رواية ما بين الألف وكوز الذرة كاملة بقلم رحمة نبيل عبر مدونة كوكب الروايات
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الحادي عشر 11
صدى صرخاتها بدد سكون الليل، وقد تعاظم شعورها بخروج روحها مع تلك الصرخة، أنفاسها تتقلص وجسدها يرتجف وفجأة……
انتفض جسد ميمو بقوة بسبب تلك اليد التي سحبتها من ذلك الجزء المظلم بعقلها، كانت تتنفس بعنف وهي تستشعر بأيدي قوية تضغط على ذراعيها وتهز جسدها كما لو أنه يحاول إجبارها على الاستيعاب .
أغمضت عينيها بقوة تحاول أن تقنع نفسها أنها حية، كل ذلك حلم، بل كابوس بشع، تنفست بقوة وهي تفتح عيونها شيئًا فشيء لتلمح وجه مختار الذي كان شاحبًا وهو ينظر لها بخوف .
نظرت ميمو حولها تحاول معرفة أين هي وماذا حصل، تتفحص جسدها بأيدي مرتجفة، تتأكد أن سعيد لم يتجرأ ويخرج من أحلامها وينفذ ما يحلم هو به طوال حياته .
أبصرت بطرف عينيها المشروب الذي ذهب مختار لاحضاره، كل ذلك كان حلم، كيف سقطت في النوم، هي فقط أغلقت عيونها لثواني لترى تلك الرؤية المرعبة، لربما هو حديثها مع صلاح اليوم حول ما قد يفعله سعيد إذا ما نشرت تلك المقالة، نعم هذا ما حدث .
نهضت ميمو من مكانها تحاول التحدث لطمئنه مختار الذي كان شاحب الوجه وهو يراقبها بقلق وجسدها ما يزال يرتجف كورقة ذابلة في اوائل الخريف :
” أنا …أنا كويسة ..أنا بس شوفت كابوس “
هز مختار رأسه لها بينما هي نظرت له ثواني قبل أن تشير له بالتحرك :
” خلينا ننزل الجو بقى وحش ”
وبالفعل تحركت ميمو للاسفل وهي ما تزال تشعر بتلك الرصاصة التي اصابتها، تشعر بها حقيقية، ما بال اليوم عقلها قد تكالب عليها وكأنه اقسم على ألا يجعلها ترى راحة ثانية واحدة .
وبمجرد أن هبطت ميمو من السطوح وجدت سعيد يتوسط الأريكة براحة شديد وبين أصابعه يحمل كأسًا من العصير، ابتسمت ساخرة تردد بينها وبين نفسها، يقتلني ثم يأتي لشرب عصير بارد، ذلك السعيد الاحمق …
تحركت صوب الأريكة بخطوات بطيئة بينما مختار اتخذ ركنًا بعيدًا وعيونه ما تزال معلقة بهما .
ألقت ميمو جسدها جوار سعيد الذي حرّك عينه لها، ثم انتبه للتلفاز مجددًا يرظف بنبرة عادية :
” مال وشك كده كأنك شوفتي عفريت ”
أرجعت ميمو رأسها للخلف تهمهم بصوت خافت وصل له واضحًا :
” امممم شوفتك في الحلم”
صمتت ثم أضافت بجدية :
” لا هو كان كابوس، عشان كده وشي عمل زي ما أنت شايف ”
اتسعت عيون سعيد بقوة وهو يغلق التلفاز، ثم مد يده يصب كوبًا من العصير البارد يعطيه لها، ومن ثم اولى لها كامل انتباهه، يستند بذقنه على يديه، كطفل يستمع لحكايات جدته وقد التمع الفضول بعيونه :
” ها قوليلي بقى عملت ايه في الكابوس ؟؟ قتلتك ولا سلختك ؟!”
ارتشفت ميمو بعض العصير من الكأس وهي تردد بسخرية لاذعة :
” ده اخرك يا سعيد، الاحلام، اخرك تحلم أنك تقرب مني بس ”
ابتسم سعيد بتهكم ش يحمل كوبه مجددًا :
” مش انا اللي حلمت يا قلبي، أنتِ اللي حلمتي وده معناه اني عاملك قلق ”
ضحكت ميمو وهي ترتشف المزيد من العصير الخاص به والذي يدمنه سعيد، فهو لطالما عشق العصائر الطبيعية بجميع انواعها، شخص مريب :
” عندك حق أنت عاملي قلق وصداع ولو بايدي اطردك من هنا، بس مش هعمل كده، عارف ليه ؟؟”
منحها سعيد نظرة بريئة مصطنعة :
” عشان البيت هيضلم من غيري ؟؟”
” لا عشان مش هلاقي حاجة اتسلى عليها ”
نفخ سعيد باستهزاء دون أن يجيبها في اللحظة التي اقتحمت بها نيرمينا الجلسة تردد بسعادة كبيرة لرؤيتهما معًا دون شجار :
” مساء الخير ”
ترك سعيد الكوب أعلى الطاولة يفتح ذراعيه بحب لحبيبته الاولى وصغيرته الأقرب لقلبه، وصوته يخرج بحنان ولطف كبير لا تراه كثيرًا منه :
” مساء السكر يا نيمو”
ألقت نيرمينا نفسها بين أحضان سعيد ليغمرها هو بصدره يقبل خصلات شعرها بحب شديد ويده تتحرك تلقائيًا على ذراعيها صعودًا وهبوطًا :
” عاملة ايه ياقلبي ؟؟”
رفعت نيرمينا عيونها له تقول ببسمة :
” أنا كويسة اوي، وكمان أنا نجحت السنة دي وبقيت السابعة ”
وتلك البسمة الحنونة التي منحها سعيد لها كانت أكبر مكافئة_ بعد بسمة مختار الفخورة _ تحصل عليها نيرمينا لأجل نجاحها :
” حبيبتي الف مبروك، أنا دايما فخور بيكِ يا نيمو، وعشان الاخبار القمر دي اطلبي اللي تحبيه هدية مني ليكِ”
نظرت له نيرمينا بلهفة وقد أتت واخيرًا فرصتها لتطالب أخيها بشيء ترغبه منذ سنوات طويلة، ليخرج صوتها مترددًا :
” أي حاجة ؟؟”
” اي حاجة ”
نظرت نيرمينا لميمو التي كانت ترمقها بسعادة، تلك اللحظات القليلة التي قد تحتمل بها قرب سعيد هي اللحظات التي يكون هو سبب سعادة نيرمينا، وربما لهذا السبب لم تتخلص منه وتقطعه اربًا حتى اليوم ..
ضمت نيرمينا نفسها لصدر أخيها بقوة، ليزيد سعيد تلقائيًا من ضمته لها وهو يسمعها تهمس ببعض الكلمات التي لم تكن واضحة له، أبعدها قليلًا :
” قولتي ايه يا نيمو، مسمعتش، علي صوتك شوية ياقلبي ”
نظرت له نيرمينا ولميمو بشكل جعل الأخيرة تشعر أن القادم لن يكون مجرد طلب عادي قد ينفذه لها سعيد بنفس راضية :
” كنت بقولك حابة أخرج الرحلة اللي تبع الجامعة مع صحابي ”
فجأة انمحت بسمة سعيد، لتسارع نيرمينا وتمسك وجهه بين يديها وهي تجذب طرفي شفتيه وكأنها تجبره على الابتسام مجددًا :
” لا بالله عليك ما تكشر، استنى لما اقولك باقي التفاصيل ”
رفع سعيد حاجبيه وهو يبعد يديها عن فم :
” نيرمينا أنتِ عارفة كويس اوي، إني مش بحب الحوارات دي لأني مش بأمن عليكِ في الرحلات ولا مع حد غريب ”
تدخلت ميمو في تلك اللحظة حينما رأت ملامح نيرمينا التي انكمشت بحزن، لتمارس سلطتها في هذا المنزل كوالدة روحية لتلك الصغيرة التي لم ولن تسمح لأحد أن يحزنها، حتى وإن كان هذا الأحد هو شقيقها نفسه :
” البنت مش صغيرة عشان تتحكم فيها كده يا سعيد ”
نظر لها سعيد باعتراض على حديثها وقد ساءه أن تعترض عليه أمام صغيره :
” والله صغيرة أو لا متتدخليش أنتِ بيني وبين اختي “
رفعت ميمو حاجبها تجذب نيرمينا من بين أحضانه وهي تنهض، تضم الأخيرة لها بقوة في تحدي سافر لاعين سعيد الذي نظر لها بقوة ألا تتدخل بينهما لتشعر نيرمينا أن تلك الهدنة التي رأتها منذ ثواني ستنتهي الآن وعلى يديها …
وفي الركن البعيد كان مختار يراقب بملامح جامدة ينتظر فقط إشارة ليفجر رأس سعيد
ارتفع صوت ميمو بقوة وهي تفرض سيطرتها التي توازي سيطرة سعيد في هذا المنزل :
” والله نيرمينا تخصني اكتر منك يا سعيد، ولو ناسي افكرك مين اللي رباها من صغرها واخد باله منها يا عيوني ”
تنفس سعيد بصوت مرتفع جعل نيرمينا تقول بخوف أن تحزنه أو أن تشعل حربًا ظنت_ بكل غباء _ أنها وضعت أوزارها :
” خلاص يا سعيد أنا مش عايزة، اصلا الرحلة كانت هتبقى مملة ووحشة ”
ونظرة صارمة من ميمو جعلتها تقطع حديثها وهي تنظر ارضًا في اللحظة التي لمحت بها مختار يطيل النظر لها، ابتلعت ريقها وهي تتجاهل جميع من حولها وتنظر له بتعجب وكأنها تسأله عن سبب نظراته لها.
لكن قاطع كل ذلك صوت ميمو وهي تلقي بكلماتها الأخيرة تحاول ألا تعاند سعيد في أمر شقيقته فهي تعلم جيدًا كم يحبها، وأن سعيد هو آخر شخص في هذه الحياة قد يرضخ لشيء بالعناد :
” خلاص خليها تروح ولو خايف عليها، هبعت معاها مختار يكون مرافق ليها خلال الرحلة كلها وهيرجعها سليمة، وأنت بنفسك عارف مختار كويس اوي وعارف لما اوكله بحاجة بيعملها ازاي ”
ولوهلة اتسعت عيون مختار بصدمة ينظر لميمو ومن ثم لسعيد وكأنه يحاول التأكد مما قالت ميمو، حتى سمع صوت سعيد بعد صمت طويل بعض الشيء :
” تمام، أنا موافق ”
ما هذه الورطة التي اسقطته بها ميمو الآن ؟! هل سيعمل الآن مرافقًا لتلك الفتاة ؟؟ أي حظ هذا ؟؟
______________________
توقف أمام باب المنزل يحمل الحقائب بصعوبة، يحاول رفع يده للطرق، وكفه مأسورة بين الحقائب، لكن لم ييأس وهو يمد طرف قدمه يطرق الباب به.
دقيقة واحدة وطلّ عليه وجهها المغطى بنقاب لم يظهر سوى عينيها من خلف الباب الذي فتحته على استحياء، ليبتسم هو لها بسمة لطيفة يرفع الحقائب في الهواء يردد بجدية مطلقة :
” حسيت أن الحساب بتاعك قليل قولت ازوده شوية، واستثمر في المديونية بتاعتك ”
رمقته تسبيح بعدم فهم لتتسع بسمته بشكل جعلها تتخلى عن حذرها وهي تترك الباب وتخرج بكليتها من خلفه تقف أمام المنزل، لترى رائد ينظر حوله وكأنه يبحث عن شيء ما، لكن وعندما يأس تقريبًا من ايجاد شيء يستند عليه ترك الحقائب ارضًا وجلس جوارها وهو يفرغها أمامه كالبائع الذي يعرض بضاعته تحت أعين تسبيح المتسعة تراه يرفع أمامها العديد والعديد من الحلوى التي لم تحصل عليها في حياتها بأكملها بعدما كانت توفر كل قرش لأجل معيشتهم.
” بصي أنا عمري ما جبت حلويات لبنت غير امي، فاعتبرتك امي وجبتلك نفس الحاجات اللي بتحبها ”
كان يتحدث ببسمة وهو يفتح الحقائب، لكن فجأة استوعب رائد كلماته لها ليرفع وجهه سريعًا وهو يحاول تدارك ما قال ببسمة غبية :
” لا مش قصدي أنك زي امي أنا قصدي يعني في مكانتها، أو يعني….. مش كده اصبري هفهمك ”
ودون أن تشعر تسبيح ضحكت ضحكة خافتة على ملامحه وهو يحاول أن يجد ما يصحح به كلماته، بينما رائد نسى ما كان يود قوله وهو يراها تبتسم ليتشجع وهو يعرض أمامها ما شراه بفخر :
” بصي يا ست الكل جبتلك شيبسي لأجل الأملاح و شوية مشروبات غازية لأجل هشاشة العظام، وشوكولاتات وحلويات كتير لرفع مستوى السكر في الدم، اظن مفيش مرض نسيته وعداني العيب ”
” أنت عايز تخلص مني ولا ايه ؟!”
هز رائد رأسه وهو يقول بجدية كبيرة، بينما يده تتحرك بين الحلوى وكأنه يبحثًا عن شيءٍ ما :
” لا بس أنتِ متكتريش و أنتِ هتعيشي عادي ”
شعرت تسبيح بالتأثر وهي تراه يحاول اسعادها دون حتى أن يعلم عنها شيئًا سوى أنها مجرد فتاة لاخت مجرم ألقى القبض عليه يومًا، بينما رائد كان ما يزال يجلس ارضًا وهو يحاول ايجاد المثلجات التي أحضرها :
” أنا فاكر اني جبت ايس كريم والله، هو عم مرتضى نسي يحطه ولا ايه ؟؟”
رفع رأسه يقول بجدية يجمع تلك الحلوى مجددًا في الحقائب :
” بصي خدي دول خزنيهم جوا لغاية ما انزل اشوف الايس كريم تقريبا نسيته و عـ”
” أنت طيب اوي على فكرة، ربنا يسعدك يارب ويكرمك ”
كانت تلك الجملة العفوية التي صدرت من تسبيح هي ما اوقف يد رائد التي كانت تجمع الاشياء، وهو ينظر لها بعدم فهم لتشعر هي بغرابة ما تفوهت به، تحدثت كما العجوز الذي ساعدها شاب في عبور الطريق .
نظرت تسبيح ارضًا ليقول رائد بتلكؤ وهو لا يعلم بما يجيب على جملتها تلك ينظر لها ببسمة بلهاء يبحث في قاموس عقله الخالي عن رد مناسب يمحو حرجها ذاك، ليخرج منه جملة اسوء من خاصتها :
” الله يخليكِ أنتِ اللي طيبة وبنت حلال والله ”
حسنًا رائد احسنت، أنت فقط لم تحضر لها حلوى والدتك المفضلة، بل أيضًا تحدثت لها كما تفعل والدتك مع كل فتاة تراها.
( بنت حلال )؟؟ حقًا ؟! ما رأيك الآن بالتربيت أعلى رأسها والدعاء لها بالزوج الصالح ؟!
خرج رائد من أفكاره على صوت تنحنح تسبيح التي حاولت أن تخفي خلفه ضحكة كادت تفلت من بين شفاهها، ليشعر بالحرج يزداد والشحنات تزداد في الأجواء، ليقول وهو يشير صوب الدرج بينما يفرك خصلات شعره :
” هروح اجيب الايس كريم، عايزة حاجة تاني من تحت ؟! ناقصك حاجة في البيت ؟!”
نظرت تسبيح ارضًا تتلاشى النظر له بأي شكل من الأشكال حتى لا تنفجر في الضحك على مظهره :
” لا شكرًا، كفاية تعبك والله، بعدين كده الحساب بيتقل وانا واحدة حاليًا فقيرة ومش هعرف ارد ده كله ”
ابتسم رائد بلطف يلوح بكفه في الهواء :
” متقوليش كده احنا اهل برضو، كله من خيرك “
نعم احسنت رد غبي آخر، لِم لا تذهب لعم مرتضي وتحضر المثلجات وتأتيها بها لتنتهي من محاولة إثبات نفسك كغر احمق لا يعرف سبيلًا في اللباقة والتعامل مع الفتيات، أفق رائد هذه ليست الحاجة سمية جارتك التي ترسلك لها والدتك بطبق بسبوسة ..
كانت تلك الكلمات تترد في رأس رائد الذي منحها بسمة محرجة ينسحب بسرعة كبيرة من أمامها تاركة حقائب الحلوى ملقية ارضًا دون أن ينتبه لها من شدة خجله مما حدث، بينما تسبيح ترمق طيفه وهي تضحك بخفوت ..
في ذلك الوقت فُتح باب الشقة المقابلة والتي يقطن بها رائد ليخرج منها صالح، أو صلاح، لا لا هذا صالح نعم فهو يرتدي ثياب شبابية وخصلاته مبعثرة بعض الشيء .
اغلق صالح المنزل خلفه وهو يضع الهاتف ما بين كتفه ورأسه :
” أنا جايلك يا محمود خلاص خلصنا ”
في ذلك الوقت انتبه لحقائب الحلوى الساقطة ارضًا أمام منزل جارتهم الجديدة، ليتحرك صوبهم وهو ينحني لهم لتسارع تسبيح في منعه :
” لا متتعبش نفسك أنا هلمهم والله و…”
لكن فجأة توقفت حينما وجدت صالح ينهض بعدما امسك عبوة من عبوات المشروبات الغازية وهو يقول بهدوء واحترام غريب عليه :
“مساء الخير يا تسبيح، هيحصل حاجة لو اخدت البيبسي ده ؟؟ عشان اللي عندنا خلص ”
فتحت تسبيح فمها ببلاهة تهز رأسها نفيًا :
” لا أبدًا اتفضلها ”
ابتسم لها صالح وهو يتحرك صوب الدرج وهي ما تزال ترمق الحلوى الملقاه ارضًا بتعجب لتصرف ذلك الشاب معها .
وبعد ثواني وحينما أفاقت من شرودها سمعت صوت الباب يُفتح ويخرج منه صلاح الذي كان كعادته يرتدي بدلة مرتبة دون رابطة عنق وبشعر مرتب وبسمة هادئة، اتجه لها صلاح يلقي عليها التحية :
” مساء الخير يا آنسة تسبيح ”
انحنت تسبيح تحضر مشروب آخر له، لكن صلاح سبقها وهو يشير لها ألا تفعل :
” خليكِ أنا هلمهم”
وبالفعل انحنى صلاح يجمع كل الاغراض في الحقائب بهدوء شديد، ثم رفعهم وهو يعطيهم لها بهدوء :
” اتفضلي ”
” ها ؟؟”
ابتسم صلاح بتعجب لنظرات البلاهة أعلى وجهها :
” فيه حاجة اساعدك فيها ؟؟ تحبي اشتريلك حاجة من برة وانا راجع ؟؟”
هزت رأسها بنفي سريعًا تسحب نفسها قصرًا من تلك الدهشة التي سقطت بها، ترى صلاح يهز رأسه بهدوء مودعًا إياها، ليثبت لها ذلك التوأم صحة المقولة التي لطالما سمعتها من نساء الحارة ( صحيح البطن قلابة..)
___________________________
توقفت السيارة الخاصة به أعلى تلة ينتشر عليها العديد من المطاعم والمقاهي ويعمها الضجيج، وعلى إحدى جوانب تلك التلة كانت تقف سيارتها تجلس أعلى مقدمتها ترفع رأسها لأعلى تستنشق الهواء وهي تحاول أن تنعم بلحظات هادئة بعيدًا عن أي ضوضاء في حياتها تلك ..
وصل لمسامعها صوت محرك سيارة تتوقف جوارها، لم تتعب نفسها لترى من ذلك الذي اقتحم مساحتها الشخصية، فهي من اتصلت به خصيصًا ليفعل ذلك .
شعرت ميمو بجسد صلاح يقترب منها يستند على السيارة التي تجلس أعلاها وهو ينظر للسماء كما تفعل :
” مبقتيش تقدري تستغني عني ؟؟”
أطلقت ميمو ضحكات عالية وهي تنظر له بطرف عينيها :
” تقدر تقول إني بقيت حابة فكرة أن فيه حد بتكلم معاه براحة من غير ما اضطر أوضح كلامي بعد ما اخلصه”
صعد صلاح على السيارة جوارها يتنهد بصوت مرتفع :
” نفس الشيء، رغم اني لسه مش متعود على الموضوع، يعني تخيلي بعد ما كنت كل يوم بتكلم مع صالح ورائد ومحمود صاحب صالح، بقيت اتكلم مع واحدة دماغها زي الافعى ”
ابتسمت ميمو بسمة جانبية ولم تنظر له حتى وهي تقول :
” لو أنا افعى، فحضرتك تعبان ”
” تؤ تؤ احنا نيجي ايه جنبك بس يا ميمو هانم، ده كفاية بس البلاوي اللي عملتيها لسعودك لغاية دلوقتي ”
نظرت له ميمو ثواني :
” عملت ايه ؟؟ قصدك على الكام مقال دول، لا دول هزار على الماشي كده مع سعيد عشان يتلم متاخدش في بالك ”
افتر ثغر صلاح عن بسمة مخيفة خبيثة وهو يميل بشكل غريب على ميمو هامسًا وكأن هناك من يجاورهما ويستمع لحديثهما :
” مش قصدي على الكام مقالة، أنا قصدي على المصايب اللي في المقال ”
رفعت ميمو حاجبها ليعتدل جسد صلاح يردف ببساطة وكأنه يتلو عليها اخبار الطقس لهذا اليوم :
” عرفتي منين كل مصايب سعيد يا ميمو ؟! رغم أن كل اللي عرفته منك حتى الآن كان برة البلد وأنتِ قاعدة هنا”
وها هي تلك البسمة التي تدل أن ميمو أخرجت شياطينها وهي ترفرف بعيونها، تعطي صلاح ما يدور حوله منذ جاء :
” اللي عرفته أنت عن سعيد يا لذوذ ميجيش نقطة في بحر اللي اعرفه أنا عنه، تقدر تعتبر نفسك واقف مع صندوق سعيد الاسود، أي حاجة بحطها في دماغي بعرفها “
ضحك صلاح بصوت مرتفع وقد نال ما أراد :
” وبتقولي عليا تعبان ؟؟ يا شيخة ده أنتِ عندك سم خام ومُركز ”
هزت له ميمو رأسها بهدوء شديد وكأن الأمر طبيعي أو أنه لا يعني شيئًا :
” الفلوس يا لذوذ بتعمل المعجزات، ادفع اكتر تاخد اللي عايزه، وانا في الوقت ده مكانش معايا أي حاجة غير الفلوس، تقدر تقول دي واحدة من مميزات جاد القليلة ”
ها نحن اقتربنا من النقطة التي يتلاشى صلاح التحدث عنها، لكن في تلك اللحظة بالتحديد أراد وبشدة معرفة كيف كان شكل علاقتها مع ذلك العجوز، وما الذي اوصلها له ؟؟
” هو …بخصوص جاد، كان ايه الحوار؟؟”
أطلقت ميمو تنهيدة عالية تسمح للهواء أن يهدأ من نيران قلبها المشتعلة، وكعادتها حينما تحتاج لشغل عقلها عن شيء أخرجت رباط شعرها من معصم يدها تلملم به خصلاتها وكأنها بذلك تقطع جميع السبل أمام الهواء ليعبث بخصلاتها، ثم أرخت كتفها تردد بجدية :
” مفيش حوار ولا حاجة، حالي هو حال ١٢ مليون بنت اتاخدت من حياتها واترمت غصب عنها في حياة الكبار، كل سنة فيه تقريبًا ١٢ مليون بنت بيتسحب منهم العروسة اللعبة بتاعتهم وبيحطوا بدالها طفل صغير ويقولوا ليها يلا مبارك بقيتي أم وزوجة “
آهٍ من ذلك الوجع الذي يُقطر من كلماتها، تلك الفتاة أمامه تبدو كالصخرة، صلبة من الخارج ومن الداخل تحمل العديد من التشققات التي تسببت بها ظروف قاسية، وهي نفسها الظروف التي حولتها لذلك الصخر في البداية .
حسنًا يكفيه، فهي لن تحضره الان ليذكرها بما تهرب منه .
وفي محاولة بائسة لسحبها من تلك الدوامة أشار صلاح خلفه لأحد المطاعم التي يخرج منها اصوات موسيقى واضواء كثيرة :
” ليكِ في الهندي ؟؟”
أفاقت ميمو مما هي به لتنظر خلفها صوب ذلك المطعم الذي كان على الطراز الهندي، لتبتسم بسمة لم يرها صلاح أعلى فمها سابقًا، بسمة ليست بالخبيثة أو العابثة، بل كانت صافية كطفلة حازت لتوها عدية العيد …
تقول وكأنها لم تصدق أن أحدهم سألها ذلك السؤال لتشرد في السرد :
” زمان كنت أنا ونادر بنحب اوي نمثل أننا في فيلم هندي وبنرقص زيهم ونتنطط، تعرف أننا كنا بنتابع الافلام مخصوص عشان نحفظ الرقص بتاعهم وبعدين نفرغ الصالة من كل حاجة ونبدأ العرض بتاعنا، لغاية ما يجي مازن ويقفل التلفزيون ويخلينا نذاكر، واول ما يدينا ضهره نقعد نرقص تاني، لغاية ما هو يستسلم ويرقص معانا ”
أنهت حديثها وهي تطلق ضحكات خرجت مُحملة بآهات ووجع، رغم تلك البسمة التي ترسمها، وكأن الذكريات أعادت لها ميمو الصغيرة الفتية المبتهجة .
شعر صلاح بوجعها وأدرك من كلماتها أن نادر ومازن اخواها، ورغم فضوله لمعرفة أين هما في هذه اللحظة وما الذي حدث لهما ليختفيا من حياتها بهذا الشكل، إلا أنه تجاهل كل ذلك وهو يقول بجدية متنحنحًا يضع يده أمام فمه وكأنه يخجل من قول ذلك وقد كان بالفعل :
” زمان وانا ١١ سنة تقريبا كنت بهرب أنا وصالح من البيت ونروح الأرض اللي وراه ونفضل نجري فيها ونغني ونعمل حركات زي ما شاروخان كان بيعملها في الافلام، وكنا بنسرق العِمة بتاعة ابونا عشان نلبسها زي الناس اللي في الهند ”
حدقت به ميمو في بلاهة وكأنها تحاول معرفة صدق ما يقول، لا تتخيل صلاح الذي عرفته كل تلك الأيام بهذه الهيئة، لكن نظرات صلاح أخبرتها أنه لا يمزح :
” ومرة قفشنا ابونا وجري ورانا بالخرزانة وهو حالف ليرقصنا على واحدة ونص ”
وها هو يحقق ما أراده وهو يراها تنفجر في الضحك بشكل هستيري تحاول تخيله وهو يركض في الأراضي الزراعية مرتديًا عمامة ويتراقص بين اعواد القمح هو وصالح، حتى صالح ذلك العابث لا تتخيله يتراقص كما يصف صلاح .
لكن صلاح والذي أراد في تلك اللحظة ألا تنمحي بسمتها، وأصر على الاحتفاظ بها تحت أي ثمن هبط من فوق السيارة يردد بجدية :
” مش مصدقة ؟! لا خلي بالك اللي قدامك ده اساسًا خليفة شاروخان في الملاعب ”
ومن فوره فتح صلاح ذراعيه يميل بنصفه العلوي للخلف قليلًا يحاول تقليد تلك الحركة التي يشتهر بها ذلك الممثل الهندي يردد كلمات هندية بطريقة مضحكة ..
” سيدتي أنتِ دلوقتي قدام شخصية متعددة المواهب، خليني اوريكِ واحدة بس من المواهب الكتير دي ”
ومن ثم بدأ يتراقص على الموسيقى التي خرجت من المطعم خلف ميمو يحاول تقليد حركات الرقص الشهيرة لديهم .
وميمو تطلق ضحكات عالية عليه، وصلاح لم يتوقف وهو يحرك يديه في الهواء لأعلى وأسفل ومن ثم كتفه يذهب يمينًا ويسارًا، وضحكات ميمو كانت أكبر مشجع له، وجمهور رائع يحمسه على المزيد والمزيد .
ليتناسى في لحظات عابرة من هو وكيف يعيش، نسي كل الرقي الذي يظهره طوال الوقت، ووقف أعلى تلة خلف أحد المطاعم يتراقص بحماس شديد .
اكتفت ميمو من المشاهدة لتقرر في لحظة مجنونة أن تقفز من فوق السيارة وهي تحرك يديها مثله وقد بدأت صور لها مع اشقائها تُعرض لها أمام عينيها، ليعيد لها صلاح وبعد مرور سنوات طويلة ذكرى من أسعد ذكريات قلبها، ذكرى جعلتها تبتسم من اعماق قلبها ترفع يديها في الهواء تحركها بقوة وكذلك كتفها وصلاح قد اندمج معها وبقوة في تلك الرقصة ….
لتنتهي ليلة ميمو ولأول مرة بضحكات وبسمات وسعادة من قلبها، لا تتذكر متى كانت آخر مرة تتصرف بهذا الشكل مع أحدهم، متى اطلقت لميمو الصغيرة العنان لتخرج من أسر جاد وقفصه الذهب، وتفعل ما يحلو لها، لكن صلاح والذي لم تعرفه سوى منذ أسابيع استطاع أن يصل لنقطة لم يصل لها قبله وانتزع من داخلها ميمو أخرى، ميمو ستكون سعيدة بوجودها هنا مع صلاح …
_____________________________
وطأ باقدامه المخبز الخاص ببسكوتة محمود _ كما يُصر الاخير على تسميتها_ يرى أن الأجواء في هذا المساء هادئة بعض الشيء إلا من بعض العشاق الذين جاءوا خصيصًا لتذوق حلوى ومشروبات هاجر …
بحث صالح بعينه عن محمود والذي أصر على عقد جلسة صلح بينه وبين تلك المتشردة التي تُسمى رانيا، وذلك لضمان ألا تتأثر مصالحه مع بسكوتته بسبب شخصين احمقين مثليهما .
وقف محمود يلوح بيديه في الهواء بقوة لكي يجذب انتباه صالح إلى طاولته، لكن صالح لم يعره اهتمام وهو يتحرك صوب منطقة استلام الطلبات حيث تقف رانيا، وها قد جاءت فقرته المفضلة ألا وهي إثارة حنقها :
” مساء الخير بقولك يا شاطر عايز حتة جاتوه وكوباية شاي بلبن ”
رفعت رانيا عينها صوب ذلك الاحمق الذي يتحدث، لتبتسم حينما وجدته صالح، حسنًا لم تتوقعه شخص آخر، فكم احمق مثل صالح في هذا العالم ؟؟
” و حضرتك هتاكل الجاتوه مع الشاي بلبن ؟؟ ”
” وده يخصك في حاجة ؟؟ اكله مع الشاي بلبن ولا اسقيه في الشاي بلبن، أنتِ خسرانة حاجة ؟؟ متخافيش هسبلك بقشيش محترم “
رفعت رانيا حاجبها تحاول ألا تفتعل مشكلة معه، وهي تتحرك من أمام منطقة استلام الطلبات تخلع زيّ العمل، ثم خرجت له لتقف أمام صالح الذي كان يفوقها طولًا وينظر لها من علياه :
” اسمع يا استاذ أنت عشان اللعبة دي طولت، وانا خلاص مبقاش عندي خُلق اتخانق مع حد، اتفضل اتحرك ناحية الترابيزة بتاعة صاحبك وتقعد عليها باحترامك لغاية ما اللي طلبته يوصل ليك، وخلال الوقت ده ياريت مسمعش صوت ”
رفع صالح حاجبه يردد ببسمة مستفزة :
” ولو عملت صوت هتعملي ايه ؟؟ استدعاء ولي أمر ؟! ثم أنا مش في حضانة عشان اسكت ”
لم تنس رانيا ذلك الحديث الذي امطرها به البارحة، واظهرها كما لو أنها عاشقة بائسة له، ومن ثم كاد يورطها مع محمد، شقيقها الذي يستطيع أن يقفز لها من سماعة الهاتف ويخنق صالح .
” هو أنت ازاي بقيت دكتور؟ أنت كنت غشاش صح ؟؟ اصل متقنعنيش أن كان فيه واحد دحيح صايع ومعاه مطوة ”
ضحك صالح بصوت مرتفع :
” شوف هتموت من الغيظ، الاقيكِ فاشلة، بس لا يا غالية اللي قدامك كان دحيح فعلا ومش شرط عشان دحيح اني امشي بالقلم والمسطرة، وبالنسبة للمطوة فدي مكانتش معايا وانا في ثانوي، ده محمود اللي جابها ليا هدية في عيد ميلادي لما كنت في تانية جامعة ”
فغرت رانيا فاهها وهي تستمتع لقصة كفاحة :
” مطوة هدية في عيد ميلادك ؟؟ هو صاحبك ده عاقل بجد ؟؟”
” لا، وإلا مكانش شافك واحدة طيبة وجابني هنا عشان اصالحك ”
أحمر وجهها بغضب وقد حقق صالح مراده في أعضابها لتحذره :
” هو أنت مش عارف تفرق بين كلامك مع البنات وكلامك مع باقي الخلق، ما تتحكم في لسانك اللي عايز قطعه ده، وخليك محترم لدقيقة يا اخي ”
” شوف مين بيزعق ؟؟ رانيا اللي كانت عاملة زي القطة الشيرازي امبارح وهي بتكلم محمد ؟؟”
تخصرت رانيا بعدم فهم :
” والحلو زعلان ليه إن شاء الله ؟! كنت وعدتك بحاجة وخليت بيك ولا تكونش ولي امري وانا مش واخدة بالي ”
أشار لها صالح وهو يقول بجدية :
” اولًا أنا همررلك كل جملتك دي عشان الكلمة اللي قولتيها في الاول، عندك حق، أنا فعلا حلو، بالنسبة بقى اني زعلان فأنا مش زعلان يا رانيا، أنا غيران”
صُدمت رانيا من رده ، بل إنها تراجعت خطوات قليلة للخلف حتى تنظر له براحة، تردد مبهوتة :
” غيران ؟؟ من محمد ؟؟”
” لا غيران عشان محمد سمعك وأنتِ بتتكلمي زي البنات ومحترمة نفسك، وانا لحد دلوقتي معرفش نيرة صوتك وأنتِ بنت عاملة ازاي ”
اتسعت أعين رانيا بصدمة تستشعر بوجود إهانة في حديثه، لكن أين بالتحديد لا تستطيع الاستيعاب وقبل أن تبادر وتتحدث، تدخل محمود من حيث لا يدري الاثنان وهو يجذب صالح بحنق :
” مش شايفني بقالي ساعة عمال اشاورلك زي بالون الافراح، اتنيل تعالى اقعد عايز اقولك حاجة مهمة ”
تحرك معه صالح يسير خلف جذب صديقه، لكن عيونه كانت معلقة على رانيا وكأنه يتوعدها لأمر لا تعلمه والبسمة تزين فمه، وصل محمود بصالح للطاولة الخاصة بهما واجلسه بالقوة وهو يردد :
” أنت يا بني ادم مش هتتلم بقى شوية ؟؟ مش عارف تفرمل لسانك ده ؟؟”
نظر له صالح بحنق :
” فيه ايه ؟؟ مالك كده على المسا مش طايقني ”
” والله انا مش طايقك من زمان، بس لولا الحوجة وإني معرفش غيرك كنت سيبتك زي الكلب لا لاقي بنت تعبرك ولا صاحبك يبصلك”
تشنج وجه صالح في تعبير مستنكر لما يقول ما بال الجميع اليوم يخبره أن ينتبه لحديثه، ما به حديثه ؟؟ هو يتحدث بتلقائية فقط :
” ليه إن شاء الله اجرب ؟؟”
” لا اهبل، مش عارف تتعامل ولا تتكلم مع حد، يا بني ادم كام مرة قولتلك حاولت تحسن علاقاتك بالجنس الآخر ؟؟”
أشار صالح باستهزاء صوب رانيا التي كانت تقف مع هاجر تتحدث معها وكل ثانية تنظر نحو صالح :
” ورانيا بقى هي الجنس الآخر ؟؟”
نفخ محمود بحنق وهو يضرب الطاولة :
” بقولك ايه ياض أنت اقسم بالله أنا لو الجوازة دي باظت هيبقى بسببك أنت والمتشردة بتاعتك دي، وقتها مش هيكفيني اني ابعتك لمعتصم ومصطفى توصلهم سلامي”
في ذلك الوقت اقتربت هاجر منهما وهي تمسك بين يديها رانيا وتردد ببسمة هادئة ورقيقة :
” مساء الخير، بعتذر للتأخير بس الشغل كان تقيل طول النهار ”
وسريعًا تلاشى محمود الحازم الجاد الذي كان يقرع صالح منذ ثواني، ويخبره بمحاضرة طويلة كيف يتعامل من النساء، ويحل محله محمود العاشق للبسكوت الهش القابل للذوبان :
” كان الله في العين يا بسكوتة، أنا عارف إن شغل الافران ده متعب، بس متقلقيش بكرة نتجوز وارحمك من الوقفة قدام الفرن ده، واوقفك قدام فرن بيتنا تخبزي لينا عيش وفطير ”
انتفض جسد محمود فجأة بعد ضربة صالح له والذي شزره بغيظ، في نفس الوقت التي نطقت به هاجر :
” عيش وفطير ؟؟”
قال محمود بجهل :
” ايه ملكيش في الفطير ؟؟”
” أنت بتقول ايه ؟؟ ”
كاد محمود يجيب لولا صوت رانيا التي ضربت الطاولة وهي تتحدث بجدية :
” مش وقته يا خالتي تتناقشوا في مخبوزات ما بعد الجواز، خلينا في اللي اتجمعنا عشانه ”
اتكأ محمود بظهره للخلف وهو مازال ينظر لهاجر ببسمة جعلت الاخيرة تشعر بوجهها يشتغل خجلًا :
” والله انا جاي هنا عشان اتكلم مع الآنسة هاجر، خد يا صالح الآنسة رانيا وروحوا في أي ترابيزة بعيد عشان مش ناقص وجع دماغ وخناق ”
نظر له صالح بحنق :
” أنت مش ملاحظ أنك بقيت جرئ شوية من وقت ما بطلت تضرب ملوخية ؟؟”
كررت هاجر خلفه بعدم فهم :
” يضرب ملوخية ؟؟”
هز صالح رأسه وهو يجيبها دون تفكير :
” اه اصل محسوبك مدمن ملوخية، بيسفها سف”
كان يتحدث وهو ينظر بخبث لمحمود الذي رمقه بشر يحذره من التحدث أكثر، لكن فجأة انتبه لصوت هاجر التي قالت ببسمة واسعة :
” بجد ؟! أنا برضو بحب الملوخية اوي، ده انا مدمنة ملوخية ”
فتح محمود عينه بصدمة يقول بريبة :
” مدمنة ملوخية ؟؟ أنتِ التانية ؟؟”
” أيوة أنا فكرت مفيش حد بيحبها غيري، ده انا كنت كل ما اكلم حد عليها يقولي مش بشربها، بس انا بقى طول عمري وانا احب امسك طبق الملوخية واشربه شرب كده ”
كانت هاجر تتحدث بعفوية واندفاع كعادتها، ومحمود يراقبها بشك وهو ينظر لصالح الذي كان يضحك بصوت عالي، لكن حينما وصلت هاجر لآخر جملتها ابتسم محمود :
” قصدك الملوخية بتاعة الرز ؟؟”
” أيوة هو فيه ملوخية غيرها ؟؟”
ضحك صالح بصوت مرتفع :
” أيوة فيه ملوخية عمي ماجد، دي بقى ملوخية مستوردة بتعملك دماغ عسل لازم تجربيها ”
استدارت هاجر صوب محمود تقول بلهفة :
” ده بجد ؟؟ باباك بيزرع ملوخية مستوردة ؟!”
” ايه ؟؟ اه اه ملوخية سوبر ”
أضاف صالح :
” وملوخية كيلوباترا “
ازدادت ضحكات صالح الذي راقب محمود ينهض وهو ما يزال يرمقه بشر قبل أن يسحب هاجر من أمامهم، ليفسح لهما المجال للحديث وانهاء كل ذلك …
بينما هاجر لحقت بمحمود في لهفة لمعرفة ما تلك الملوخية المستوردة التي تحدث عنها صالح والتي لأول مرة تسمع عنها ..
وعلى الطاولة ظلت رانيا صامتة حتى تحدث صالح وهو يخرج الهاتف الخاص بها :
” اتفضلي ده تليفونك ”
اتسعت أعين رانيا بصدمة وهي تشعر أن كفيها يرتجفان حينما لمست الهاتف، و ما تزال تحدق فيه بدهشة :
” كده ؟؟ عادي ؟؟ هترجعه ليا قبل ما احارب المغول وادخل في خناقة مع افعى الاناكوندا ؟؟ هتديه ليا قبل ما اوصل لليفل الاخير من صبري؟؟ أنت متأكد ؟؟ مش عايز تاخده وتحطه في بركان وانزل أنا اطييه ”
ابتسم صالح وهو يقول بهدوء ومشاكسة :
” لله بس، عشان قطعتي قلبي من اللي حصل فيكِ، كفاية عليكِ خطف وأعضاء، المرة الجاية باذن الله نجبلك قاتل متسلسل ونعملك عروض احسن من كده”
كتمت رانيا بسمتها وهي تقلب هاتفها بين يديها تشعر بشعور سيء لا تعلم له تفسيرًا، إلا أنها قالت بهدوء :
” باذن الله لو فيه مرة تانية بقى، أنا همشي من القاهرة وهقطع صلتي بيها، عارف خالتي؟! هقطع علاقتي بيها هي كمان، خلاص بقى عندي فوبيا من القاهرة “
ضحك صالح بصوت مرتفع، ثم استند بذقنه على يديه بهدوء يميل بنصفه العلوي على الطاولة متحدثًا بنبرة غريبة غامضة :
” هترجعي صدقيني، اللي جرب القاهرة مش بيقدر يبعد عنها، خاصة بقى لو قابلني ”
أنهى حديثه لترمقه رانيا بسخرية وهو يضحك على نظراتها له، وقد قرر أن يقيم هدنة مؤقتة بينهما :
” فين الجاتوه الشاي بلبن بتاعي ”
حدقت به رانيا في يأس قبل أن تنهض وهي تقول :
” حتى في أكلك غريب ”
ابتسم عليها صالح وهو يردد بصوت مرتفع :
” أنا كل حاجة فيا غريبة حتى ذوقي، وعشان كده بكلمك ”
استدارت له رانيا وهي تلوي فمها في حركات وكأنها تردد كلماته وتسخر منه وهو يضحك على ملامحها ..
وعلى مقربة منهما كان محمود قد اندمج في حديث خاص مع هاجر التي انبهرت وبشدة بعمله وحياته عن قرب …
___________________
كان يستند بظهره على مقعد مكتبه داخل شركته، وأمامه يقبع، سبب عذابه في هذه الحياة بعد زهرة وميمو، الغبيان الذي حقًا لا يعلم ما الذي يجبره على تحملهما ؟!
” عملتوا ايه في حوار الدكتور اللي كلمتكم عليه ؟! ”
نظر وسيم لرجب بينما الاخير ابتلع ريقه يحاول ايجاد أي كلمات يتحدث بها وتبرر لسعيد تأخرهما في معرفة موقف ذلك الطبيب من الأمر .
وبذلك الصمت أدرك سعيد انهما بالطبع لم يفلحا في شيء، في الأساس هذا خطأه، كيف يوكّل لهما أمر كهذا بحق الله ؟!
” مسمعتش رد، الدكتور قال ايه ؟! معانا ولا لا ؟!”
قال وسيم وهو يحاول ترتيب كلماته :
_ هو يا باشا قال …يعني هو لما كلمناه قالنا أنه يعني هيفكر كده ويأكد علينا ”
ارتسمت بسمة ساخرة على جانب فم سعيد وهو يحرك مطفأة السجائر أعلى المكتب يردد بتهكم:
” هيأكد عليكم ؟! ليه هو طالب اوردر يا وسيم ؟؟ ”
ضحك كلٌ من وسيم ورجب وهما ينظران لبعضها البعض ورجب يردد :
_ لا حلوة يا باشا ”
ووسيم يجاريه في غبائه :
” عندك حق والله ده سعيد باشا دمه عسل و..”
انتفض الاثنان فجأة وهما يطلقان صرخات مرتفعة حينما ضرب سعيد أعلى مكتبه وهو يصرخ بها :
” أنتم هتشلوني يا متخلفين، مهمة عبيطة زي دي مش عارفين تخلصوها ؟؟ امال لو كنت بعتكم لأخوه التاني كان حصل فيكم ايه ؟؟”
نظر الأثنان لبعضها البعض قبل أن يتساءل رجب بفضول :
” ليه يا باشا ماله اخوه التاني ؟! هو خطير اوي كده ؟؟”
نفخ سعيد بملل يمرر كفه أعلى وجهه محاولًا بث بعض الهدوء لنفسه، ثم قال :
” تمام يعني نعتبر أن الدكتور ده رفض شغلنا”
” ممكن يا باشا، هو اساسا بيماطل ويفاصل وعيل مش سالك ”
تمتم سعيد بضيق منهما :
” هو اللي مش سالك ولا أنتم اللي متخلفين ”
تنهد بصوت مرتفع، يتحدث لهما بخبث مفترضًا أنهما يعلمان ما يجب فعله :
” احنا في الحالات اللي زي دي بنعمل ايه ؟! ”
نظر وسيم ورجب لبعضهما البعض ثواني قبل أن يستديرا صوب سعيد الذي كان يعقد حاجبيه بعدم فهم وهو يراهما يتناقشان وكأنه طرح عليهما معادلة رياضية صعبة، قبل أن يتكرم رجب ويخبره بما توصلا إليه بعد دقيقة من التفكير :
” نشوف غيره ؟؟”
صرخ سعيد بهما :
” ده انا اللي هشوف غيركم، غوروا من وشي، أنا اللي كلب متربتش اني اعتمدت عليكم في حاجة، أنا آسف لنفسي، اتفضلوا أنا هتصرف “
نهض الاثنان يرمقان بعضها البعض بتردد وفي رأسيهما يدور نفس السؤال، هل يخبرانه بأمر اختطاف حبيبة الطبيب والمناقشات والمفاوضات التي تمت بينهما، أم يتلاشيان غضبه في تلك الساعة ويرحلان محتفظين بأجزاء جسديهما كاملة ؟؟
وكان الاختيار الاخير هو الافضل في تلك اللحظة، ليرحل الاثنان تاركين سعيد خلفهم يزفر بضيق مفكرًا في طريقة لضم ذلك الشاب لهم، فهو بالطبع لن يتركه الآن خاصة بعدما أفصح له عن عمله، حسنًا هو الآن سيضطر للبعث برجلٍ آخر يستطيع التعامل معه ..
نظر لساعة يده قليلًا قبل أن ينهض حاملًا مفاتيح سيارته وفي رأسه تلوح له وجهته التي وصل لها بعد مرور عشر دقائق قريبًا .
هبط سعيد من سيارته يتحرك عبر بوابة حديدية كبيرة صوب حديقة غناء مليئة بالازهار الزاهية والجميلة، لكن من بين كل تلك الازهار كانت زهرته هي الاجمل .
ابتسم يراها كعادتها حيث توقع أن تكون، تجمع حولها العديد من الأطفال وهي تتراقص معهم وتصرخ بالتعليمات :
” يلا لفوا كلكم ”
وفجأة يدور جميع الأطفال حول أنفسهم بتخبط بسبب الظلام الذي يسبحون به، ليس ظلام الليل، بل ظلام اعينهم، فطبيبته الغالية ليست مجرد طبيبة فقط، بل هي أيضًا مالكة لأحد دور رعاية الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة .
ابتسم وهو يراها ترفع كفيها في الهواء وتصفق بقوة :
” مش سامعة السقفة، يلا أعلى “
كانت تتحدث وهي ترقص وتصف لهم ما يفعلونه، ابتسم سعيد بسخرية ليس سخرية عليها، بل على حاله الذي أوقعه مع ملاك وهو قد سلم نفسه للشيطان منذ سنوات ..
وبينما زهرة تدور وهي تهتف ببسمة :
” انزلوا تحت …ودلوقتي فوق، شيفاكم على فكرة كلكم ”
وبينما تتغنى وتضحك أبصرت وجهه الذي جعلها تمحو بسمتها كما لو أنها رأت عفريتًا، أو ماردًا، وقد كان ذلك أقل وصف في حق سعيد الذي خطى صوبهم وهو يتجاهل وجودها يستغل نقطة ضعفها التي تمكن منها جيدًا بعد أن استهلكه الأمر شهورًا طويلة للتقرب إلى هؤلاء الأطفال ..
” حبايبي اللي وحشوني”
وفورًا توقف الاطفال عن الدوران والرقص حينما استمعوا لصوت ” العم سعيد ” الحبيب الذي يمطرهم بالهدايا والحلوى ويلعب معهم، ركضوا صوب الصوت يبحثون عنه، وسعيد انحنى ارضًا يمد يده جاذبًا إياهم صوب أحضانه ناظرًا بطرف عينه لزهرة التي كانت ترمقه بسخرية لاذعة واشمئزاز لما يفعل
لكنه لم يهتم وهو يقبل الصغار ويضمهم بحب، لكن ودعهم فور أن أبصر ابتعاد زهرة عن محيطه متحركة صوب الدار، لذلك اعتذر من الصغار يشير صوب أحد رجاله ليوزع عليهم الحلوى وركض خلف زهرة جاذبًا ذراعها :
” هو إذا حضرت الشياطين ولا ايه ؟؟”
ابتسمت زهرة وهي تستدير له مرددة بملل :
” والله كويس أنك عارف حقيقتك، اول طريق العلاج هو الاعتراف أنك مريض “
عض سعيد شفتيه يقترب منها في خطوتين وهي تراجعت للخلف ببرود تضم ذراعيها لصدرها :
” أنت فاكر لما تقضل تنطلي في كل حتة هقتنع بيك واجري ارمي نفسي في أحضانك ؟!”
اقترب منها مجددًا يفتح لها أحضانه وهو يميل برأسه مرددًا بصوت بريئ ظاهريًا فقط :
” وليه تجري وتتعبي نفسك ؟؟ تعالي أنا قربت منك اهو ارمي نفسك في أحضاني يا قلبي ”
ابتسمت زهرة وهي تنظر في جميع الجهات حولها قبل أن تستدير وترفع قدمها ضاربة بقوة في معدته صارخة بجنون :
” تعرف لو شوفتك في وشي تاني يا سعيد والله العظيم لاقدم فيك محضر عدم تعرض، أنا مش ناقصني مجانين اتعامل معاهم، كفايا اللي بشوفهم، فمش هيكون عندي مجانين في الشغل وفي البيت لو اتجوزتك”
كتم سعيد تأوهًا يحاول عدم الانحناء وإمساك معدته وهو ينظر لها بشر :
” للاسف أنتِ هتضطري تتعاملي مع الجنون ده كتير اوي يا زهرة، أنا وأنتِ مصيرنا لبعض ”
هزت رأسها تردد بقوة وإصرار :
” تبقى بتحلم، سعيد أنا مش من أنصار فكرة l can fix him، الفكرة دي بنفذها مع المرضى عندي، مش مع شخص المفروض اختاره يكون جوزي ويشاركني حياتي ”
صمتت ثم أعادت خصلاتها للخلف صارخة :
” يا اخي ده أنا حتى لو فكرت اني اتبع مبدأ الإصلاح معاك، فأنت واحد اساسا رافض تتصلح، سعيد أنا وأنت كلمتين مش هيجتمعوا في جملة ابدا غير مثلا او قولنا أنا هقتلك أنت، أو أنت هتقتلني أنا، تمام كده ؟؟ كلامي واضح ؟؟”
ظل سعيد صامتًا ولم يتحدث بكلمة، لتنقض عليه زهرة تمسك تلابيب ثيابه وهي تصرخ بجنون وقد شعرت بقرب انهيارها بسبب ذلك الرجل الذي لا يسمح لها حتى بمساعدته ولو من باب الشفقة :
” كلامي واضح ؟؟”
هز سعيد رأسه ببرود لتبتسم هي بنزق مبتعدة عنه تعدل من وضعية ثيابها، ثم أشارت له محذرة :
” تمام، إياك المحك في حتة برة العيادة، وحتى العيادة لو دخلتها هتدخلها على اساس انك مريض وبس، مريض يا سعيد ”
أنهت حديثها تتحرك من أمامه بقوة وقد جعلها ذلك الرجل تكاد تفقد كل ما تعلمته خلال حياتها، أيا ليته كان رجلاً عاديًا أو مجرد حالة عندها، ليتها لم تره يومًا، ليتها لم ترى سعيد الحنون ولم تعاصر سعيد المسالم، أيا ليتها عرفته من بداية جنونة ولم ترى كيف كان سابقًا، وقتها لما كانت لتفكر به ولو كان آخر رجال العالم، فهي ليست بالمعتوهه لتحب مريضًا، بل هي وللاسف أحبت سعيد صاحب العشرين عامًا.
دخلت زهرة مكتبها وهي تنسى للحظات ما حدث مبتسمة بسمة واسعة تعود لرقتها ولطفها وهي تقول للمربية التي تبعتها :
_” معلش يا استاذ منار ممكن تشوفيلي البنوتة اللي وصلت من اسبوع؟! حابة اتكلم معاها شوية ”
تحركت منار خارج المكتب تاركة زهرة تبتسم بحنان وهي تتحرك صوب الثلاجة الصغيرة في مكتبها تجهز بعض الحلوى والمغريات للفتاة علها تتحدث وتخرج من صدمتها بعدما تعرضت للكثير خلال حياتها على الأرصفة ..
بينما في الخارج صعد سعيد لسيارته وهو يقودها بلا اهتمام يطلق صفيرًا وهو يفكر في العودة للمنزل والشجار مع ميمو علّ ذلك يحسن حالته النفسية قليلًا بعدما افسدتها تلك الغبية التي تظن أنه سيرضخ لحديثها، حسنًا هو يفعل في الحقيقة، لكن ذلك هو الأمر الوحيد الذي لا يرضخ لها به .
________________________
خرج من باب منزله في الصباح الباكر حتى يتجنب ازدحام المرور في هذا الوقت، وقبل أن يخطو خطوة بعيدًا عن المنزل سمع رائد صوت صلاح وهو يعلو خلفه من المنزل :
” الزبالة يا رائد “
رد عليه ظافر بصوت مرتفع :
” ماشي ”
حمل رائد القمامة يلوي ثغره بعدم رضا على حاله، يمتص شفتيه كما تفعل والدته حينما ترى شيئًا لا يعجبها :
” ظابط محترم برتبة نقيب وقريب هيترقى ويبقى رائد قد الدنيا ويدوس على خلق الله يشيل كيس الزبالة وهو نازل ؟؟ عجبت لك يا زمن ”
في ذلك الوقت فتحت تسبيح باب المنزل وهي تخرج سريعًا بمجرد سماعها لصوت صلاح يناديه :
” استاذ رائد لحظة لو سمحت ”
نظر لها رائد يستنكر ذلك اللقب :
” استاذ ؟! هو أنا ماسك طبشيرة وممسحة ؟؟ النجوم دي مش مزغللة عينكم، ماشي بكرة ابقى رائد بجد مش مجرد اسم واحطلكم النسر على الكتافة ووقتها محدش يقدر يفتح بقه ”
اقتربت منه تسبيح على استحياء وهي تردد بينما عينها استقرت ارضًا :
” آسفة لو بزعجك بس هو …”
” ايه عايزة انزلك كيس الزبالة بتاعك ؟؟ قولي متتكسفيش”
ابتسمت تسبيح بسمة صغيرة وهي تفرك يديها في بعضها البعض والارتجاف واضح على جسدها بشكل جعل رائد يتخلى عن مزاحه يقول بجدية :
” مالك يا تسبيح حصل حاجة ؟!”
ابتلعت تسبيح ريقها وهي تتحدث بصوت ابح خرج حزينًا :
” هو من يوم كده اتبلغت اني لازم اروح النيابة عشان شهادتي بخصوص قضية …قضية بابا ”
خرجت منها الكلمة الأخيرة وهي تحاول أن تمنع تلك الغصة من الحروج، ثم أضافت :
” هو أنا معرفش حاجة و ..مش عارفة اقول ايه، وهل اقول اللي حصل لعبدالعظيم ولا اعمل ايه ”
رفعت عينيها له وهي تردد برجاء :
” فممكن لو تقدر ومش هتعبك تساعدني ؟!”
هز رائد رأسه وقد تفهم كل ما قالته، لينظر لساعة يده :
” هو اساسا أنا كنت حابب اقعد معاكِ عشان اتكلم في حوار عبدالعظيم والمكان اللي كان جلال خاطفك فيه وحوارات كتير، وقت التحقيق والنيابة أنا هاجي معاكِ متقلقيش، ولما ارجع بليل باذن الله لينا حوار طويل افهم منك كل حاجة، تمام كده ؟؟”
هزت رأسها بإيجاب وهي تشكره بصوت خافت، ليتحرك رائد صوب منزلها ينتزع كيس القمامة من تلك السلة أمامه ليردد وهو يحرك يده لها :
” هاخد الزبالة معايا، وأي حاجة تحتاجيها كلميني، ولو شيء ضروري كلمي صلاح هو إجازة انهاردة ”
هزت رأسها تشكره مجددًا، ثم راقبت رحيله وهو يقفز الدرجات بكل رشاقة لتبتسم بسمة حزينة وهي تهمس بتمنى :
” يا ريت لو كان عبدالعظيم زيك، كان نفسي يكبر ويبقى حاجة كبيرة ”
اختنق صوتها بغصة بكاء قبل أن تتقهقر للمنزل وهي تترحم على والدها واخيها وتدعو لهما بالرحمة، لتقرر أن تجلس وتقرأ بعض الآيات في مصحفها علّها بذلك تتناسى أحزانها التي تعمل جاهدة على دفنها أسفل بسمة زائفة، علها تتناسى فكرة أنها أصبحت وحيدة في هذه الحياة بين ليلة وضحاها….
____________________
دخل محمد المنزل وهو يتحدث في هاتفه باهتمام شديد، ويبدو عليه الانشغال الشديد حتى أنه لم يتوقف ليتحدث مع جبريل الذي اتجه صوبه حاملًا لوحه الالكتروني :
” محمد دي الدفعة الأولى من …”
وقبل أن يكمل كلماته توقف بسبب كف محمد الذي ارتفع وهو يردد باهتمام شديد :
” تمام تقدر تحدد المعاد المناسب ليكم وتتواصل مع مساعدتي الشخصية وهي تبلغكم بكل شيء ”
في هذا الوقت كان جبريل يقف باحترام ينتظر أن ينتهي محمد مما يتحدث به، ليرتفع فجأة صوت اغاني اجنبية لفتاة رنّ صوتها كما لو كانت تدلل على أحدهم وليست تغني .
نظر محمد بتعجب ينهي مكالمته يتحرك صوب الصوت والذي كان يخرج من غرفة عبدالله شقيقه، ابتسم محمد بتهكم يتحرك صوب غرفة عبدالله الذي يتعجب انجذابه لذلك النوع من الاغاني وهو ذلك الحالم العاشق لكل قديم وعتيق .
فتح محمد الباب بعدما طرقه ولم يصل له ردًا :
” عبدالله حبيبي ايه اللي بتسمعه ده ؟؟”
انتفض عبدالله من الفراش الخاص به وهو ينظر بفزع لمحمد يرفع يديه في الهواء وكأنه تم الامساك به متلبسًا، يشير صوب أحد أركان الغرفة حيث يتراقص عبدالجواد وهو يحرك جسده حسب الفيديو أمامه .
رفع محمد حاجبه يحك ذقنه قبل أن يقول بيأس من عبدالجواد :
” حاولوا متسيبوش عبدالجواد كتير مع رانيا تاني ”
تجاهلهم عبدالجواد وهو يحاول حفظ كلمات الأغنية تلك والتي علم أنها المفضلة لمروة، يرددها بتمرس يحرك رأسه مع الموسيقى، ومحمد يضرب الاكفاف على ما حدث لشقيقه .
تركه وخرح في الوقت الذي أنتهت به الأغنية ليغلق عبدالجواد التلفاز ويلقي بجسظه على الأريكة في غرفة أخيه :
” يا اخي ايه القرف ده؟!”
” وانت ايه اللي كان رماك على القرف ده يا حبيبي؟!”
ابتسم عبدالجواد يرفع رأسه محدقًا في السقف :
” القمر ”
” الف لا بأس يا غالي “
غمز له عبدالجواد وهو ينتفض من جلسته يتحرك خارج غرفة عبدالله شاكرًا إياه على السماح له باستخدام التلفاز الخاص به بعدما تعطل خاصته .
دخل عبدالجواد لغرفته يتجاهل نظرات محمد له وهو يعبر من جواره :
” لسه مشوفتش راجل بيغني اجنبي قبل كده ؟!”
هز محمد رأسه بلا وهو يبتسم بسخرية ليتجاهله عبدالجواد يقتحم غرفته ليتحدث مع مروة بعدما يأس أن تتصل هي به …
معه رقم هاتفها ؟! نعم ومنذ سنوات لكنه يومًا لم يتجرأ على التواقح والتواصل معها دون سابق انذار، لكن يبدو أن تلك الفتاة لن ينفع شيء معها سوى الوقاحة .
وصل له صوتها :
” الو …”
” صباح الخير يا مروة ”
ابتلعت مروة ريقها بتوتر حينما وصل لها صوته :
” عبدالجواد ؟! ”
وكلمة ” قلبه ” كادت تعبر حدود شفاهه لولا أنه تمالك نفسه، يعيد خصلات شعره للخلف مبتسمًا :
” أيوة، أنا لقيتك مبعتيش من فترة عشان رقم هاجر فقولت اكلمك عشان ابعته أنا ”
ماذا تخبره ؟؟ تخبره أنها لمئات المرات كادت ترسل له، لكنها تراجعت بكل جبن ؟؟
” أيوة أنا بس …هو يعني الفترة الأخيرة كنت مشغولة شوية أنت عارف فرح بنت عمتي قرب اوي عشان كده ”
” تمام، مش مشكلة أنا قولت أسألك بس لو حابة تاخدي الرقم أو لا ”
” أيوة اكيد حابة، معلش لو مش هتعبك تبعته ”
ابتسم عبدالجواد يستمتع بالحديث معها :
” تمام هبعتهولك واتس ”
” تمام شكرا ”
وكادت تغلق لولا صوت عبدالجواد الذي سارع في القول :
” صحيح عاملة ايه في الشغل ؟!”
” الحمدلله تمام، هو بس الضغط والدنيا هناك صعبة شوية، أنت عارف “
ابتسم عبدالجواد بخبث وقد وصل لما يريد :
” أيوة طبعا انا عارف اخواتي في الشغل حاجة صعبة وخاصة محمد وجبريل، وعشان كده بفكر أو انقلك في الفرع التاني اللي جنب موقع التجمع السكني الجديد، هو بالضبط على بعد صغير اوي من الموقع اللي بشتغل فيه ”
اتسعت أعين مروة بصدمة، لا هي بالطبع لن تتحمل أن تصبح على ذلك القرب منه لتراه كل ثانية، هي في الأساس لا تتحمل زياراته القصيرة لها كل فترة في الشركة، والتي كانت كافية لتفقد أنفاسها وقبل أن تعترض سارع عبدالجواد بالقول :
” تمام، هبلغ محمد اني محتاجك في حسابات الفرع التاني، ودلوقتي هبعتلك رقم هاجر، سلام ”
اغلق الهاتف سريعًا يبتسم بسمة واسعة :
” ماشيين واحدة واحدة اهو عقبال لما نوصل …”
______________________
فتح صلاح عيونه بانزعاج شديد حينما سمع رنين جرس منزله لينهض، بشعر مبعثر بسبب نومه، يتحرك في أرجاء المنزل دون أن يرى أين يسير، أخذ يفرك في عيونه بتعب وقد عاد للمنزل متأخرًا مساء الأمس بعد سهرة طويلة مع ميمو ..
فتح صلاح الباب وهو ما يزال يغلق عيونه، ثم تحرك للداخل ظنًا أنه رائد أو صالح قد عادا باكرًا من عملهما، لكن نبرتها والتي تميزها أذنه بسهولة أوقفته .
” شعر منكوش ومش لابس بدلة، المفروض أنك صالح صح ؟؟”
توقف صلاح في سيره يستدير بتعجب ينظر للباب حيث تقف ميمو على عتبات منزله وجوارها كالعادة يقبع حارسها الصامت .
ابتسمت ميمو وهي تدخل المنزل دون حتى دعوة منه، ثم اقتربت منه وهي تنظر لعيونه :
” ولا صلاح ؟؟”
صمتت وهي تبتعد عنه تردد بصوت خافت خبيث :
” شكلي كده هغير رأيي بتاع امبارح بخصوص النوع ابو شعر منكوش ”
ابتسم صلاح بسمة ناعسة وهو يرمقها بإعجاب شديد لمعرفتها أنه صلاح، رغم أنه في تلك الحالة أشبه بصالح أكثر منه هو .
” ثواني هفوق وراجع، خدي راحتك ”
وبهذا الكلمات تحرك صلاح صوب غرفتها ليتجهز، بينما ميمو جلست على الأريكة التي أصبحت مفضلة لها وجواراها مختار الذي نظر لها بغموض لتضع يدها على صدرها وكأنها تنفي تهمة عن نفسها :
” متبصليش كده، أنا مش قصدي حاجة ”
رفع مختار حاجبه لتبتسم له بمكر غامزة :
” أنا بس بعاكس ”
تهكم مختار وهو يتعجب كلماتها، فتلك المرة الأولى التي تعبر بها ميمو عن إعجابها بأحد، لكن يبدو أن ذلك الصحفي ليس أي أحد…..
دقائق قليلة وانضم لهما صلاح بعدما صنع لنفسه ولهما كذلك قهوة ليستفيق، يرتشفها بتمهل وتلذذ شديد وعيونه تحلق حول ميمو التي حملت كوبها ترتشف منه وهي تغمض عينيها بسبب سخونته، وخصلاتها تتطاير حولها .
ولم يستفق سوى على صوت اصطدام كأس مختار بالطاولة ليستدير له بهدوء :
” ايه يا مختار عايز سكر ؟؟”
لم يجب مختار ليشير له صلاح صوب المطبخ :
” هتلاقيه في الرف التاني في النص ”
لكن مختار لم تصدر منه أي ردة فعل، وهو في الأساس لم يكن ينتظر منه شيئًا، بل حدق في ميمو التي قالت بجدية تقطع كل ذلك :
” خلينا في اللي جيت عشانه ”
نظر لها صلاح باهتمام شديد لتقول ميمو وهي تبتلع ريقها :
” سعيد ”
رفع صلاح حاجبه بترقب :
” ماله ؟؟”
أخرجت ميمو هاتفها، ثم اختارت منه ذلك التسجيل الذي سجلته له في المكتب البارحة وهو يتحدث أنه هو من سيتولى الأمر مع صالح .
رفع صلاح عيونه لها :
” يعني ايه الكلام ده ؟؟”
قالت ميمو بجدية وصوت خافت :
” يعني في الوقت اللي احنا بنتكلم فيه دلوقتي، سعيد هيكون بيحاول يضمن اخوك، وأما يكون عليه أو معاه زي ما قال ”
ومجددًا قال صلاح وهو يعود بظهره للخلف :
” يعني ؟؟”
نظرت ميمو لمختار ثم عادت بنظرها له تخبره كل ما عرفته من رجال سعيد حول ذلك الاجتماع الذي اختار به صالح من بين الجميع ليصبح الطبيب الخاص بعملياته، وكل ذلك بعد سماعها للتسجيل ليلة أمس حين عودتها من سهرتها :
” يعني يا اما صالح يكون الدكتور، أو هيكون هو الضحية”
سقط كوب صلاح ارضًا ليحدث صوتًا قويًا، وقد اشتعلت عيونه بالشر، لم يتخيل أن يصل سعيد بدنائته لتلك النقطة، هو ظنه سيهدده وقد يأذيه، الويل له ….
_________________________
كان يتحرك كعادته مع محمود في ممرات المشفى صوب غرفة التشريح ولا يدري السبب، لكنهم تقريبًا أصبحوا يستقبلون جثة أو أكثر يوميًا، وكأن كل من ضاقت به الحياة يذهب لقتل أحدهم .
كان محمود يفرك خصلات شعره بنعاس شديد يحاول أن يتماسك، وألا يتكأ لأي جدار ويستنشق بعض السجائر ليفيق ..
” مش فاهم الملف مش موضح حاجة غير أنها ….”
صمت فجأة وهو ينظر لصالح الذي تعجب صمته، ابتلع محمود ريقه يمرر الملف له لينتشله صالح وهو ما يزال يرمقه بحيرة لملامحه تلك، لكن بمجرد أن رأى بيانات الحالة والتي تم إرسالها من قسم الشرطة الذي عثر على جثتها، حتى فهم سبب نظرات محمود …
تحرك صالح يتبعه محمود صوب المكان المخصص للتشريح، ليرفع القماشة البيضاء من فوق رأس الجثة والتي كانت لفتاة لم تتجاوز العاشرة من عمرها .
نظر محمود للفتاة بشفقة كبيرة وعيونه تدرس كل انش من جسدها ليبدأ صالح في التعقيم وارتداء كامل ثيابه المخصصة للامر وهو يرى علامات يدركها جيدًا، علامات اغتصاب واضحة لطفلة صغيرة لم تتخطى العاشرة .
امسك صالح أدواته وبدأ يعمل باهتمام شديد على جسد الصغيرة وكذلك محمود الذي كان يتابع كل شيء بعين جاحظة، يكتشف مع كل جزء يفحصه أن الفتاة نالت تعذيبًا واغتصابًا حتى الموت….
ساعات مرت حتى خرج صالح من الغرفة وهو يخلع قفازه وخلفه محمود الذي كان يفحص جميع المعلومات في الملف أمامه، والذي دوّن به هو وصالح ما علموه ..
الوفاة تمت قبل يومين تقريبًا، علامات لحروق سجائر في جميع اجزاء الجسد، علامات احبال وتقييد على اليدين والقدمين، اغتصاب دمر جسد الصغيرة، كل تلك الأمور لم تكن جديدة عليهم، لكنهم وفي كل مروا يقفون عاجزين أمام مقدار الفساد الذي قد يصل إليه البشر، ومقدار الشر الذي قد يصيب النفوس ….
دخل صالح مكتبه يلقي بجسده على مكتبه بتعب :
” محمود معلش وصل التقارير للمعمل الجنائي وكمان العينات والآثار اللي جسم البنت خليهم يفحصوها وكمان مسحة الحمض النووي عشان نحدد لو فيه حد يعرفها ”
استجاب له محمود وهو يتحرك خارج المكتب يسير في الممرات ليصطدم في سيره برجل ذو مظهر مريب، لكنه لم يهتم بذلك وهو يكمل طريقه .
بينما ذلك الرجل انحرف نحو مكتب صالح ليدخل إليه دون استئذان مما جعل صالح يرفع رأسه عن الورق أمامه ويصيح بغضب :
” ايه يابا رايح فين ؟؟ مش تخبط؟!”
جلس الرجل على المقعد أمامه وهو يضع قدم أعلى الأخرى بتكبر وبسمة واسعة ترتسم على فمه :
” بعتذر لاقتحامي مكتبك بالشكل ده، بس انا جاي ليك في حاجة سريعة وهمشي مش هعطلك ”
رفع صالح حاجبه :
” ومين قالك اني عايزة اسمع الحاجة السريعة دي ؟!”
ابتسم الرجل وهو يخرج هاتفه يضعه أمام صالح على مكتبه يردد بنبرة خطيرة لم تخطأها أذن صالح وبعيون مخيفة :
” للاسف أنت مضطر تسمعني، وصدقني أنا مش زي وسيم ولا رجب، أنا مش بلعب ولا بهزر والغلطة معايا بموتك، أو موت الآنسة رانيا اللي حظها وقعها معاك، والمرة دي مش هتكون خطف صدقني “
كانت أعين صالح مثبتة أعلى الهاتف والذي يعرض صورة لرانيا داخل مخبز هاجر وهي تبتسم للزبائن، رفع رأسه للرجل وقد شعر بخطورة ذلك الرجل أمامه، لكنه لم يسمح له بالتلاعب به أو استغلال اي ضعف له :
” بما أنك خطير زي ما بتقول كده، فاكيد أنت عارف أن رانيا دي مش حبيبتي ولا تهمني اساسا ، فشوفوا كارت تاني عشان ده اتحرق، وهتبقى بايخة يعني لو كل مرة اتهدد بنفس الشخص ”
كاذب، هكذا ردد داخله، لكنه لا يريد أن يظهر له اهتمامه بها، فهو في النهاية لن يسمح بموت شخص بسببه ..
ابتسم له الرجل وهو يحرك اصبعه على شاشة الهاتف لتعرض له صورة أخرى وصوت الرجل خرج هادئًا بشكل غريب :
” بس الحاج يهمك مش كده ؟؟”
حسنًا هو بالفعل لا يمزح معه، لقد وصل لوالده في منزلهم، ووصل لرانيا ليخبره بها صراحة أنه يدرك كل شيء عنه وعمن يهمه .
رفع صالح رأسه له ليقول :
“واكيد انت دلوقتي جاي مخصوص عشان تكمل اتفاق وسيم ورجب صح ؟؟”
” الله ينور عليك، بس المرة دي هنتكلم جد بقى ”
ابتسم له صالح بسخرية وهو يتخلى عن كل ذلك الهدوء لينهض من مقعده فورًا متجهًا صوبه مرددًا بشر :
” أنا ممكن اشرحك دلوقتي، أنت عارف كده كويس صح ؟!”
تحدث ذلك الرجل والذي كان أحد رجال سعيد المخلصين والمخيفين بحق، وهو نفسه من يحضر له الجثث لأخذ الاعضاء منها، رجل لا يلجأ له سعيد سوى في مثل تلك المواقف..
” متهددش بكلام أنت مش قده يا دكتور عشان النتيجة مش هتعجبك ”
جذبه صالح من ثيابه وهو يصرخ في وجهه بجنون لتهديده بعائلته وحياته وكأنه يمتلك مصائر كل هؤلاء بين أنامله الملوثة بالفساد، هو الذي لم يسمح لأحدهم يومًا بالنظر له نظرة لا تعجبه، يأتي رجب حقير كهذا لمكتبه ويتبجح أمامه مهددًا إياه بكل غالي على قلبه :
” اسمع يا جميل، أنت تروح للي بعتك وتقوله، لما تحب تاخد حاجة، بلاش شغل لوي الدراع ده، وخاصة معايا لأن أنا بالذات قليل الادب ومش محترم والحوارات دي بتيجي معايا بمفعول عكسي ..”
ابتسم الرجل له بسمة باردة خاوية من أي مشاعر وكأنه بلا قلب أو احاسيس :
” أنا مش بلوي دراعك أنا بس بحذرك أن عقلك يجيبك تلعب بديلك”
رفع صالح حاجبه وعلى جانب شفتيه ارتسمت بسمة متحدية :
” ولو لعبت هتعمل ايه ؟؟ ”
تحداه وهذا ما يكرهه، ابعد الرجل طرف سترته ليظهر من أسفلها سلاحه في تهديد واضح لصالح الذي رمقه بسخرية واستهزاء وقبل أن يتحدث بكلمة سمع صوت الباب يُفتح ومحمود يدخل وهو يقول :
” صالح الـ ”
وفجأة توقف محمود عن الحديث وهو يرى الوضع امامه، صالح يمسك بأحد الأشخاص من تلابيب ثيابه، وذلك الشخص يضع يديه على سلاح يدسه بين طيات ثيابه .
فتح صالح عينه بصدمة لما فعل محمود الذي حملق فيما فعل بدهشة وكأنه لم يكن يعي ما حدث، بل إنه فعل ما فعل تحت وطأة ارتفاع الادرينالين في جسده ليفغر فاهه بقوة وهو يرى جسد الرجل مسطح ارضًا وقد بدأت دماؤه تسيل من رأسه بقوة :
” ايه اللي حصل من شوية ده ؟؟؟ ”
______________________
من قال أن الحب هو أحد نقاط الضعف ؟! فهنا يمثل الحب نقاط القوة مجتمعة، هنا الحب داعم، خاصة إن كان ذلك الحب من شخص يماثلك دهاءًا ….
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية ما بين الألف وكوز الذرة ) اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق