هو أمر يتعلّق بحياته، زوجته التي لا يمكنه المضي بدونها …
-انتي عارفة أنا مين ! .. قالها “مراد” و لا زال يقف بمكانه
تومئ الأخيرة و ترد :
-و كنت مستنياك. أخبارك إللي وصلتني. عرفت إن راجل زيك دماغه ناشفة. مش بيسلم بسهولة.. زي ما قالت لك راجية. مش هاتقدر تعمل حاجة !!
الكلمة ذاتها أفقدته عقله هذه المرة، فكاد يتهجّم عليها، و لم يفعل، إذ جمده ظهور مفاجئ لذلك الكلب الأجرب، لا يعرف من أين جاء، و لكنه وقف بوجهه يحيل بينه و بين سيدته، ضحكت المرأة العجوز و هي تمد يدها تربت على رأس كلبها الذي يزمجر بهياجٍ في مواجهة “مراد” …
تطلعت إليه ثانيةً و قالت بتشدّق :
-انت شكلك بتحبها فعلًا.. و مستعد تعمل أي حاجة عشانها
مراد بغضبٍ أعمى :
-عايزة كام. قوليلي عملتي فيها إيه و إزاي تقوم منها و أنا هادفع لك إللي تطلبيه. إنطقي !!!
قهقهت بتسلية أغاظته أكثر، ثم قالت بجدية :
-انت لسا مافهمتش. أنا مش عايزة فلوس. أنا أصلًا مابحبش الفلوس. و إلا ماكنتش تلاقيني هنا في مكان زي ده !
-قوليلي عايزة إيــه ؟؟؟ .. هدر بصوتٍ مصم
فلم تهتز لها شعرة، صمتت لهينيةٍ.. و قالت :
-مش عايزة حاجة. بس ممكن أعمل معاك إتفاق !
حثها من فوره :
-قولي !!
قامت ببطءٍ من مكانها، و إتجهت نحو دولابٍ صغير بالزاوية، أحضرت نفس القنينة التي أشارت إليها “لمى” في حديثها، ثم مضت صوبه مادة يدها إليه و هي تقول :
-ده نفس إللي شربت منه مراتك. هاتاخد رشفة واحدة. هايصيبك إللي صايبها دلوقتي. هاتقدر تكون معاها في نفس المكان إللي إتحبست فيه. و لو قدرت تخرجها تبقى أنقذتها.. بس خد بالك. انت كمان هاتتحبس. انت كمان هاتواجه أكبر خوف في حياتك. لو دخلت مش هاتخرج بالساهل. و ممكن ماتخرجش خالص. و هو ده الاتفاق. لو نجحت هاتطلعوا انت الإتنين و هاتنقذها و تنقذ نفسك. لو فشلت هاكسب أنا. و انتوا الإتنين هاتكونوا ملكي في العالم ده… لو موافق. خده !
و مدت يدها أكثر بالقنينة، أمام عينيه الذاهلتين، لم يصدق كل هذا الدجل و الخرافات، و لكنه يجهل القوى التي جعلته يمد يده و يأخذ منها أداة الإنتحار هذه …
*****
رأسها ثقيلًا، بالكاد رفعته من فوق الوسادة، كانت جزعة و تشعر بالهلع، آخر ما تتذكره هو وجه “مراد” المذعور و صراخه بأسمها
أمسكت رأسها بكلتا يداها و هي تباعد بين جفنيها هاتفة :
-مـرااااد !
و لكن ما من إجابة
فقط الفراغ من حولها، و.. مهلًا …
هذا ليس بيتها
ليس بيت “مراد”.. أين هي ؟
أفزعتها الصدمة الآن عندما استقرّت عيناها على الجدار المواجه لها، حيث إطار لصورة زفاف، زفافها هي و “سيف” !!!!
إنها شقة الزوجية القديمة إذن …
كيف أتت إلى هنا بحق الجحيم !؟؟
-صحي النوم يا كسلانة !
جمدت أطرافها تمامًا لدى وصول ذلك الصوت الذي تعرفه جيدًا إلى أذنيها، لم تصدق، و لا تريد أن تصدق، و لكنها لم تمنع نظراتها من الإلتفات ناحيته، و قد كان أفظع شيء حدث لها على الإطلاق
رؤيته من جديد
“سيف”
بشحمه و لحمه يقف أمامها عند باب غرفة النوم، انتابتها حالة من النكران المصدوم عنيفةٍ جدًا و هي تنظر إليه جاحظة العينين …
-سيف ! .. نطقت بصوتٍ مخنوق
غزت الرعشات جسمها كله و هي بالكاد تستطيع الوقوف أمامه، و لا زالت تنكر بفزعٍ مطلق :
-لأ. لأ مستحيل.. انت مت. انت مـت !!!
انتفض فكّ “سيف” و هو يحدق فيها بتلك النظرة الثاقبة و ابتسامته التي تثير رعبها، ثم قال :
-دي أكيد أمنيتك.. مفكرة إن ممكن تخلصي مني بالسهولة دي !؟
ده لسا حسابنا ماخلصش يا روحي ! ………………………………………………………………
reaction:

تعليقات