رواية ما بين الألف وكوز الذرة كاملة بقلم رحمة نبيل عبر مدونة كوكب الروايات
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثاني عشر 12
كانت عين محمود متسعة بقوة، يحركها ما بين المطفأة والجثة التي تتسطح ارضًا، شاعرً بالرعب قد تملكه، لا يستوعب ما فعل، هل هو فعلًا من اوصل ذلك الرجل لهذا ؟!
وصالح جواره يفتح فمه ببلاهة، لم يعي بعد ما حدث بسبب سرعة ردة فعل محمود، ابتلع ريقه ينظر لمحمود الذي كان يعود للخلف كما لو كانت المرة الأولى التي يبصر فيها دماءً، ليس وكأنه يقضي يومه كاملًا مغطى بالدماء .
” هو …هو ماله كده ؟؟”
كانت تلك الجملة صادرة من عقل محمود في منطقة اللاوعي ليجيبه صالح الذي ابتلع ريقه :
” مفيش شكله كان سهران طول الليل وسقّط في النوم ”
وفجأة انتفض محمود على صرخة صالح الذي قال :
” يعني مش شايف ايه اللي حصل ؟! أنت قتلت الراجل ”
فتح محمود عينه بصدمة شديدة وكأنه لا يصدق حديث صالح، يهز رأسه نفيًا :
” لا …ده هو ..معرفش ..هو اللي كان هيقتلني، لا كان هيقتلك أنت”
صمت ثواني ثم قال بانهيار :
” هنعمل ايه ؟! هنعمل ايه ؟! نخبي الجثة فين ؟! نشرحه وكأنه جثة عادية ونحطه في تلاجة جوا ؟!”
امسكه صالح من تلابيبه يهزه ليستوعب ما ينطق به :
” تلاجة ايه اللي نحطه فيها يا غبي هي تلاجة بيتكم ؟؟ ليه محسسني أنك بتتكلم عن كيلو طماطم، فوق يا محمود ده راجل واتقتل ”
ابتلع محمود ريقه، ثم قال :
” بس هو ..هو كان بيهددك وكان هيقتلك، أنا ..أنا آسف مش قصدي ”
نظر للاسفل حيث الرجل وهو يردد معتذرًا :
” يا استاذ أنا آسف والله انا بس اندفعت بسبب الادرينالين، وكمان أنت اللي كنت بتهدد صاحبي ”
جذب صالح محمود له بلطف، وهو يمسح وجهه يحاول التفكير في حل لما حدث، حسنًا الأمر في صالحهما لا داعي للتوتر، ذلك الرجل جاء مكتبه يهدده وصديقه ساعده والدليل أنه يمتلك سلاحًا وهذا يحسن من موقفهما، نعم لن يحدث شيء، هذا دفاع عن النفس .
في تلك اللحظة والتي بدأ صالح يتمالك نفسه وقبل أن ينطق بكلمة سمع الاثنان صوت فتح الباب بقوة ليطلق محمود صرخة فزعة وهو يلقي المطفأة ارضًا وكأنها ستشي به، لتسقط على رأس الرجل مرة أخرى وتزيد من الطين بلة .
ضرب صالح محمود بغيظ :
” يابني بقى حرام عليك ”
نظر له محمود بقلة حيلة :
” اعمل ايه هو اللي مات في المكان الغلط، ما يتزحزح بعيد شوية “
” عندك حق، كان لازم قبل ما يموت يشوف مكان طراوة يموت فيه ”
افاق الاثنان من ذلك الشجار المؤقت والذي نتج عن الموقف الذي سقطا به على صوت صلاح :
” ايه اللي حصل هنا ؟؟”
استدار الاثنان صوب الباب ليجدا صلاح وميمو ومختار يقفون ويناظرون ما يحدث بصدمة، فصلاح الذين كان يركض صوب المشفى بأعين متقدة بالغضب يتوعد إن مسّ أحدهم أخاه بخدش واحد ليهدمن تلك المدينة فوق رؤوس سعيد ومن معه، والآن ماذا ؟؟
تحرك صالح سريعًا صوبهم يجذبهم داخل مكتبه ومن ثم اغلق الباب بقوة وهو يقول ببسمة متوترة :
” حلو اوي جريمة على خمسة هتخفف من العقاب صح ؟؟”
تشنج وجه ميمو وارتفع حاجبها بسخرية :
” جريمة على ايه ؟؟ ”
أجابها صالح ببساطة :
” على خمسة يا غالية، أنا وانتم التلاتة ومحمود ”
هز محمود رأسه وكأنه يوافق صديقه فيما قال، لكن ميمو لم تهتم بهما وهي تتحرك بخطوات بطيئة حتى توقفت جوار ذلك الجسد المسطح ارضًا، ومن ثم انحنت تجلس القرفصاء، تبتسم بسمة جانبية ساخرة :
” هي وصلت لعمر ؟؟ شكلك مهم اوي عند سعودي ”
أشار له محمود :
” تعرفيه ؟؟”
رفعت هي عيونها له ترد بهدوء محركة كتفيها :
” أنا أعرف كل رجالة سعيد عادي ”
مال محمود على صالح وهو يهمس بخفوت :
” مش قولتلك ست قادرة ”
” سمعتك على فكرة ”
كانت تلك كلمات ميمو وهي تنهض تنظر لهما، ومن ثم نظرت لصلاح الذي كان صامتًا منذ وطأ المكتب وكأنه ما يزال لا يستوعب أن أخاه بخير، تنفس الصعداء في الوقت الذي سمع به صوت ميمو :
” ده اخوك المسكين اللي خايف عليه ؟! ده خلص على واحد من أعوان ابليس ”
هز صالح رأسه بقوة :
” والله ولا لحقت حتى أخرج المطوة، ده محمود اللي خلص عليه ”
قال محمود باندفاع وغضب :
” وانا يعني خلصت عليه عشان مين ؟؟ مش عشانك ؟؟”
مسح صلاح وجهه يتحرك صوب تلك الجثة والجميع يراقبه بقلق، صالح يفكر في تلك المصيبة وكل افكاره ذهبت لإبلاغ الشرطة وإثبات أنه كان دفاعًا عن النفس، لكن فجأة قال بصوت مرتفع ولهفة جعلت محمود ينتقض من جواره :
” صح، مش عيلتك كلها ظباط يا محمود؟! ما تشيل أنت الحوار ونقول أنه دفاع عن النفس وكده كده ليك وسايط وهتخرج زي الشعرة من العجينة ”
ارتسمت بسمة ساخرة على جانب شفاه محمود :
” زي الشعرة من العجينة ؟؟ والله عيب عليك تقول الكلام ده وأنت اكتر واحد عارف عيلتي وخاصة عمي، طب سيب الكلام ده يطلع من حد غريب، ده مش بعيد عمي يجيب شهود يقولوا ان السلاح ده بتاعي واني أنا اللي خطفت الراجل ده وجبته بالاجبار للمكتب وخلصت عليه هنا وهيثبت أن كل ده من تخطيط ابويا عشان يبقى خلص مننا احنا الاتنين في ضربة واحدة ”
حرك صالح رأسه بإدراك :
” عندك حق، عمك ده ندل ويعملها”
انتبه محمود فجأة لمختار الذي كان يعقد ذراعيه أعلى صدره جوار باب المكتب وملامحه لا توحي بأي شيء، هو حتى لم يهتز لرؤية الجثة، كل ما فعله أنه ارتكن للجدار يراقب ما يحدث بهدوء شديد .
تحدث محمود لميمو التي كانت تراقب ما يفعل صلاح :
” هو الشاب اللي معاكِ ده مينفعش يخلصنا من الجثة زي ما بيحصل في الأفلام، يعني بعد ما الناس بتقتل بتقول لرجالتها تنضف المكان، ده مش بيعرف ينضف ؟؟”
نظرت ميمو خلفها لمختار وهي تقول ببسمة :
” لا مختار بيبوظ بس مش بينضف ”
في تلك اللحظة ابتسم مختار بسمة جعلت محمود يتراجع ليمسك بذراع صالح وهو يهمس :
” الحق ده طلع مش بلاستيك ”
نهض صلاح بعدما أخذ هاتف ذلك الرجل وفتش جميع ثيابه ليرى ما يمكن الاستفادة به هنا، نظر حوله وهو يقول بجدية :
” هو لسه عايش عادي ”
احتضن محمود صالح وهو يقبله بسعادة :
” الحمدلله قدر ولطف، حمدلله على السلامة يا خويا ”
ابتسم صالح وهو يقترب من صلاح وقد نسي بسبب رعبه أن يفحص النبض :
” يعني تمام كده ناخده نرميه في أي حتة ونسيبه لما يفوق لوحده ولا محتاج مستشفى ؟! أنا ممكن اخيط دماغه عادي ”
تنحنحت ميمو لتجذب انتباه الجميع، ثم رفعت عينيها صوب صلاح الذي علم أنها على وشك قول شيء سيزيد من التشويق في حياته، وقد كان، حيث نطقت بما يفكر به ..
” حد يرمي النعمة برضو ؟؟”
أشار محمود صوب الرجل بتهكم :
” ده نعمة ؟؟”
اجابه صلاح بجدية وبسمة غريبة :
” لما يبقى واحد من رجالة سعيد المقربين وعارف كل تاريخ عملياته السودة، يبقى نعمة ولا مش نعمة ؟؟”
كان صلاح يتحدث وهو ينظر للجميع بغموض، ومن ثم نظر لميمو التي ابتسمت له وقد علمت أنه سيفهمها من مجرد كلمة واحدة، وصدق توقعها، لكن فجأة افاق الاثنان من تلك النظرات على صوت محمود الذي قال ببلاهة شديدة خارجة دون إرادته ونابعة من جهلة بهوية سعيد ذلك :
” سعيد ابنك ؟؟ يعني ده يبقى صاحب ابنك ؟؟؟”
___________________
يتحرك في ممرات مقر عمله بكل هيبة وخطوات سريعة بعض الشيء يحاول تلاشي مقابلة أي شخص قد يعكر صفو مزاجه لهذا اليوم، وبالحديث عن أي شخص كان يقصد محسن …
أذكر العفريت يقفز أمام وجهك، ها هو محسن يطل بهيئته المستفزة أمام عين رائد، حيث كان يقف جانبًا يتحدث بصوت مرتفع وكأنه يود إيصال رسالة لأحدهم يدعى رائد بأنه لطالما كان الأفضل وسيظل :
” فيه فرق بين اللي بيخرج من المهمة بتريقة، واللي بيخرج منها بتريقة”
صمت محسن ثواني يحدق بجسد رائد الذي توقف في سيره وقد شعر بدمائه تغلي بقوة داخل أوردته، اغلق عينه يقنع نفسه بالتحرك، لا تستمع ولا تأبه له رائد هو مجرد متحذلق يود التفاخر بما لا يمتلك حقًا، الجميع هنا يعلم من أين حصل محسن على كل تلك الترقيات والمكافئات .
وبالفعل تحرك رائد بهدوء بعدما أرخى جسده المشدود، يتجاهل ثرثرة محسن الفارغة خلفه حتى فجأة اتقحم مسمامعه شيء جعله يتوقف مجددًا ويستدير له بقوة حين قال :
” بس فيه عندك واحد صاحبنا كده خرج بواحدة ماشي بيها في كل الأقسام يدادي ويراضي فيها، ما هي يا عيني بقت مكسورة الجناح، ومين احسن من صاحبنا يلعب ليها دور البطل الهمام ”
ابتسم رائد بسمة واسعة وهو ينظر لمحسن الذي كان يطمح لشجار، وكاد رائد يحقق له طموحه لولا تذكره أنه بذلك قد يتعرض لمشاكل هو في غنى عنها تلك الأيام .
” العب دور البطل الهمام، ولا اني العب الست الهام يا محسن يا حبيبي ”
اعتدل جسد محسن الذي كان مستندًا على جدار خلفه وقد اختض جسده بعنف شديد :
” أنت تقصد ايه ؟! وضح كلامك ”
ابتسم له رائد بسمة مستفزة وهو يسير بظهره قبل أن يعتدل مانحًا إياه غمزة :
” حاول تشتغل قد ما بتتكلم، يمكن وقتها تترقى بشرف وذمة يا محسن “
أنهى كلماته يتحرك في الممرات وقد نجح في كبت غضبه عن الانفجار في وجهه، ذلك الرجل الذي يستفز به كل ذرة غضب، اهدأ رائد ومرر الأمر .
دخل رائد مكتب قائده الذي استقبله بهدوء :
” ها يا رائد وصلت لايه ؟؟”
ابتسم رائد بثقة :
” وصلت لطرف خيط يا فندم هيوصلني مش بس لجلال، لا للي مشغل جلال نفسه، بس محتاج من حضرتك شوية وقت ”
في تلك اللحظة شعر رائد باهتزاز هاتفه في يده لينظر له بطرف عينيه وسامح رسالة صلاح الغامضة والتي كتب فيها باقتضاب ( حاول ترجع البيت بدري فيه حوار حصل كده )..
انتبه رائد على صوت قائده وهو يتحدث في أمور عدة ليندمج معه وباله منشغل حول ما يمكن أن يكون صلاح يريده، وسبب تلك الرسالة التي يعلم أنها لا تحمل خيرًا أبدًا .
_________________________
كانت ميمو تقف في شرفة منزل صلاح وهي تتحدث مع نيرمينا بصوت هادئ حنون وبشدة :
” لا يا نيمو بالعكس ده مختار فرحان اوي أنه هيروح الرحلة معاكِ عشان يغير جو ….لا ياقلبي هو مش رايح غصب عنه، أنتِ بس ركزي في ترتيبات الرحلة واستمتعي”
أنهت ميمو المكالمة لتبصر مختار يرمقها بغيظ ورفض تام لما تقوله، لكنها فقط ابتسمت له تربت أعلى كتفه :
” معلش يا ميخو أنت عارف إلا نيمو عندي “
نفخ بحنق شديد لتضحك بصخب عليه تضرب كتفه بخفة شديد وهي تمازحه لتحاول أن تجعله يتقبل أمر ذهابه مع نيرمينا دون تذمر، ومختار فقط يرمقها برفض تام وهي تتحدث له ببسمة ومزاح ..
وكل ذلك كان تحت أعين صلاح الذي يقف في بهو المنزل يضم ذراعيه لصدره، واعينه تنطق بغيرة مكبوتة، غيرة نابعة من اعماق قلبه حيث استسلم جزء هناك وسلّم راياته في انتظار تسليم باقي الرايات، وضع صلاح يده أعلى فمه يضحك بنزق وتهكم شديد على مقدار الألفة بينها وبين ذلك المختار الصامت .
فجأة انتفض على صوت صالح خلفه والذي كان يتحدث بهدوء شديد :
” جميلة ميمو دي صح ؟؟”
نعم هذا ما ينقصه، أن يتغزل صالح والذي لا يتعامل مع شيء ينتهي بتاء التأنيث جيدًا، الآن يأتي ويتغزل في المرأة الوحيد التي أثارت به كل ذرات رجولته، المرأة الوحيدة التي جعلته يهبط من برجه العالي ليراها عن قرب فيقع في غرام عينيها مجددًا، مهرة جامحة رآها تمطي الخيل للمرة الأولى لتسرق أولى دقاته، والآن توقف عن العد من بعد الدقة المليون …
” امممم، إيه رأيك يا صالح تروح تشوف النعمة اللي جبناها ايه اخبارها مع صاحبك ؟؟”
وضع صالح يده أعلى فمه حتى يكبت ضحكة صاخبة كادت تخرج على الغيرة التي تشتعل من بين كلمات أخيه الهادئة، اقترب من صلاح يضع يده على كتفه وهو يضمه بحب اخوي هامسًا :
” هروح يا صلاح، بس لازم تعرف اني هكون الشخص الاخير اللي تحس ناحيته بغيرة، ماشي ؟؟”
نظر له صلاح ثواني قبل أن يهز رأسه بهدوء ليثير صدمة صالح، فهو لم يعترض أو ينفي ما قاله ويصر أنه لا يغار، يبدو أن صلاح قد غرق حتى طاف جسده أعلى بحيرة العشق، وكل ذلك لأجل تلك السيدة التي تتضاحك مع الشاب الصامت بعيدًا دون أن تدري شيئًا عن أعين تتراقص بها النيران غيرة …
وعند ميمو واخيرًا حازت نظرة اذعان من أعين مختار لتبتسم وهي تصفق بسعادة :
” طب والله بقول مليش غير ميخو، تعرف نيرمينا هتفرح اوي لما تشوفك راضي، دي يا قلبي زعلانة وهي مفكرة أنها اجبرتك تروح معاها وخايفة تكون بتزعلك منها ”
لانت ملامح مختار ليسمع صوت ميمو الشارد :
” أنت عارف أن نيرمينا هي أكثر انسان ممكن ازعل على زعله في الدنيا دي، فخد بالك منها يا مختار، هي رقيقة زي الوردة، بلاش تزعلها ”
هز مختار رأسه، ثم تحرك من أمامها صوب الخارج ليكمل تقييد ذلك الرجل ويرى ما يمكن فعله لاحقًا بأمر السيدة نيرمينا.
بينما ميمو استندت أعلى سور الشرفة تغمض عينيها سامحة للهواء أن يتخلل خصلاتها بكل كرم دون تقييده بالرابطة، ابتسمت وهي تستعيد ذكرى أول مرة رأت بها تلك الصغيرة الحنونة والرقيقة …
كانت تختبأ في أحد أركان الغرفة وهي تبكي وجعًا وقهرًا وحسرة، تبكي ذلًا، تناجي عائلتها، تناجي أي أحد قد ينقذها من جحيم جاد، بعدما قضت ليلتها تحت وطأة عذابه الجسدي والنفسي .
يا بشر هي فقط فتاة في الخامسة عشر لم ترد من تلك الحياة سوى أن تتوسط فخذ والدتها وتغفو على يديها التي تداعب خصلاتها، وأصوات اشقائها يمرحون جوارها …
لانت ملامح ميمو وهي تستشعر لمسات على شعرها بحنان شديد، لتتنفس براحة كبيرة وكأن والدتها خرجت من أحلامها لتحقق لها رغبتها، ودون شعور تأوهت باكية :
” ماما …”
لكن ما وصل لها لم يكن صوت والدتها الحنون ولا نبرتها الناعمة، بل صوت طفلة تردد بحنان ولطف :
” لا أنا نيمو ”
فتحت ميمو عيونها بسرعة لتبصر أمامها طفلة ضعيفة البنية بخصلات بنية واعين خضراء جميلة وملامح صغيرة كالرضع، تبتسم لها بحنان، ثم هبطت بيديها تربت على وجنتها بحب :
” بتعيطي ليه ؟؟ التعويرة بتوجعك ؟؟”
هبطت دموع ميمو أكثر على اكفة تلك الصغيرة التي لم تبلغ التاسعة بعد، ترتشف من حنانها بنهم، واخيرًا هناك من جاء ليربت عليها ويطيب جروحها، هناك من سمع نواح قلبها واستجاب له، حتى وإن كان ذلك الشخص طفلة صغيرة بضفيرة طويلة ..
” متخافيش هروح اجبلك لازقة وهتبقي كويسة ”
وبالفعل ركضت الصغيرة بعيدًا ليزداد بكاء ميمو وهي ترفع يديها بضعف كما لو كانت تترجاها ألا تتركها، ليس الآن، هي لم ترتوي بعد من حنانها، لم تشبع من تربيتاتها، هي حتى لم تفرغ قطرة من بحار آلامها .
ومجددًا عادت الصغيرة كما لو كانت سمعت ندائها للمرة الثانية، تجلس ارضًا جوار ميمو، تضع صندوق اسعافات أولية امامها، ومن ثم أخذت تخرج ضمادات طبية و تضعها أعلى جروح ميمو التي كانت تتواجد في وجهها بكثرة لدرجة كادت تختفي ملامحها.
نظرت لها ميمو بعدم فهم، بينما الصغيرة كانت قد انهمكت في تضميد جروحها كما لو أنها طبيبة ماهرة، ومن ثم أخذت تطبع قبلات حنونة أعلى تلك الضمادات لتزيد من عذاب تلك المسكينة التي كانت في أضعف حالاتها وأشد لحظات حاجتها للحنان .
رفعت ميمو ذراعيها وهي ترتجف من الوجع في عظامها لتضم جسد نيرمينا لها بقوة، ليس لشيء سوى لرغبتها في البكاء داخل احضان احدهم، حتى ولو كان أحدهم طفلة صغيرة لا تفهم جراحها..
انفجرت ميمو في البكاء داخل احضان نيرمينا التي بدأت تبكي لأجلها وهي تربت أعلى ظهرها :
” متزعليش، ماما قالتلي اجي اقعد معاكِ، وهجبلك تاكلي، متعيطيش ”
وكأنها امرتها بالبكاء فقد ازدادت حدة بكاء ميمو وهي تصرخ من بين شهقاتها بوجع تناجي والدتها ومازن ونادر، تناجي عائلتها، ولم تجد غير احضان الصغيرة مسكنًا ..
ومنذ ذلك اليوم كانت الصغيرة نيرمينا هي النقطة البيضاء في سجل الاشموني الاسود .
أفاقت ميمو بفزع من شرودها على شيء يسير أعلى وجهها، فتحت عيونها لتجد أن صلاح يقف أمامها ويجفف دموعها باستخدام منديل قطني، ثم ابتسم لها بحنان وكأنه يخبرها أنه هنا لأجلها :
” الهوا هنا قوي، ادخلي اغسلي وشك عشان عيونك متتعبكيش اكتر ”
ابتسمت ميمو تدرك أنه يعلم أنها كانت تبكي ويحاول ادعاء عكس ذلك فقط لئلا يحرجها أمام نفسها، وهو يعلم أنها تعلم ذلك، لكنه فقط قال بحنان شديد يمد يده لها بالمنديل :
” تشربي نسكافيه ؟؟”
اخذته منه وهي تجفف تلك الدمعات الخائنة تضحك ضحكة خافتة :
” كنت فاكرة انكم مش عندكم غير شاي، جبتوا نسكافيه ؟؟ ”
هز صلاح رأسه بايجاب وهناك بسمة جميلة ترتسم أعلى فمه :
” اشتريته عشانك ”
ابتلعت ريقها تحاول رسم بسمة رغم توتر دقات قلبها في تلك اللحظة، رغم بساطة جملته، لكنها شعرتها تحمل الكثير والكثير خلفها :
” شكرًا ..”
ابتسم صلاح وهو يشير لها لتسبقه للخارج_ برقي_ حيث الجميع :
” على ايه، ده نسكافيه امال لو شربات بقى ؟!”
ضحكت ميمو بصخب وهي تتحرك أمامه :
” لو شربات بحبه اشربه ساقع اوي ”
” خلاص اجيبه من دلوقتي واحطه في التلاجة، يا دوبك يلحق يسقع ”
ومجددًا أطلقت ضحكات صاخبة جذبت الأنظار نحوهما لكنها لم تهتم ولا هو فعل، فقط كل ما يهتم له انها ضحكت بعد بكائها الذي جعل قلبه يرتجف وجعًا لها ..
آه يا ميمو ليتني اقتحم عقلك لاحارب جميع أحزانك، علّني وقتها أُكافئ ببسمة كتلك، ابتسامة تكفيني وتزيد ….
_______________________
أنهت هاجر الفترة الصباحية في المخبز والتي تقوم فيها بإعداد المخبوزات بأنواعها، والمشروبات الصباحية، ومن ثم تعود للمنزل للراحة ساعتين وللغداء، وبعدها للمخبز لبدء الفترة المسائية والتي تُعد فيها الحلوى الشهية والمشروبات المشهورة بها .
صعدت رانيا لسيارة هاجر الصغيرة وقد أنهت لتوها مكالمة طويلة مع مروة التي أخذت تلومها على اختفائها، ومن ثم تشكو لها معاملة اخوتها لها في العمل وخاصة ذلك الجبريل..
ابتسمت رانيا تجذب حزام الامان :
” والله يا خالتو هتوحشيني اوي لما ارجع ”
نظرت لها هاجر بحزن كبير وصوتها كان خافتًا به غصة بكاء :
” وانا برضو هفتقدك اوي يا رنوش، مش عارفة مين هيسليني ويقعد معايا، اتعودت عليكِ جنبي ”
ربتت رانيا على كتفها بحب شديد :
” البركة في خالو، مش هو راجع من السفر خلال أيام ؟!”
نفخت هاجر بتعب وقد يأست من أخيها وعشقه للسفر مع زوجته :
” معرفش، اهو كل يوم يقول معاد غير اللي قبله، بعدين حتى لما ياسين بيرجع مش بشوفه غير بالصدفة، ومراته مش بتقعد في البيت اساسا، لكن أنا عامة اتعودت “
ألقت رانيا برأسها أعلى كتف هاجر تقبله بحب شديد :
” ما تيجي معايا اسكندرية يا جوجو؟؟ والله كلهم هيفرحوا اوي وخصوصا محمد، أنتِ عارفة هو بيحبك قد ايه ”
ضحكت هاجر بصوت مرتفع وهي تتذكر ابن اختها والذي يسبقها هي شخصيًا في العمر حيث يبلغ الثانية والثلاثين من عمره :
” يا ستي وانا بحبه، بس مقدرش افضل عايشة مع اربع رجالة اطول مني في الرايحة والجاية يقولولي يا خالتي، بحس نفسي كسرت السبعين اساسا ”
” ما انتِ عارفة يا خالتو دي أوامر عليا من محمد، هاجر مش عيلة صغيرة عشان تنادوها باسمها، دي خالتكم، يعني تحترموها حتى لو اصغر منكم ”
ضحكت هاجر تهز رأسها بيأس على قوانين محمد والتي قد تبدو للبعض صارمة خانقة، لكنه في الحقيقة هو من اعتنى بالجميع بعد مرض والدهم وإحالته للمعاش مبكرًا ليصبح كامل الحمل أعلى أكتاف محمد الذي أدار العائلة بيد من حديد …
أفاقت من شرودها على صوت رانيا المتعجب تنظر لجانب السيارة حيث المرآة :
” هي العربية دي ماشية ورانا من وقت ما خرجنا ولا أنا متهيألي ؟!”
نظرت هاجر كذلك حيث المرآة الجانبية تتأكد من حديث رانيا :
” أنا برضو اخدت بالي منها اول ما طلعت بالعربية، بس فكرتها ماشية عادي في طريقها …”
فجأة انحرفت هاجر بالسيارة لطريق مخالف لمنزلها وهي تحاول مناورتهم بالدخول في شوارع جانبية لترى إن كان الأمر صدفة أم أنه مقصود، ليبدأ القلق يحتل صدور الاثنتين ..
نظرت رانيا للخلف بتوتر :
” هو فيه ايه ؟؟ مين دول ؟؟”
هزت هاجر رأسها بجهل وهي تفكر في حل للهروب منهم، فهي لن تكون غبية وتذهب للمنزل وهم خلفها، بهذا الشكل ستكون وكأنها ترشدهم لمكانها…
ولذلك اول ما خطر في بالها هو أن انحرفت في إحدى الطرق التي تعلمها رانيا جيدًا :
” احنا رايحين فين ؟!”
” اكيد مش هنروح البيت وهما ورانا عشان يعرفوا البيت والله اعلم ممكن يهجموا علينا واحنا لوحدنا فيه ”
رددت رانيا بتفكير :
” طب …طب نروح نبلغ البوليس ”
قالت هاجر بمنطقية _ حسب رأيها _ وهي تزيد من سرعة السيارة :
_ هنقولهم ايه شاكين إن حد ماشي ورانا ؟! ولو قولنا كده هل هيلاقوهم؟؟ لا لأنهم هيهربوا ومش بعيد لما نرجع البيت يرجعوا لينا تاني ”
” طب هنعمل ايه ؟؟ نكلم محمد ؟!”
هزت هاجر رأسه وهي تردد بجدية وشارع مألوف يلوح لها في الأفق :
” هنروح لبيت صالح ونفضل هناك شوية ولو اضطرينا نبات في بيت تسبيح جارتهم انهاردة هنعمل كده، المهم منفضلش لوحدنا في البيت …”
ترددت كلمات هاجر في السيارة لتفكر فيها رانيا بجدية كبيرة وهي تستمع لصوت توقف المحرك، ثم هبوط هاجر من السيارة وإغلاقها خلفها، تبعتها رانيا وصعدت بسرعة كبيرة للبناية الخاصة بصالح والتي لم تطأها سوى حينما عادت من الخطف .
وقفت الفتاتين أمام الباب وسارعت هاجر بالطرق والقلق يستوطن ملامحها ..
في الداخل
كان الجميع وأخيرًا انتهوا من تقييد ذلك الرجل في الأريكة وجلس صالح على مقعد جواره يحاول المساعدة في تدارك تمر جروحه الناتجة عن ضربات محمود .
لكن فجأة ارتفع رنين جرس الباب لتتيبس أجساد الجميع بترقب ويقول صلاح بهدوء :
” متقلقوش تلاقيه رائد أنا بعتله رسالة يجي بسرعة ”
تحرك محمود صوب المنزل وقد كانت سترته السماوية مليئة بقطرات الدماء حينما كان يساعد صالح في معالجة ذاك الرجل.
تحدث صلاح وهو يرى محمود يتوقف أمام الباب :
” برضو أتأكد أنه را…”
لكن محمود لم يعطي له فرصة اكمال جملته وهو يفتح الباب بقوة ليقابله اجمل وجه في هذه الحياة، بسكوتته الهشة الرقيقة و….المتشردة قريبتها .
لكن محمود لم يهتم بوجود رانيا وهو يناظر رانيا ببسمة :
” ايه اليوم القمر ده ؟؟”
هاجر لم تكن تفقه من كلماته تلك شيئًا، كانت فقط تنظر بصدمة وشعور بالخوف لثياب محمود الملطخة بالدماء، أشارت عليها وهي تتراجع للخلف خوفًا :
” ده …ده دم ؟؟”
لم يفهم محمود ما تتحدث بشأنه لينظر ثوب ثيابه ويُصدم من مظهرها، ابعد السترة عن جسده بغيظ شديد :
” يا ربي البقع كده مش هتخرج من التيشرت، ده لسه جديد ”
لكن فجأة رفع وجهه لهاجر التي بدأ لون احمر يحتل وجهها وهي تشعر بقرب موجة اغماء، تتخيل ما الذي أدى لوجود كل تلك الدماء على ثيابه، ومشهد تشريحه للجثة ذلك اليوم يثير اشمئزازها ورعبها..
سارع محمود يسحبها من كل تلك الخيالات ببسمة واسعة :
” لا لا…ده…ده صوص فراولة، اصل كنت بعمل تورتة عشان عيد ميلاد صالح، كويس انكم جيتوا قبل ما نطفي الشمع ”
نطقت هاجر بريبة :
” صوص فراولة شكله كده ؟؟”
” أيوة أصله فاسد، اتفضلوا ادخلوا، تعالي يا بسكوتة، ادخلي يا رانيا متتكسفوش ”
نظرت هاجر لرانيا بشك وقلق ليسارع محمود بالتحدث :
” ميمو معانا جوا كمان، يعني مش لوحدكم، ادخلوا ”
رددت الفتاتان بجهل :
” ميمو ؟؟”
هز محمود رأسه يجيب ببساطة :
” الست القادرة اللي كانت هنا يوم ما رانيا اتخطفت ”
تذكرتها هاجر في ثواني، تلك المرأة التي ولولا الموقف الذي كانت به لكانت نهضت وذهبت لأخذ امضتها، كانت قوية واثقة ساخرة، كتلك السيدات في الافلام الأجنبية ..
أمسكت هاجر يد رانيا وخطت بها للداخل وهي تقول بجدية :
” احنا بس كنا جايين عشان نشوف تسبيح و….”
توقفت فجأة حينما سمعت صوت صالح الذي كان يجلس على مقعد أمام جسد رجل ملئت دماؤه الأريكة أسفله، وهو يقطب رأسه لتتعالى موجة غثيان في نفس رانيا التي أطلقت صيحة فزعة :
” ايه اللي بيحصل ده ؟! أنتم بتعملوا ايه ؟؟”
التفتت جميع الرؤوس صوب رانيا وخاصة صالح الذي ميز صوتها بسهولة، تعجب وهو ما يزال يمسك برأس الرجل :
” فيه ايه ؟؟ ليه الصوت العالي ده ؟! أول مرة تشوفوا واحد بيتخيط ؟؟ ”
أشار بها لمحمود بالتحرك :
” محمود تعالى ساعدني وقص الشعر اللي في المنطقة دي”
شعرت هاجر بجسدها يرتجف أمام ذلك المشهد، وهي التي كانت تهاب الجروح والدماء منذ طفولتها، لكن محمود أخرجها من كل ذلك وقبل أن يبدأ اللون الاحمر بالانسحاب من وجهها، قال بسرعة واقفًا أمام عينيها :
” لا لا بصيلي هنا، بصي ”
نظرت له هاجر بملامح بدأت بالشحوب ليحاول محمود صرف نظرها، ثم قال بعدم اهتمام لرانيا :
” أنتِ بصي عادي مش مهم، اقولك روحي اقفي جنب صالح اديله الحاجات ”
نظر بعدها لهاجر يصرف انتباهها :
” صحيح أنا امبارح جيت اعمل قرص زي بتاعتك بس لقيتها قلبت معايا لحاجة شبه البقسماط ”
رمقته هاجر ببلاهة وبانفاس مقطوعة، لكن محمود لم يهتم وهو يسحبها صوب الشرفة، منعًا لأي اغماء محتمل، يحاول صرف انتباهها عن الجميع، تحت نظرات صدمة من الجميع .
ليكون صلاح هو أول من خرج من صدمته :
” هو صاحبك من امتى بقى حساس ومراعي كده ؟!”
ابتسم صالح بسخرية ويده ما تزال تضمد جروح ذاك الرجل وقد أوشك على الانتهاء بعدما أفسد ثيابه والاريكة والأرضية بكل تلك الدماء :
” من اول ما ساب الملوخية وادمن بسكوت نواعم ”
رفع صلاح حاجبه، يستدير صوب الشرفة حيث محمود الذي اجلس هاجر على مقعد وجلس أمامها يميل برأسه يحاول التحدث لها ببسمة واسعة أوضحت مقدار العشق الغارق به محمود .
ارتسمت بسمة ساخرة على فم صلاح :
” يا اخي الحب ده بيعمل حاجات ”
سمعته ميمو والتي كانت تقف جواره تكتف ذراعيها لصدرها وتراقب محمود كذلك وكأنه أصبح العرض المفضل لجميع من بالبهو عدا صالح ورانيا التي كانت صامتة بشكل غريب وهي تشاهد ما يفعل صالح بكل مهارة …
قالت ميمو بهدوء وهمس :
” لو الإنسان يلاقي حد يحبه بجد صدقني هيعمل اكتر من كده ”
نظر لها صلاح بصمت لتمنحه بسمة صغيرة، ثم أبعدت عيناها عنه وهي ما تزال تنظر لمختار الذي أشار لها بشيء لم يفهمه سواها :
” تمام روح أنت عشان تلحق تجهز نفسك، وطمني اول ما تتحركوا ”
هز مختار رأسه بطاعة، ثم تحرك صوب الباب وبمجرد فتحه، صُدم بتسبيح التي كانت على وشك طرقه لكنها تراجعت فورًا للخلف :
” أنا آسفة كنت لسه هخبط و…”
لم يهتم مختار وهو يحرك رأسه مشيرًا لها لتدخل، ثم رحل ببساطة شديدة تاركًا إياها تنظر لاثره قبل أن تطرق باب الشقة وهي تنادي باسم صلاح الذي أخبرها أن تدخل .
ورغم ترددها إلا أنها لمحت العديد من الأشخاص في البهو ومنهم فتيات لذلك دخلت بهدوء وهي تقول :
” دي الاطباق بتاعة الـ …”
وصمتت فجأة بفزع حين رأت ذلك المشهد الذي يحدث أمامها ..
وعند صالح كان يجلس على المقعد وهو يفحص مؤشرات ذلك الرجل بشكل سريع، ويكتب في ورقة أمامه اسماء بعض الأدوية والمحاليل، لكن قاطع كل ذلك شعوره أنه مراقب .
رفع رأسه فجأة لتنتفض رانيا للخلف مبهوتة، تتحدث بتوتر شديد :
” أنا …أنا بس ..كنت بتفرج عليك وانت دكتور”
رفع صالح حاجبه ورسم بسمة ساخرة على طرف شفتيه من كلماتها تلك :
” وايه رأيك ؟؟”
” ها ؟؟”
” ايه رأيك فيا وانا دكتور ؟؟ قمر صح ؟؟ ”
توترت رانيا بقوة وهي تحرك يديها في الهواء معترض على تلك المغازلات في حق نفسه :
” عادي على فكرة، مفرقش كتير عن وأنت صايع، الفرق إن بدل المطوة، مشرط، بعدين يعني عادي دكتور زي اي دكتور ”
نظر لها بطرف عينيه يخلع ققازيه :
” ده حقدك وغلك بس اللي مصور ليكِ كده، بس في الحقيقة أنا مش دكتور عادي، أنا دكتور عسل ”
تجاهلته رانيا وهي تتحرك بعيدًا عنه، وعين صالح لم تزل تراقبها أينما خطت، حتى رآها تتوقف جوار صلاح وتتحدث معه بصوت لم يصل له واضحًا، لكنه حاول تجاهل كل ذلك وهو يلقي بالقفازات في سلة المهملات، ومن ثم تحرك صوبهما ليسمع صوت رانيا وهي تقول :
” طب واهلك سكتوا عليه كده ؟! مفكروش يعدلوا سلوكه؟! ”
توقف صالح جوارهما يضع يديها أعلى فمه يستمع لذلك النقاش والذي خمن _ وصدق تخمينه _ أنه يدور حوله، تلك المتشردة تنصح أخيه بأخذه لطبيب وكأنه يعاني جربًا، وصلاح العزيز لم يضيع تلك الفرصة ليستفز رجل الكهف داخله :
” مكنوش عارفين أن الحالة هتتطور بالشكل ده لما كبر ”
نظر صالح لرانيا التي أكملت حديثها بجدية :
” احيانا الأهمال بيضيع الطفل .”
امتص صالح شفتيه بتأثر شديد :
” عشان كده يا عيني طالعة هاطلة، اتاري البنت ملقتش حد يهتم بيها وهي صغيرة، وانا اللي قولت العبط اللي عندك اجتهاد شخصي ”
استدارت رانيا له لتشعر بقرب انفجارها :
” لا وانت الصادق ده عدوة لقطتها كده من حد ”
ابتسم صالح يخمن مقصدها :
” حد قمر وشبهي كده ؟!”
هزت رانيا رأسها بإيجاب وهي ترمقه متحفزة لأي هجوم :
” بالضبط حد شبهك كده ”
” تمام، بعد كده متقفيش مع صلاح تاني ”
رفع صلاح حاجبه يراقب ذلك الحوار الذي يتبارز فيها الاثنان، كما لو كان قتالًا، لا يدري حقًا كيف يتحمل الاثنان بعضهما البعض ؟؟ والآن يدخلانه في حوارهما ويزجان به فقط لأجل الفوز على الاخر في النقاش .
احتدت ملامح رانيا :
” لا وأنت الصادق مش صلاح، ده واحد كده شبهه ”
“واحد شبهه ؟؟ ”
نظر صالح لصلاح متسائلًا بفضول أجاد صنعه :
” احنا عندنا اخ تالت ؟! ”
صاحت رانيا بحنق وسخرية :
” أنت مش حاسس بنفسك خالص؟! بعدين هو العالم استوعب اتنين لما يكونوا التالت ؟؟ أنا مش فاهمة بجد هو لازم يعني يبقى واحد في التوأم مترباش، مينفعش يبقى الاتنين محترمين وكويسين ؟؟ ايه لو عملتوا كده هتلعبوا في ثوابت الكون ”
” لاحظي أنك واقفة تغلطي في صلاح كتير وانا ساكتلك”
نظر له صلاح بتهكم ولسان حاله يقول ( أحقًا ما تقول ؟؟)
لكن صالح لم يهتم وهو يقول :
” آنسة رانيا “
رمقته رانيا بسخرية شديدة من ذلك اللقب الذي وضعه قبل اسمها، لتشعر في لحظة أن من تحدث هو صلاح، لذلك نظرت جوارها لتتأكد أنها لم تخطأ الشخص وأن صلاح ما يزال يلتزم الصمت بكل برود مكتفًا ذراعيه يرتقب نتيجة ذلك النزال بفارغ الصبر، و رانيا حقًا لا تدري ما الذي يدفعها طوال الوقت لتكون بذلك التحفز حين وجودها أمام صالح دون غيره .
” اسمعي الكلمتين دول عشان محدش هيقولهم ليكِ غيري، لو شايفة عيب فيا، فلازم تروحي تتعالجي لاني ماشاء الله عليا زي كامل الاوصاف، نقفل الحوار بقى عشان اخد مجهود كتير مني ”
شعرت رانيا بدلو بارد يسقط فوق رأسها، هذا الشاب قد زادها حقًا يطالبها بالعلاج فقط لأنها تواجهه بوقاحته، ولأول مرة لم تجاريه او ترد عليه بكلمة وهي تنفخ بحنق وغضب متحركة بعيدًا عنه و صالح مازال يناظر أثرها بغضب شديد قبل أن يستدير كالرصاصة لصلاح والذي كان يتابع كل ذلك ببسمة ماكرة ..
” أنت واقف معاها ليه ؟؟ ايه مبسوط وهي واقفة تهين في اخوك ؟! أنا مش فاهم بجد أنت اخويا ولا ابن مرات ابويا ؟؟”
ربت صلاح على كتف توأمه الحبيب يكرر ببسمة جانبية نفس الحديث الذي اسمعه إياه قبل دقائق من حضور رانيا :
” لازم تعرف يا صالح اني هكون الشخص الاخير اللي تحس ناحيته بغيرة، ماشي ؟؟”
هز صالح رأسه وهو لا يعي ما ينطق به يراقب ملامح رانيا الواجمة والتي استقرت جوار هاجر دون أن تنطق بكلمة :
” ماشي …لا استنى، اغير ايه ؟؟ اغير على مين ؟! ”
رفع صلاح حاجبه متشنجًا ثم سخر منه :
” عليا طبعًا يا حبيبي، اكيد خايف رانيا تخطفني منك ”
زفر صالح بغضب وهو يبعد يد صلاح، ثم تحرك صوب الشرفة متحججًا بمحمود فقط ليتأكد أنه لم يزدها عليها، هو فقط كان يشاكسها كما اعتاد الفعل، لِم غضبت الآن ؟؟
” محمود ”
رفع محمود وجهه له :
” نعم ؟؟”
” قوم معايا نشوف البتاع”
” بتاع ايه ده ؟؟”
زفر صالح بغيظ وهو يضرب قدم المقعد التي يجلس عليها محمود لبجذب نظرها :
” البتاع يا محمود، ايه مبقتش مركز ليه ؟؟”
” أنا برضو اللي مش مركز ؟!”
نظر محمود لهاجر وهو يقول بجدية :
” تمام وقت ما تروحي عشان توصلي رانيا كلميني أنا اوديكم ومتخرجيش لوحدك اليومين دول ”
تحفزت جميع حواس صالح لتلك الكلمات، ينظر لوجه رانيا ذو الملامح المقتضبة :
” فيه ايه ؟؟ متخرجش لوحدها ليه ؟؟ وتوصلوا رانيا فين ؟؟”
نظرت له رانيا وقالت واخيرًا بهدوء :
” هرجع اسكندرية ”
” بجد ؟؟”
كانت الصدمة واضحة على وجه صالح الذي شعر لوهلة بمشاعر سيئة، ليس وكأنه ساقط في عشقها، لكنه الاعتياد فقط، اعتاد رؤية رانيا والحديث معها والشجار والمزاح ايضًا، والآن سترحل، لطالما كان الفقد هو اسوء المشاعر له وسيظل .
بينما رانيا اطالت النظر له ثم قالت :
” اممم بكرة هرجع عشان كده قعدتي طولت هنا ”
تحدث محمود بجدية لصالح :
” هاجر بتقول كان فيه حد بيراقبهم، عشان كده جم هنا ”
نظر لهما صالح بجدية ولم يكد يتحدث حتى استمع الجميع لصوت في البهو يصيح :
” ايه اللي بيحصل هنا ده ؟؟”
__________________________
ألقى الهاتف على المكتب بملل بعدما يأس أن يجيب عمر عليه .
ابعد سعيد عيونه عن الهاتف يتلاعب بالقلم أمامه، وعقله شارد في نقطة بعيدة، أفكار كثيرة متلاطمة، وسؤال واحد يلوح أمام عينيه ..
ماذا بعد ؟؟
ماذا بعد كل ما تفعله، تجمع الأموال وكأن لا غد لك، تحارب وكأنها آخر معاركك، ماذا بعد كل ذلك ؟؟
تحاول إقناع زهرة بترك حياتها وكل ما عملت لأجله سنوات والهرب معك لبلاد أخرى أنت وشقيقتك لتلقي بنفسها في مصير مجهول مع شخص أصبح مجهولًا لها ؟؟ ونيرمينا، تلك الصغيرة التي عانت ما يكفيها لتترك منزلها ووطنها وميمو.
وميمو، سيتركها وحدها في منزل والده تتنعم بكل ذلك ؟! أيفعل ويعتبر ذلك ردًا لجميلها الذي صنعته لشقيقته ؟؟ ولوالدته ؟؟
تنفس سعيد وهو يتحرك صوب نافذة مكتبه يراقب المارة بأعين غائمة وذكرى بعيدة تتطاير أمامه ..
” يابني أنا سمعتها امبارح وهي بتعيط طول الليل، أنت عارف ابوك ده مش بيحس، روح الله يرضى عليك شوف البنت لتكون ماتت ”
وضع سعيد الملعقة أمام فم والدته وهو يردد بوجه جامد :
” أنا قولت اني مليش دعوة بأي حاجة تخص الراجل ده، وهي دلوقتي مراته ومليش دعوة بيها ”
نظرت له والدته بحزن، ثم ربت على ذراعه تتوسله كما تتوسل والده طوال الوقت، فهي الضعيفة المكسورة والتي تجبرك كلما نظرت لها على التعاطف معها ..
” عشان خاطري يا سعيد، عشان خاطر امك يا حبيبي تروح تشوفها ليكون حصلها حاجة، اعتبرها اختك يا بني دي لسه عيلة ”
افتر ثغر سعيد عن بسمة ساخرة لاذعة وعيونه اشتدت قسوتها :
” اختي ايه ؟؟ دي مرات ابويا ”
” يابني اااا”
قاطعها سعيد وهو يضع الاطباق أعلى الفراش يشير لنيرمينا التي كانت تلعب بدميتها بالقرب منهم بالاقتراب :
” نيمو تعالي ساعدي ماما تتغدى لغاية ما ارجع ”
وكعادتها هزت نيرمينا رأسها بكل طاعة وتحركت صوب الفراش تستلم مهمة اطعام والدتها، وسعيد خرج من الغرفة حانقًا متذمرًا يكره أن يُسدي صنيعًا لوالده، حتى ولو كان ذلك الصنيع هو الاعتناء بزوجته الصغيرة بعد جولة ضرب وتعذيب ليلية وصل صخبها لجميع سكان المنزل .
طرق سعيد الباب ولم ينتظر ردًا لمعرفته أن والده في العمل ولن يعود الأن، وميمو لابد أنها ملقاة في الغرفة كالجثة، وقد صدق حدسه حينما وجد جسدها مُلقى أعلى الفراش مكدوم ونازف .
تحرك لها بهدوء يربت أعلى وجنتها يستشعر مقدار الحرارة التي تخرج من جسدها :
” أنتِ يا……، أنتِ عايشة ؟؟”
ولم يصدر من ميمو سوى تأوه مرتفع، تأوه اثار شفقة في قلب سعيد وهو يتنهد بنزق قبل أن يبتعد ينظر حوله يحاول ايجاد شيء ليسعادها، لكن فجأة سمع تأوه صادر من فم ميمو وهي تبكي خلال نومها :
” متسيبونيش لوحدي، ماما ”
تنفس سعيد بصوت مرتفع، وعاد صوب الفراش يحمل جسد ميمو بخفة شديدة، وتحرك صوب المرحاض وهو يسب والده، هل كُتب عليه أن يظل يعالج جروح النساء من بعده ؟؟ اولًا والدته ومن ثم زوجته الثانية والتي تصغره بخمس سنوات .
دخل سعيد بميمو للمرحاض ودون أي تفاهم فتح المرشات لتشهق ميمو وهي تحاول الابتعاد عنه وكأنها تغرق باكية :
” لا …لا، مش عارفة اتنفس، دخان في كل حتة ”
نظر لها سعيد بعدم فهم يخرج جسدها من المرحاض يلفها بأي منشفة وقعت عينه عليها، ومن ثم وضع جسدها بالثياب المبتلة أعلى الفراش يفكر في الخطوة التالية، وما كاد يتحرك حتى سمعها تهمس بغصة بكاء :
” مازن ؟؟”
نظر لها سعيد ثواني قبل أن يقول :
” لا مش مازن، سعيد يا مرات ابويا “
كانت كلماته ساخرة قبل أن يتحرك ويخرج ليحضر أحد يساعدها على تبديل ثيابها قبل أن يُحضر طبيب لأجلها، لكن وبمجرد خروجه من غرفة تلقى صفعة قوية من جاد على حين غرة اسقطته ارضًا ومن ثم شعر بلسعات حزامه تسقط أعلى جسده وهو يصرخ فيه :
” بتدخل اوضتي ليه يا ابن الـ ***، بتبص لمرات ابوك يا حيوان ؟؟”
كان سعيد في تلك اللحظات مصدوم من مقدار قذارة عقل والده، يتهمه بالنظر لامرأة حُرمت عليه حتى الموت، حتى وإن لم تكن قد حُرمت عليه، هل يظنه مريضًا مثله لينظر إلى مراهقة حتى وإن كانت تلك المراهقة لا تصغره سوى بخمس سنوات؟!
في تلك اللحظة وجد نيرمينا تركض صوب والدها بخوف وهي تضم جسد سعيد وتصرخ باكية :
” خلاص والله يا بابا، هو دخل يشوفها عشان ماما اللي قالتله، بالله عليك متضربوش تاني ”
وشيء آخر تحطم داخل سعيد، شيء لن يُعاد ولو خرج جاد من قبره ليرمم ما تهشم .
ابتسم سعيد بسخرية لاذعة يبتعد عن النافذة يمسح وجهه وهو يردد :
” وبعد ده كله مفيش شكرا يا سعودي، تسلم يا سعيد تعبتك معايا …. يا مدام ميمو ”
تنفس بصوت مرتفع يجلس أعلى مكتبه قبل أن ترتسم بسمة منتشية وهو يعيد على رأسه ما فعله في جاد ذلك اليوم، لقد انتقم منه ومن الجميع وحطم المنزل أعلى رؤوس قاطنيه، وربما وحتى تلك اللحظة لم تدرك ميمو أنه هو من حاول مساعدتها، ولا يريدها أن تفعل، يكفيها أن تتذكر ما فعله لاحقًا لتكرهه فقط، فهذا ما يجب أن يحدث …
_______________________
كان يقف أمام الجامعة الخاصة بها لا يبدي أي ردة فعل سواء بالايجاب أو السلب، هو فقط يحيط نيرمينا بعينيه منعًا لأي شيء قد يُفسد مهمته بالحماية، وها هي أول عقبة تواجهه في تلك المهمة، فبمجرد أن هبط من السيارة الخاصة بحارس نيرمينا حتى رأى فيضان فتيات يتجه نحوه وجميعهن يتحدثن في نفس اللحظة …
” نيمو بجد فرحانة أنك جيتي ”
” مقولتيش ليه كنت عديت عليكِ بالعربية بتاعتي اخدتك في طريقي؟؟”
” مش هتصدقي مين جاي الرحلة معانا، دكتور رامي ”
لم يهتم مختار لكل تلك الثرثرات التي كانت في نظره بلا فائد، لكن كل ما انتبه له خلال ذلك الحديث هو احمرار خفيف بدأ ينتشر أعلى خدود نيرمينا تزامنًا مع نطق الجملة الأخيرة والتي تحوي اسم رجلٍ ما .
رفع مختار حاجبه بتهكم ولم يهتم كثيرًا بالأمر كل ما فعله أنه بمجرد أن أبصر الحافلة تتوقف، حتى سحب نيرمينا من بين الفتيات بهدوء ودون كلمة واحدة، لتبتسم نيرمينا باحراج تلوح لهن :
” هستناكم في الباص”
وبالفعل صعدت نيرمينا للحافلة والتي بدأ الجميع يتوافد لها من شباب وفتيات، الجميع يقف في منتصف الحافلة لترتيب الحقيبة في مكانها المخصص لها، ليشكل مختار جدارًا فاصلًا بينها وبين ايًا كان .
ابتسمت نيرمينا وهي ترحب برفاقها، ثم أشارت لأحد المقاعد في الخلف :
” خلينا نقعد هناك هيكون جنب صحابي ”
لكن يده مختار دفعت جسدها لأحد المقاعد الجانبية يجبرها على الجلوس لتردد هي ببسمة :
” ماشي ده حلو برضو ”
بدأ مختار يُنزل الحقائب ليضعها في مكانها المخصص في اللحظة التي استمع فيها لصوت رجالي خلفه يردد بنبرة رجولية :
” اهلا يا شباب أنا اللي هكون المسؤول عن الباص بتاعكم طول الرحلة، اتمنى اكون خفيف على قلبكم ”
وعلى الفور ارتفعت تهليلات وصيحات مشجعة ليتضاحك ذلك الرجل، نظر له مختار بجمود ليلحظ أنه كان طويل البنية ذو عضلات جيدة تظهر مقدار لياقته، وملامح رجولية بامتياز ترشحه للعمل كعارض ازياء وليس معلم جامعي .
نفخ بعدم اهتمام ولم يكد يفرغ من وضع الحقائب حتى لمح اشتعال وجه نيرمينا وهي تحدق بذلك الرجل الذي كان يرسل بسماته للجميع دون استثناء .
رفع مختار حاجبه وهو يرمق نيرمينا التي تبتسم ببلاهة جعلته يمد يده ليدفع بوجهها في غضب لتنظر هي له ببلاهة :
” ايه ؟؟ فيه ايه ؟؟”
رمقها مختار بتحذير وهي لم تفهم ما يريد، لكنه فقط لم يردها أن تنجذب لهذا الرجل الذي يحتل مكانة أعلى منه قد تمنعه من تحقيق احلام تلك البلهاء التي كان هو بطلها، وايضًا لأنه لن يسمح لها بفعل أي شيء احمق طالما هي تحت مسؤوليته .
تحرك رامي بين المقاعد يرحب بالطلاب حتى وصل أمام مقعد نيرمينا يردد ببسمة :
” اهلا يا نيرمينا اخبارك؟! ”
ومجددًا بدأ وجه نيرمينا في الاحمرار وهي تبتسم ببلاهة وذلك المعلم يتحدث لها بلطف شديد :
” مبروك النجاح، سمعت أنك السابعة ”
هزت نيرمينا رأسها بتأكيد على معلومته، تجيبه برقة :
” أيوة صحيح، الله يبارك فيك يا دكتور، بجد الرحلة هتكون جميلة بوجود حضرتك معانا ”
وها هي تلك الضحكة تنطلق مجددًا ليزداد احمرار وجه نيرمينا بشكل جعل مختار يميل برأسه في استهجان شديد قبل أن يعبث بخصلات شعرها يسقطها أعلى وجهها، ثم جذب الستارة المجاورة لنافذتها ووضعها أعلى وجهها، ومن ثم جلس على المقعد المجاور لها بهدوء شديد، كل ذلك ورامي يقف يراقب ما يحدث بعدم فهم، لكن فجأة وجد ذلك الشاب الغريب يلتفت له فجأة وهو يناظره بشر جعله يتحرك يهز كتفيه بعدم اهتمام .
أزالت نيرمينا الستارة من أمام وجهها وهي تقول :
” ايه اللي عملته ده يا مختار ؟؟ خليت شكلي زفت قدام الدكتور، يقول عليا ايه دلوقتي ؟؟”
عبث مختار بحقيبة يدها التي كانت تضعها أعلى قدمها وأخرج منها سماعة الأذن ليضعها في أذنها ومن ثم اوصلها بهاتفه وبحث عن أحد افلام الاميرات ووضع لها الهاتف وأشار لها بالهدوء، و ضم ذراعيه بهدوء ونظر أمامه يراقب الأجواء .
ونيرمينا جواره تبتسم بعدم تصديق، هل عاملها للتو كالطفل ؟؟ يضع لها افلام كارتون فقط اتصمت ؟؟ لا ينقصها سوى أن يخرج حلوى ويضعها في فمها ويهدهدها لتتجشأ بعد الطعام .
” أنت بتهزر ؟؟ مختار أنت فاكرني عيلة صغيرة ؟؟”
لم يجبها مختار بكلمة، ولن يفعل في الحقيقة وهي فقط تشعر بدمها يفور غضبًا منه قبل أن تنتزع السماعة من هاتفه وتضعها في خاصتها وتنظر من النافذة وصوت تمتماتها يصل له، ترغو وتزبد بحنق طفولي وتتذمر إن عاملها كطفلة ..
” الله يسامحك يا ميمو، لازم يعني تقترحي يجي معايا ؟؟ اهو هيشتغل جليسة اطفال، ناقص يعملي الرضعة ”
لم يهتم بها مختار وهو يراقب الأجواء حولها تحسبًا لأي شيء، لتمر دقائق وتنطلق الحافلة ليبدأ الجميع في الغناء والتصفيق وهي كلما رفعت اصبعها جذبها مختار وكبلها جواره لتطلق زفرة عنيفة وبقوة :
” رحلة سعيدة يا نيرمينا، اول واخر مرة أخرج في رحلة والله ”
______________________
استدار الجميع فجأة صوب الباب يحدقون في رائد الذي كانت عيناه تتحرك على الدماء التي ملئت البهو والاريكة، وذلك الجسد الذي كان يتوسط اريكتهم .
ومن ثم تحركت عينه لكل الأشخاص في المنزل، يبتسم بسمة غريبة وهو يدخل يمرر عيونه عليهم :
” ماشاء الله كل دول مشتركين في الجريمة ؟! ”
نفخ صلاح وهو يمسح وجهه بحنق :
” اهي الترقية بدأت تزغلل في عينه من تاني، ده انا كنت قولت ربنا تاب علينا ”
نظرت له ميمو بعدم فهم ولم تكد تستفسر عن مقصده حتى رأت رائد يخرج سلاحه ويغلق الباب بقدمه :
” حلو كده انا مش عايز بقى حد يتحرك سنتي قبل ما البوكس يجي ويلمكم واحد واحد ”
حرك عيونه صوب صلاح بحسرة :
” اخر حد كنت اتوقع انه ينجرف في موجة الفساد والاجرام، اخص عليك ”
رفع صلاح حاجبه وصوت زفراته ملئت المكان، بينما رائد بدأ يمرر السلاح على الجميع :
” أنا عايزكم زي ما انتم كده ببصامتكم بالدم اللي لبسكم ده ”
نظر محمود لثيابه قبل أن يضم يديه لصدره يحاول مداراة تلك البقع الحمراء التي لوثت ثيابه، ورائد مازال يلعب دوره كشرطي في محاولة معرفة ما حدث :
” دلوقتي كل واحد هينطق ويقولي دوره كان ايه في الجريمة دي ومين فيكم اللي قتله بالضبط، ومين اساسا المرحوم ده ؟؟ ”
صمت ثم أضاف :
” مكنتش اعرف إني هوصل للحظة دي اللي اوقف فيها اهلي وصحابي قدامي وهما متهمين في جريمة قتل، خيبتوا ظني كلكم، اخص عليكم ”
في تلك اللحظة خرجت تسبيح من الداخل تردد بجدية مشيرة للمرحاض :
” انا دورت على الممسحة جوا وملقتهاش، أنتم بتحطوها في حتة معينة ولا ايه ؟!”
فتح رائد فمه بصدمة وهو يردد :
” تسبيح ؟؟ حتى أنتِ ؟؟ ”
رددت تسبيح ببلاهة :
” أنا ايه ؟؟ أنا بس كنت همسح الدم ده ليوقع حد ويتأذي ”
صمتت وهي ترى نظرات رائد لها وهو يراقبها بخيبة أمل لتشعر أنها ارتكبت خطأ ما، لكن ما هو؟؟ هذا ما لا تدركه .
” هو أنا بس كنت عايزة اساعد، أنا عملت حاجة غلط ؟؟”
تحرك صلاح يجذب رائد من ثيابه وقد ملّ لعبه معهم بهذا الشكل، بينما رائد يسير خلفه وهو مازال ينظر لتسبيح بشكل اثار ريبتها، وفي داخله يود لو ينفجر بالضحك على ملامحها ..
وصلاح يتحدث بجدية :
” متاخديش في بالك يا آنسة تسبيح، هو كده بتجيله كل فترة حالة اسمها ترقيفوبيا ”
رددت تسبيح ببلاهة وهي تراقب قهقهات رائد الصاخبة :
” ترقيفوبيا ؟؟ ده مرض معدي يعني ؟!”
ازدادت ضحكات رائد اكثر واكثر عليها وصلاح يلقي بجسده على مقعد مشيرًا للجميع بالجلوس :
” دي حالة بتجيله كل ما يلمح أي جريمة، وبيبدأ خياله المريض يهيأ ليه أنه هيترقى لو اتولى الجريمة دي ”
ولم يساعد كلام صلاح في فهم شيء مما حدث، فتسبيح ما تزال بنفس ملامح الجهل ورائد يحدق بها وهو يخفي سلاحه مرة أخرى يشير لها بالجلوس وصوته خرج لطيفًا مراعيًا :
” اقعدي يا تسبيح أنا بهزر ”
جلست تسبيح وجلس الجميع على المقاعد وتبدأ الجلسة بينهم بحديث ميمو مشيرة لجسد عمر :
” خلال الساعات الجاية سعيد هيبدأ يتصل بعمر عشان يعرف منه وصل لفين مع صالح، وبعدين على أساس كلامه هيتصرف “
أشار رائد صوب جسد عمر الذي كان في عالم آخر :
” طب والمرحوم هيطمنه ازاي ؟؟”
نظر له صلاح ثواني والصمت ملء المكان قبل أن يفضي صلاح بالحل الوحيد الذي توصل له :
” حسب كلامك يا ميمو فعمر ده راجل مهم عند سعيد صحيح ؟!”
اماءت ميمو بإيجاب ليبتسم هو قائلًا بكل بساطة محركًا كتفيه لأعلى:
” خلاص لما يتصل بيه سعيد مش هنعبره اول مرة او اتنين وبعدين نبعت ليه رسالة من التليفون نطمنه بيها ميقلقش ونقوله أنا بخلص حاجة مهمة وهكلمك ”
ابتسمت ميمو وقد استساغت تلك الفكرة وكذلك الجميع الذي نظروا لصلاح بتقدير، قبل أن يتساءل صالح بانتباه شديد :
” وبعدين ؟؟ هنعمل ايه ؟!”
قال صلاح :
” امتى ممكن يفوق الراجل ده ؟!”
” مش قبل يوم ”
هز رأسه وهو يقول بجدية :
” تمام، لما اليوم يخلص احنا هنحاول نستغل وجود عمر معانا لأجل مصلحتنا ونساوم سعيد على كل اللي نقدر عليه ”
” واليومين دول هيقعد في ….”
كان صالح يتحدث وترك جملته معلقة وهو يدرك رد صلاح الذي قال ببسمة ولم يخيب ظنه :
” في اوضتك، وأنت هتروح عند محمود ”
نظر بعدها لرانيا وهاجر قائلًا بجدية :
” وانتم ممكن تقعدوا اليومين دول عند تسبيح لغاية ما نخلص من اللي بيراقبكم ”
هزت تسبيح رأسها توافقه الرأي تشجعهم على ذلك، بينما رانيا قالت بتعب وإرهاق بدا واضحًا على ملامحها:
” أنا كده كده مسافرة بكرة اسكندرية، بس هي خالتو اللي هتفضل هنا، اتمنى بجد تكون بخير، ولولا المخبز وشغلها كنت اخدتها معايا ”
سارع محمود يعرض الأمر عليها بجدية كبيرة :
” أنا مش بيكون عندي شغل كتير في المستشفى فممكن اروح ليها الفرنة واقعد هناك واخد بالي منها اوصلها هنا كل يوم بعد الشغل عادي ”
تشنج وجه صالح بتهكم وهو ينظر لمحمود الذي كان غارقًا حتى أذنيه في تأمل هاجر والتي كانت تنظر ارضًا بخجل دون الرد بكلمة واحدة :
” مين ده يا حبيبي اللي معندوش شغل كتير ؟؟ ليه شغالين في كوافير حريمي في موسم ركود ؟؟”
نظر له محمود برجاء وكأنه يخبره ألا يحرمه تلك الفرصة ليكون جوار هاجر، علّ ذلك يزيد من فرصته لديها ويعزز من مكانته عندها .
وقد كان، حيث تنهد صالح وهو يقول بتراجع :
” أيوة صح نسيت الفترة دي السوق واقف والنفوس بقت صافية ومبقاش حد يقتل التاني، محمود ممكن يقعد معاها في المخبز لغاية ما يروحها ”
هز صلاح رأسه :
” تمام كده، بالنسبة لتسبيح طبعا هي مش بتخرج، وكده كده الشقة هنا هيكون فيها واحد مننا، عشان يراقب عمر وياخد باله لو حصل حاجة عند البنات، أما ميمو …”
نظر لها وهو يترك جملته معلقة لتمنحه ميمو بسمة مخيفة :
” لا متخافش أنا بعرف اتصرف مع الاشكال دي كويس اوي”
وبسمة اعجاب واضحة ارتسمت على فم صلاح وهو ينتزع عينه عنها بصعوبة، ثم أشار لصالح أن يساعده في نقل عمر داخل غرفة ويجهز كل شيء لاستقباله هناك .
في الوقت الذي نهضت تسبيح وهي تقول ببسمة :
” هروح اجهز الاوض التانية عشان تناموا فيها ”
ومن فورها تحركت صوب شقتها في الوقت الذي تنحنح فيه رائد يستغل انشغال الجميع بنظرات خفية بينهم ويلحق بتسبيح مناديًا إياها ليوقفها أمام باب شقتها :
” تسبيح ..”
توقفت تسبيح وهي تنظر لرائد بترقب، فاقترب منها الاخير يبتلع ريقه، يحاول بدء الحديث بجملة مناسبة لتلاشي احراجه ليلة أمس ..
” هو في الحقيقة أنا في الفترة الأخيرة يعني كنت بفكر اني يعني المفروض يعني لما احتاج اتواصل معاكِ يكون فيه حاجة اكلمك عليها، وعشان كده جبتلك ده ”
تنفس واخيرًا بحرية حينما أخرج لها علبة الهاتف من خلفه وقد شعر أنه ركض اميالًا واخيرًا التقط انفاسه.
بينما تسبيح كانت تنظر للهاتف ببسمة غير مصدقة، تشعر أن الأمر قد زاد عن حده، وأنها كلفت رائد فوق طاقته، فهو تكفل بها بكل ما للكلمة من معنى ..
ابتلعت ريقها تحاول ايجاد كلمات ترفض بها تلك الهدية دون أن تتسبب في احراجه :
” بجد مش عارفة اقولك ايه، بس مينفعش والله، كده كتير اوي وانا مش هقدر اقبل اكتر من كده، أنت
عملت كتير عشاني، وكده هبقى فعلا وقحة لو قبلت التليفون”
” عندِك حق ”
كانت جملة تلقائية اعتاد قولها للجميع حين الرد عليهم، ومن ثم يضيف رأيه، لكن يا رائد ليس ذلك هو مكانها، أيها الابله، معها حق في ماذا ؟؟
كان رائد يردد تلك الكلمات في رأسه وهو يرى شحوب وجه تسبيح التي اتسع فمها بصدمة، ليسارع بلهفة يبرر ما قال :
” لا لا والله مش قصدي عندك حق أنك وقحة، أنا قصدي عندك حق، أنك عندك حق فهماني، أنا بس متعود اقول دائما لأي حد عندك حق بعد كلامه، بس …مش مقصودة هنا بالشكل اللي أنتِ فهمتيه و..”
زفر رائد بقوة يعيد خصلاته للخلف، لم يعهد الحديث مع النساء، في حياته لم يحتك بالنساء سوى بوالدته وجاراته من كبار السن، والفتيات اللواتي قابلهن في عمله، لكن الله لا تمت لأي النوعين بصلة، والاصعب أنه يشعر بنفسه حين الحديث معها كميكروب أسفل مجهر عالم شغوف، كل همسة منه مراقبة، لماذا لا يستطيع الحديث معها ببساطة كما لو أنها صالح أو صلاح ؟! أو والدته ؟؟ لا لا ليس والدته .
ولم يدري رائد أن حديثه مع نفسه كان مسموعًا لها :
” هو الموضوع صعب كده ليه ؟؟ ”
حمدت تسبيح ربها أن ملامحها مخفية أسفل نقابها، تبتلع ريقها ومعه ابتلعت ضحكة على ملامحه :
” رائد ..”
نظر لها رائد لتقول وهي تسحب الهاتف من بين أصابعه ترحمه من كل ذلك:
” شكرا على التليفون، وانا بكرة هرجع ليك حق كل اللي عملته ”
تنهد رائد متجاهلًا جملتها تلك، هو لا يهتم أن تعيد أمواله أو لا، بل هو فقط سعيد، سعيد لدرجة أنه أراد أن يمطرها بوابل من الدعوات كسيدة عجوز تودع ولدها قبل الذهاب للعمل، لكنه لجم لسانه ورأى أنه يكفيه ما أظهر اليوم من بلاهة وتصرفات كما لو أنه لم ير امرأة في حياته وقال :
” العفو، أنا سجلت عليه رقم صلاح وصالح ورقمي أنا كمان، عشان بس لو احتجتي حاجة”
هزت تسبيح رأسها تودعه بهدوء، منسحبة صوب منزلها لتختبأ ورائد يراقب طيفها ببسمة غريبة، ثم تقهقر عائدًا للشقة ليرى أن الجميع بدأ يرحل واحدًا تلو الآخر ولم يتبق في النهاية سواه هو وصلاح والسيد عمر …
وشعور رائد أن تلك اللعبة بدأت تتسع اكثر واكثر حتى ابتلعت الجميع، ومن يدري من ستبتلع غدًا ؟؟؟
_____________________
وفي هدوء الليل وحينما كان الجميع نيام، كان هو يجلس في الشرفة وعيونه شاردة في ذكرى رحيل تسببت في نزيف بقلبه، ذكرى الوجع الابدي الذي لم ولن يبرأ منه مهما مرت سنين عليه، المرة الوحيدة الذي ارتجف أمام الدماء، واللحظة الوحيدة الذي ارتجفت يده وهي تتلمس جثة …
تنهد صالح يستنشق الهواء محاولًا تخفيف كل اوجاعه، يتعجب تذكره لذلك الأمر في تلك اللحظة وبالتحديد، ألشعوره بالفقد القريب؟؟ لكن لمن ولماذا ؟؟ أيعقل أنه آلف رانيا؛ الفتاة التي لم يعرفها سوى من أسابيع قليلة لدرجة أن رحيلها ذكرّه برحيل آخر أشد قسوة ؟؟
هبط صالح الدرج يعبث بخصلات شعره وقد عاد منذ أيام من جامعته، فقد اختار الدراسة في القاهرة ليكون جوار صلاح، لكن الآن سبق هو صلاح وعاد لقريته الريفية البسيطة التي يشعر فيها بالراحة الشديدة ..
ابتسم بسمة واسعة يبصرها تقف في الحديقة، تظهر له من باب المنزل تعتني بالازهار، تحرك بأقدام سريعة صوبها وهو يصرخ بصوت عالي :
” أمـــــيـــــرة ”
انتفضت أميرة برعب تصرخ بصوت مرتفع، قبل أن تجذب طرف عبائتها المنزلية وتبصق فيها بصقات وهمية :
” بسم الله الرحمن الرحيم، يا بني أنت مش هتكبر بقى؟! ”
ضحك صالح بقوة يلتقف والدته بين أحضانه وينكب عليها بالقبل :
” وحشتيني وحشتيني وحشتيني “
ضحكت أميرة بصخب تحاول أبعاده :
” يا اخي وأنت موحشتنيش، بعدين مش أنت اللي اختارت تدرس في القاهرة وتسبني ؟؟”
استند صالح على كتف والدته يقول بمزاح وحب :
” كده يا ميرو ؟؟ يعني ده جزاتي اني اخترت ادرس في القاهرة عشان احط عيني على ابنك الفلتان واخلي بالي منه بدل ما يبوظ ؟؟ ”
ضربته أميرة في كتفه وهي تتحرك صوب مجموعة الازهار على الجانب الآخر :
” ابني برضو اللي فلتان ؟؟ ده الله يكون في عونه صلاح والله ”
زفر صالح بحنق شديد يتحرك داخل المنزل :
” ماشي ماشي، خليكم كل مرة كده تفضلوا تدافعوا عن صلاح على حسابي وكأني بجلده، طب على فكرة هو اللي متعبني اساسا، كل شوية يعمل مشكلة مع حد بسبب دماغه وآراؤه وانا اللي بروح اقف معاه ”
ابتسمت أميرة تراقب صغيرها الحبيب الذي نضج ليقتحم عالم الكبار بكل تهور دون حتى تفكير، فمنذ شهرين فقط أتم عزيزيها العام التاسع عشر لهما .
” يا سيدي حقك عليا، هو أنا عندي اغلى من صالح حبيب قلبي ؟؟ طب ده أنت اللي ليا يا صاصا، أنت عارف انا بحبك قد ايه عشان بس أنت الصغير والدلوع “
تدلل صالح على والدته وهو يلوي شفتيه في تذمر، ثم تحرك صوب المنزل تاركًا إياها تكمل عملها :
” لا خلاص بقى، خلي صلاح يجي يساعدك في قص الشجر والخبيز”
ابتسمت أميرة بحنان فقد كان صالح هو الأقرب لها، يساعدها في كل اعمال المنزل من تنظيف واحيانا طبخ وصنع الخبز، كي لا يشعرها بالحزن لأن الله لم يكتب لها إنجاب الفتيات، ويكرر مبتسمًا في كل مرة ينجز بها شيئًا :
” طب يا حظها اللي من نصيبي والله ”
ابتسمت أميرة وهي تراقبه يصعد درجات المنزل يتذمر بكلمات غير مفهومة، هزت رأسها بيأس وهي تعلم أنه دقائق فقط ويعود لها يخبرها أنه سيساعدها فقط لأنها والدته .
وبالفعل غاب صالح دقائق قضاها في تجهيز نفسه، ثم عاد صوب باب المنزل الداخلي يراقب والدته التي كانت ما تزال تشذب الازهار، وابتسم بهدوء :
” خلاص يا ميرو عشان أنتِ امي بس ”
ابتسمت أميرة وهي تنهض واستدارت تنظر له نظرة تشبه خاصته، فوالدته كانت المدللة الوحيدة في ذلك المنزل الذكوري ..
تحرك صالح صوبها يعدل من وضعية ثيابه التي ارتداها خصيصًا لمساعدة والدته في أعمال الحديقة الأمامية للمنزل، يخطو العتبات الداخلية ولم يكد يطأ الحديقة حتى اخترق مسامعه صوت صراخ وتوبيخ وأصوات رجال كثيرون، رفع عيونه بتعجب ليرى فجأة شاب يركض يعبر حديقتهم يحمل بين يديه سكين وأمسك والدته …
شُلت أطراف صالح لثواني، ثواني فقط قبل أن يركض برعب وجنون صوب ذلك الشاب الذي لا يدري هويته أو ماذا يفعل في منزلهم وكيف اقتحمه هكذا ولماذا، لم يهتم بكل تلك الاسئلة بقدر ما اهتم بجسد والدته الذي كان يرتجف بين ذراعيّ ذلك الشاب ليتوقف ارتجافها فجأة تزامنًا مع انفجار الدماء من رقبتها حينما نحرها ذلك الشاب دون مقدمات وأمام اعينه ……
” صالح لسه صاحي ؟!”
افاق صالح من دوامة أفكاره على صوت محمود خلفه، فهو كما اتفق مع صلاح سيقضي تلك الليالي هنا، سارع في كفكفة دموع لم تعبر حتى عينيه، فقطع عليها هو الطريق بكل تجبر، لكن هيهات فقد أبصرت عيون محمود المصدومة ملامحه المتغضنة، اقترب منه بتريث يهمس بصوت مبهوت :
” صالح أنت كويس ؟! مالك ؟؟”
نظر له صالح بطرف عينيه، ثم استشنق كمية كبيرة من الهواء يحبسها داخل صدره في محاولة يائسة أخيرة لمنع تلك الغصة من الخروج في نبرات صوته :
” مفيش بس افتكرت حاجة كده ”
اقترب محمود حتى توقف أمام مقعده وهمس بصوت خافت وكأنه يخشى دخول تلك المنطقة الشائكة بعقل رفيقه :
” والدتك ؟؟”
ارتجف جسد صالح لثواني وهو من ظن أن تلك السنوات ساعدته للتأقلم مع الأمر، وقد أصبح لا يرتجف لذكر والدته كما حدث منذ يوم حينما هدده الحمقى هو وصلاح بوالدتهم، وقتها منع نفسه من انتزاع الهاتف واطراب مسامعهم بكلمات ولن تعبر محيط آذانهم يومًا، لكنه وقتها ابتسم بسخرية لاذعة يدعي أن لاشيء حدث …
شعر صالح فجأة بجسد يميل عليه، ومحمود يضم رأسه له مربتًا عليها بحنان :
” متزعلش هي دلوقتي تلاقيها قاعدة مع ماما واتصاحبوا”
ابتسم صالح بسمة متوجعة على تلك الجملة التي كان يرددها محمود قديمًا، فوالدته توفيت في طفولته فجأة ودون سابق إنذار، دون مرض ودون أي شيء، استيقظوا يومًا ليرونها جثة هامدة أعلى الفراش …
رفع صالح رأسه لمحمود مبتسمًا وهو يربت على كتفه بحب:
” أيوة صح، ماما طيبة مهانش عليها تسيب طنط ميريهان لوحدها ”
ضحك محمود ضحكة صغيرة خرجت بغصة حاول كبتها، يقبل رأس صالح :
” عارف اكيد قاعدين دلوقتي يتفرجوا علينا وشايفين اني حاضنك كده وشكوا فينا ”
أبعده صالح من فوره وهو يطلق شتائم مغتاظة وقد نجح ذلك المستفز في ثقب فقاعة الحزن التي أحاطت بهم منذ ثواني ..
ليتضاحك محمود بصوت مرتفع عليه، ثم حكّ رأسه يتشدق بارهاق شديد :
” أنا جعان، هنزل اشوف حاجة أكلها، لو جعان تعالى ورايا نقلب التلاجة”
ابتسم له صالح وهو يراه يخرج من الغرفة يصفر ويغني بمزاج صافي ليس وكأنهم منذ ثواني كادوا ينخرطون في موجة بكاء كصغار سقطوا في طريق دون ذويهم، وارتكنوا للجدار باكيين، هكذا كان محمود، طوال الوقت مرح لطيف وحنون بدرجة امتياز، يعزّ عليه رؤية أحدهم مجروح حتى ولو كان ذلك الاحدهم متشرد في أحد الأزقة، محمود الذي سانده وآزره وبقي جواره يتحمل صمته وصدمته، حتى أنه عاند والده والجميع ورسب عامًا خصيصًا ليصبح معه بعدما ترك هو دراسته لعام، ففعل محمود المثل مرددًا بنبرة قصد أن تصبح مستفزة عنيدة :
” هتسقط، هسقط، والله لنعيد السنة سوا ”
وقد كان…. أخّر محمود تعليمه عامًا واوقف حياته سنة كاملة لأجله، ولأجل أن يكملوا مشوارهم سويًا، وهو مهما مرت السنون ومهما عاش لن ينسى يومًا ما فعل محمود لأجله، لن يترك يد شخصٍ ترك عالمه وانعزل جواره في محنته، فهو لا يمتلك شقيقًا واحدًا، بل ثلاثة؛ رائد ومحمود وصلاح الحبيب …
تنهد يتذكر تلك الأيام التي عقبت وفاة والدته بذلك الشكل وصدمته التي عانى منها، وصدمة صلاح الذي أنهار باكيًا على نعش والدته يترجاهم أن يحتضنها لمرة واحدة، أن يسكن أحضانها للمرة الاخيرة، ربما هو كان محظوظًا أن ذهب قبله لقريتهم ونال منها دلالًا وقبلها واحتضنها، لكنه بالطبع لم يكن محظوظًا ليشهد مقتلها على يد مخنث قذر …
تنهد صالح يردد في نفسه ببسمة راضية، فهو تخطى كل ذلك منذ سنوات بعد رحلة علاج طويلة خاضها مع الجميع وخاصة صلاح ومحمود الذين تشبثوا به، حتى عاد لهم كما كان واسوء
“رحمك الله يا امي ورحم جميع من سبقوكِ، و ربط على صدور محبيهم، والهمهم الصبر على مصابهم ”
سمع صوت محمود يأتيه من الاسفل وكأن لا أشخاص معهم في المنزل:
” واد يا صالح الحق لقيت محشي ورق عنب عندنا، جابها منين الراجل ده، ابويا بيجيب نسوان تعمله ورق عنب في البيت ”
ضحك صالح وهو ينهض من مقعده يتحرك صوب الاسفل، في الوقت الذي ارتفع به رنين هاتفه، عاد مجددًا صوب الطاولة المجاورة للفراش واجاب بتعجب لتلك المكالمة وفي ذلك الوقت :
” صلاح ؟؟؟؟”
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية ما بين الألف وكوز الذرة ) اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق