Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الثاني 2 - بقلم آلاء حسن

   رواية مصطفى أبوحجر كاملة  بقلم آلاء حسن   عبر مدونة كوكب الروايات 

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الثاني 2


 
-٢- بطل من رواية
 
كانت تلهث بإرهاق إثر خطواتها السريعة والتي كانت أقرب إلى الركض، وتوقفت أخيرًا على بُعد عدة أقدام من ذلك المكان المُكتظ بالكثير من الشباب في مُقتبل العُمر يترقبون جميعًا حضور كاتبهم المُفضل، نجحت في التقاط أنفاسها قبل أن تجتاز ما تبق من خطوات بحماس مع ابتسامة فَرِحة تُزين محياها باحثة عن مقعد تعتليه؛ لكنها لم تجد سوى مقعد خشبي شبه مُتهالك متروك بغير اكتراث في إحدى الصفوف الأخيرة، فتوجهت إليه واحتلته بإعياء مُحاولة إراحة جسدها المُنهك من إرهاق اليوم برمته، وبعد عدة لحظات ارتفع الهِتاف والتصفيق الحاد من حولها بعد أن هَب الجميع واقفين تحيةً للقادم ..
تسارعت دقات قلبها بصخب غير مُصدقة أنها على بُعد عدة أمتار عنه، اشرأبت بعُنقها بعدما وقفت هي الاُخرى مُحاولة رؤيته إلا أن عشرات الرؤوس من أمامها بدت كسد منيع يعوقها من الوصول إلى مُبتغاها إلى أن بدأ صوته الدافئ يصدح في الأرجاء من خلال مُكبرات الصوت فهدأ الجميع وجلسوا من جديد ..
شعرت بالأُلفة فى نبرات صوته العميق الدافئ وكأنها سمعته من قبل أو لرُبما نبرات ذلك الوسيم لازالت مُتعلقة برأسها ! ، حتى عندما نجحت فى رؤيته أخيرًا لم تستطع تحديد ملامحه بسبب بُعد المسافة بينهما إلا أن ذلك الهاجس داخلها بدأ في التكاثُر مُشككًا …
ازداد سطوع ضوء القاعة فور أن أُضيئت تلك الشاشة من ورائه لتظهر صورته بأضعاف حجمها الحقيقي بطريقة مُكَبَرة فاستطاعت رؤية تفاصيل وجهه بوضوح ..
توقف قلبها عن أداء عمله لعدة ثوان تسمرت فيها عيناها عليه بغير وعى وكأنها بداخل حُلم لم تستطع تصديقه، هل بالفعل كانت تجلس برفقته مُنذ عدة دقائق، بل وغادرته راكضة إلى الداخل ؟
هل كانت تتحدث إليه ويتحدث إليها ؟ هل جثت الفُرصة أسفل قدميها وهى لم تفطن إليها بل وأضاعتها بحديثها الساذج عنه في حضوره ؟
استمر ذلك الصراع بداخلها حتى أنها لم تعِ كلماته الأولى التي تفوه بها، فقط كانت تتأمله بذهول كالمسحورة، نظراتُها يملأها الإعجاب المُختلط بالدهشة فهو بعكس ما تخيلته ..
كانت تعلم مُسبقًا أنه قد تجاوز مُنتصف الأربعين من عُمره، فرسمت له صورة وقورة مَهيبة بداخل مخيلتها، فتصورته يُشبه والدها لِما لمسته من عطف ودفئ في كِتاباته، دائمًا ما كان يجول بخاطرها مرسومًا على شفتيه ابتسامة حنون وكأنه مبعوث لإسعاد البشرية، كَون عقلها صورة له تحمل الكثير من ملامح أبيها الذى غزا الشيب رأسه الأصلع فأصبح كأجنحة الملاك، رأته بخيالها ذات أنف كبير أفطس وشِفاه مُمتلئة ووجه أبيض مُستدير ..
لكن الذى يظهر أمامها الآن ما هو إلا نجم من نجوم هوليوود، عندما التقته بالخارج لم تُعطِه أكثر من ثمان وثلاثون سنة لولا تلك الشُعيرات البيضاء التي أجبرتها على الاعتقاد بإنه لرُبما تخطى الأربعين، وبأناقته الملحوظة ورائحة عِطره النفاذة التي غمرتها ظنته بسذاجتها إحدى رِجال الأعمال الذين تمتلئ بهم قصص الروايات التي تقرؤها ولثوان ظنت نفسها تلك البطلة الحمقاء التي ستفتعل معه مُشاجرة ..
تُرى هل كان يصف نفسه بداخل رواياته ! فهو في وسامة جميع أبطاله، ولا يقل جاذبية عن دنجوانات السينما، الآن تستطع الحملقة به دونما خجل أو استحياء لتكتمل صورته داخلها على أكمل وجه، فهو صاحب وجه مليح مُتناغم ذات تقضيبه عابسة تظهر بين كُل حين والآخر ذكرتها بتقضيبه (صالح سليم) فتى أحلامها الأول، وأنفه رجولي مُتناسق يعلو شِفاه رفيعة وممتلئة في الوسط يبدو عليها الجفاف من إثر السجائر تمامًا ك (رشدي أباظة) الدنجوان الأول للسينما المصرية، شُعيراته سوداء لامعة يحتضنها الشيب من الجانبين ك (أحمد مظهر) عندما تقدم به العُمر قليلًا فأصبح أكثر جاذبية مثل صاحبنا ذلك، أما لونه فكان أقرب للسمار مُشرأِب بحُمرة خفيفة أضافت على وجهه لمعانًا مُميزًا يُذكرها بجاذبية سمار(عمر الشريف) الذى طالما أحبت طلته العالمية الخاطفة ..
في تلك اللحظة ابتسم هو فسقط قلبها بين ساقيها كالمرة الأولى، بينما عينيه الضاحكتين ما لبثا أن اختفيا بداخل أهدابه الطويلة المُظلِلة فأصبحا كخطين مستقيمين سوداويين يُعبران عن بشاشة لم تقل عن بشاشة ومرح عيني (أحمد رمزي) الضاحكتين ..
تنهدت بغير وعى وكأنها في دُنيا أخرى فزحام الوجوه التي عشقتها كانوا مجتمعين في وجه رجل واحد عصف بكيانها، تداخلوا جميعًا لتشكيل مُحياه الآسر، أفاقت من تنهداتها عندما جاءها صوته الرخيم الهادئ قائلاً بابتسامة وكأنه يُناديها :
_ النهاردة وبالصُدفة البحتة قابلت حد مُعجب بكتاباتي، وقعد أتكلم معايا عن رواياتي من غير ما يعرف أنا مين ، والحقيقة ده شيء بسطني جدًا لإنه كان خالي من أي نفاق أو مُجاملات …
صمت قليلاً قبل أن يُكمل بثبات :
_ أتمنى إنه يكون قدر يوصل للقاعة ويبقى معانا هِنا دلوقتي عشان أشكره على كلماته الراقية اللي عبر بيها عن إعجابه الصادق، ولو موجود وسامعني ياريت يستناني بعد حفل التوقيع عشان أديله إهدائه الخاص …
قال جُملته الأخيرة تلك وهو يتجول بين الحضور بعدستيه بحثًا عنها، لقد كانت تعلم أنه يقصُدها بكلماته لذا اضطرب كيانها واختلجت قسماتها بل أخذت تفرك كفيها بتوتر شديد حيث هُيئ إليها أنه ينظر إليها مُباشرة …
لم تشعُر بالوقت سوى عند انتهاء الحفل بعد أن تجاوزت الساعة الثامنة والنِصف، وحصل الجميع على توقيعه عاداها هي حيثُ ظلت في مكانها مُحتضنة نسختها بترقب تنتظر انفضاض الجمع من حوله حتى تتمكن من الاقتراب منه والتعريف عن نفسها …
كان يلتف حوله ثلاثة أشخاص من منظمي الندوة حاول هو التملص منهم فور رؤيتها تقف بعيدًا، غادرت مقعدها واقتربت منه بخجل بينما الابتسامة ملأت وجهها ..
رأت من مكانها إلتماعة صفى أسنانه المصقولة ترحيباً بها عِند اقترابها بعد مُغادرة من كانوا برفقته فارتفعت وجنتاها أكثر مُرتعشتان من السعادة، لكن ابتسامته المُرحبة تلك ما لبثت أن بدأت فى التلاش دونما مُبرر، فعبست هي باستغراب وتوقفت عن التقدم مُستطلعة الأمر حتى رأت فتاة تقترب منه بخطوات سريعة ..
بدا على وجهه علامات الارتباك والتردد حين رآها، حيثُ هُيئ إليها أنه يعرف تلك الوافدة جيدًا خاصةً بعد أن جذبها من ذراعها بقوة فور أن وقفت امامه وهمت بالحديث فرافقها إلى الخارج بوجه عابس وملامح غاضبة ..
بينما توقفت هي مكانها مُحاولة فهم ما يحدث بينهما إلا أن رنين هاتفها الذى تصاعد في ذلك الوقت برقم والدها شل تفكيرها فأجابت باضطراب وقلق ثُم سُرعان ما غادرت في الحال دونما تفكير مُتناسية أمر كاتبها المُفضل ..
**************
بقلب مُنقبض وأرجل مُرتعشة وضعت أولى خطواتها داخل عتبة منزلها مُتلفتة يُمنةً ويسارًا بأعصاب مُضطربة غلب عليها الخوف بعد أن تجاوزت الساعة العاشرة مساءًا، حيثُ لم يتوقف هاتفها عن الرنين طوال الطريق بعد أن اشتد زحام الطُرقات واستغرقها الأمر ما يزيد عن الساعة والنصف حتى تصل إلى منزل والديها حيثُ تُقيم مع إبنتها …
أغلقت باب المنزل بحذر ثُم انحنت لتخلع حذائها المُلوث بالطين من آثار المطر، وقبل أن تستقيم من جديد جاءها صوت والدها الحازم من ورائها قائلًا بسخط :
_ كنتي فين طول اليوم وإزاي تسمحي لنفسك إنك تتأخري للوقت ده ..
رفعت رأسها إليه ببطيء حيثُ كان يقف أمامها مُباشرة واضعًا كفيه بتحفز داخل جيبي منامته الصوفية البيضاء ذات الخطوط الرمادية الرفيعة، فأجابته مُعتذرة بأدب وهى تُحكم الإمساك بحقيبتها وكأنها تُحاول إخفاء جريمتها :
_ أنا آسفة يابابا مش هتتكرر تاني ..
لم يُهدئ إذعانها ذلك ولا اعتذارها من ثورته بل أشتد سخطه قائلًا بتصميم وبنبرة أكثر حدة :
_ بقولك كنتي فين لحد دلوقتي ؟
كان الإرهاق والتعب قد تجاوز حَدُه داخلها، وشعرت بذلك الدوار المُعتاد يُسيطر عليها فلم تستطع التحدث بل خرجت كلماتها مُرتعشة ضعيفة غير مفهومة، وفى تلك اللحظة ظهرت الأُم من خلف إحدى أبواب الغُرف قائلة وهى تُغلقه من ورائها برفق:
_ شششش وطي صوتك يامحمود .. البنت نامت ..
انتبهت الأُم إلى وجه إبنتها الشاحب فقالت بجزع :
_ مالك ياشمس في إيه ..
زفرت الابنة بإرهاق مُجيبة وهى تتوجه إلى غُرفة إبنتها بسُرعة مُحاولة الفِرار من براثن أبيها الغاضب :
_ عاوزة أنام ياماما تصبحوا على خير …
قالت جُملتها الأخيرة وفى خلال ثوان كانت قد اختفت بداخل الغُرفة تاركة الأب من ورائها وقد أحمر وجهه غضبًا حيثُ أراد الاندفاع خلفها للحصول على إجابات
لتساؤلاته إلا أن الأُم منعته من ذلك قائلة :
_ وحياة حبيبك النبي يامحمود تسيبها دلوقتي …
خرجت زفراته الحارة من بين شفتيه بقوة قائلًا وهو يُحاول السيطرة على غضبه :
_ عليه أفضل الصلاة والسلام ..
ثُم ما لبث أن أضاف بصوتٍ عال تعمد وصوله إلى مسامع ابنته :
_ يعنى عاجبك عمايل بنتك دي مش المفروض تكون عقلت بعد اللي حصلها ..
ربتت الأُم على إحدى كتفيه برفق قائلة :
_ أهدى بس كده ياأخويا .. يعنى كان إيه اللي حصلها هي يعنى أول ولا آخر واحدة تتطلق .. ده كله مكتوب ..
تخلى صوته عن حدته رغمًا عن استمرار علو طبقته قائلًا :
_ لا مش أول واحدة بس متنساش إنها عندها بنت يامجيدة المفروض تراعيها وتخلى بالها منها أكتر من كدة ..
ابتسمت زوجته بعطف مُعلقة :
_ معلش أنت عارف اللي مرت بيه .. الطلاق ده مكنش بالساهل ..
خرجت كلماته بصورة مُتعمدة راغبًا في نقل الصورة إلى مسامع ابنته علها تفهم سبب غضبه :
_ فهمى بنتك إنها مش لسة بنت بنوت لا دي مُطلقة يعنى مدام ونظرة الناس ليها مش هترحمها وهيحاسبوها على الصغيرة قبل الكبيرة ..
في تلك اللحظة خرجت الأم عن هدوئها وإذعانها مُدافعة عن إبنتها بغضب قائلة :
_ وإحنا مالنا ومال الناس أنت عارف إحنا مربين بنتنا إزاى …
رمقها الزوج بنظرة عابسة قبل أن يوليها ظهره مُتجهًا إلى غرفته وهو يقول :
_ أنا عارف وإنتى عارفة، بس الناس مش عارفة ولو واحد عاملها باحترام فعشرة هيقلوا أدبهم .. انتي مبتقريش كل يوم عن حوادث الاغتصاب والتحرش اللي مالية البلد ..
أتبعته مجيدة إلى داخل الغُرفة وأغلقت بابها من ورائها بلُطف قبل أن تصدر منها تنهيدة خافتة مُحاولة التحدث بهدوء وعقلانية قائلة :
_ متخافش على بنتك يامحمود، شمس تعرف تصدهم كويس وبعدين المُطلقات ماليين الدُنيا والناس تفكيرها أتغير وبقت تعرف إن الطلاق لا هو سُبه ولا عار .. إلا أنت دماغك لسة دقة قديمة زي عوايدك وبتفكر بتفكير السبعينات ..
قفزت نظرات الحُزن داخل عيني الأب وقال بنبرة غلبت عليها القلق وهو يعتلى فِراشُه :
_ يامجيدة أفهميني أنا عارف إن بنتنا ميعيبهاش حاجة وإنها كانت لازم تتطلق من البقف اللي كانت متجوزاه ده والحمد لله إننا موجودين وبيت أبوها مفتوح .. إنما هي مينفعش تبقى عايشة براحتها زي قبل جوازها .. تشتغل وتنزل وتخرج مع أصحابها كأنها بنت عشرين ..
جلست زوجته بجواره قائلة بعتاب :
_ يوه يعنى مش عاوزها تفك عن نفسها شوية ..
زمجر هو بفُقدان صبر قبل أن يقول مُوضحًا :
_ تفك ياستي تفك بس متنساش بنتها، إحنا مش عوزين حاجة منها بس بنتها مينفعش تقعد معانا أكتر مابتقعد معاها .. البنت لسة مكملتش سبع سنين ومحتاجة أُمها …
ربتت عليه مُهدأة قائلة بابتسامة :
_ إن شاء الله الأحوال تتصلح ياأبو شمس متشيلش هَم ، دي بتحب بنتها قد عنيها وهى يعنى بتشتغل ليه مش عشان توفر طلباتها وتحوشلها حاجة للزمن ..
طلت الحيرة من عيني الأب وهو يجتذب غطاؤه ليتلحف به قائلاً بقلة حيلة :
_ والله ما أنا عارف أقولك إيه ربنا يصلح الأحوال ويهديها يارب ..
*******************************
تململ في نومته باختناق واضعًا وسادته الوثيرة الناعمة فوق رأسه بتأفف مُحاولًا تجاهل ذلك الرنين المُستمر إلى جانبه وبالخارج، تقلب في فراشه يُمنةً ويسارًا عدة مرات قبل أن يُغادره بسخط مُمسكًا بذلك الهاتف بجواره والذى لم يتوقف أزيزه مُنذُ الصباح الباكر ليُلقيه أرضًا بعصبية حتى تفككت اجزاؤه، ثُم توجه إلى باب منزله مُتوعدًا لذلك الأحمق الذى لم يرفع إصبعه عن زِر الجرس، ففتح الباب بعُنف قائلًا بنبرة أشبه إلى الصياح دون أن يفطن إلى هوية القادم :
_ نعم … في إيه على الصبح .. حد يخبط كده ..
اتسعت عيناه بتفاجؤ وتوقفت الكلمات داخل حنجرته عندما وقعت عدستيه عليها، ازداد غضبه من جرأتها ومجيئها إلى منزله بتلك الوقاحة وكأنها لم تكتف بتعكير صفو يومه بالأمس، ومن جديد خرج صوته غاضبًا بعدما ازداد احمرار وجهه وطل الشرار من مقلتيه مُتسائلًا بصوت أقرب إلى الهمس المكتوم :
_ إنتى إيه اللي جابك هِنا ؟
تجاهلت سؤاله باستخفاف واضح قبل أن تتحرك قدماها إلى داخل المنزل دون إذن صاحبه الذى تنحى جانبًا مُحاولًا استيعاب ما تقوم بفعله بينما هي تجولت بنظرها في أرجاء المنزل قائلة بابتسامة وهى لازالت تقف على بُعد خطوات من الباب :
_ لا بس بيتك حلو …
دفع مصطفى باب منزله بإحدى قدميه ليُغلقه بعصبية قبل أن يقول آمرًا دون أن يتحرك إليها :
_ إنتى رايحة فين أقفى هنا كلميني زي ما بكلمك ..
ثُم أضاف بازدراء عاقداً ذراعيه أمام مُقدمة صدره :
_ إيه اللي جابك يا آلاء ؟
التفتت إليه بأعين تتقد شرارًا قبل أن تقول بتهكم :
_ دلوقتي بقيت آلاء مش إمبارح كنت لولو ولا كُنت بتلطف الجو بس عشان الفضايح ..
حاول هو التماسك إلى أقصى درجة مُجيبًا بنبرة جاهد لإخراجها هادئة :
_ عاوزة إيه ..
التمعت عيناها ببريق وحشى مُجيبة بانفعال :
_ عاوزة حقي ..
خرجت من بين شفتيه شبه ضحكة قصيرة زادت من استفزازها مُعلقًا بتهكم واضح:
_ مش ملاحظة إن حالتك اتطورت أوى ومحتاجة تتعالجي ..
نجحت كلماته الساخرة فى استفزازها فتعالى صوتها بغضب قائلة بتحفز :
_ أنا أتعالج ؟
ثُم أضافت بضعف :
_ بس ده مكنش كلامك من كام شهر ..
زفر مصطفى بضيق قائلاً بإشفاق بعدما أهدل ذراعيه إلى جانبي جسده مُحاولًا التلطف بها :
_ يابنت الناس فوقى بقى .. أنا حاولت كتير أفهمك إن انا مش مُمكن أبصلك فى فرق سن بينا أكتر من ٢٠ سنة مينفعش ..
ارتعشت ابتسامة مُترددة على جانبي شفتيها قائلة بلهجة أقرب إلى الرجاء :
_ بس أنا ميهمنيش فرق السن، المُهم أبقى معاك وجمبك ..
لم يجد هو فائدة تُرجى من التحدث إليها بعقلانية وهدوء فقال بلهجة قاطعة وكلمات حاول إخراجها قاسية لإفاقتها من وهمها :
_ بس أنا مش موافق وعمرى ماهفكر فيكي بالطريقة دي وكفاية لحد كدة ..
رمقته بنظرة طويلة راجية سُرعان ما امتلأت بالتوعد وتحولت إلى النقيض قائلة بشراسة :
_ لا أنت اللي كفاية لحد كده ..أنا عملت كُل اللي عملته واتنازلت عن حاجات كتير عشان حبيتك وعشان هتبقى ليا أنا لوحدي .. إنما كلامك الجديد ده بقى أنا هعرف أرد عليه بطريقتي ..
عقد ذارعيه أمام صدره من جديد مُتسائلاً بعدم اكتراث :
_ خلصتي ؟
وقبل أن تُجيبه امتدت ذراعه إلى مقبض الباب يفتحه بهدوء مُكملاً بحزم :
_ طيب تقدري تتفضلي مع السلامة وياريت ترحميني من مُكالماتك اللي مبتقفش ..
لم تُجبه هي بل توجهت إلى الخارج مُباشرة وولته ظهرها مُغادرة دون أن تنبس ببنت شِفة، بعد أن ملأت ابتسامة السُخرية ثغرها والتمعت عيناها باضطراب واضح مُختلط بالرغبة في الانتقام، فبعد نظرات القسوة والاستهزاء التي لاقتهما داخل مقلتيه للتو أقسمت بداخلها أنها لن تتركه يتمتع بماهو فيه بعد اليوم ..
أغلق الباب من ورائها بعُنف وكأنه يتعمد إيصال ذلك الشعور بالنفور داخله إليها وإيضاح عدم رغبته في تواجدها داخل حياته غير مُبالى بتلك النظرات النارية التي رمقته بها، ثُم أخذ يمسح على وجهه ببطيء مُحاولًا التنفس بهدوء للتخلص من ذلك الغضب الذى سيطر عليه مُتمتمًا بحنق :
_ هو أنا ناقص المجنونة دي كمان ..
*******************************
بداخل ذلك المطبخ متوسط الحجم طولًا وعرضًا والذى غطت طبقة من الدهون حوائطه مثلما اعتلت أسطح بعضًا من أجهزة المطبخ الكهربائية بألوانها الباهتة، كانت مجيدة تقف بجسدها المُكتنز متوسط الطول أمام الموقد المُتهالك والذى أحاطه الصدأ من عدة جوانب، تتصبب عرقًا رغمًا عن برودة الجو، حيثُ أن الأبخرة التي غطت سماء المطبخ بسخاء مُعلنة عن تحضير ما لذ وطاب من مأكولات الشتاء اللذيذة كانت كافية لتحويل تلك البرودة إلى دفئ لا يناسبه ارتداء الملابس الثقيلة التي كانت تتلفح بها الأُم، عدلت من وضع منديل رأسها الذى خبأ بأسفله شُعيراتها الكستنائية المُحناة ليُحدد غرة وجهها القمحي ذات الأعين الصغيرة التي لاحت بهما نظرة عسلية حالمة أشارت إلى مسحة من جمال زائل لم يختف أثره بعد على قسماتها الحانية رغمًا عن تجاوزها الخمسون من عُمرها ..
ناولتها إبنتها كوبًا من الماء الفاتر قبل أن تجلس فوق تلك الأريكة الخشبية الصغيرة في إحدى الأركان والمغطاة بالمساند القُطنية اللينة والتي وُضع أمامها طاولة صغيرة معدنية اعتلاها بعض الخُضروات وطبق كبير وسكين صغير، التقطته شمس برفق قائلة وهى تهم بتحضير السلطة :
_ لسة كتير ياماما ولا إيه انا جوعت ..
هزت مجيدة رأسها نافية وهى تُضيف الملح إلى إحدى الأصناف قائلة :
_ عشر دقايق على ماأبوكي يصلى العصر نغرف على طول ..
ثُم أضافت قائلة :
_ سامعاكي بتحكي ليارا قصة جديدة، شكلها هتطلع بتحب القراية والروايات زيك .
ظهرت ابتسامة حانية على وجه شمس قائلة بتفاخر :
_ طبعًا لازم تطلعلي امال هتطلع للزفت أبوها مثلاً ..
عبست ملامح مجيدة فور ذكر إبنتها لهذا الأحمق، فتساءلت بفضول :
_ لسه زي ما هو مبيسألش على بنته ..
ظهرت علامات الامتعاض على وجه شمس قائلة برجاء :
_ ربنا يبعده عننا ويفضل ناسينا ده ميجيش من وراه إلا المصايب ..
مجيده بسُخرية عقب تذوقها لإحدى الأصناف :
_ قولت يمكن ضميره صحى وأفتكر إن ليه بنت ..
أجابتها إبنتها باشمئزاز وهى تتناول حبة الطماطم :
_ وهو اللي زي ده يعرف يعنى إيه ضمير ..
ظهرت علامات التوتر أعلى وجه مجيدة التي ترددت قليلًا قبل أن تستجمع شجاعتها وتقول بنبرة حاولت إخراجها طبيعية :
_ اسكتي مش أسامه إبان عمتك رجع من السفر ..
تجمدت يدى شمس لبضع لحظات وتوقفت عن العمل فور أن استمعت إلى اسمه، لكنها سُرعان ما تمالكت نفسها وقالت بعدم اهتمام :
_ حمد الله على سلامته .. رجع امتى !
تصنعت الأُم الانشغال بترتيب بعض الأواني بينما أنصب تركيزها كله مع ملامح إبنتها التي تغيرت قليلاً مُجيبة :
_ لسة من كام أسبوع، ابوكي بيقول عاوز يستقر بقى ويعمل مشروع هِنا ..
أومأت شمس برأسها قائلة :
_ آه ..
ثُم ما لبثت أن استطردت مُحاولة إخفاء ما يختلجها :
_ لسه بردو بيشتغل في صناعة السينما والإنتاج ..
أجابت الأُم بحماس بعدما استشعرت الاهتمام في حديث إبنتها :
_ اه ما هو بيفكر يدخل شريك في شركة إنتاج هِنا ..
أجابت شمس دونما النظر إلى والدتها التي تركت ما بيدها وسلطت نظراتها عليها :
_ طيب تمام دي حاجة كويسة ..
تابعت مجيدة بنفس الحماس :
_ وبيدور على عروسة ..
ظهر شبح ابتسامة ساخرة على وجه الابنة قائلة بتهكم :
_ لما أفتكر ! ده فاضله كام سنة ويقفل الأربعين ..
أجابتها الاُم بكلمات حانية تحمل بين طياتها معنى مٌحدد :
_ كل حاجة بآوناها يابنتى ..واللي منفعش زمان ينفع دلوقتي..
كانت قد انتهت الابنة من تقطيع جميع الخضروات أمامها عندما قالت :
_ ربنا يوفقه ويلاقى واحده بنت حلال زيه ..
تشجعت الاُم من استسلام إبنتها وهدوئها على هذا النحو مما دفعها لقول :
_ كان يجرى إيه يعنى لو وافقتي عليه لما أتقدملك بدل الزفت اللي إتجوزتيه وصممتي عليه ..
لاحت شبه ابتسامة حزينة مُقتضبة ظهرت بين شفتي شمس التي قالت بغير اكتراث:
_ ياماما دي حاجة من عشر سنين إنتى لسه فاكرة .. إذا كان هو زمانه نسى ..
التمعت عيني الأم بحماس وقد ظهر الغرض الأساسي من وراء ذلك الحديث قائلة :
_ طب ولو قولتلك إنه لسه فاكر ؟ وعاوز يعيد الوِد القديم ..
عبست فرح بجدية مُحاولة فهم ما ترمى إليه والدتها مُتسائلة :
_ فاكر ايه ياماما ووِد إيه اللي يعيده ؟ تقصدي إنه عاوز يتجوزني؟
ألتمع وجه الأُم القمحي بابتسامة واسعة مُشجعة مُجيبة على الفور :
_ وليه لا ياحبيبتي .. ابن عمتك وأولى بيكي من الغريب ..
أحمر وجه شمس غضبًا وغادرت مِقعدها قائله بلهجة قاطعة :
_ ماما أنا قولتلك ألف مرة مش هتجوز تانى كفاية عليا بنتي مش هجبلها أنا جوز أم يعقدها .
ثُم أضافت بحدة :
_ وبعدين إيه أولى بيا من الغريب دي .. هو أنا بيعة ولاشروة بتدورولها على اللي يشيلها ..
حاولت الأُم تهدئة تلك الثورة التي شملت إبنتها قائلة بعقلانية :
_ يابنتى استهدى بالله كده وأفهمى أنا وأبوكي مش دايمنلك وإنتى لا ليكي أخ ولا أخت يونسوكي .. إنتى لسة صغيرة على إنك تشيلي الهم لوحدك بالشكل ده …
هدأت شمس من روعها قليلًا بعد تفهمها لقلق والديها عليها فقالت بصوت حاولت إخراجه خفيضًا :
_ خلاص يا ماما لما يبقى فى حد مناسب ويحب بنتي وبنتي ترتاحله هبقى أشوف ..
لكن مجيدة لم تبتلع ذلك الرد الغير مُحدد فقالت بعناد وتصميم :
في تلك اللحظة خرجت شمس عن هدوئها من جديد وقالت بنبرة أشبه للصياح :
_ أنا اللي مش بحبه ياماما وكفاية بقى لو سمحتي، أنا هدخل أنام ..
مجيدة باستغراب :
_ تنامى ! طب والغدا مش هتتغدي ..
غادرت شمس المطبخ بعد أن لوحت بيدها قائلة بغضب مكتوم :
_ مليش نفس .. ومحدش يصحيني ..
ما إن أغلقت شمس باب غرفتها من ورائها حتى غادر والدها غرفته بحذر مُتوجهًا إلى المطبخ بخطوات بطيئة حيثُ زوجته التي اعتلت الأريكة بكِدر وقلة حيلة، فجلس بجوارها مُتسائلًا بخفوت وهو يحمل بين أصابعه مسبحته البيضاء الطويلة :
_ موافقتش بردو ؟
هزت الأُم رأسها نافية وهى تضع بعضًا من الملح والخل على إناء السلطة قائلة :
_ أهو اللي نبات فيه نصبح فيه .. نفس الرفض اللي رفضته من غير سبب من عشر سنين …

reaction:

تعليقات