رواية أوصيك بقلبي عشقا كاملة بقلم مريم محمد غريب عبر مدونة كوكب الروايات
رواية أوصيك بقلبي عشقا الفصل الرابع و الثلاثون 34
“إن حبك في قلبي لا يعرف النقصان ؛ بل إنه في زيادة فقط.. مهما فعلتِ أحبك !”
_ أدهم
حطت قدمها على أراضي الوطن من جديد، و لا يسعها إلا مقارنة نفسها قبل أن تغادر من هنا و بعد أن وصلت اليوم، إنها حتمًا ليست كما ذهبت، عشرة أيام في إسطنبول مع حبيبها و زوجها “مراد” غيّروا الكثير
ربما لسيت على خير ما يرام مئة بالمئة، و لكن لا يمكن أن تنكر التحسّن الذي تشعر به، الرهبة قلّت، لم تعد تخاف من ممارسة الحب على من آوله لآخره، ليس في وجوده، إنه يطمئنها و يأخذ بيدها في كل شيء، أول ما فعله لدى وصولهما هو الذهاب رأسًا إلى عيادة الطبيبة النفسية الشهيرة، و قد أذعنت “إيمان” لإرادته و تركته يأخذها أينما شاء ؛
كانت الطبيبة في العقد الرابع من عمرها، سيدة أنيقة، بشوشة، عيناها واعدتين تشي بذكاءٍ و حكمة، مددت “إيمان” أمامها فوق الأريكة المخصصة للزوّار، و بناءً على طلبها كان “مراد” يجلس على مقربة منها، أرادت أن يحضر الجلسة، فرحبت الطبيبة و نفذت ما تراه “إيمان” مريحًا بالنسبة لها …
-ليه طلبتي مراد يحضر الجلسة يا إيمان ؟ .. تساءلت الطبيبة بلهجتها الهادئة الوسطية
صوّبت “إيمان” ناظريها نحو زوجها الآن، ها هو يجلس هناك أمامها، يضع ساق فوق الخرى و يسند ذقنه إلى يده، ينظر إليها بتركيزٍ و ينتظر ردودها
تنفست “إيمان” بعمقٍ و زفرت أنفاسها بتوترٍ طفيف و هي ترد :
-هو إللي صمم نيجي هنا. و كمان أنا ماعنديش أسرار أخبيها عنه. هو الوحيد إللي يعرف عني كل حاجة !
أومأت الطبيبة قائلة :
-حلو أوي. طيب إنتي دلوقتي قلقانة مثلًا إني أنا كمان بقيت أعرف أسرارك. عاوزة أعرف عندك أي قلق في اللحظة دي بالذات ؟
رفرفت “إيمان” بأهدابها مقرّة :
-طبعًا عندي قلق. أنا عمري ما حكيت لحد. غير …
قاطعتها الطبيبة : غير زوجك السابق. عارفة.. لكن عايزاكي إنتي كمان تعرفي يا إيمان إن كل كلمة إتقالت هنا مش ممكن حد يعرفها. أسرارك كلها في أمان عندي. الطبيب النفسي إستحالة يفشي أسرار مرضاه. أنا حتى ماشغلتش التسجيل و احترمت رغبتك
بقيت “إيمان” صامتة، تفرك يديها معًا فقط في محاولة لإخفاء عصبيتها، ابتسمت الطبيبة بخفةٍ و استطردت :
-طيب يا إيمان. هسـألك سؤال أخير.. إيه أكبر خوف في حياتك ؟ إيه هي الحاجة إللي ماتقدريش تواجهيها لو حصلت ؟؟
جاوبت “إيمان” على الفور :
-إن أدهم أخويا يعرف !
عبست الأخيرة : إشمعنا أدهم. ليه مش مامتك أو بقيّة عيلتك مثلًا !؟
ابتلعت ريقها و حلقها ينكمش بشكلٍ مؤلم، ثم قالت :
-أدهم أخويا الكبير. شبه بابا في الشكل و الطباع. يمكن بابا كان قاسي بس . أدهم مش قاسي. لكن هو نسخة من بابا.. بابا كان بيعاني من المثالية. ماكنش بيطيق الغلط. لو حد فينا غلط كان بيتعاقب. مش عقاب عنيف. لكن عقاب نفسي ممكن يوصل لشهور و سنين. أدهم زيه في كده. أنا ماكنتش بحب بابا. لكن بحب أدهم.. مش ممكن اخسره. و لو عرف أكيد هاخسره. مش هقدر !!
هزت الطبيبة رأسها في تفهمٍ …
طلبت منها أن تقوم عن الأريكة و تلحق بها، جلس ثلاثتهم الآن لدى المكتب، و بقي الزوجين يصغيا لكلمات الطبيبة و هي تخاطب كليهما :
-بصي يا إيمان. انتي طول حياتك اتعرضتي لتروما اكتر من مرة. و لو مش عارفة يعني إيه تروما ف هي ببساطة اضطراب كرب ما بعد الصدمة أو التروما هي الحالة النفسية السيئة إللي بيكون فيها الشخص بعد تعرضه لخطر مفاجئ أو حادثة أو صدمة قوية بيقف عندها العقل و بتسببله خوف عميق وعجز و رعب. هي حالة من الضغط النفسي بتتجاوز قدرة الفرد على التحمل و غصب عنه مابيقدرش يرجع لحالة التوازن النفسي و بيدخل في حالة تشتت قادرة تهز حياته أو تغيّر في شخصيته بشكل نفسي أو عضوي. معاكي إنتي كانت بتضغط عليكي نفسيًا للدرجة دي. إللي خلّيتك مع كتر المواقف السيئة إللي مريتي بيها فاقدة الأمان و الثقة و مؤخرًا الحب. زي إنك بقيتي تنفري من بنتك …
ثم نظرت نحو “مراد” و تابعت ماضية في الشرح :
-المشاعر السلبية دي لا تُطبق عليك يا مراد. إيمان بتحبك و بتثق فيك و بتحس بالأمان معاك. لأنك في ذاكرتها مرتبط بالمعاني دي. كنت موجود في فترة الصفاء في حياتها قبل ما تمر بأي أزمة مهلكة لنفسيتها. حتى العلاقة الحميمة إللي كرهتيها يا إيمان بسبب جوزك السابق سيف و أخوه. عملتيها مع مراد عادي لما اتجوزتوا. عارفة ليه ؟ لأنك رابطة العلاقة دي بالذات بمراد. بحبيبك إللي سمحتي له ياخد الجزء ده منك. و لأن ده الانطباع الأول للعلاقة مراد كان أول شخص تجربي معاه بدافع الحب ف مكانش عندك مشاكل و بقى عندك تخيّل معيّن عن شكل العلاقة لما اتجوزتي سيف مالاقتيش التجربة زي ما حصلت مع مراد. تجربتك مع مراد كانت طبيعية و فيها مشاعر متبادلة. مع سيف كانت قاسية و مش طبيعية و كانت فيها محرمات زي ما قولتي. يمكن لو ماكنتيش جربتي مع مراد و كانت تجربتك الأولى مع سيف ماكنتيش قدرتي تتقبلي مراد بعده. فهمتي حالتك ماشية إزاي !؟
أومأت لها “إيمان” و هي ترفع يدها مزيلة بعض قطرات من الدموع علقت بأهدابها، مد “مراد” يده الآن و أمسك بيدها الأخرى ضاغطًا عليها برفقٍ ليطمئنها، و كم كانت ممتنة لأنه فعل …
تنهدت الطبيبة و سحبت ورقة من دفتر العلاج خاصتها و بدأت تدوّن مرددة :
-بصي نص العلاج إننا عرفنا أسبابه. النص التاني أمره سهل. هانعمل انا و انتي كام جلسة كمان. ندردش سوا و هاكتب لك على نوعين دوا مالهمش أيّ ضرر على صحتك النفسية أو الجسدية. مجرد مُلطفات هاتاخدي من ده أول ما تصحي و من ده قبل ما تنامي لمدة أسبوع. و بعدها أشوفك إن شاء الله !
و انتهت الجلسو الأولى من العلاج
لتغادر “إيمان” برفقة زوجها، نزلا من العيادة و فتح لها “مراد” باب السيارة الأمامي، ثم استدار و استقلّ وراء المقود …
-بس إنتي ماقولتليش يعني على سبب كرهك لبنتك يا إيمان ! .. قالها “مراد” بلهجةٍ مقتضبة
استدارت “إيمان” في المقعد لتواجهه قائلة :
-كانت هاتفرق معاك. ما انت أصلًا عارف إللي كان بيحصل و قلت لك. و بعدين أقول السبب تحديدًا ليه. مش فارقة !!
مراد بحدةٍ : لأ فارقة. البنت دي بنتك إنتي. بغض النظر عن الطريقة إللي جت بيها. أوكي فهمنا أبوها كان ×××××.. بس هي حتة منك. ماينفعش تكرهيها. ماينفعش تبعدي عنها. صدقيني لو عملتي كده و ارتحتي شوية بكرة هاتندمي و لو حبيتي تصلحي غلطتك مش هاينفع. هايكون فات الأوان. هي إللي مش هاتقبلك بعد كده مهما عملتي. إنتي لازم تفوقي يا إيمان. فوقي قبل ما تخسريها. دي بنتــك !!!
انهمرت الدموع من عينيها بالفعل أثناء حديثه، رغم ذلك لم يرق قلبه لها هذه المرة، كان الأمر ضروريًا و المواجهة حتمية، لقد عمل على مجاراتها طوال الفترة الماضية، و لكن الآن و قد عادا، لا يمكن ان يسمح لها بإقصاء إبنتها و نبذها أكثر من ذلك
لا يمكن …
-معاك حق ! .. أقرّت “إيمان” و لا زالت تبكي
و اردفت من بين نهنهاتها :
-أنا كنت أم وحشة. أنا ضيعت و كنت هاضيّعها معايا بتصرفاتي.. معاك حق.. خلاص. خلاص أنا هاعمل غللي تقول عليه. روح هاتها. هاتها لي يا مراد
عبس قائلًا : و ليه ماتجيش معايا نجيبها سوا !؟
كفكفت دموعها من جديد و هي ترد بقوة الآن :
-لأ.. البيت ده مش هادخله. على الأقل دلوقتي !
*****
يقف “أدهم” خارج الغرفة، يراقب زوجته التي تنال العناية الكافية من أمه، لا تزال في محاولاتها معها لتجعلها تأكل، و لكن الأخيرة تأبى بشدة …
لا يدري ماذا يصنع معها !
لقد ضعفت كثيرًا، و حالتها النفسية أكثر سوءًا، بعد أن كان ماضيًا في معاقبتها، صار واقفًا على بابها ينتظر أن تعفو و تفصح عنه، فقط لا يريد أن يمسّها مكروه، لا يتحمّل رؤيتها هكذا.. حتى هذه اللحظة لم ينسى ما جرى لها بسببه منذ أكثر من أسبوع …
_____
وقعت أمام عينيه و قد لطّخت الدماء الجزء السفلي من قميصها و الأرض تحت قدميها، و هو كالصنم، الصدمة شلّته للحظات، و لم يبث فيه الحركة مجددًا سوى صراخ أمه
هرع إلى زوجته و حملها على ذراعيه، بينما ولجت أمه بسرعة داخل شقتها، أحضرت عباءة و ألبستها إيّاها بسرعة ؛
لينطلق “أدهم” بها إلى المشفى، لم ينتظر أمه و لم ينصت إليها بطلب الإسعاف، سيكون هو أسرع من الإسعاف، أخذها إلى مشفى خصوصي قريب، دخلت على الفور حجرة الكشف و رافقها بصفته طبيب بدوره، و من ثم علم بأنها تُجهض !!!!
لقد كانت حُبلى !!!
هو الذي تسبب في ذلك.. هو الذي تسبب في موت طفله… ضغط عليها و قسى بشدة
هو الملام.. هو لا غيره …
كانت تبكي بحرقة و هي تُساق إلى غرفة العمليات فوق السرير النقّال، بينما يتبعها و دموعها تتساقط لا إراديًا، أغلق باب العمليات أمامه و بقي بمكانه ينتظر خروجها، لم يتحرك مطلقًا، حتى خرجت ليست كما دخلت
كانت مُخدّرة الآن، مستنزفة، شاحبة، لا تدري بالدنيا من حولها …
قضت يومان بالمشفى و لم يفارقها خلالهما طرفة عين، رغم إنها شبه فقدت النطق، لم تأبه له و هو يكلمها، و لم تستجيب لأيّ محاولة منه لإستمالتها
و عاد بها إلى البيت في اليوم الثالث و لا زالت على صمتها، وحده صغيرها الأكبر في أخويه “عبد الرحمن”.. هو من جعلها تتكلم حين جاء و تسلّق الفراش ليجلس بجوارها
كان والده يجلس على مقربة منهما، و جدته تحاول مع أمه لتشرب كأس العصير
أتى هو و جلس على حضنها لافًا ساقيه الصغيرين حول خصرها، و مد يده الضئلية ليمسّد على خدّها متمتمًا بلغته الطفولية و طريقته التي توحي بأنه رجلًا صغير :
-تعيطي ليه ؟
فعلًا كانت الدموع تجري من عينها بين حينٍ و آخر، نظرت “سلاف” بعينيّ صغيرها و لا تعلم لماذا جلبت رؤيته المزيد من الدموع لعينيها، و أخذت تبكي بهدوءٍ بينما هو يمسح لها كل دموعها و هو يقول عاقدًا حاجبيه :
-تعيطيش.. ماما !
تدخلت “أمينة” في هذه اللحظة لتحمله بعيدًا عن أمه، إلا إن “سلاف” تمسكت به مغمغمة بصوتها الباكي :
-خلّيه. سبيه معايا ..
أذعنت “أمينة” لرغبتها مسرورة بأنها و اخيرًا فاهت بشيء، و تبادلت هي و “أدهم” نظرات الفرح، تركوا الصغير مع أمه تستمد منه بعض القوة، حضنه الصغير هو الملاذ الآمن لها في محنتها، و قد وسع كل حزنها و كآبتها، الشيء الذي ما ليمنحه إيّاها زوجها، مهما حاول …
_____
سحبه من أفكاره صوت أمه، إذ وجدها أمامه بغتةً، تنقر على كتفه ممسكة هاتفها :
-أدهم. أختك جت. لسا واصلة !
تطلع إليها متسائلًا :
-أختي مين !؟
-أختك إيمان رجعت من السفر هي و مراد
-إمم. حمدلله على سلامتهم ! .. و امتقع وجهه قليلًا
لم يود أن تأتي أخته إلى البيت الآن، لأن كل هذه المشاكل و الكوارث حدثت بسببها، بسبب زفافها المترف و الملذّات التي تنعّمت بها، كلها تخالف معتقداته و لا يستطيع أن يمنح زوجته مثلها، سيكون أكبر منافق أمام ربه
إن رؤية أخته ستضايق زوجته مجددًا، و الواقع إنه لا يريد أن يزعجها، لتبقى أخته بعيدًا
عن زوجته لفترة، حتى يرى كيف سيعوض لها خسارتها و الإساءة التي ألحقها بها …
-أمي من فضلك قولي لإيمان ماتجيش دلوقتي ! .. تمتم “أدهم” عابسًا بشدة
رفعت “أمينة” حاجبها قائلة :
-مش فاهمة يا أدهم !!
تنهد “أدهم” بحرارةٍ، لكنه قال بتصميم غير مراوغٍ :
-أنا و سلاف قاعدين عندك. عشان بتاخدي بالك منها و من الولاد. لو إيمان جت سلاف مش هاتبقى على راحتها. و أنا مش عايزها تضايق
أمينة باستنكار : يا سلام ! و من إمتى سلاف بتضايق من إيمان !؟
أدهم بحزمٍ : إيمان مابقتش لوحدها. و بعدين يا أمي أنا شايف فين راحة مراتي و ولادي. إنتي أصريتي يقعدوا عندك اليومين دول و أنا مس هقدر أقولك ماتخليش بنتك تيجي بيتها. أنا آسف. ماكنش ينفع أقول كده فعلًا. بس ينفع أخد مراتي و ولادي و نقعد في شقتنا !!
حدقت “أمينة” فيه و هي تقول مدهوشة :
-إيه يابني على مهلك. حصل إيه لكل ده و متعصّب كده ليه. أنا مابقتش عارفة أحوالك انت و مراتك بقيت غريبة و انت مش راضي تفهمني !
تململ “أدهم” بمكانه بعصبيةٍ واضحة و تجنّب النظر لأمه تمامًا، فاستطردت “أمينة” بهدوءٍ :
-خلاص هدي نفسك. أختك مش جاية أصلًا. هي وصلت آه من شوية. لكن راحة على بيتها. مراد اتصل بيا بس و بيقول أحضر شنطة هدوم لمى عشان أختك عايزاها. أنا كنت جاية أقولك كده
استغرق لحظاتٍ ليستوعب الأخبار الجديدة، و لم يستطع منع سروره و هو يعقّب الآن بارتياحٍ :
-أخيرًا إيمان عايزة لمى.. ربنا يهديها عليها. طيب يا أمي روحي. روحي فرحي البنت و حضري لها شنطة هدومها بسرعة
ابتسمت “أمينة” له.. ثم مضت لتفعل ما قاله لها
يسحب “أدهم” نفسًا عميقًا، و يزفره على مهلٍ، ثم يتوّجه إلى داخل الغرفة، غرفة نومه القديمة بشقة أمه، حيث ترقد زوجته فوق سريره في هدوءٍ
ما إن رأته حتى أشاحت بعيدًا عنه كالعادة، فلم ييأس، جاء و جلس على طرف الفراش عند قدميها، كان يضع حول ربلة ساقها رباطٍ ضاغط، فقد تأثرت قليلًا بالسقوط فوق الأرض و رضّت المنطقة كلها
و إذ كانت ترتدي أحد قمصانها الخفيفة القصيرة، كانت في نظره جذّابة حتى و هي مريضة و متعبة، دائمًا بهجة لنظره كعهدها منذ رآها أول مرة، لا يستطيع مقاومتها، فتنته !
مد “أدهم” يديه و أمسك بقدمها، انتهبت لتصرفه، فأدارت رأسها و نظرت نحوه، فإذا به يضع قدمها في حجره، ثم يبدأ بتدليك كاحلها بلمساتٍ لطيفة، و تقابلت نظراتيهما الآن، فقال بصوتٍ خفيض :
-إزي رجلك دلوقتي. لسا بتوجعك ؟
لم ترد عليه، بقيت تنظر إليه فقط، فابتسم لها و أردف :
-لازم تخفي بسرعة إن شاء الله. أنا واخد إجازة من المستشفى و الجامعة شهر بحاله. مش عايزين نقضيه في البيت. لازم تاكلي كويس عشان تخفي أسرع. عشان تقدري تمشي معايا …
و أمام عينيها، دنى برأسه صوب قدمها المصابة، و طبع قبلة مطوّلة هناك.. حبست أنفاسها لوهلةٍ… إنه.. قد قبّل قدمها حقًا للتو !!!
لأول مرة يفعلها !
رفع “أدهم” رأسه و حدق بها، الآن يرى الاحمرار يصطبغ على خدّيها، ابتسم ثانيةً و قد أدرك بأن تأثيره عليها لا يزال قائمًا …
-بدعي ربنا في كل ركعة. ماشوفش فيكي أي سوء.. و يحفظك ليا… حبيبتي !
و إن خفق قلبها لكلماته، و إن ألح عليها شوقها إليه و لدفء أحضانه، و لكنها أظهرت العكس، و أشاحت بوجهها بعيدًا عنه من جديد
فجرحها منه عميق، هو الذي يعرفها أكثر من نفسها، و يعرف منذ ارتبطا كيف يتعامل معها، هذه المرة لم يراعي أيّ شيء و لم يتحملها.. و فوق كل هذا خسرت جنينها بسببه
بسببه هو و أخته …
*****
استقبل “مراد” إبنة زوجته أمام البناية …
نزلت برفقة البواب الذي حمل عنها حقيبة ملابسها الصغيرة، ما إن رآها “مراد” حتى فتح لها ذراعيه، فاضطرت _ تحت وطأة الخجل و الخوف من توبيخ أمها إن اشتكى منها _ أن تقبل عليه و تجعله يحتضنها و يحملها، بل أنه أمطرها وابلٌ من القبلات الرقيقة و هو يقول :
-لولي القمر. وحشتيني يا حبيبتي وحشتيني أوووي !
و فتح للبواب صندوق السيارة ليضع حقيبة الفتاة، ثم سحب محفظته و أكرمه ببخشيشٍ سخي، أشرق وجه الرجل الأشيب و شكره بحرارةٍ، ليومئ “مراد” بتواضعٍ و يأخذ الصغيرة ليجلسها بالمقعد الأمامي إلى جانبه
تفاجأت عندما أدار المحرّك بكيسًا يدفعه إليها، مليئ بمختلف أنواع الحلوى الفاخرة، نظرت إليه من مستواها، فابتسم بمرحٍ :
-أيوة الكيس ده كله ليكي. طبعًا خبيته من مامتك عشان هي أعيل منك في الحاجات دي و بتحبها. لو كانت شافته كانت هاتخلصه كله و أنا جايبه ليكي إنتي يا حبيبتي
عبست “لمى” و هي تسأله بحدة طفولية :
-هي فين مامي ؟
-إيمان في البيت الجديد إللي نقلنا فيه يا لولي. وصلتها و جيت عشان أخدك و نرجع لها سوا
صمتت للحظات.. ثم قالت و قد فشلت بإخفاء غضبها كليًا :
-و هي ليه ماجتش عند تيتة أمينة ؟ ده بيتنا أصلًا !!
تلاشت ابتسامة “مراد” و هو يقول ناقلًا ناظريه بينها و بين الطريق :
-ماينفعش ترجع عند تيتة يا لمى. الوضع اتغيّر!
يا للحماقة …
كيف ستفهم الفتاة ما يقوله !؟
بالفعل برزت غمازة خدّها و هي تعوج فمها مشيحة بوجهها عنه للجهة الأخرى، صطف “مراد” السيارة على جانب من الطريق، ثم استدار نحوها قائلًا بلطفٍ :
-أنا و مامتك متجوزين دلوقتي يا لمى. و هي مش هاينفع ترجع بيت تيتة أمينة تاني. لازم تعيش معايا في بيتي. و انتي كمان مكانك جمبنا يا حبيبتي !
استغرقت لحظاتٍ من الصمت، ثم أدارت وجهها إليه من جديد، و قالت و شرارات الغضب تتقافز من عينيها الجميلتان :
-بس أنا مش عايزة أعيش في بيتك.. أنا مش بحبك !!
كانت تلك حقيقة يعرفها مؤخرًا، فبدل أن يبدي ردة فعل سلبية، تبسّم لها و قال بنعومةٍ :
-بس أنا بحبك. اعمل إيه !؟
لم ترد الصغيرة بشيء آخر، فعبس “مراد” قليلًا و سألها مادًا يده بحذرٍ ليمسح على شعرها :
-طيب ممكن أعرف ليه مش بتحبيني يا لمى ؟
مدفوعة بحقدها الأعمى ردت على الفور :
-عشان مامي بتحبك أكتر مني !
يهز “مراد” رأسه بالنفي قائلًا :
-ماحصلش. إيمان بتحبك انتي أكتر حد في الدنيا. عشان كده أول ما وصلنا إنهاردة قالت لي روح هات لي لمى بسرعة ..
رمقته بنظرت شك واضحة، فاستطرد ماضيًا في كذبته لأجل خاطر الصغيرة :
-و كمان أنا سايبها بتجهز لك أوضتك الجديدة. أنا و هي اختارنا لك كل اللعب إللي بتحبيها. و أول ما نوصل هاتلاقيها محضرة لك السفرة و التشوكليت كيك إللي بتحبيها. و يا حبيبتي أي حاجة تانية تشاوري عليها فورًا هاتبقى عندك. انا و مامي رهن اشارتك ..
عبست ملامحها الآن و لم تعد مشاعرها واضحة، فاعتبر ذلك مؤشر جيد، ما دفعه أن يدنو مقبلًا جبهتها بأبوّةٍ، ثم يتراجع محدقًا بسرورٍ إلى محيّاها الجميل، و يعقّب بابتسامة حلوة :
-مامتك ماكدبتش لما قالت عليكي شبهي. انتي من إنهاردة بنتي يا لمى !
انقلب مزاجها للأسوأ الآن و هي ترد عليه بعدائية سافرة :
-أنا مش بنتك.. أنا بنت سيف عزام !!!
بُهت “مراد” من طريقتها، أدرك بأن الدرب إليها سيكون وعر كثيرًا، لن ترق له بسهولة، و هو لم يعد يحاول أكثر
تحرّك بالسيارة مرةً أخرى، و لم يتكلم معها لبقيّة الطريق حتى وصلا إلى المجمّع السكني الفخم، و هدأ”مراد” السرعة أمام فيلا معيّنة، إنفتحت البوابة التي تعمل إلكترونيًا بأمرٍ منه، فتوغل إلى الداخل و توقف وسط الباحة المظللة بأغصان الشجر و الورود، و هناك خريرٍ قريب لجدول مياه من الخزف و الرخام …
فتح للصغيرة بابها لتترجل، ثم أتى بحقيبتها و أمسك بيدها ليرتقيا الدرج الصغير المفضي إلى مدخل البيت، فتح “مراد” الباب بفتاحه الخاص و دعاها للدخول أمامه، و بدأ ينادي ما إن دخلا :
-إيمان.. إحنا جينا.. لمى هنا يا حبيبتي !
جميلة، مشرقة في ضوء الشمس المائل نحو الغروب، دمعت عينيّ الصغيرة و هي تنظر إليها الآن، تفتدها بشدة، تحتاج لحضنها …
-مامي ! .. غمغمت “لمى” و رنة البكاء في صوتها الناعم
ابتسمت لها “إيمان” و لمعة عيناها واضحة، لمعة لا تخلو من الشجن و الحزن الدفين، فتحت لها ذراعيها و دعتها :
-لمى.. حبيبة أمها. تعالي …
قفزت الصغيرة في الحال و ركضت بسرعة إلى أحضان أمها، ركعت “إيمان” في اللحظة التي استقرّت بها فلذة كبدها بين أحضانها، كلتاهما تغمضان أعينهما، تبكيان في صمتٍ
و تربت الأم على شعر إبنتها و تهمس لها بعبارات الحب و الأسف …
لم يكن هناك ما يدعو للسرور في نظره أكثر من مشهدٍ كهذا، و أخيرًا فعلها “مراد”.. و جمع شملهما من جديد ! ………………………………………………………….
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية أوصيك بقلبي عشقا ) اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق