رواية لولا التتيم كاملة بقلم ناهد خالد عبر مدونة كوكب الروايات
رواية لولا التتيم الفصل الثالث عشر 13
الوضع أصبح أسوء كما توقع هو تمامًا.. بعد مرور عشر دقائق كاملة وهما حبيسان لذلك المصعد اللعين، وبدأت “لليان” تتأكد من رقم الطابق المتواجدان بهِ بعدما أُطيل فصل الكهرباء، وهذا ما آثار ذعرها أكثر وهي تدرك فقدان الأمل في خروجهما من هنا.
تجلس فوق أرضية المصعد بانهيار تام، وهي تتصبب عرقًا من ارتفاع الحرارة والخوف يسبقه، ولسانها لا يردد سوى:
_ هنموت.. محدش هيعرف إننا هنا.. الأكسجين بيقل وهنموت.
جالسًا على ركبتيهِ أمامها محتضنًا وجهها بين كفيهِ يحاول إيقافها عن تفكيرها الذي يزيد من سوء الوضع:
_ اهدي يا لليان.. اهدي يا حبيبتي هنكون بخير والله.
نظرت لعيناه تستجديهما الصدق لتهدأ قليلاً فقط ولكنها ظلت تبكي وهي تقول بينما يدها تحيط بطنها:
_ ابني.. أنا مش عوزاه يم…
وضع كفه على فمها يقاطع حديثها السخيف، وابتلع ريقة ليهدأ من ذاته قبل أن يقرر أخذها في جولة من الحديث تشغلها عن كل ما يحدث حولها قليلاً، حاول الابتسام وهو يزيل كفه بينما يقول:
_ اقولك سر؟
هزت رأسها تلقائيًا بالايجاب ليكمل:
_ أنا متجوزتش عليكِ.. ولا أقدر اعملها أصلاً، أنا أقدر أبعد عنك عشان كرامتي، لكن مقدرش أتقبل واحدة تانية مكانك، بالنسبة لي الجواز والحب مقترنين بيكِ أنتِ وبس.
لم يبدو عليها الاندهاش فقط التأثر بحديثه، ليقطب حاجبيهِ متسائلاً:
_ أنتِ متفاجئتيش ليه؟
ابتسمت بالتواء تقول:
_ اقولك سر؟
ابتسامة متكاسلة ظهرت على ثغره وهو يخبرها:
_ قولي.
_ أنا كنت عارفة.. علياء طلعتلي يوم ما جيتلك لما نزلت أنتَ تجيب الشنط، وقالتلي إنك بس بتعاقبني.
تغيرت ملامحه فورًا وهو يستمع لحديثها، ليقول:
_ آه، يعني ماتمسكتيش بيَّ ولا حاجة، أنتِ أصلاً كنتِ عارفة إني مش متجوز، يعني لو عليا مقالتلكيش كان زمانك من وقتها رجعتي عند أبوكِ وانتهت حكايتنا مش كدة؟
أمسكت كف يده وهي تقول بهدوء:
_ حبيبي الست تقدر تتحمل أي حاجة إلا أنها تكتشف إن جوزها متجوز عليها أو بيخونها، معنى أعم إن ست تانية خدت مكانها في حياته.. عشان كده طبيعي مكنتش هتحمل، بس لما عرفت إنه مجرد كدبه منك عشان تشفي غليلك سكت، عشان عارفة إني غلطانة، ورغم غيظي وغيرتي الحقيقية منها لمجرد تخيلها تكون مراتك فعلاً.. بس اتقبلت وسيبتك تعمل الي حاسه هيريحك.
تمنى بداخله إن لم تفسد شقيقته عليهِ الخطة التي وضعها لاختبارها أولاً ولتأديبها ثانيًا، ولكن بعد حديثها الآن أدرك أن شقيقته لم تخطئ بالعكس أنقذت علاقتهما بشكل ما، فمن ستتقبل زواج زوجها عليها حتى وإن كانت مخطئة، كما لا يتقبل الرجل أن يدلف لحياة زوجته رجل آخر وعلاقتهما مازالت مستمرة مهما كان خطأه، فكل شئ له حدود لا يجب تخطيها وإلا ستنفلت زمام الأمور من بين يديه.
لاحظت تغير ملامحه وصمته كأنه يدير ما قالته في عقله، لتقول مدعمة موقفها:
_ كنت ممكن تختار اي طريقة تانية تطلع فيها غضبك مني، لكن دي بالذات لا يا بدر.
نظر لها بنظرة عتاب وهو يقول:
_ مش بس اطلع غضبي.. أنا كنت مستني اشوف هتتمسكِ بيَّ لفين.
ولأول مرة كانت تجيبه بلطف:
_ مش محتاج تعمل ده عشان تعرف هتمسك بيك ولا لا! أنتَ مش متخيل الي عيشته بعد ما بعدنا.. بس تعمل ايه بقى كرامتي كانت واخده موقف شوية.
قالت الأخيرة بمرح، لتنفرج ملامحه قليلاً قبل أن يسمعها تقول بتعب:
_ أنا حاسة إن نفسي بيتقل.
تلفت حوله بعجز لا يدري ما عليهِ فعله فالهواتف لا تلتقط إشارة هُنا، والمصعد مُغلق من جميع الجهات، زفر أنفاسه بقلة حيلة ثم نظر لها يطمئنها بابتسامة:
_ متخافيش يا حبيبتي هنخرج من هنا بخير.
أمسكت يده وهي تومئ برأسها تأكيدًا على حديثه وقالت:
_ بس اوعدني لو خرجنا بخير هتنهي كل الخلافات الي بينا ونرجع زي الأول بقى.
قالت الأخيرة بتعب من الوضع برِمته ليحدقها بنظرات عابسة:
_ زي الأول برضو يا لليان؟
انتبهت لقصده لتقول بنفي سريعًا:
_ لا لا قصدي نكون كويسين بس..
ضحك بهدوء قبل أن ينهض متلفتًا حوله يحاول إيجاد حل لِمَ هما فيه.. وهي تدعو الله في صمت أن ينقذهما أحد قريبًا.
________________
كان منهمكًا في أعماله ولم يفكر حتى في مهاتفتها مرة أخرى، حتى رن هاتفه بعد صمت دام لفترة ليست بقصيرة، ليتأفأف باختناق ظنًا أنها عادت لمهاتفته ولكن ما إن التقط الهاتف ورأى اسم شقيقه يزين هاتفه حتى أجاب على الفور بهدوء:
_ السلام عليكم.
أتاه الرد من الجهة الأخرى بصوت متوتر:
_ وعليكم السلام، أنتَ لسه في الشغل يا عاصم؟
قطب حاجبيهِ باستغراب وهو يجيبه:
_ ايوه، اشمعنا بتسأل؟
_ أصل لازم تيجي دلوقتي.
استشعر قلبه حدوث شئ سئ ليسأله:
_ في ايه يا نادر؟
_ مراتك تعبت شوية و..
انتفض من جلسته يهدر بأول شئ جاء في عقله:
_ وأنتَ ايه الي عرفك إن مراتي تعبانة؟
هتف على الجهة الأخرى باندهاش:
_ ده اللي يهمك! مش هتسأل حتى هي تعبانة مالها؟
ولأن غيرته تعميهِ حرفيًا الآن كان يردد بعنف أشد وهو يخرج من مكتبه:
– ما ترد يا زفت أنتَ.
زفر بضيق على الجهة الأخرى قبل أن يقول:
_ جت خبطت عليَّ يدوب فتحت الباب لقيتها وقعت قدامي ملحقتش استفسر مالها حتى، ارتاحت!
وهل له أن يعرف للراحة سبيلاً! بركان من الغضب انفجر بداخله لكنه حاول كبحه حتى.. حتى يلقاها!
وبعد فترة كان قد وصل للمبنى السكني الذي تقطن فيهِ شقتهم وحين وصل للدور الموجودة بهِ الشقة وجد رفيقه “نادر” يقف على ناصية الدرج أمام شقته المفتوح بابها، وقف أمامه وهو يسأله بأنفاس متهدجة:
_ هي فين؟
أجابه “نادر” بهدوء:
_ جوه، الدكتور لسه ماشي بيقول حمى شديدة ولو لقدر الله كانت اتأخر علاجها عن كده مكناش هنلحقها.
أغمض عيناه يتنفس بقوة لوهلة قبل أن يفتحهما وهو يسأله ثانيًة:
_ هي فين؟
تلجلج الأخير في الحديث وهو يقول مشيرًا لشقته:
_ ااه.. هي.. هي جوه، بس يعني..
قطع حديثه تحرك “عاصم” للداخل على الفور وبداخله يريد الاطمئنان عليها ولن يحدث هذا إلا حينما يراها أمامه، ولكنه توقف محله وبهتت ملامحه حين أبصرها بذلك الوضع الذي خرجت بهِ من شقتها، كانت مازالت نائمة بوجه اشتدَ احمراره وقطرات العرق تلمع على جبينها، فلم تعي للوضع الذي هي بهِ أو للواقف أمامها تتآكله نيران الغيرة، وعقله يفكر هل رآها صديقه بهذا المظهر؟ هل أباحت له رؤية مفاتنها بهذا الشكل؟ وماذا إن كان من بالشقة رجلاً آخر غريب؟ بالطبع لحدث ما لم يحمدوا عقباه..
ولأن “نارد” خير من يعلم بتفكيره كان يهتف من خلفه وهو يحافظ على ألا يلقي لو نظرة واحده تجاه الماكثة فوق فراشه، وليكن أشد حرصًا وقف بجوار باب الغرفة بحيث لا يسمح له المكان برؤية ما بداخلها، وقال:
_ عاصم ياريت تهدى وتفكر في الوضع، أنتَ لو كنت شوفتها وهي بتخبط على الباب كنت هتعرف أنها مش مدركة لأي حاجة بتحصل حواليها أصلاً، من كتر التعب الي كانت فيه كانت محتاجه أي حد ينقذها.
نظر له بجانب عيناه بملامح واجمة:
_ وكويس إنك كنت أنتَ الحد ده.
جملة غامضة لم يفهمها “نادر” جيدًا لكنه قال:
_ الحمد لله، وكويس إننا لحقناها.
وأتاه الرد أشد غموضًا:
_ إنك.. كويس إنك لحقتها.
فاض الكيل بهِ ليهتف بضيق:
_ هو في ايه يا عاصم؟ ليه حاسك بتتريق أو لهجتك فيها حاجة مش مفهومة؟!
هز رأسه بلامبالاة:
_ أكيد مبتريقش، شكرًا يا نادر.
أنهى حديثه واتجه للداخل جاذبًا الغطاء فوقها بإحكام بجسد متشدد وأعصاب بالكاد تتماسك، ورفعها بخفة بين يديهِ خارجًا بها من شقة صديقة دالفًا بها لشقته التي مازال بابها مفتوحًا..
___________
أعصابها على المحك، ودقيقة أخرى إن لم ينطق خلالها ستنهار حتمًا، لذا هتفت بعصبية وهي تجذبه من ذراعه لينظر لها:
_ ما ترد عليَّ يا يوسف في ايه؟ ابني جراله حاجة؟
ابتلع ريقه الجاف وهو يجيبها أخيرًا:
_ يونس.. اتخطف.
سقط قلبها بقدميها لتصرخ فزِعه باسم وحيدها متراجعة للخلف بخطى بطيئة حتى سقطت فوق الفراش كمن شُلت قدماه فجأة، استرعى الأمر وقتًا ربما وصل لخمس دقائق..
الصمت سائد رغم شهقات “صفية” المتعالية، وصمت “يوسف” الخارجي كان مخالفًا لثورانه الداخلي، والمتاهة التي يدور فيها، قلبه يتآكل خوفًا على طفله الوحيد، وبنفس الوقت عاجز ويداه مكبلتان عن التصرف.
وبعد هذا الصمت كان تهدأ من ذاتها وهي تسأله بضعف:
_ ليه؟ مين له مصلحة؟ هم الي كلموك دلوقتي؟
أومئ بتعب غير قادرًا على الحديث حتى، هزت رأسها بلهفة وهي تسأله:
_ طلبوا فدية يعني؟ عاوزين فلوس؟ اديهم الي عاوزينه يا يوسف المهم ابننا يرجع.
هز رأسه بأسف وهو يقول بقهر:
_ ياريت الي طالبينه فلوس.
سألته ببكاء أشد:
– اومال ايه؟ عاوزين ايه من ابني؟
هز رأسه بعجز مرددًا وهو يعطيها ظهره:
_ مش من ابنك يا صفية.. مني أنا.
نهضت بالكاد لتصل إليهِ كي تقف أمامه مباشرةً بينما عيناه تتهرب منها لكنها أصرت على المواجهه وهي تسأله:
_ عاوزين منك ايه؟
شردت عيناه للحظه قبل أن ينظر لها وهو يردد بقلة حيلة:
_ عاوزني اشترك في جريمة، بقالهم شهور بيحاولوا معايا بكل الطرق وبرفض.. عاوزني ابقى الممول لشغلهم يا صفية.
زاغت عيناها تسأله:
_ شغلهم الي هو ايه؟
نظر لعيناها مباشرةً يجيب:
_ تجارة أعضاء.
شهقة عنيفة خرجت منها كادت تزهق روحها قبل أن ترتد للخلف بصدمة وأعين جاحظةً!!
_______________
استطاع بصعوبة شديدة فتح جزء صغير من سقف المصعد ليدخل لهم بعض الهواء، لكن الهواء وحده لا يكفي، لذا بدأ يحاول عمل جلبة بشتى الطرق لجذب الانتباه تجاه المصعد، وبعد ربع ساعة تقريبًا أتاه الفرج حين شعر بأحد يقترب من المصعد ليهتف بصوتٍ عالٍ:
_ حد سامعني؟ حد يشغل الاسانسير ده.
وقفت “لليان” بتعب تستند على جسد زوجها بانتظار من هتف من خلف باب المصعد:
_ شغلوا الكهربا.
وبالفعل بعد دقيقة تقريبًا كانت الكهرباء قد عادت وضغط الأول على زر المصعد لينفتح بابه، فهالهم ما رأوه.. أشبه بقتال شوارع عنيف! أو كمجزرة في أحد الأحياء الشعبية! إناس تساقطت أجسادهم أرضًا وأخرين ما زالوا تحت وطأة القتال، لتهتف “لليان” بفزع:
_ اقفل الباب تاني.
وردد “بدر” باندهاش:
_ ايه الي بيحصل ده؟
هتف ذلك الرجل المنمق في ثيابه وأسلوبه الواقف أمامهما بكل ثبات وكأن ما يحدث خلفه لا يشغل له بالاً:
_ أظن لو اتحركتوا افيدلكم!
انتبه “بدر” لحديثه فقال:
_ ينفع ننزل بالاسانسير؟
ابتسم بهدوء تام مجيبًا:
_ لا انتوا هتشرفونا شوية لحد الحوار ده ما يخلص، على الاقل عشان اضمنلكوا السلامة.
وانهى حديثه متحركًا من أمامهما ليهتف “بدر” عاليًا:
_ ايه الي يخليني أثق فيك؟
التف له نصف التفاته قائلاً:
_ متثقش.
_ بدر!
هتفت بها “لليان” بقلق، ليجيبها:
_ لازم نتحرك، مفيش حل تاني.
وبالفعل أتبعاه دون أدنى علم بالآتي!!
توقف أمام باب أحد الغرف وفتحها مشيرُا لهم بالدلوف، وما إن فعلوا حتى كاد يغلق الباب ليوقفه “بدر” متسائلاً:
_ هو أنتَ ضابط؟
فهيئته وطريقته غير السلاح الذي يحمله أوحت له بهذا، ليبتسم الأخير وهو يقول:
_ كنت.
وأغلق الباب ملتفًا للمعركة الدائرة خلفه ليتجه بخطوات واثقة للإنخراط بها.. وحل الأمر.
_______________
_ اشمعنا أنتَ؟
_ عشان أنا جراح عام، وأكتر جراح بيعمل عمليات في المستشفى يعتبر، يعني هفيدهم.. هنوعلهم، فهمتي؟
شعرت بالاشمئزاز من مجرد تخيل الأمر، وظلت صامته لثواني قبل أن تنظر له ببهوت وهي تقول:
_ يعني ايه؟ يعني ابننا ضاع؟ ده وقع في ايد ناس مش هترحمه ولا هترحمنا، لو منفذتش الي هم عاوزينه هي…
صمتت منهاره في البكاء ولم تستطع الإكمال ليقترب منها محيطًا ذراعيها بكفيهِ وهو يقول بدموع عرفت طريقها لعيناه:
_ أوعدك يا صفية إني مش هسمح إن ابني يتأذي، هعمل اي حاجة عشان يرجعلنا.
توقف عن البكاء تنظر له بنظرات غامضة قبل أن يتلون وجهها بالغضب وهي تمسك بياقة قميصه بقوة جاذبة إياه تجاهها!!!
________________
ونفس القبضه باختلاف الأشخاص كانت تحدث الآن في مكان آخر، حين قبض كفه على خصلاتها بقوة حتى كاد يقتلعها وعيناه تضئ بشرارات الغضب التي بدت ستحرقها.. وهي فقط مصدومة من رد فعله، فلم تتوقع أن يرفع يده عليها يومًا!!
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية لولا التتيم ) اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق