رواية جبر السلسبيل الفصل التاسع 9 بقلم نسمة مالك
رواية جبر السلسبيل الفصل التاسع 9 بقلم نسمة مالك
انقبض قلب "عبد الجبار" حين رأي ملامح الطبيب المتأثرة فور خروجه من غرفة "سلسبيل" برفقة الطاقم الطبي الخاص به، يبدو أن حالتها تُبشر بخطر قادم، يخشي حتي أن يتوقعه فأوهم نفسه أنها لربما تزيد من دلالها حتي ينتبه لها، و يكف عن التظاهر بتبلد مشاعره تجاهها..
غير مدرك أنها لا تفقه أي شيءٍ عن الغنچ، كانت القسوة تحاوطها من كل جانب أنساتها أنوثتها..
تتغلل بداخلها أمور موجعة، تراكمت بأعماق قلبها يومًا بعد يوم حتي أصبحت قاتله..
وقف أمام الطبيب بملامح صلبه، جامدة و قد تفنن في إخفاء فزعه، و ارتعاد قلبه عليها، حل الصمت للحظات قبل أن يتحدث الطبيب قائلاً بأسف..
"مخبيش عليك يا عبد الجبار بيه الهانم الصغيرة حالتها مطمنش أبدًا!!!"..
ساد الصمت ثانيةً، فقال "عبد الجبار" بنفاذ صبر..
"اتحدد طوالي يا دكتُور الله يرضى عنِك"..
"واضح أنها اتعرضت لعنف شديد لفترات طويلة أدى لشروخ في معظم ضلوعها، و جروح في جسمها كله تقريبًا، و متعلجتش بطريقة صحيحة منهم و دا مسبب لها ألم شديد جدًا حاليًا خصوصًا شرخ الضلع دا لو متعلجش صح بيكون ألمه أقوي من ألم الكسر"..
صمت لبرهةٍ يلتقط أنفاسه و من ثم تابع..
" كمان لون شفايفها أزرق، بتغيب عن الوعي رغم المحاليل اللي في ايديها، نبضات قلبها بطيئة بدرجة تقلق و دي علامة غير مبشرة على الإطلاق.. علشان كده الأفضل أنها تتنقل المستشفى حالاً يا عبد الجبار بيه"..
حديثه هبط على سمعه كالصاعقة زلزلت كيانه كله دفعه واحدة،أنعقد لسانه و بخاطره يدور ألاف الأسئلة لم يحصل لهم على أي إجابة،
رغم الضجيج و الصراع القوي الذي بداخله، إلا أن ملامحه هادئة، تنحنح بصوتٍ عالٍ كمحاوله منه لإيجاد صوته و هو يقول مستفسرًا..
" هي حالتها خطرة قوي أكده !!!"..
أومأ له الطبيب مردفًا بتحذير..
"و أي تأخير مش هيكون في صالحها.. فاسمحلي أكلم المستشفى تبعتلنا عربية أسعاف"..
كانت "بخيتة" تستمع لحديثهما بترقب، و حين وصل لسمعها الجملة الأخيرة اقتربت منهما و تحدثت بغضب قائلة..
"أسعاف أيه، و مستشفى أيه يا عبد الچبار.. قولتلك هي بقالها فترة على أكده.. تتنيها نعسانه يومين و بعدها بتفوق و بتبقي زي القردة"..
" يعني كمان الحالة دي مش أول مرة تحصلها!!"..
أردف بها الطبيب مدهوشًا.. لتجيبه "بخيتة" بلا مبالاه..
"أِيوة.. حُصلت ياما قبل سابق و كنا بنهملها تفوق لحالها"..
نظر الطبيب ل" عبد الجبار " الذي ينظر لوالدته بأعين منذهلة، عقله غير قادر على استيعاب أفعالها، و جحود قلبها، تقف بكل بجاحة و تخبرهم أن حالتها الخطيرة تكررت مرات متعددة، و هي على علم أنها سبب أساسي فيما يحدث مع تلك الصغيرة!!!
رباه!!!!..
لقد وصل غضبه لزروته من قسوتها الجبارة فنفجر فجأة صائحًا..
"الرررحمة يا أمه أحب على يدك"..
نظر للطبيب، و تابع بأمر..
"أعمل اللي هيكون صالح ليها يا دكتور"..
الطبيب بتوتر من غضبه العارم.. "أمرك يا عبد الجبار بيه.. هكلم المستشفى يبعتوا الإسعاف حالاً"..
بينما هرول "عبد الجبار" تجاه غرفة "سلسبيل" تحت نظرات "بخيتة" المغتاظة، و طرق على الباب المغلق مرددًا بلهجة هادئة لم تخفي غضبه، و قلقه الظاهر بنبرته الحادة..
" چهزي سلسبيل يا خضرا"..
جملته وصلت لسمع" خضرا " الجالسة بجوار تلك الغائبة عن الدنيا تبكي بصمت على حالها، أسرعت نحو الباب و فتحته بحذر، طلت له برأسها و أردفت مستفسرة..
"أچهزها لأيه يا خوي؟!"..
قبض على كفه بقوة عل قلبه يفهم إشارته و لا يفلت منه أي تأثرًا أو خوفًا و هو يجيبها..
" الإسعاف چاية في الطريق.. هننقلها المستشفي"..
أجهشت "خضرا" بالبكاء و هي تقول..
"تبجي حالتها خطرة.. يا جلبي يا خيتي..قولتلك البنتة قاطعة النفس يا عبد الچبار، و ماعوزاش تفوق واصل"..
"همي يا خضرا چهزيها على ما أغير خلجاتي و أعَود"..
قالها و هو يسير بخطوات واسعة نحو الدرج، كان سيره حثيثًا أقرب إلى الهرولة، لا يري أمامه من شدة إنفعالاته المتضاربة، صعد كل ثلاث درجات معًا حتي وصل لباب غرفته و دفعه بقوة، و دلف للداخل بأنفاس متهدجة..
رفع كلتا يديه و مسح على وجهه و شعره بعصبية مفرطة، و هو يدور حول نفسه مرددًا أسمها بلهفة..
"سلسبيل.. أيه اللي صابك يا حبة الجلب!!!"..
صدح صوت سيارة الإسعاف معلنة عن أقترابها، فقفز تجاه الخزانه، و جلب أول شيء وقعت عليه يده، و خلع جلبابه بلمح البصر، و ارتدي سروال أسود، و قميص أبيض، و حذاء كلاسيكي أسود،اندفع لخارج الغرفه راكضًا و هو يغلق أزرار قميصه ، و يرتدي حزامه الأسود الجلدي..
" چهزتيها يا خضرا".. قالها قبل أن يخطو لداخل الغرفة المفتوحة، حركت رأسها له بالايجاب، فحبس أنفاسه قبل أن يدلف للداخل،
أقبل عليهما بخطواته الواسعة ، كان القلق واضحًا على مرآي تعابير وجهه الغضوب، عينيه لم تنظر تجاه تلك الراقدة و لو بنظرة خاطفة رغم أنه أصبح واقفًا بجوار فراشها.. كان يثني أكمام قميصه لمرفقيه، خلع ساعته و أعطها ل "خضرا" فعلمت حينها أنه لن يدع أحد غيره يحملها..
أبتلعت غصه مريرة بحلقها، و أخذت منه الساعة وضعتها على طاولة صغيرة جوارها، و همست بتقطع من بين شهقاتها..
" أني مههملهاش.. هچي معاها يا عبد الچبار"..
تكلف "عبد الجبار" الابتسامة و هو يرفع رأسه و ينظر لها مغمغمًا..
"طول عمرك أصيلة يا ست الناس"..
"جاهزين يا عبد الجبار بيه؟"..
كان هذا صوت الطبيب صدح من خارج الغرفة.. لم يأتيه رد من "عبد الجبار" الذي كان يتطلع لزوجته بنظرة تفاهمتها هي جيدًا .. ينتظر موافقتها ليحمل" سلسبيل" بنفسه..
"هم يا خوي خلينا نطمن عليها"..
قالتها و هي تعدل من وضع" سلسبيل " ليتمكن من حملها، و أخيراً استدار تجاهها، و هبط بعينيه حتي وقع نظره عليها، حينها تمزق قلبه لأشلاء عندما رأي مدي تطور حالتها للأعياء الشديد..
أخذ نفس عميق قبل أن يميل عليها ويحتويها بين ذراعيه، و يحملها بمنتهي الخفة كريشة يتخطفها الهواء، ارتخي جسدها البارد على عضلات صدره التي تنبعث منها دفئ صارد من نيران تتأجج داخل قلبه،رغم جمود و صلابة قسمات وجهه..
سار بها بخطي واثقه لخارج الغرفة، و من ثم لخارج المنزل بأكمله بجواره تسير "خضرا" متعمدة رفع رأسها بشموخ أمام نظرات "بخيتة" الساخطة.. فالمرأه بطبيعتها أكثر من الرجل استمساكاً بالقيم الأخلاقية،
كالغصن الرطب تميل إلى كل جانب مع الرياح، ولكنها لا تنكسر في العاصفة..
.............................................صلِ على الحبيب 💐....
مرت ساعات طويلة بالمستشفى بين الكثير من الفحوصات الدقيقة، الأشاعات، التحاليل،
فريق طبي كامل متكامل مشرف على حالتها بأمر من "عبد الجبار" الواقف أمام غرفتها مستند بظهره على الحائط عينيه تطلع للباب المغلق ينتظر على مضض خروج أي شخص يطمئن قلبه عليها و لو قليلاً،
بينما "خضرا" تجلس على مقعد أمامه تتابع ما يحدث بقلب مرتعد، و نظرات مذعورة، تضرب على صدرها تاره، و على ركبتيها تاره، و تبكي تاره أخرى مرددة..
"يارب سلم.. يارب أقلبها مقلب سلامة"..
كان الجميع يعمل على قدم وساق، و قد صدح صوت الإنذار معلنًا عن حالة طوارئ حرجة، و تدافع طاقم أخر من الأطباء نحو غرفتها بحالة من التوتر و الأرتباك ..
لهنا ولم يعد قادرًا على التحكم بأعصابة أكثر من ذلك، و انفجر صائحًا و هو يقبض على إحدي الأطباء أمسكه من تلابيبه..
"حد يرد على يقولي أيه اللي بيُحصل!!!"..
أجابه الطبيب على الفور بخوفٍ ظاهر.. "للأسف الحالة حرجة جدًا عضلة القلب متضخمة، و النبض ضعيف جدًا و لازم تدخل العناية حالاً"..
"يا مري..يا مري. يا مري"..صرخت بها "خضرا" و هي تطلم خديها، بينما وقف "عبد الجبار" بملامح جامدة، لم يبدي أي رد فعل سوي الصمت، الصمت التام،
لينفتح باب غرفتها و خرجت "سلسبيل " الممددة على سرير يدفعوه الأطباء بهرولة راكضين من أمام عينيه المتحجرة التي تتابعها بهدوء مريب، لتزداد صرخات "خضرا" أكثر جعلته يخطفها داخل حضنه دون أن ينطق بحرف واحد، يستمع لنواحها تردد بقلب يعتصر على تلك الصغيرة..
"اسم الله عليكِ ياللي الوچع كادك..مالك تشيل عينك تكب دموع ياريتني حكيم ومعايا دوا الموچوع"..
تطلعت لزوجها بقلب ملتاع على حالته، انهمرت العبرات من عينيها، و هي تشد أزره قائلة..
"هطيب بإذن المولي .. سلسبيل هتبقي زينة يا عبد الچبار و هتعقد عليها و تچيب منِها بدل الواد عشرة يا خوي"..
نظر لها كالتائهه فرفعت يدها و مسحت على جبينه بكفها مسحة حنان حين همس لها بخفوت بصوت يملؤه الألم..
"سلسبيل.. سلسبيل يا خضرا"..
يتبع الفصل التالي اضغط هنا
الفهرس يحتوي علي جميع فصول الرواية " رواية جبر السلسبيل" اضغط علي اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق