رواية ما بين الألف وكوز الذرة كاملة بقلم رحمة نبيل عبر مدونة كوكب الروايات
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل العاشر 10
صمت عم المكان وجميع الأعين تترقب القادم، البعض يخشى ما سيحدث والبعض فقط يدفعه فضوله ..
انتبه الجميع على صالح الذي فتح المكالمة ليصل له صوت رجب وهو يردد بجدية :
” ها يا دكتور، فكرت في اللي قولتلك عليه ولا تحب تودع حبيبة القلب ؟!”
راقب صالح تحرك ميمو من مكانها جوار مختار وهي تضيق ما بين حاجبيها باهتمام شديد حتى توقفت جواره وأمامها عين صلاح ترمقهما باهتمام شديد ..
قام صلاح بكتم الصوت وهو يردد بجدية :
” أنا هرد دلوقتي، ولو سأل في تفاصيل شغلك أنت تتكلم ”
هز صالح رأسه ليرى أخاه فتح الصوت وهو يتحدث محاولًا تقليد نبرته قدر الإمكان، فنبرات كلٍ منهما تختلف اختلاف طفيف، ومن الممكن تلاشيه أثناء التحدث في الهاتف ..
” أيوة فكرت، بس انا ايه يضمنلي إني لو نفذت اللي عايزينه هترجعوا حبيبتي ؟؟ ”
تحدث صالح بصوت هامس وغيظ:
” مش حبيبتي ”
نظر له صلاح بتحذير وهو يضرب رأسه ليصمت، ثم أكمل :
” وفرضًا رجعتوها، ايه برضو اللي يضمنلي أنكم في المستقبل مش هتغدروا بيا زي دلوقتي، أو انكم تحاولوا تجبروني على حاجة بأعمالكم دي، لأن بعد اللي عملتوه أنا مش هقدر اديكم ثقتي ”
على الجانب الآخر .
رمق وسيم رجب وهو يفكر في حديث ذلك الشاب، هو محق لكنهم ليسوا في حال تسمح لهم بالتحايل والتوسل، هم هنا سيفعلون كل ما يستطيعون لإجباره على الرضوخ لهم :
” الضمان الوحيد اللي يخليك تأمنا هو أنك تكون معانا وتعمل اللي نطلبه منك، أي حركة كده او كده فاعرف أننا نعرف عنك كل حاجة وممكن المرة الجاية مش حبيبتك بس، لا امك كمان وابوك ”
شهق صلاح بشكل مصطنع وقد علم في رأسه أنهم زوج من الحمقى، يحاولون اخافته بتهديدات فارغة لا أساس لها :
” أنت معندكش رحمة ولا ايه ؟! ترضى حد يهددك بامك الله يرحمها ويأذيها ؟؟”
فتح وسيم عيونه بصدمة وهو ينظر لرجب الذي كان له نفس ردة الفعل، كيف ذلك ؟! كيف ماتت والدتهم ؟! هو عندما بحث خلف ذلك الطبيب وراقبه حتى باب عمارته، علم أنه يملك والدة ووالد في إحدى القرى ووالده أيضًا يعمل عمدة لتلك البلدة…
ابتسم صالح بسمة ساخرة وهو يسمع صوت أحدهم المتوتر يقول :
” اسمع عشان نخلص من كل ده، هتعمل اللي عايزينه هنرجع ليك البنت اللي عندنا، مش هتعمل ودعها وودع اخوك كمان ”
تحدث صالح هذه المرة وهو يحاول معرفة ما يريده :
” أنت عايز ايه بالضبط ؟! عمليات نقل ولا مجرد استخلاص أعضاء ؟؟”
ابتسم وسيم وقد ظن أنه بدأ يرضخ ويفكر في الأمر جديًا :
” اسمع أنت بس عليك تطلع الاعضاء وتحفظها واحنا هنتصرف فيها ”
” يعني ايه تتصرف فيها ؟! ”
نفخ وسيم بغيظ وقد استاء من ذلك التحقيق :
” يا عم أنت مالك، هنشوحها ببصلة خلاص ارتحت كده ؟؟”
ابتسمت ميمو بسمة جانبية ساخرة وهي تهمس بصوت منخفض :
” جوز اغبية والله، سبحان من صبر سعيد عليكم ”
امسك صلاح يد صالح وهو يقول بجدية :
” أيوة بس حسب كلام صاحبك التاني أن العمليات عبارة عن تبرعات قانونية، فين القانوني في ده ؟! أنتم كده تجارة اعضاء ”
توتر رجب وهو يقول :
” أنا قولت قانوني ومكدبتش، جميع المتبرعين وأهاليهم موافقين على اللي هنعمله ”
تحدث صلاح بخبث :
” وأهاليهم ؟؟ ليه المتبرع قاصر ولا ايه ؟؟”
وكالعادة تسرع رجب وهو يقول :
” لا ميت ”
فتح صالح عينه وهو يتأكد أن كل ما يحدث الآن خطأ مائة بالمائة فتبرع المتوفيين يتم وفق قيود عديدة تفرضها البلاد على الامر، للتأكد أنه لا يتم للمصالح الشخصية :
” وانت عارف شروط استخلاص عضو صالح للزرع من متوفى؟؟ عارف أن فيه أعضاء بعد ساعات بتكون مش صالحة اساسا للاستخدام وبعد ١٦ ساعة تقريبا مبيبقاش فيه ولا عضو واحد صالح للزراعة ؟! هتجيبوا منين جثة في خلال أقل من ساعات ؟؟”
” دي بتاعتنا وأنت ملكش دعوة بهنجيبها منين، أنت ليك بس يا معانا يا لا ”
حسنًا الآن أصبح اللعب مكشوفًا للجميع، وهذا ما أراده سعيد منذ البداية، يعرضون عليه الأمر، وأما معهم أو عليهم، لذلك لا داعي لكل تلك المقدمات، هم سيخبرونه بكل شيء وينتظرون رده، وبهذا ينتهون من مهمتهم تلك ….
نظر صالح للجميع لتهز له ميمو رأسها تأمره بالموافقة وعلى وجهها ترتسم بسمة استهزاء كبيرة وكذلك فعل صلاح وهو يقول :
” تمام، أنا موافق، بس المرة دي بشروطي أنا، معلش ما أنا مش هسيب مستقبلي في مستشفى كبيرة، وشغل قانوني وارمي نفسي في النار وانا مش مأمن نفسي ”
ضحك وسيم ضحكة مرتفعة وقد نال ما يريده :
” لا متقلقش خالص من الناحية دي، مستقبلك هتأمنه في عملية واحدة”
تحدث صالح بلهفة شديد وقد تعجب عدم سماع صوت رانيا حتى الآن :
” طيب ورانيا ؟؟ امتى هترجع ؟؟”
وكان الرد قاطعًا من وسيم الذي قال بقوة ودون نقاش :
” بعد أول عملية ليك لما نضمنك على الاخر، بعدها وأنت خارج هتاخد حبيبة القلب وحقك في العملية وعليهم بوسة ”
أنهى الحديث ليعلو صوت صالح الحانق والذي شعر باعصابه تحترق :
” لا خلي البوسة ليك مش ناقصة قرف هي، أنا بس عايز البنت وحقي، والا وقتها اقسم بالله اعرفك الفوائد العشرة لاستخلاص الاعضاء من جثث طازة ”
أنهى الحديث ولم يكد يضيف كلمة حتى أبصر يد ميمو تمتد لتغلق المكالمة وهي تقول بسخرية لاذعة :
” كفاية عليهم كده، دول جوز اغبية اساسا ومش هيفهموا تهديدك أنه عليهم، وممكن يفكروك هتجيب ليهم جثة طازة فعلا ”
نظرت لهم بعدها وهي تشير صوب الهاتف :
” أنا لو كنت اعرف ان الموضوع فيه وسيم ورجب أنا كنت استخسرت فيهم حق البنزين اللي جيت بيه ”
نظر لها صلاح بجدية وقال :
” تعرفيهم ؟!”
ضحكت ميمو بصوت عالي وهي تقول :
” تيمون وبومبة ؟؟ اكيد يا جدع اعرفهم، دول اكتر جوز اغبية عند سعودي، ولولا بس أنهم بيعرفوا يلاقوا مشتريين كويسين للقرف بتاعه كان سعيد اول واحد حطهم تحت عجلات عربيته وجابهم وش وضهر”
استدارت ميمو صوب مختار تتشدق بجدية :
” أنت عارف هتلاقي فين جوز الاغبية دول يا مختار، روح وهات البنت وبلغهم إني أنا اللي بعتك، ولو عصلجوا معاك قولهم اني هزعل منهم اوي وهقلب عليهم ”
ورغم تعجب صلاح من حديثها إلا أنه لم يملك سوى الاعجاب للمرة المائة من جرأتها وقوتها، نظر لمختار الذي أخرج هاتفه وكتب عليه بعض الكلمات التي لم يعلم هويتها، ثم تحرك بكل هدوء صوب باب المنزل، لكن صالح توقف في وجهه وقال :
” اصبر هنا بس يا مختار شوية ”
نظر بعدها لميمو وقال :
” هو عادي كده يدخل ياخد البنت من بينهم ؟؟ ما هو كده هتتكشفي ليهم يا ام سعيد وهيعرفوا أنك معانا ”
هزت ميمو رأسها وهي تقول بجدية ساخرة :
” لا متقلقش مش اول مرة يخطفوا واحدة ويهددوا بيها حد واروح أنا اطلعها، دول تلاقيهم استغربوا اساسا اني مروحتش طلعت حبيبتك “
” مش حبيبتي ..”
هزت رأسها بعدم اهتمام :
” الاتنين الاغبية دول بيخبوا البنات في الملحق بتاع القصر لأنهم ميعرفوش غيره، وكل مرة بكشفهم وبخرج اللي خاطفينه وبديهم اللي فيه النصيب وبسيبهم لسعودي هو بيكمل عليهم ”
كانت علامات الدهشة مرتسمة على وجوه الجميع من بساطة حديثها، وبساطة الأمور معها، وكأنها اعتادت الأمر، وقد كانت ميمو كذلك بالفعل، فهذان الغبيان دائمًا ما تراهم أثناء جوالاتها على خيلها يحتفظان بشخص في ملحق القصر وتقوم بتحريره وطردهم شر طردة، لكن وبسبب إصابتها وأنها لم تمطي الحصان اليوم استطاعوا الشعور بالأمان …
تحرك مختار صوب الخارج، لكن وقبل أن يخطو لحق به صالح وهو يقول بتصميم :
” لا أنا جاي معاك، اصبر اجيب المطوة وجاي ”
لحق بهم محمود هو الآخر يقول بجدية لهاجر :
” متقلقيش يا نواعم هروح اجبلك بنت اختك مع صالح، وبعدين نشوف حياتنا بقى مش هنقعد نحل في مشاكلهم”
وقبل أن يخطو أحدهم خارج المنزل امسك بهما رائد وهو يقول بحنق شديد :
” اقعد يا عسل منك ليه، لو روحتوا مع مختار هيشكوا فيكم، اترزعوا وهو هيجيب البنت ويجي “
وبالفعل نظر الاثنان له بحنق شديد وتحركا للجلوس حيث كانوا واستقروا على المقاعد وكذلك فعل الجميع وعم صمت بينهم جعل رائد يتحدث بهدوء يستغل وجود ميمو :
” بما انك يعني ما شاء الله عايشة مع شخصية معشوقة من الملايين، فاكيد تعرفي ايه اللي ممكن يدمره، نقطة ضعفه، شيء ممكن حد يستغله عشان يخلص عليه وينهي سعيد ”
عادت ميمو بظهره للخلف تضع ساعديها على جوانب المقعد، ومن ثم وضعت قدم أعلى الأخرى، ترسم بسمة خبيثة أعلى شفتيها :
” تاريخ سعيد كله، بنقط الضعف ونقط القوة ونقط الضغط اللي هو بياخدها كمان، كل ده اعرفه”
نظر لها صالح وهو يبتسم بسمة وكأنه أدرك الآن سر انجذاب اخيه لتلك المرأة، هي مثله، تشبهه بشكل كبير حينما يتحدث عن أحد أعداءه …
بينما صلاح نفسه كان ينظر لها بأعين غامضة صامت بشكل غريب وكأنه يدرسها جيدًا…
ابتسمت ميمو وهي ترى نظرات الفضول التي علت وجوه الجميع لترضيهم بكلمات موجزة :
” نقطتين ضعف بس لسعيد الاشموني، اتنين ملهمش تالت، واحدة لو حد قرب منها أنا اللي هحطه على القايمة بتاعتي واخلص عليه، والتانية دي مش مستنية حد يستغلها عشان يوقع سعيد، لأنها اول شخص بيوقعه كل شوية ”
_______________________
تجلس في مكتبها بهدوء تام، ممسكة بقلمها وبين كفها تقبع مدونة صغيرة تسجل بها بعض الكلمات التي تصدر من فم ذلك الرجل الممد على الفراش الخاص بالمرضى، يتحدث عما يؤلمه …
تستمع له ببسمة هادئة:
” تمام يا استاذ محفوظ، أنت دلوقتي افضل كتير وبقيت شبه متقبل للواقع بتاعك، وعشان كده احنا هنوقف الأدوية وهنبدأ نعتمد طريقة جديدة في العلاج و…”
وقبل أن تتم كلمتها فُتح باب مكتبها، أو للدقة تم اقتحام مكتبها من شخصٍ تدرك جيدًا هويته، لذلك لم تتعب نفسها وتستدير لتواجهه وهي ما تزال تولي انتباهها كله للمريض أمامها :
” زي ما كنت بقول، من الجلسة الجاية هنبدأ نحضر جلسات جماعية مع أشخاص من نفس حالتك و…”
ومجددًا قاطع حديثها نفس الهمجي الذي اقتحم مكتبها وهو يجذب ذراع المريض يبعده عن الفراش :
” اتفضل الجلسة خلصت “
وها هي الأميرة تكرمت ورفعت عينها له وهي تقول بهدوء وبسمة ما تزال ترتسم على فمها وتحذير شديد اللهجة :
” سيب المريض مكانه ”
لكن الأخير لم يعطها ردًا سوى أنه جذب المريض للأعلى أكثر والاخير ينظر لهما ولا يعلم هل يظل كما تقول طبيبته أو يرحل لأجل نظرات ذلك الهمجي ؟؟
اعتدلت الطبيبة وهي تنظر ليده ثم قالت ببسمة هادئة :
” سيب المريض مكانه يا حبيبي مينفعش كده ”
ومجددًا عاند كطفل صعب المراث وهو يسحب المريض أكثر حتى كاد يحمله فوق أكتافه، وعينه ما تزال تحدق في خاصتها بتحدي …
” سعيد سيب المريض على الشازلونج مكانه، سيبه يلا ”
ابتسم لها سعيد وهو يسحب المريض بعيدًا عن الفراش والاخير يقول :
” طب يا دكتورة الجلسة الجاية امتى ؟؟”
نهضت الطبيبة من مكانها تلقي الدفتر ارضًا، ثم تحركت صوب سعيد تتوقف أمامه متنزعة نظارتها الطبية وهي تصرخ في وجهه مشيرة للفراش :
” رجعه مكانه دلوقتي واتفضل برة استنى دورك زي اي مريض”
ابتسم لها سعيد بسمة باردة، ثم قال ببساطة :
” لا ”
وبهذه الكلمة أنهى الحوار الذي لم يبدأ بعد وسحب المريض للخارج وهو يقول :
” خد معاد تاني من السكرتيرة ”
اغلق الباب بقوة في وجهه، ثم عاد بخطوات باردة هادئة يتجه صوب الفراش الذي كان المريض يضجع عليه، وتسطح هو يضم كفيه أعلى معدته ينظر للسقف يخرج تنهيدة عالية كمن يحمل فوق كتفيه أحمال الكون بأكمله :
” مش هتكشفي عليا يا دكتورة ؟؟ انا عندي صداع بقالي يومين ”
ارتدت الطبيبة النظارة الخاصة بها تتحرك صوبه بحنق شديد وغيظ استطاعت كتمه جيدًا، حملت دفترها وقلمها تجلس مجددًا على المقعد أمام سعيد وقد تقمصت دورها بعملية تُحسد عليها :
” اخبار الدنيا معاك، جاتلك نوبات تاني مؤخرًا “
اغمض سعيد عينه وهو يحاول تذكر آخر مرة حدث معه ما تقوله طبيبته العزيزة، لكن لا شيء، هو في الأساس لم يأت لأجل العلاج .
” مش عارف، يمكن جاتلي وانا مش واخد بالي ”
” ازاي مش واخد بالك ؟؟ سعيد أنت بتاخد ادويتك ؟؟”
هز سعيد رأسه بنعم كاذبًا ليتلقى منها بسمة هادئة :
” امتى آخر مرة حسيت بشعور أنك حابب تأذي غيرك يا سعيد ؟!”
تنفس سعيد وهو ما يزال يغمض عينه وقال بكل بساطة شديدة :
” من دقيقة تقريبًا، كنت عايز اقتل محفوظ اللي كان قبلي على السرير ده ”
نظرت له الطبيبة من أسفل نظارتها وهي تحاول دراسة تلك التعابير الهادئة التي يتحدث بها عن رغبته في القتل، سعيد الاشموني ليس مجرد مريض عندها، بل هو من تلك الحالات العويصة، رجل يعاني اضطرابًا نفسيًا يدفعه لاذية الغير، نوع من أنواع السادية، لكنه ليس ذلك النوع المعروف الذي يحب تعذيب الأشخاص لأجل متعة مريضة شخصية .
بل كانت حالة سعيد نابعة من وجع، يحب أذية الغير ليرى أنه ليس الوحيد الذي يعاني في هذه الحياة، يؤذي غيره ليعلم أن هناك الكثير غيره يواجهون مشاكل، ذلك الشخص عبارة عن كتلة من الإضرابات النفسية والعقلية التي قابلتها لأول مرة داخل شخص قد يظهر لك طبيعيًا عند الحديث معه للمرة الأولى .
اعترف لها سابقًا أنه شخص سيء وأنه يؤذي الكثيرين حوله، وأنه يرتكب افعالًا قد تدفع بها هي الطبيبة نحو العلاج النفسي، لكنه يومًا لم يُصرّح لها بتلك الأفعال صراحة، وهي تدرك أنها لن تحب معرفتها فذلك الشخص أمامها ليس من النوع البرئ ابدًا ..
أفاقت زهرة من كل تلك الأفكار على نظرات سعيد التي تعلقت بوجهها ليصيبها بالتوتر الذي حاولت أن تخفيه وهي تنظر للدفتر متظاهرة أنها تدون به شيئًا ما …
” أنتِ عارفة اني مش باجي هنا عشان اتعالج صح ؟؟”
رفعت زهرة عيونها له تحاول أن تتحداه، أن تريه كم هي طبيبة عملية تستطيع الفصل بين مشاعرها وعملها، لكن اقتراب سعيد المفاجئ لها جعلها تجفل لثواني قبل أن تتسلح بالبرود كعادتها
وسعيد يهمس لها :
” عارفة اني اساسا مش عايز اتعالج ولا حابب اعمل كده، لكن بعمل كده عشانك بس، وعشان اشوفك ”
ابتعدت زهرة بالمقعد للخلف وهي تنظر له بهدوء شديد تعرف جيدًا كيف يفكر وتعلم أيضًا كيف تتحكم به، ابتسمت له ببرود تردد في حسم :
” سعيد ارجع مكانك على الشازلونج “
استمر سعيد في التحديق داخل عينيها وهو يتنفس بشكل سريع، قبل أن تهزمه عيناها للمرة التي لا يعلم عددها وينفذ ما تريد، عاد يتكأ على الفراش وهو يسمع حديثها :
” خد نفس عميق ”
نفذ سعيد ما تريد ليرتفع صوتها مجددًا :
” غمض عينك ”
اغمض سعيد عينه وهو يسير خلفها كما المخدر فقط ليسمعها تتحدث بالمزيد والمزيد ويُطرب لسماع صوتها ..
” ودلوقتي قولي شايف ايه قدامك، متشدش جسمك، ارخيه خالص، وخد شهيق وزفير براحة، شايف ايه ؟؟ ”
كان سعيد يتنفس بهدوء وهي يحاول أن يتبع كلماتها التي تسير بدمائه، قبل أن ترتسم بسمة مرعبة على جانب فمه وهو يردد ببساطة بما يراه كلما اغمض عينه :
” شايف جاد وهو بيزعق لامي، وبيضربها وبعدين يضربني لاني حاولت اقطع عليه متعته وهو بيعذبها ”
دونت زهرة تلك الملاحظات امامها، لن تتفاجئ فهي تعلم كل ذلك مسبقًا، امرته بهدوء :
” افتح عينك يا سعيد …”
لكن هذه المرة لم يطعها سعيد وهو ما يزال يسبح بين ذكرياته، ليأخذه عقله إلى يوم زفاف والده، حينما أبصره يخطو المنزل ومعه فتاة مراهقة جعلته يُصدم من المرحلة التي وصل لها ذلك المريض، هو كان يعلم أن هناك من تزوجته لأجل حفنة من الأموال، لكن بحق الله ليست مراهقة …
دخل والده مع بعض ضيوفه الذين حضروا إتمام عقد قرآنه على تلك الصغيرة وهم يلقون له ببعض الكلمات الوقحة، وبعض الغمزات والهمزات لتلك الصغيرة .
كانت ميمو، تلك الصغيرة ترتجف جوار جسد جاد الذي ضمها له بقوة وبشكل جعل ارتجافها يزداد الضعف وهو يردد بنبرة ناعمة جعلت معدة سعيدة تتلوى كما لو كان سيتقيأ فما بالك بتلك التي يوجه لها كلماته ؟؟
” نورتي بينك يا عروسة ”
رفع عينه ليبصر ابنه ذو العشرين عامًا يحدق به في سخرية واشمئزاز :
” ده سعيد، ابني الكبير، ودي يا سعيد مرات ابوك ميمو ”
وكانت تلك المرة الأولى التي تنظر ميمو لعين سعيد، والمرة الأخيرة التي يرى نظرتها صافية بريئة، ابتسم لها بسمة ساخرة وهو يرى جمال ما اقتنى والده بأمواله، فتاة ألقت نفسها بين احضان رجل بعمر والدها لأجل حفنة من الأموال …
تجاهل جاد ابنه وهو يسحب ميمو صوب الدرج :
” يلا يا عروسة خطي برجلك اليمين، ده بقى بيتك خلاص”
كانت ميمو في تلك اللحظة تكاد تنهار ارضًا لولا يد جاد الذي سحبها خلفه كالشاه صوب غرفته التي أعدها خصيصًا جوار غرفته هو ووالدته وكأنه يريد إيصال رسالة لوالدته التي كانت طريحة الفراش …
وها هي الرسالة قد وصلت وهو يستمع لصرخات تلك الفتاة ترن في القصر بأكمله ليتدافع الاشمئزاز في نفسه خاصة وهو يرى بعض من رفاق والده والذين حضروا معه الزفاف ينتظرونه في الاسفل وكأنه وعدهم بمتعة إضافية بعد الانتهاء من عروسه …..
لكن دقائق فقط وابصر سعيد باب والده يفتح بقوة وجسد تلك الفتاة يركض على الدرج وهي تصرخ وتتوسل المساعدة، تركض أعلى درجات السلم الرخامية وفستان زفافها مُمزق وزينتها جميعها قد فسدت، وحينما وصلت لنهاية الدرج كان قدرها أن تسقط أسفل اقدام سعيد ..
نظر سعيد ارضًا لها، وحينما كاد ينحني ليساعدها تذكر كل صفعة نالتها وجنة والدته وكل ألم نالته في ذلك المنزل وكل صرخة أطلقتها لأجل منع تلك الزيجة …
لذلك تراجع للخلف باشمئزاز وهو يراها تتمسك بقدمه تبكي وتصرخ وتتوسل :
” ابوس رجلك ساعدني خليه يبعد عني، أبعده عني ارجوك”
بدأت همسات ضيوف والده ترتفع حوله الاستنكار من البعض والسخرية من الآخر، وميمو تبكي وتنتحب بجنون تتمسك بقدمه وتتوسله المساعدة، ليشعر بقلبه يهتز وهو يرى والدته بنفس الوضع تتمسك بقدم والده وتترجاه أن يتوقف عن ضربها.
ارتجفت يد سعيد وهو ينحني ليساعدها وشيطانه يوسوس له أن يتركها تعاني ما ذاقته والدته، يتركها تُلهي والده عن والدته …
لكن انتصرت إنسانيته على شيطانه وهو يمسك مرفقها يساعدها للوقوف وقد أنتفضت بقايا ضميره لرؤية مظهرها، وقبل أن يتحدث بكلمة وجد والده يندفع لها ويسحبها من شعرها وهو يهبط فوقها بالضرب والسب والجميع حوله يشاهد بابتسامة وكأن ما يحدث أمر عادي، وسعيد يشاهد كل ذلك بأعين متسعة وقلب يرتجف لما يحدث ..
ضربات والده …اصوات ضحكات الرجال من حوله …وصرخات ميمو …توسلات والدته …بكاء نيرمينا، كل تلك الأصوات تجمعت في أذنه لينتفض جسد سعيد بقوة وهو يصرخ ..
ليجد أن زهرة تمسك بذراعيه وهي تتحدث بنبرة هادئة ولهفة :
” اهدى، ده كان ماضي وعدى، خلاص خلص، كل ده خلص، خد نفس، خد نفس ”
كانت انفاس سعيد تعلو وتعلو وهو يحدق بها بأعين متسعة قبل أن يسمعها تردد :
” جاد مات، وكل ده انتهى خلاص ”
هز سعيد رأسه برفض وهو يرد بهزيان :
” لا، لا منتهاش، لسه منتهاش، جاد مماتش، جاد مماتش، جاد لسه عايش، لسه جوايا ”
نظرت له زهرة بقوة وهي تلقي الكلمات في وجهه بقوة :
” لا جاد مات، ولازم تقتله من جواك، اوعى تخلي شر جاد يمتد ليك وتبقى خليفة ليه في الأرض ”
وكان الرد عليها بسمة ساخرة وهو ينهض من الفراش يبعد يد زهرة عنه :
” الكلمتين دول متأخرين يا زهرة، جاد مش بس عاش جوايا، لا ده كبر وشيطانه بقى اقوى ”
قال كلماته وهو يتحرك بنية المغادرة لولا زهرة التي أمسكت ذراعيه تمنعه الرحيل وهي تصرخ وقد سأمت من إصراره على حبس نفسه داخل قفص صنعه له حقده وزينه لأجله شيطانه، سعيد كتلة من الشر المتحركة، يقنع نفسه أنه سيء، وكلما استيقظ ضميره القاه بالرصاص :
” أنت بايدك تقتل جاد وشيطانه، لكن أنت اللي حابب تكبره يا سعيد، فوق بلاش تعيد نفس غلط جاد، بلاش تخلي جاد يتولد جواك، أنت مش الوحيد اللي شاف طفولة سيئة في الدنيا دي، مش الوحيد اللي اتظلم، قاوم وبلاش تخذل والدتك وتبقى شبهه، لسه قدامك فرصة تفوق ارجوك، بلاش تعيش دور الضحية لأنه هيدمرك”
أنهت جملتها بصراخ مرتفع وهي تنظر بأعين سعيد صديقها، وليس سعيد المريض، سعيد الشاب ذو العشرين عامًا والذي كان يلاحقها باستماتة حاملًا الورود لأجلها، لأول مرة تخطأ في حق مهنتها وتسمح لعواطفها بالانتصار عليها .
لكن نظرة سعيد الجوفاء جعلتها تدرك أنها تُحدث صخرة لا تسمع ولا تعي ما تردد
لقد أسمعت لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تنادي، ولو نار لو نفخت بها أضاءت، ولكن أنت تنفخ في رمادي …
وكأن كاتب تلك الابيات كان يضع سعيد نصب عينيه حينما ألقاها، فحال سعيد ينطبق على كل كلمة قيلت ..
ابعد سعيد يديها عن ذراعه وهو ينحني لتصبح رأسه أمام خاصتها وتحدث ببسمة صغيرة :
” ومين قالك اساسا اني بعيش دور الضحية يا دكتورة ؟؟ أنا مش الضحية، أنا الجاني”
كان يتحدث بأعين حمراء مخيفة :
” ومفيش دور يليق عليا غير دور الجاني، كنت كده وهفضل كده”
هزت زهرة رأسها وهي تبتعد عنه، استسلمت، لقد يأست منه، سنوات طويلة وهو يعيش بهذه الطريقة دون منحها فرصة واحدة حتى لمساعدته :
” تمام، طالما كده اتمنى متجيش العيادة تاني، مجيتك هنا ملهاش لازمة”
ابتسم سعيد يردد بسخرية :
” اعتقد اني قولتلك وجودي هنا مش بسبب العلاج”
رفعت عينيها له تدرك ما يرنو إليه؛ لذا منحته بسمة متحدية وإصرارها يلتمع في عينيها :
” وانا بقولك أن السبب اللي أنت بتيجي عشانه ابعدلك من نجوم السما يا سعيد، انسى اللي في دماغك نهائي ”
شعر سعيد بقلبه يكاد يخرج وهو يرى إصرارها ذلك، تستغل أنه يموت بها عشقًا، تضغط على نقاط ضعفه لتجبره على فعل ما تريده ..
ضرب سعيد الجدار خلفها بقبضته وهو يحاول تفريغ غضبه بها وهي ما تزال تقف أمامه بقوة واهية تشعر يقلبها يقفز رعبًا داخل صدرها، تغمض عينيها قبل أن تشعر به يهمس جوار أذنها :
” وانا مستعد اموت يا زهرة ولا اني انسى اللي في دماغي، سميها هوس، جنون، اضطراب نفسي، شوفي بتسميها ايه في الطب عندكم وانا معاكِ، مش مستعد اني اتخلى عن الجزء الوحيد الحلو في حياتي دي “
وبهذه الكلمات انتهى حديث سعيد وانتهت المقابلة ليخرج من غرفة المكتب يغلق الباب خلفه وسقطت زهرة ارضًا تشعر أنها على حافة الانهيار، تدرك أنه احبها ومنذ سنوات طويلة، احبها واخبرها بذلك مرارًا وأنه ليس على استعداد لخسارتها، ولولا أنها تدرك أن ذلك ليس هوسًا لكانت فرت منه، لكنها ليست تلك الغبية التي تلقي بنفسها بين جياهب مريض لديها فقط لأنها تحمل له بعض المشاعر، ليست الحمقاء التي تتغاضى عن العيوب لأجل الحب، وبالتأكيد هي لن تستسلم له ولو عنيّ ذلك موتها …
” تمام يا سعيد، هنشوف ”
_______________________
كانت أعين صالح تدور على صلاح وميمو، وكأنه يراقبهما، فجأة وجد رأس محمود تمتد له وهو يردد بتسائل :
” ألا مين الست القادرة اللي قاعدة جنب اخوك دي ؟!”
ردد صالح دون أن ينزع عينه عن ميمو وأخيه :
” ام سعيد ”
” واخوك ايه علاقته بأم سعيد ؟؟”
ابتسم صالح بسمة جانبية ساخرة وهو يردف بتهكم :
” تقريبًا كده معجب ”
فتح محمود عينه بانبهار، وعقله لا يستوعب أن شخص كصلاح قد يُعجب يومًا بامرأة :
” يا راجل ؟؟ طب وأبو سعيد ايه موقفه من الحوار ده؟؟ هيوافق ابنه يتربى مع اخوك ؟؟ ”
نظر له صالح بحاجب مرفوع وقد ارتفع طرف شفتيه في تزامن ساخر، وهو يحاول معرفة ما يحتويه عقل رفيقه ليخرج لهم بكل تلك الأفكار والكلمات الغريبة ..
لكن محمود ترجم نظرات صالح بشكل خاطئ ليسارع في تبرير كلماته ظنًا أن صالح ابتأس لحديثه عن أخيه بهذا الشكل :
” متأخذنيش يا صاحبي، بس انا لو مكان ابو سعيد، مش هقبل أن واحد زي اخوك يربي ابني، اصل معلش يعني اخوك ده واحد معقد ومرعب، والله اتحداك أما ربى لسعيد ده عقد وكلاكيع قد كده ”
ضحك صالح على أفكار محمود :
” لا متقلقش ابو سعيد مش عايش عشان يقبل أو يرفض ”
” وكمان يتيم ؟؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، يا اخي إلا اليتيم، خلي اخوك ياخد باله منه وكله بثوابه، والست ام سعيد دي شكلها مفترية هي كمان ورامية ابنها ومش سائلة فيه ”
نظر له صالح وهو يضيق عينيه، ثم اقترب منه يهمس :
” ولا هو أنت اصطبحت ؟!”
” لسه والله، اصل اخوك كل شوية يبصلي وانا خايف اطلع حاجة، بعدين النواعم هنا ومش حابب أنها تاخد عني فكرة وحشة واحنا لسه في البداية ”
هز صالح رأسه بيأس على عقل محمود الذي يبدو كما لو أنه لم يكن معهم حينما تحدثوا على سعيد الاشموني وعلى ما فعله.
وقد كان، فوقتها كان محمود في عالمه الخاص، لكن تلك المرة رفقة بسكوتته الغالية، وعلى ذكر تلك البسكوتة تحرك محمود ليجلس جوار هاجر التي كانت تبكي بلا توقف خوفًا على رانيا …
” متخافيش يا نواعم، بنت اختك دي واحدة لبش يتخاف منها مش عليها، اسأليني أنا عارف النوعية الزبالة دي امثال صالح ”
رفعت هاجر وجهها له وهي تصيح باستنكار :
” أنت بتقول ايه ؟؟ دي بنت اختي اللي بتتكلم عليها دي ”
” ما هو صالح صاحبي برضو وبتكلم عليه عادي ”
تجاهلته هاجر وهي تبتهل لربها أن تكون رانيا بخير، لكن محمود لم يستسلم وهو يقترب منها :
” فاكرة بابا اللي كان بيفطر معايا انهاردة في الفرنة بتاعتك ؟؟”
هزت رأسها بهدوء ليضيف محمود ببسمة واسعة :
” كان بيقولي اسألك لو اهلك فاضيين عشان يجي يشرب معاهم شربات ”
أغمضت هاجر عينيها بقوة وهي تهمس :
” محمود …”
” نعم ؟؟”
فتحت هاجر عيونها وهي تردف بجدية وبسمة :
” أنا واحدة بنت اختها مخطوفة، تفتكر ممكن افكر في أي شيء تاني في وقت زي ده ؟؟”
صمت محمود ثواني وهو يحرك شفتيه بتفكير قبل أن يتشدق :
” يعني على حسب، اصل انا معنديش اخوات فمش عارف الشعور ده، بس مثلا لو صالح اللي كان اتخطف فأنا ممكن افكر في الموضوع عادي “
لن ينتهي هذا النقاش حقًا، يا الله من أين ظهر لها ذلك الرجل؟؟
ابتسم محمود وهو يرى ملامحها المتذمرة، ليشعر بالانتصار بعدما استطاع صرف تفكيرها عن رانيا، فهو استاء من بكائها المستمر، لذلك فعل كل هذا لصرف انتباهها عن الأمر وقد نجح …
فجأة انتفض الجميع على صوت رنين هاتف ميمو والتي كانت عبارة عن رسالة من مختار، ثواني حتى ارتفع رنين هاتفها لتمد يدها به إلى صالح الذي التقفه منها بتعجب يردد تحت أنظار الجميع :
” الو ؟؟”
______________________
كان مختار يخرج من ملحق القصر وهو يجذب رانيا خلفه غير آبهًا لصرخاتها التي بدأت ترتفع في الأجواء حتى جذبت أنظار الجميع ..
وفجأة شعر بألم ينتشر من كف يده حتى امتد لجميع ذراعه، والذي كان عبارة عن عضة شرسة من تلك الفتاة التي ندم أشد الندم لإنقاذها..
وبمجرد افلات رانيا من بين يديه أطلقت لساقها الريح وهي تركض في أرجاء القصر تصرخ برعب وبكاء :
” حد يساعدني، أنا مخطوفة حد يساعدني ”
في ذلك الوقت كان كلٌ من وسيم ورجب قد خرجا من الملحق وتحركا صوب باب القصر بعدما قرر وسيم الاتصال بصالح وأخباره أنه فقط ترك الفتاة ترحل كعربون ود ليس إلا، لكن الحقيقة هي أن الفتاة خرجت بأمر من ميمو …
فجأة توقف وسيم وهو يجذب رجب ويشير صوب إحدى الجهات يقول بجدية وبسمة واسعة :
” بص ..دي البنت اللي مختار خرجها”
رفع رجب حاجبه بتعجب :
” أيوة هي بتجري من مين كده ؟؟”
” مش مهم بتجري من مين، اجري بسرعة امسكها تاني وخدها على العربية نحطها في مكان تاني ”
وأثناء حديثه كانت رانيا تركض بسرعة كبيرة وهي تنظر خلفها كل ثانية حتى اصطدمت فجأة في شخصٍ ما، وقد تسبب هذا الاصطدام في سقوط ذلك الشخص والذي لم يكن سوى نيرمينا التي شعرت وكأن هناك نيزك اصطدم بها …
وصل مختار في تلك اللحظة ليرى سقوط نيرمينا ووجه رانيا الذي شحب وهي تندفع صوب نيرمينا تردد باعتذار :
” أنا …أنا آسفة والله مكنتش اقصد أنا بس …”
وقبل أن تكمل جملتها أبصرت ذلك الصامت يقف أمامها بملامحه الجامدة والذي منذ أخرجها من ذلك المكان وهو يرمقها بتلك النظرات، أطلقت رانيا صرخة عالية تختبئ خلف نيرمينا التي قالت بتعجب :
” مالها دي ؟؟ مين دي يا مختار ؟! أنت بتجيب بنات القصر ؟؟”
رفع مختار حاجبه وهو يبتسم بسمة ساخرة، ثم تحرك صوب رانيا لسحبها وأخذها لميمو، لكن نيرمينا ضربت يده التي امتدت لامساك الفتاة كما لو كان طفلًا صغيرًا تقول بصوت حانق :
” ابعد ايدك، مين دي ؟؟ ومالك بيها ؟؟ بعدين ما أنت ليك في البنات اهو، امال عامل نفسك راهب ليه ؟!”
نظرت لها رانيا وقالت بصوت منخفض :
” هو مين ده ؟! هو أنتِ معاه ؟؟”
سخرت نيرمينا من حديثها :
” مع مين ؟؟ اللي زي ده مش معاه حد، عارفة ليه ؟! عشان هو شخص متوحد بيفضل يخوف الكل منه وكل ما حد بيجبله هدية بيرميها من العربية، وميعرفش أن الحد ده قعد يحوش للهدية دي اسبوع، وطول الوقت لاوي وشه بالشكل ده ”
كانت نيرمينا تصرخ في وجه مختار الذي امسكها من ثيابها يجذبها بعيدًا عن رانيا وكأنه يمسك فأرًا صغير، ونيرمينا ما تزال تتحدث وتتذمر تصرفاته، بينما رانيا تنظر لها بتعجب لدرجة أنها لم تنتبه أن ذلك الصامت سحبها خلفه للسيارة تحت عين نيرمينا ووسيم ورجب ..
ضربت نيرمينا الأرض بقدمها وهي تصرخ بصوت مرتفع :
” والله أنت حيوان يا مختار، اول واخر مرة اتذلل ليك وابقى شوف مين هيعبرك ويجبلك مكرونة بالوايت صوص تاني ”
تنفست بعنف لترى مختار يلقي رانيا في السيارة، ثم أغلقها بقوة واستدار لها يعود صوبها، لكن نيرمينا صرخت برعب خوفًا أن يؤذيها بسبب كلماتها وركضت صوب المنزل، ليبتسم عليها مختار ويتحرك صوب السيارة يرسل كلمات لميمو يخبرها أن تعطي الهاتف لذلك الطبيب ..
ومن ثم أجرى اتصالًا بها، اقترب من السيارة ليرى رانيا تحاول الخروج لكنها توقفت بفزع حينما القى الهاتف عليها بقوة ودون اهتمام حتى كاد يصيب رأسها، وصعد جوارها يقود السيارة ..
نظرت رانيا للهاتف ثم له، ثم للهاتف مجددًا لترى مكالمة مفتوحة، وضعت الهاتف على أذنها :
” الو ؟؟”
وصل لها صوت تعرفه تمام المعرفة :
” الو؟!”
وبمجرد أن سمعت صوت صالح أطلقت زفرة راحة لا تدري لها سببًا سوى أنها واخيرًا سمعت صوتًا تألفه، صوت لشخص حتى وإن كان ما بينهما عداوة إلا أنه لم يسبق واذاها، بل تنازل عن مبادئه ووافق على التعاون مع تلك العصابة _كما سمعت منهم _ لأجلها .
انفجرت في البكاء وهي تردد بلهفة :
” صالح ”
فتح صالح عيونه بصدمة لسماعه صوت رانيا وبكائها، ابتعد عن الجميع يرتكن لمكان بعيد قليلًا وهو يردد بقلق :
” رانيا انتِ كويسة؟؟ حد منهم عملك حاجة ؟؟”
هزت رانيا رأسها بلا وكأنه يراها :
” لا …بس …بس انا فيه واحد تاني جه خطفني، مش عارفة هو مين بس هو ساكت ومش راضي يرد عليا، يا صالح أنا لو حصلي حاجة والله لأموت وانا بدعي عليك من كل قلبي، كله بسببك الله ياخدك يا اخي ويحرق معرفتك الهباب”
أليس من المفترض الآن أن تقضي ساعات وساعات تشكره لمساعدتها في النجاة من بين أيدي عصابة ؟؟ أن تبكي وهي تُسمعه اجمل الاوصاف عن كم هو بطل مغوار ومضحي؟
” طب يا شيخة اعملي لاخرتك، ده أنتِ المفروض هتموتي، اذكري ربك أو استغفري ذنبك، هتضيعي آخر لحظاتك بتدعي عليا، أما أنتِ واحدة معفنة وناكرة جميل، والله العظيم أنتِ لو قدامي دلوقتي أنا كنت رجعتك للعصابة بايدي تاني ودفعت ليهم مبلغ مالي يمكن يصبرهم على قعدتهم معاكِ ”
صدرت شهقة عنيفة من فم رانيا جعلت مختار ينتفض بفزع وهو ينظر لها ظنًا أن شيئًا حدث لها، لكن رانيا هتفت بصوت مرتفع جعله يلوي ثغره بعدم ارتياح فهو لا يحب الأصوات العالية :
” يا اخي اتكسف على دمك بقى واعترف مرة أنك حيوان وزبالة، يعني فوق ما أنت حرامي وبتاع أعضاء كمان بجح؟؟ ده انا اتخطفت بسببك وبسبب معرفتك الهباب، وقال ايه حبيبتك ”
وصل لها صوت صالح الساخر والذي نطق يحاول تقليد صوتها :
” رانيا يا حبيبتي ، اوعي تخلي الخناقات دي تنسيكِ سنين الشوق والحب اللي بينا ياقلبي ”
شعرت رانيا بالغضب من نفسها قبله لأنها اضطرت لقول كل ذلك له، والآن يأتي هو ويعيد عليها نفس الحديث ساخرًا منها :
” اعرف بس إني مقولتش الكلام ده من حبي فيك، ده كان تحت تهديد السلاح ”
” تحت تهديد السلاح ولا فوقه، ميخصنيش المهم أنك قولتي كده، وانا عشان جنتل مان مرضتش اكسر بقلبك قدام ناس غريبة، لكن يا رانيا خلاص كل اللي بينا انتهى، اتفضلي تعالي خدي التليفون بتاعك وعلى بيت ابوكِ ”
وبمجرد أن أنهى كلماته الساخرة وصل له صوت سباب وصراخ من الجهة الاخرى، لكنه لم يهتم :
” خلاص بقى يا رانيا امسكي نفسك مينفعش تنهاري قدام مختار كده، عارف اني لا اعوض وإني راجل زي الالماس النادر، بس متعمليش في نفسك كده، يلا اسيبك مع مختار هو هيجيبك تاخدي خالتك والتليفون وعلى بيت ابوكِ ملمحش وشك ده في القاهرة تاني سامعة”
في تلك اللحظة كان الجميع ينظر له بدهشة لما يقول، وصوت رانيا يصل له غاضبًا :
” مين بيتكلم ؟! محافظ القاهرة ؟! تكونش ياض القاهرة دي العزبة اللي ابوك اشترهالك عشان تقول مين يقعد ومين يمشي ؟؟ ”
ابتعد صالح وهو يعطي ظهره للجميع ويقول بصوت هادئ :
” خلاص بقى يا رانيا بطلي عياط، قولتلك الموضوع بقى صعب يا بنت الحلال ”
” عياط مين يا ابو عياط، ده انت آخر بني آدم ممكن اعيط عليه، اقسم بالله لو جوزي وهتطلق منك ما هعيط”
ابتسم صالح بحسرة مصطنعة :
” عارف كل ده، وعارف قد ايه فراقي صعب بس ده نصيب في الآخر، وإن شاء الله تلاقي واحد أقل مني يستحملك، لأن مش هتلاقي احسن مني خالص ”
ضحكت رانيا بعدم تصديق :
” ياض أنت عبيط ؟؟ أنت عمرك ما بصيت لنفسك في المرايا ؟؟ “
تنهد صالح وهو يستدير للجميع الذين كان يفغرون أفواههم بصدمة عدا صلاح الذي كان يبتسم بخبث على أخيه الذي هتف بجدية :
” خلاص بقى عارف أن مفيش مني تلاتة، بس نصيبك كده، المهم ارجعي أنتِ الاول كده واهدي وبعدين يبقى نشوف حل لعلاقتنا ”
ولم يعطي لها الفرصة للتحدث، بل اغلق الهاتف بكل بساطة وهناك بسمة منتصرة أعلى فمه، أخيرًا انتقم منها واستطاع أن يسجل نقطة لصالحه عند رانيا …
هذا يستحق احتفالاً…
رفع أنظاره للجميع يهز كتفه بقلة حيلة :
” منهارة وهتموت من العياط، وانا مش عارف اصبرها لاني لو مكانها كنت هنهار بنفس الشكل لو خسرت حد زيي ”
على الجانب الآخر كان رانيا تحدق بالهاتف لا تستوعب ما حدث منذ ثواني وما نطق به صالح، لكنها فقط وضعت الهاتف أمام مختار وهي تنظر أمامها بهدوء وما هي إلا لحظات حتى انفجرت بالضحك في شكل جعل مختار يتأكد أنها مختلة بالفعل، لكن رانيا كانت تضحك على كلمات صالح وطريقته في التحدث تتساءل كيف يوجد شخص مثله معهم على هذا الكوكب …
__________________________
بعد ساعة تقريبًا …
يجلس معها منذ دقائق حينما أرادت التحدث معه في أمر بعيدًا عن الجميع، اتكأ صلاح بظهره على المقعد الذي يتوسط أحد المقاهي وأمامه تقبع ميمو التي كانت تعبث في هاتفها وهي تبحث عن شيء به :
” امتى المقال الجاي بتاعك ؟!”
رفع حاجبه وهو يضم كفيه يردد بهدوء :
” دلوقتي لو عايزة، بس ليه !!”
ابتسم ميمو بسمة مخيفة يعلم أنها تحمل المزيد والمزيد من الهدايا لابن زوجها العزيز، رفعت هاتفها وهي تقول بجدية :
” فاكر الصور اللي فرجتك عليها لسعيد ؟؟ ”
” صور قضية المخدرات ؟؟”
ابتسمت له تاركة الهاتف أمام عينيه :
” ايه رأيك لو بروزناها برواز حلو كده من عندك وتنزلها مع كلمتين من بتوعك ”
انحنى صلاح بنصف جسده العلوي على الطاولة ومازالت عيونه تدور على تلك الصورة أمامه لسعيد وهو مكبل الأيدي، انقشع فمه عن بسمة جانبية :
” امممم معنديش مشاكل بس أنتِ ؟؟”
” أنا ايه ؟!”
نظر لها جيدًا بشكل جعل قلبها يختض في صدرها، لا تدري سر نظراته تلك لها، إلا أنه انحنى صوبها أكثر يهمس بصوت خافت :
” المرة اللي فاتت حاول يخنقك، المرة دي ممكن يعمل اكتر من كده ”
فتحت ميمو عيونها بصدمة لا تصدق أنه انتبه وقتها للأمر، ذلك الخبيث ولم يظهر حتى عليه شيء، رفعت عيونها له لتسمعه يهمس بصوت خافت أكثر من السابق :
” وكمان اثار الاحمرار اللي كانت جنب مناخيرك بتوضح أنه عمل اكتر من الخنق، فالمرة دي مين يضمن إني لما انشر المقال اللي عايزاه، هيسيبك عايشة ؟؟”
ابتسمت ميمو تدرك جيدًا مع أي نوع من الأشخاص تتعامل :
” اكيد أنت مش مفكر اني سيبته ؟؟”
” لا طبعًا، أنا عارف أنك رديتي ليه الضربة بعشرة، لكن …في الآخر هو اتجرأ وضربك وانا مش حابب نغامر بالشكل ده تاني ”
ابتعد عنها يعود لمقعده بينما هي ما تزال تحدق به في جدية كبيرة :
” وأنت يهمك بايه ؟! الأذى عليا كله ومش عليك ”
” أنتِ تهميني “
شعرت ميمو لأول مرة في حياتها البائسة بقلبها يتحرك في مضجعه، ابتلعت ريقها وهي تبعد تأثير كلماته التي تدرك جيدًا أنها ليست بريئة بالمرة، فهذا الرجل لا يحمل أي شيء يمكن وصفه بالبرئ ..
ابتسم صلاح على ردة فعلها بتكبر، ثم عاد بظهره للخلف مجددًا يضم ذراعيه لصدره، ينظر لها نظرة ناعسة تخبرها أنه يدرك كل ما تفكر به، لكن وقبل أن يبادر ويردد كلمة أخرى وجد جسد يندفع لاحضانه بقوة مخيفة جعلت مقعده ينقلب به للخلف وفوقه ذلك الجسد ..
فتحت ميمو عينيها بفزع وهي تقف تميل بنصف جسدها لترى ما حدث ..
كان صلاح متسطحًا ارضًا وفوقه شاب يضمه بقوة كبيرة وهو يخرج هاتفه ليلتقط صورًا له مع صلاح :
” أنا مش مصدق بجد، صلاح السقاري، صورة، ناخد صورة سوا ”
كان صلاح يحاول أن يتحدث وهو ممد بالمقعد ارضًا وجواره ذلك الشاب الغريب والذي أخذ يلتقط له صورًا بهذا الوضع :
” يابني يعني لو كنت جيت طلبت مني نتصور عادي كنت هحوش عنك حاجة ؟! ليه بس المنظر ده ”
نظر له الفتى والذي كان يبدو في عمر المراهقة تقريبًا لكن مع جسد طويل بعض الشيء يردد بلهفة :
” حضرتك متعرفش أنا بحبك قد ايه، أنا قرأت كل الكتب بتاعتك وصحابي كلهم بيحبوك ”
حاول صلاح أن يبعده من فوقه ينهض :
” على راسي والله، بس معلش قوم من فوقي عشان حاسس فقرات ضهري اتطبقت على بعضها ”
نظر له الفتى وهو يقول برجاء :
” طب معلش صورة واحدة كمان، الله يخليك ”
” يا حبيبي وهو انت لو قومتني هجري منك ؟؟ والله هنتصور واعمل معاك فيديو بس معلش خليني اقوم مش كده ”
في تلك اللحظة تدخلت ميمو وهي تقول بضحكة عالية تجذب الهاتف الخاص من الشاب :
” حرام عليك يا صلاح الشاب شكله بيحبك، هات يا ابني أنا هصورك ”
نظر لها صلاح بشر، لكنها لم تهتم وهي ترفع الهاتف تقول باستفزاز :
” يلا ابتسامة حلوة ”
رفع الصبي إبهامه في الهواء وهو يجلس جوار جسد صلاح الممد ارضًا وهو يتخذ عدة وضعيات وصلاح ينظر بحنق لميمو التي كانت تأمر الصبي بأوضاع غريبة وهو ما يزال على نفس جلسته ..
وأخيرًا بعد التقاط البومًا كاملًا نهض الصبي ينتزع الهاتف من يد ميمو وهو ينظر لجميع الصور باندهاش :
” جميلة اوي، دول صحابي هيموتوا لو عرفوا اني شوفت حضرتك واتصورنا سوا ”
” حبيبي الله يكرمك يارب، معلش بس قومني عشان ضهري بدأ يقفش عليا ”
انحنى الصبي يساعد صلاح على النهوض وهو يقول بسعادة :
” معلش والله انا بحب حضرتك اوي اوي، أنا هنزل الصور دي عندي وهعمل لحضرتك إشارة عشان الصور تنزل عندك”
قال صلاح يعدل من وضعية ثيابه ويعيد ترتيب خصلات شعره تحت نظرات ميمو التي كانت تكتم ضحكات مرتفعة كادت تفلت منها :
” هو أنا صديق عندك ؟!”
” أيوة أنا كنت بعتلك طلب وحضرتك قبلته، هعملك إشارة عشان تظهر عندك برضو ”
ربت صلاح على كتفه ببسمة :
” اكبر غلط عملته في حياتي، ابقى ابعتلي رسالة الاول قبل ما تنزل الصور عشان الحق اعملك بلوك ”
نظر له الفتى ببلاهة ليمنحه بسمة :
” اتشرفت بيك يا …”
” صالح، اسمي صالح ”
” اكيد طبعًا، التصرفات دي متطلعش غير من صالح ”
ولم يسمع الفتى تلك الكلمات التي كان صلاح يتمتم بها لنفسه :
” حضرتك قولت حاجة ؟!”
” بقولك عاشت الاسامي يا صالح، اسمك ده غالي على قلبي والله ”
شكره صالح وهو يمنحه بسمة واسعة ثم تحرك بعيدًا عنه وهو ينظر للهاتف يتفحص الصور بسعادة كبيرة، بينما صلاح ما يزال يمسك ظهره بوجع، لكن فجأة وجد ميمو تنفجر بالضحك وهي تتخيل مظهره حينما عانق جسده الأرض :
” مش معقولة حب الناس ممكن يعمل ايه “
رمقها بحدة :
” عقبالك كده لما تلاقي اللي يحبك نفس حب صالح كده ”
افتر ثغر ميمو عن بسمة خبيثة وهي تقترب منه تهمس بنبرة ماكرة :
” معتقدش اني من محبي نوع صالح اللي بيلبس مقطع وشعره منكوش، ممكن النوع التاني اللي بيلبس بدلة و نضارة من غير عدسات ومرتب شعره، وقتها ممكن افكر ”
أنهت حديثها تغمز لصلاح الذي كان يحاول استيعاب ما تقوله، وميمو شعرت أنها سجلت هدفًا في مرماه، أمسكت حقيبة يدها وهي تمر من أمام صلاح تنظر له بمكر، ثم أضافت بهدوء :
” اشوفك بكرة يا لذوذ، اه بالمناسبة حلوة تسريحة شعرك والبدلة ماشية مع النضارة بتاعتك ”
وبمجرد انتهاء جملتها تحركت خارج المقهى وهي تضحك بخفة بينما صلاح يرمش وهو ما يزال في صدمته، تلك الفتاة ردت له ضربته باقوى منها، وهو في الحقيقة احب ذلك وبشدة ..
ابتسم يحمل أغراضه تاركًا ثمن المشروبات وخرج يعدل من وضعية سترته :
” وانا بحب النوع اللي بيلبس لبس هوانم جاردن سيتي، وبيتكلم كلام الدرب الاحمر ”
في تلك اللحظة التفتت ميمو خلفها لصلاح الذي كان يتحرك نحو سيارته، وابتسمت له بسمة، ثم غادرت بهدوء شديد لسيارتها .
” بحبه اوي ”
_____________________________
أنعزل بها بعيدًا عن ضوضاء صالح ورفاقه، حيث طلب رائد من تسبيح أن تتبعه صوب الشرفة التي تتوسط البهو للتحدث معها بأمرٍ هام وبمجرد أن دخلا حتى سارعت تسبيح تقول بهدوء وبصوت خافت مازال يحمل آثار الاحزان المتراكمة على قلبها :
” أنا مشكرتش حضرتك على تعبك معايا، أنت والكل هنا، أنا تسببت ليكم في مشاكل كتير اوي لغاية دلوقتي و…”
صمتت حينما شعرت باختناق احرف كلماتها، ليعطها رائد كل الوقت حتى تتمالك نفسها وتتحدث مرة اخرى، وكذلك حدث :
” للاسف أنا مبقاش ليا لأزمة دلوقتي لأن عبدالعظيم اللي كان ممكن يفيدك في القضية خلاص راح هو كمان ”
سقطت دموعها بقوة ومظهر أخيها يسقط أمام عينيها غارقًا في دمائه التي سالت نتيجة طيشه، تلك الصورة تذبحها دون رحمة، ربما لم تكن الشخص المناسب للاعتناء به، ربما فقط، ربما لو كانت والدتها حية حتى الآن لاعتنت به وجعلته شخصًا آخر، لكن هي ….انفجرت دموع تسبيح مجددًا تحاول التحدث :
” أنا تعبت، تعبت من كل حاجة، تعبت من افكاري اللي مش سيباني في حالي، وتعبت من عقلي اللي بيرسم ليا مستقبل ملوش ملامح، بقت حياتي من غير أي لأزمة، حاسة إني لو كنت مت امبارح كنت ارتحت ”
أنهت حديثها تنهار ارضًا كما اعتادت أن تفعل في كل أحزانها .
في تلك اللحظة ارتفعت أصوات الشجار بين صالح ومحمود وقد أسقط صالح محمود ارضًا وهجم عليه والاخير يرد له الضربات بالمثل.
جلس رائد ارضًا جوار جسد تسبيح وهو يشير لمنظر القتال الظاهر من باب الشرفة وهناك بسمة صغيرة ترتسم على فمه ممازحًا :
” تفتكري حياتك ملهاش لازمة اكتر من حياة الاتنين دول ؟؟ ورغم كده شوفتي حد منهم بيحس على دمه وبيقولك حياتي ملهاش لازمة ؟؟”
نظرت له تسبيح من بين دموعها بتعجب ليقول رائد بحنان أكثر بعدما تخلى عن جديته :
” كلنا لينا لازمة في الدنيا دي، بشكل أو بآخر وأنتِ لازمتك دي مكانتش بس منحصرة على عبدالعظيم، بصي حواليكِ واعرفي أنك موجودة في الحياة دي لسبب وسبب قوي كمان، دوري واعرفي بنفسك ايه هو ”
نظرت له تسبيح بشرود وتأثر ودون شعور ابتسمت بسمة صغيرة خرجت موجوعة :
” لو طلبت منك مساعدة للمرة الأخيرة هتعمل كده عشاني ؟! ”
ابتسم رائد لها بسمة صادقة واسعة وكأنه يخبرها ( جربيني )، ويبدو أن بسمته قد إصابتها بالعدوى حيث ابتسمت هي وقالت بإصرار وقوة استمدتها منه، وهو الداعم الأول لها في تلك الفترة دون معرفة سبب لذلك :
” عايزة اعمل حاجة كان لازم اعملها من فترة ”
في الخارج …
كان صالح ينام نصف نومة على الأريكة جوار محمود والذي أخرج كيس من المخبوزات التي ابتاعها من مخبز هاجر، يتناولان بعض التسالي الطولية المملحة :
” وبس يا سيدي قولت لماجد يا نواعم يا بلاش، قام عينه دمعت كده بتأثر وقال وانا أفديك الساعة يا ابني يا حبيبي يا كل ما ليا لما اجوزك ؟! فورا نروح نطلب أيدها من عيلتها هي هتلاقي زيك فين ؟!”
تناول صالح تلك التسالي وهو ينظر لهاجر التي كانت تتحدث بعيدًا عنهم في الهاتف وملامحها تظهر مقدار التوتر الذي تعانيه :
” يا راجل ابوك قالك كده ؟؟”
” مش مصدقني ؟؟”
هز صالح رأسه وهو يسحب بعض المعجنات ذات الحشوات المختلفة يمضغها بجوع كبير :
” لا، اتحداك أما كان أبوك تف في وشك ورجع المعمل بتاعه تاني”
” لا والله احنا كنا برة البيت اساسا ”
” أيوة بس تف في وشك ورفض طبعا، ابوك اعقل من أنه يوافق على كلامك ده ”
تناول محمود بعض المخبوزات بيده :
” أيوة أيوة خرج احقادك وغلك خليها تطفح على الوش كده، سواد من جواك سواد، طول عمري كنت حاسس أنك هتولع مني اكمني بعيون ملونة وشعر اصفر وزي القمر وأنت وشك زي جوز عمتي كده ”
ابتسم صالح باستفزاز وهو يقترب منه :
” بزمتك أنت عندك جوز عمة زي القمر كده ؟؟ بعدين اللي يشوف وشك ده يقول ياما هنا وياما هناك، وأنت يا عيني عليك يا ولداه بتشد خضار ونباتات ”
وعلى بُعد صغير منهما كانت هاجر تقرض أظافرها بتوتر شديد تدور مكانها وهي تتحدث بنبرة خافتة :
” أنا قولتلك اني في المخبز يا محمد، اجبلك رانيا منين بس ؟؟”
وصل لها صوت محمد الجانب الآخر بعدما صرف السكرتير الخاص يتحدث بهدوء لكنه اثار رعب هاجر :
” هاجر، أنا مش اهبل، من امبارح كل ما اكلمك تطلعي بحجة وحاسس أنك مخبية حاجة، فين اختي وحصلها ايه يا خالتي ؟؟”
خالتي ؟؟ إذن فهو قد وصل لأقصى مراحل غضبه، ابتلعت هاجر ريقها تدعو أن تخرج من ذلك المأزق تقسم إن علم محمد ما حدث لشقيقته ليأتين ركضًا إلى القاهرة ويحطم المدينة أعلى رؤوس قاطنيها…
ويبدو أن دعاء هاجر أستجاب، حيث سمعت فورًا الباب يفتح من الخلف وأصوات رانيا تعلو …
انتبه جميع من بالمنزل أن أحدهم يدفع الباب والذي لم يكن سوى مختار الذي يمسك ثياب رانيا من الخلف بشكل مضحك وملامحه غاضبة وكأن رانيا نجحت في إخراج شياطينه ..
ألقاها مختار في المنزل بهدوء، ومن ثم نفض كفيه، واغلق الباب راحلًا بكل بساطة وكأنه أدى مهمة ثقيلة على قلبه واخيرًا انتهى منها .
نظرت رانيا للباب المغلق في وجهها بقوة، ثم استدارت لتواجه الجميع واول من سقطت عينها عليه كانت هاجر التي ركضت لها وهي تصرخ بصوت مرتفع مثير للريبة:
” رانيا يا حبيبتي ايه الصدف الحلوة دي، لسه محمد كان بيكلمني وبيسأل عليكِ ”
فتحت رانيا عينيها برعب وهي تستقبل هاتف هاجر بلهفة شديد في الوقت الذي مال صالح برأسه يحاول معرفة من ذلك محمد الذي تلهفت للحديث معه بهذا الشكل…
ثواني ورأى صالح رانيا أخرى غير تلك التي يعرفها وهي تقول بنبرة هادئة وبراءة منقطة النظير :
” محمد حبيبي وحشتني اوي ”
أجابها محمد بعدما اطمأن أنها بخير، رغم أنه ما يزال يشعر بوجود خطأ ما، لكنه يكفيه أنها بخير :
” وأنتِ كمان يا روني، أنتِ كويسة ؟؟”
” أيوة يا قلبي كويسة اوي متقلقش عليا ”
رفع صالح حاجبه وهو يحاول معرفة مع تتحدث يقترب منها يحاول استراق السمع وهو يميل نحوها بشكل جعلها ترمقه بعدم فهم، لكنها لم تستطع النطق بكلمة :
” أيوة أيوة أنا هرجع قريب متقلقش أنا بس قعدة شوية مع هاجر …خالتو قصدي قعدة شوية مع خالتو لغاية ما خالو يرجع من السفر لأنها لوحدها الفترة دي ”
اعتدل صالح في وقفته وهو يردد بتسائل وصوت واضح :
” مين محمد ده اللي بتكلميه باحترام ؟؟ ده واحد ماسك عليكِ ذلة ولا ايه ؟! بتكلمي مين وريني ”
وما كاد ينتزع الهاتف حتى وجد هاجر تركض صوبه تجذبه بقوة للخلف وهي تكاد تبكي رعبًا :
” اششش اسكت الله يكرمك، اسكت ”
نظر لها صالح بعدم فهم، وهاجر تجذب ثيابه بكل قوتها لكن ما استطاعت تحريكه خطوة واحدة، لتنظر باستجداء لمحمود :
” محمود تعالى خد صاحبك ده بعيد “
ابتسم محمود وهو يهب لتنفيذ ما تريد، فذلك هو أو طلب لزوجته المستقبلية، لذا امسك صالح من رقبته يجذبه بعيدًا عن رانيا التي كانت ترتجف حرفيًا وهي تتحدث لذلك الرجل المسمى محمد، بينما صالح كانت عينه معلقة برانيا في فضول يود معرفة من هذا الذي تتحدث معه …
” راجل ؟؟ راجل مين يا محمد ده ده …”
صمتت تكاد تبكي من صوت أخيها والذي رغم هدوءه إلا أنه مرعب، فهي تعلمه جيدًا حينما يتعلق الأمر بالرجال حولها :
” ده واحد مسكين كده ”
فتح صالح عيونه باتساع يردد صارخًا بنزق :
” مسكين ؟؟ والله أنتِ اللي مسكينة، اوعى كده يا زفت أنت والله لاروح اربيها اشوف بتكلم مين دي ”
في تلك اللحظة وحينما شعرت هاجر أن رانيا على وشك التورط في مشكلة مع أخيها اختطفت منها الهاتف :
” الو يا محمد …لا لا ده واحد على الله كده بيجيلي المحل ياخد اللي فيه النصيب كل يوم…لا طبعا ايه اللي هيخلي رانيا تتعامل معاه، هو بس مش واعي باللي بيعمله ”
رمقهما صالح بصدمة حتى رأى هاجر تغلق الهاتف، ثم اتجهت صوب رانيا تضمها بقوة وحنان :
” الحمدلله فلتنا “
تنفست رانيا بصوت مرتفع وصل لمسامع صالح الذي كان يحدق فيها بشكل غريب يحاول معرفة ما حدث منذ ثواني ومع من كانت تتحدث بكل ذلك الخوف .
رفعت رانيا عيونها في عيون صالح، لتتلاقى الاعين في لحظة غير مفهومة ولسبب غير مفهوم، وكأن كل تلك الشرارات السابقة بينهما أدت دورًا معاكسًا فبدلًا من إحداث تنافر كالعادة، تسببت في تجاذب غريب نابع من فضول صلاح وامتنان رانيا…
رانيا التي علمت جيدًا أن صالح ليس مجرد شخصٍ وقح مستهتر، بل هو أيضًا يمكنه أن يكون جيدًا إن أراد، وصالح الذي شعر وللحظة برعب رانيا وسمعها تترجاه باكية أن يساعدها بعدما وقعت في مصيبة بسببه ….
______________________
هبطت من سيارة رائد التي توقفت أمام منزلها، شعرت بقلبها ينتفض وهي ترى بعض الدماء المتجمدة على عتبة منزلها، دماء ذكرتها بذلك اليوم الذي فقدت فيه والدها …
كبتت دموعها وهي تتحرك داخل المنزل بسرعة تاركة رائد يستند على سيارته أمامه وقد أبصر بعض الجيران بدأوا يتجمعون وهم يتهامسون عليها.
” يا ختي ايه اللي رجعها دي ؟؟”
” سمعت إن ابوها يا حبة عيني مات، جوزي شغال ممرض في المستشفى اللي ابوها راح ليها وقالي أنها كانت هتموت وراه، منهم لله اللي كانوا السبب اللهي لا يتهنوا ولا يسعدوا يوم قادر يا كريم “
” البنت دي وجودها هيعمل مشاكل اكتر، ربنا يعديها على خير ”
” لسه ليها عين تدخل الحارة بعد ما حرقت قلب الناس على عيالهم؟؟ والله عشنا وشوفنا ”
” ربنا يصبرها على اللي هي فيه لسه صغيرة على كل اللي حصل ليها ”
كانت الكلمات تتراشق هنا وهناك حول رائد، البعض منها مقهور لأجلها، والبعض متشفي بها، البعض يتحسر على ما خسرت، والبعض يفرح بما خسرت، هكذا هم الناس، يتحدثون بكل شيء وأي شيء، حتى وإن كان هذا الشيء لا يعينهم ..
داخل المنزل كانت تسبيح تجمع كل ما يحتاجه وتريده، وبعد أن انتهت من جمع كل ذكرياتها في حقيبتها دخلت حجرة والدها لتبصر كل شيء كما رتبته صبيحة ذلك اليوم، سجادة الصلاة ومسبحته ذات الحبات التي بدأت نقوشها تنمحي لكثرة امساك والدها لها .
أمسكت المسبحة بيد مرتجفة تتحسس حباتها بتأثر ودموعها تتساقط عليها، رفعتها صوب شفاهها تقبلها بقوة :
” ربنا يرحمك يا حبيبي، ربنا يرحمك ويغفر لك يارب ويسكنك فسيح جناته ويجمعني بيك، ويغفر لعبدالعظيم يارب ”
أمسكت المسبحة ووضعتها داخل جيب فستانها البسيط، ثم حملت صورة والدها وصورة أخيها وصورة لهم مجتمعين ووضعتهم داخل الحقيبة ونظرت للغرفة نظرة أخيرة بقلب مقهور، ومن ثم حملت الحقيبة وتحركت صوب باب المنزل وبمجرد خروجها سارع رائد لمساعدتها وهو يقول :
” يلا نمشي من هنا ”
نظرت له تسبيح ثواني بتردد قبل أن ترفع رأسها مبتسمة، كفكفت دموعها :
” لحظة معلش ”
استدارت للجمع الذي كان يطوق منزلها وهم ينظرون لها باستنكار وقد وصل لمسامعها تساؤل حول هوية رائد وعن جرأتها لعودتها، لكنها لم تعبأ بهم :
” كويس انكم متجمعين عشان كنت حابة اقولكم حاجة، إن زي ما بعضكم اتفرج عليا أنا وابويا واحنا بننضرب وسكتوا وسدوا ودانهم عن صويتي وعياطي وصراخ ابويا، هيجي اليوم اللي تلاقوا كل الناس وقفت تتفرج عليكم وانتم في مصيبة أو كرب، أنتم اتخلقتوا عشان تعيشوا طول عمركم منزلين رووسكم للأرض، عيشتوا جُبنا وهتموتوا بجبنكم ”
نظرت في الأعين وهي تردد بكره ومقت كبير :
” ربنا يسامحكم بقى، لاني مش مسامحة اي حد كان يقدر يساعدنا وفي أيده ينقذ ابويا وفضل ساكت، ابويا مات وراح عند اللي احسن منكم وارحم بيه منكم، لكن أنتم لسه عايشين، ولسه هتشوفوا ”
أنهت حديثها وهي تتحرك لمنزلها مجددًا تحت الأعين التي تراقبها والمشاعر متباينة بينهم …
ثواني وخرجت تسبيح وهي تحمل جرة فخار اكبر واضخم من تلك التي تم تكسيرها خلفها اخر مرة، ثم توقفت أمام الجميع والقتها ارضًا ببسمة مليئة بالكره لتتحطم الجرة أسفل أقدامها وتتناثر شظاياهم امام الأعين وتقول بصوت قوي جهوري :
” المرة دي أنا اللي كسرت ( زير ) مش قُلة ورايا، لأن ميشرفنيش اقعد وسط ناس زيكم، ومش هقول غير حسبي الله ونعم الوكيل في كل شخص قال عليا أو على اهلي كلمة مش فينا، وعند الله تجتمع الخصوم “
أنهت حديثها وهي تتحرك بخطوات قوية ورأس مرفوعة صوب السيارة ورائد يراقبها ببسمة واسعة ليصفق بمجرد انتهاء حديثها وهو يرمق الجميع بسخرية، ثم صعد السيارة خلفها وتحرك بها، وتسبيح جواره تبتسم بسمة غريبة وصدرها يعلو ويهبط وعيونها تراقب المرآة الجانبية وهي توثق لها المشهد الاخير لأهالي حارتها المذهولين…
وها هي تسبيح تودع فصلًا في حياتها لتبدأ آخر، لا تدري ما يخفيه لها، لكن عساه يكون خيرًا ..
وجوارها كان رائد مبتسم سعيد وبشدة لقوتها تلك وتعهد في نفسه أنه لن يترك تلك الفتاة يومًا لغدر الزمان، لن يتركها يومًا لتنكسر، بل سيكون بالمرصاد لكل من تسول له نفسه نزع تلك النظرة القوية عن عيونها، سيحميها ولو استلزمه ذلك حياته …
_____________________
تجلس أعلى سطح القصر وهي تتمدد ارضًا تنظر للسماء، وهناك بسمة متسعة اعلى ثغرها، بسمة لم تعلم أنها تمتلكها إلا حينما قابلته وتعرفت عليه، اغمضت عيونها وهي تتنفس بصوت مرتفع تهمس :
” خلاص هانت، هانت وكل ده يخلص، هانت وكل شيء يرجع زي الاول وهانت ونخرج من الغيمة دي للنور ”
سمعت ميمو صوت اقدام يقترب من الخلف، لكنها لم تفتح عيونها، بل ظلت مغمضة تعلم جيدًا صاحب تلك الاقدام والذي لم يكن سوى مرافقها العزيز الصامت …
جلس مختار على أحد المقاعد جوارها، بينما هي لم تحاول حتى معرفة ما يريده أو السبب الذي جعله يصعد لها وقد اخذها عقلها لذكرى بعيدة، ذكرى لن يمحيها الزمان، ولو مرت قرون …
” خلاص يا ميمو يا حبيبتي انا كده خلصت كل حاجة، ارجعي أنتِ البيت عشان هتتأخري والوقت بدأ يضلم وأمك اتصلت من بدري عشان قلقانة عليكِ ”
رفعت ميمو عيونها لزوجة عمها الحبيبة والتي أصبحت ذابلة منذ رحيل ميرفت بتلك الطريقة القاسية :
” لا يا مرات عمي أنا خلصت شغلتي في البيت وكمان قولت لمازن هو هيخلص مذاكرة ويعدي ياخدني، وطالما مجاش لغاية دلوقتي يبقى لسه مسموح ليا اقعد برة ”
ابتسمت لها المرأة بسمة حنونة وهي تربت أعلى خصلات شعرها بحنان شديد وعيونها تدمع دون إرادة منها، وذكرى ابنتها تعود لها كلما تحدثت مع ميمو أو رأتها، آه يا ابنتي، يبكي القلب دمًا لبُعدك …
رفعت ميمو عيونها لزوجة عمها بعدما شعرت بصوت شهقاتها :
” مالك يا مرات عمي ؟؟ حصل حاجة ؟؟”
فتحت زوجة عمها فمها وهي على وشك التحدث، لكن فجأة وجدت من يطرق الباب بقوة وهو يصرخ بصوت مرتفع مخيف :
” الحق يا استاذ معتز، اخوك ماسك الست مراته وحالف ليقتلها ”
سقط قلب ميمو رعبًا حين سماعها لتلك الكلمات، لتنتفض من جلستها في المطبخ وتركض خارج المنزل برعب وهي تصرخ باسم والدتها وقد كان ابن عمها الأكبر والذي كان بعمر مازن يسبقها، الجميع في الشوارع يصرخ ويولول والنساء تنتحب وعالمها يدور وينهار …
توقفت أمام منزلها وكادت تدخله لولا أيدي النساء اللواتي امسكنها برعب وصوت زوجة عمها تردد بخوف :
” اصبري يا ميمو، اصبري يا بنتي ليطولك أذى، متخافيش عمك جاي و هيتصرف ”
لم تكن تلك المرة الأولى التي يثير بها والدها المشاكل بحثًا عن الأموال لأجل تجرع تلك السموم التي ادمنها، فمنذ اسبوع تقريبًا حمل السكين على والدتها وهدد بقتلها لولا نادر الذي عاد ركضًا من العمل وألقى الأموال في وجهه، ذلك الوباء الذي يُسمى والدها والذي لا يستطيعون التخلص منه …
سمعت أصوات صراخ مازن من الداخل وبكاء شقيقتها وشجار ابن عمها مع والدها، وصرخات والدتها وجميع الاصوات تزدحم وهي تبكي بين احضان زوجة عمها تنتظر انتهاء الشجار لدخول المنزل واحتضان والدتها لترمم جروحها، لكن ذلك لم يحدث، لم يمر ذلك الشجار كغيره، ففجأة أبصر الجميع انفجار مخيف ونيران تخرج كوحش من المنزل جعل الناس يركضون ويصرخون بعيدًا عن المنزل الذي بدا كما لو كان قنبلة قد انفجرت به …
عائلتها ؟؟؟؟؟ والدتها ..مازن ..نادر …الصغيرة ..ووالدها ..وايضًا ابن عمها، كلهم بالداخل، مظهر النيران والتي بدأت تلتهم جميع المنازل المحيطة انعكس في عيونها لتطلق صرخة جنونية وهي تركض صوب منزلها المحترق وتلقي بنفسها بين ألسنة اللهب….
انتفضت في تلك اللحظة ميمو من كابوسها شاهقة بصوت مرتفع تنظر حولها للظلام الذي يعم السطح وهي تتعرق وترتعش تشعر بلسعات على جسدها وكأن الحلم كان حقيقة ..
ابتلعت ريقها تنظر لمختار الذي كان هو من ايقظها يرمقها بحيرة متسائلًا عن سبب فزعها، لتغمض عيونها وهي تتسطح وجسدها بأكمله متعرق
” معرفش ايه اللي حصل، أنا بس غمضت عيني من هنا وشوفت كابوس من هنا ”
حدق فيها مختار بشفقة ثم أشار لها بعينه أنه سيذهب لإحضار شيئًا لها، وبعدها تحرك وبقيت هي مكانها، تحاول أن تتناسى كل تلك الذكريات، كادت تنجرف لمنطقة اللاعودة لولا مختار، كادت تسقط في مستنقع رأسها لولا هزة صغيرة من مختار
أغمضت عيونها تحاول الهدوء وتذكر اشياء مريحة لها، ليطرأ هو بطلته وضحكته على أفكارها جالبًا بسمة واسعة لها، لكن تلك البسمة تلاشت فجأة حينما شعرت بلسعات انفاس ساخنة جوارها وصوت خرج كالفحيح :
” بتفكري فيه صح ؟؟ الواد الصحفي اللي ماشية معاه في كل مكان، عشان بس تساعديه وتديله أدلة ضدي يثبت بيها كلامه؟؟”
فتحت ميمو عيونها بفزع وهي ترى وجه سعيد أمامها ينظر لها بشر، وما كادت تتحدث بكلمة حتى شعرت بشيء معدني يُثبت أعلى خصرها وصوت سعيد يقول بشر وكره اعماه :
” مش كل مرة هعديها ليكِ، ومش هستتى لغاية ما تعملي اسوء من كده، المرة اللي فاتت سكت، بس المرة دي لا ”
شعرت ميمو بانفاسها تتقلص شيئًا فشيء وهي تحاول الصراخ لتنادي مختار، لكن صوت سعيد قاطعها وهو يهمس بشر يُقطر من بين أحرفه :
” قولتلك موتك هيكون على أيدي يا …..يا ميمو هانم ”
حينما تحتد الصراعات تضطرب النفوس، فماذا عن صراعات النفوس، تنهض يوميًا من نومك لتبدأ روتينك في الصراع مع نفسك …
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية ما بين الألف وكوز الذرة ) اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق