رواية المرآة وابنة الشماس البارت الأخير بقلم أحلام حسين غنيمات
رواية المرآة وابنة الشماس الفصل الأخير
وصل الشماس إلى الباب وبدأ النداء قائلًا:
_ حسن، حسن، بني، أرجوك، أجبني.
لكن الشماس لم يجد ردًا من حسن، فتابع نداءاته، إلى أن أُصيب قلبه باليأس، فاستمر بالنداء وقلبه يتآكل خوفًا على ابنته.
_ حسن، أجبني رجاءً، شموس تُحتضر، لم يعد هناك وقت، بني ساعدني رجاءً، سأفقد روحي معها، لن أستطيع الصمود بدونها، هي النسمة الرقراقة، التي حلَّت على عالمي وأنارته، كما أنارت الأمل بداخلي، وصمدت بعد خساراتي المتتالية، من شقيق، لابنة ورفيقها، بني، بنيييييييييي، أجبني، ليجبني أحد، ابنتي تموت، تموت وأنا أقف مكتوف الأيدي، لم يكن اتفاقنا هكذا حسن، اتفقنا على اجابتك متى أردت، أين أنت؟ أين والدتك؟ أين أنتم جميعًا؟ ألا يوجد من يسمعني، ابنتي تحتضر، شموس تموت، من ربيتها على يدّاي تموت، تموت لأجلي، ترحل مفارقةً إياي، ساعدوني، ليساعدني أحد، أي أحد، فليجب أحدكم، حساااااااااااااااااان.
لينهار الشماس، ويسقط أرضًا بأعين دامعة، لشعوره بفقدٍ قريب، لمن كانت عوضه الجميل، وقرة عينه، ولم يعلم بأن حسن ووالدته في هذا الوقت، كانا يهتمان بأمر الخزانة، وإعادتها لمكانها الصحيح؛ حتى تستطيع شموس العبور، عائدة لمنزلها وعائلتها وعالمها الرئيس، وأثناء انهياره فُتح الباب من الطرف الآخر، متعامدًا متوازيًا لعودة شموس.
فتح حسن باب الخزانة، لتقع عيناه على مرآتها، فيجد أمام ناظريه الشماس أرضًا، فيستعجب لذلك! ما الذي جعل من ذاك الرجل الشامخ يسقط أرضًا بهذه الشاكلة، ليبدأ القلق في زيارة جنباته، أحدث شيء سيء بغيابه؟ هل أصيبت خاطفته؟ أم لم تستطع المقاومة ورحلت؟ هنا ثارَّ قلبه واستنكر، فبدأ بنداء الشماس صارخًا:
_ ماذا حدث؟ لما أنت هكذا؟
وما أن استمع الشماس لصوت حسن؛ حتى هبَّ واقفًا على قدميه، فرِحًا بسماع صوته، فها قد عاد أمله بإنقاذ ابنته.
_ حسن، بني، أخيرًا، هيا، هيا، لم يعد لدينا وقت، فشموس بخطر، ولم تعد تستطيع المقاومة، عليك بالعودة رجاءً.
_ كيف أعود؟ ألم نتفق على عودتي، كي أستطيع المحاولة والبحث لعودتها، وها أنا أفتح لها باب العبور.
_ حدث الكثير بغيابك بني، شموس مصابة، وجسدها لم يعد يستطيع المقاومة، من أثر إصابتها، وأثر ابتعادك عن العالم كما تعلم، ولا حل لمساعدتها، سوى عودتك ليقاوم جسدها، فربما استطاعت تخطي الإصابة إثر المقاومة.
كل ذاك الحديث، وأنوار تستمع للحديث والخوف ينهش بقلبها، كقط رُميت له قطعة لحم، فبدأ بنهشها حتى قطعها إربًا، فما كان منها سوى أن صرخت، وتعالى صوت نحيبها، ليبدأ محمود بتهدأتها، وبث بعضٍ من طمأنينة، علَّها تستكين، فلفت صوت نحيبها العالي الشماس، ليتساءل مابها، فيخبره حسن بأنها والدته وشقيقة شموس بنفس الوقت.
_ اذهب بني سريعًا أرجوك، أعدها لي، أعدها فأنا أشتاق لها، هي من بقيت لي من والدّاي، لقد فقدناها منذ زمن بعيد، ولا أودّ تكرار التجربة، واستطعام نفس شعور الألم والحسرة.
ليقاطعها الشماس مخبرًا، بأن بإمكان الجميع العبور مع حسن، لكن عليهم التأكد بأن باب العبور لن يُغلق خلفهم، فتأكد محمود من غلق أبواب المنزل جميعها بنوافذها، ليبدأ عبورهم بنطق الشماس الكلمات السرية، وتبدأ رحلة عابرين جدد بأرض الشماس، وأثناء طريقهم للوصول لشموس، أخبر الشماس حسن بما حدث بغيابه، ليتقطع قلبه حزنًا على مالكته، وما عانت بغيابه.
وصل الجميع لمكان تواجد شموس، فأسرعت أنوار بالاقتراب من شقيقتها المفقودة منذ الطفولة باكية، وبدأت بِتَلمُسِّها وتقبيلها، والدعاء لها بالشفاء، ولكن شموس في إغماءتها المرضية، غير واعية لما يحدث حولها، أما حسن حين وقعت عيناه على مالكة قلبه، اغتص قلبه وجعًا عليها؛ لما آلت إليه بغيابه، فاقترب منها وكله ينتفض خوفًا من فقدانها، ورغم غياب شموس عن الوعي، إلا أن الختم بدء يبث القدرة في جسدها؛ ليبدأ المقاومة بتواجد القرين الرفيق لها بهذا العالم.
_ ظِلال، يا خاطفة، هيا قاومي، أنا هنا، لا تتركيني بعد أن وجدتك، لا تستسلمي، لأجلي ولأجل الجميع، ولأجل شقيقتك البكاءة أيضًا، انظري إليها، ها قد جلبتها معي، لم أكن أعلم بأن والدتي هي شقيقتك، كنت أشعر قبلًا بأنك تُشبهين أحدهم، والآن علمت السبب، فتقاسيم وجهيكُما متشابهة، لكن كُلٌ منكما في مرحلةٍ عمرية، هيا استيقظي لِتَريّها، وتتكحل عينا كُلٍ منكما بالأخرى، هيا خاطفتي هيا.
_ أجل عزيزتي قاومي لأجلنا، ولأجل والدك، ألا يملك عليكِ الحق بالإجابة، هيا صغيرتي، فأنا أشتاقُك، ولم أعد أتحمل فِراقِ لرؤية عيناكِ وابتسامتك، أفيقي طفلتي هيا أفيقي.
_ دُميتي، ألا تودّين رؤيتي، أذكر ملاعبتي لك، ما زلت اذكرها، وأحيا على ذكراها، لا تحرميني من صنع ذكريات جديدة معك، أقسم أنني أموت لو فارقتني من جديد، لا تفعليها دُميتي لا تفعلي، فلن أطيق على ذاك، لم أُطق صبرًا، حين أخبرني ذاك الأبله بوجودك، وكان يتفنن بالتغزل بك أمامي ووصفه إياك بالخاطفة، ماذا فعلت بذاك الجلمود؟ لقد حركت ما لم تستطع عليه غيرك، وللحق فأنت أصبحت شابة فتية، تَسرُ عَينَ من رآها، وله الحق بأن يفقد توازنه كما قال.
وأثناء حديث الجميع، كانت خلايا شموس تتحفز؛ لسماعها صوت من تهوى، وصوت والدها الحنون الحاني، وصوتٌ غاب عن مسامعها لسنون، صوتٌ رجت كثيرًا العودة لأحضانه، فبدأ جفناها بالإنشقاق قليلًا قليلًا، إلى أن ظهرت حدقتا عيناها، المطالعتان ما حولها، فسقطت على عينا من اشتاقه القلب، لكنها تذكرت تخليه عنها واختياره المجحف بحقها، فأشاحت ببصرها عنه متجنبةً إياه، حزينةً على ما كان منه، فوقعت عيناها على والدها، فرفعت يدها له، حتى يقترب منها، فما كان منه إلا أن لبى دعوتها على عجل، محتضنًا إياها بين ذراعاه، تتنازع المشاعر بين جنبات صدره فرحًا بعودتها سالمة، لتنتزعها أنوار من أحضانه وتُدخلها بأحضانها، لتحتل الصدمة شموس، متساءلة عن من تكون؟ لتعلم بأنها شقيقتها ومن كانت كأم أخرى لها، لتبادلها الاحتضان بلهفة المشتاق، ومن أكثر منها اشتياقًا، فقد ملَّ الشوق منها كما ملت منه.
_ أنوار، حبيبتي، كم اشتقت لك، واشتقت لمشاكستي إياكِ.
_ وأنا دُميتي، وأنا أكثر.
لتنتزع شموس نفسها من أحضان شقيقتها، وتنظر بأرجاء المكان باحثة عن والديها فتتساءل:
_ أين والدّاي؟ لما لم يحضرا معك؟ لقد اشتقت لهم كثيرًا.
لِتُخفض أنوار رأسها قليلًا، ثم ترفعه قائلة:
_ دُميتي، والدّانا توفاهم الله منذ زمن بعيد، فلم يستطيعا تحمل فِراقك.
لتتساقط الدموع من عينا شموس، حزنًا على أغلى الأحبة، من كانت تتمنى لقاءهم، لكن انتُزِع الأمل الآن، بعلمها أنها ما عادَّ بإمكانها ذاك، ليعود الشماس لاحتضانها مواسيًا، لِيُعلِمها به أنه ما زال هنا بجانبها، وهو والدها وهي ستبقى ابنته مهما حدث.
وهناك حيث العاشق الفريد وحليلته، نعود لنستعلم عن أحوالهم بعد ذاك الاعتراف، الذي فاجئته به قلب الماس خاصته، وبعد أن قُضي اليوم، وانتهت النزهة التي بدأت باعتراف أشرق به يومهم، عادَّا متشابكي الأيدّي للمنزل، لِيُغلق باب غرفتهم، وتبدأ القلوب بالارتجاف، منها الخجلة ومنها المشتاقة لإثبات ما سمعت؛ ليرتاح قلبه وتستكين نفسه.
_ قلب الماس، هل ما قلته أمام ذاك الأحمق صحيح؟
_ أيٍّ منهم؟ قلت الكثير.
_ لا تتلاعبي بالله عليك، تعلمين ما أقصد، وتعلمين شوقي لسماعها منك، فهلا قلتِها، أودّ منكِ اعترافًا صريحًا قويًا، كما حدّث أمام الأحمق، ألا أستحق.
_ نعم تستحق،ولقد وهبتك قلبي لأنك تستحق، وأخبرك بأني احبك، ولم أعلم بأني لم أحب قبلًا، إلا حين شعرت بغزوك على قلبي، وتمكنك من احتلاله.
_ يا الله، يا الله، ما أعذبها، لم أعلم بأنها ستكون بتلك العذوبة، كرريها ولا تتوقفي.
لتقترب قلب الماس ممن غزى قلبها واحتله، وتهمس بأذنه بصوت عذب، مكررة الاعتراف بحبه، وتقترب أكثر قائلة له:
الحروف تتكلم بصمتٍ شديد
لِتلوذ الى روح عاشقٍ فريد
مُحَدِّثَةً عنه ما يريد
حروف فكلمات باتت تقول
أليس للعشاق قلب يقول
ليعلم معتز، بأن قلب الماس قرأت كتاباته، ويُسدل الستار على من حَقَّ الوصل له الآن...
بدأ جسد شموس بالتعافي، وأصبحت أفضل من ذي قبل، وبدأت بالتنقل هنا وهناك، وما أدخل السرور على قلبها؛ تواجد أنوار بالقرب منها واحتضانها لها، وتعويضها عن سنوات البعد، لكنها كانت تتجنب حسن، وتتجنب تواجدها معه بأي مكان، فما زال قلبها حزينًا لاختياره ذاك، وقد لاحظ الشماس ذلك الأمر، وتوجه لها ليتحدث معها بالأمر.
_ ابنتي، كيف أنتِ الآن؟
_ بخير أبي، هل هناك شيء؟ أرى بعينيك حديثًا، أخبرني به.
_ لما تقومين بتجنب حسن؟ والأماكن المتواجد بها.
_ ولما أتواجد بمكان واحد مع من لا يُفضل تواجدي بحياته، واختار البعد رغم علمه بأنني سأفقد حياتي به.
_ لكنك تظلمينه، فلم يختر البعد، بل فُرِض عليه مني.
صعقت شموس برد والدها، وتساءلت: كيف فُرِض منك عفوًا، لم أفهم.
_ حين خُتمتي بختم العقرب الحارق، بقيت أفكر كثيرًا، كيف لي أن أنقذ حياتك؟ ولم أجد أفضل من مساعدة يقدمها حسن، بأن يعود لأرضه باحثًا عن عائلتك وباب عبورك، لكنه رفض خوفًا من أن تفقدي حياتك، فأجبرته على ذلك، لأنه الحل الوحيد بأن تتخلصي من سيطرة الختم عليك، وكان علينا أن نجد وسيلة، كي نُبقي على مقاومة جسدك بغيابه، فما كان منا إلا أن صنعنا قلادة من دم حسن وبعض من أشياء تخصه، تقوم على شعورك بقربه منك، وتبعث على المقاومة لجسدك أثناء غيابه، وما كانت سوى القلادة التي قلدتك إياها بعد مغادرته، ورفضك أي حديث منه.
_ لهذا كنت هادئًا لاختياره، وهذا يعني بأنه اختارني ولم يختر غيري، عبر لأجلي، لكن لما لم تخبرني؟
_ أجل لهذا، ولم أخبرك؛ حتى لا يتمكن العابر الآخر من معرفة ذلك، فسيطرته عليك وعلى عقلك كانت كبيرة، وأردت أن يظهر الأمر وكأن حسن تخلى عنك أمامه لربما أخطأ وعرفنا من هو، لكنه نزع سيطرته بمجرد رؤيته لك تُصيبينني وأسقط، والآن هلا تحدثت مع حسن، وعدتي لسابق عهدك معه.
_ بالتأكيد أبي.
قالتها شموس والفرحة ملأت ملامحها، ومعرفتها لحقيقة الأمر أثلجت صدرها، فأخذت طريقها متوجهة للقاء مالك الختم والقلب، فما إن وصلت حتى وجدته مُنكس الرأس حزين، فاقتربت على مهل منه لا تعلم كيف تبدأ الحديث معه، ومع اقترابها شعر بها حسن، وكأن قرع خطواتها سمفونية النبض لقلبه، ليرفع رأسه فيراها أمامه بهيةً كما عادتها.
_ حسن.
_ روحه ونبضه.
لتخفض رأسها مع ابتسامة خجول زينت ثغرها.
_ تأخرتِ يا خاطفة، ظننت أن لا حديث ولا قرب بعد اليوم.
_ لما؟
_ وتتساءلين، ماذا فعلتِ بقلبي بهجرانك وجفائك معه دونًا عن الجميع؟ أعلم بأن الأمر كان صعبًا، لكن لم أختر البعد أقسم.
_ علمت، وآسفة لما صدر مني، وأشكرك لما فعلت لأجلي.
_ وهل يُشكر المُحب لانقاذ روحه؟ لم أفعل سوى أنني أنقذت نفسي من الهلاك يا خاطفة، والآن أريد المقابل رجاءً.
لتحتار شموس بالمقابل الذي يريده منها، وهو قد أخبرها للتو بألا تشكره.
_ لا تحتاري يا خاطفة، فلا يريد قلبي سوى الوصل ممن ملكته.
لتتورد وجنتا شموس من مطلب حسن، لتستدير مغادرة، وقبل أن تبتعد تخبره بأن يتوجه لوالدها مكررًا مطلبه منه، فذهب حسن للشماس، وتم الأمر بحضور الجميع، فامتلأ عالم الشماس بالبهجة، لاقتران كل من مالكا الختم ببعضهم، وتتويج علاقتهم بالوصل الجميل الحلال، وبعد أن تم كل ذاك، حانت لحظة عودة العابرون لأرضهم، ولحظة افتراق الأب عن ابنته، تلك اللحظة التي امتلأت بها المشاعر، لكن آن الأوان أن يعود كل شيء لنِصابه.
_ عزيزتي، غاليتي وعوضي الجميل، طفلتي الأقرب لقلبي، سيري ببركة مني، ودعاء غير منقطع بتوفيق الأمر، ورجاءً بلقاءٍ أجمل، لا تقطعي الود بيننا، واستمري بالقدوم، عالمي باستقبالك ما حييت.
_ بالتأكيد أبي، سآتيك دومًا، وكيف لي بأن أنسى من احتضنني وعاملني كابنة؟ أنت أبي وستبقى كذلك ما حييت.
ودّع الشماس الجميع، وعبروا وعبرت شموس، مع قدوم أحد حرس الشماس، يخبره بأن هناك طفلًا ولِد، لكن لم يظهر على عنقه أي ختم، رغم أن هناك مواليد غيره وُلِدوا اليوم ويمتلك كُلًا منهم ختمًا، ليعلم الشماس أن بوابة العبور لم تُغلق بعد، وهناك ما سيكشفه المستقبل بالتأكيد.
_ حسن، حسن، بني، أرجوك، أجبني.
لكن الشماس لم يجد ردًا من حسن، فتابع نداءاته، إلى أن أُصيب قلبه باليأس، فاستمر بالنداء وقلبه يتآكل خوفًا على ابنته.
_ حسن، أجبني رجاءً، شموس تُحتضر، لم يعد هناك وقت، بني ساعدني رجاءً، سأفقد روحي معها، لن أستطيع الصمود بدونها، هي النسمة الرقراقة، التي حلَّت على عالمي وأنارته، كما أنارت الأمل بداخلي، وصمدت بعد خساراتي المتتالية، من شقيق، لابنة ورفيقها، بني، بنيييييييييي، أجبني، ليجبني أحد، ابنتي تموت، تموت وأنا أقف مكتوف الأيدي، لم يكن اتفاقنا هكذا حسن، اتفقنا على اجابتك متى أردت، أين أنت؟ أين والدتك؟ أين أنتم جميعًا؟ ألا يوجد من يسمعني، ابنتي تحتضر، شموس تموت، من ربيتها على يدّاي تموت، تموت لأجلي، ترحل مفارقةً إياي، ساعدوني، ليساعدني أحد، أي أحد، فليجب أحدكم، حساااااااااااااااااان.
لينهار الشماس، ويسقط أرضًا بأعين دامعة، لشعوره بفقدٍ قريب، لمن كانت عوضه الجميل، وقرة عينه، ولم يعلم بأن حسن ووالدته في هذا الوقت، كانا يهتمان بأمر الخزانة، وإعادتها لمكانها الصحيح؛ حتى تستطيع شموس العبور، عائدة لمنزلها وعائلتها وعالمها الرئيس، وأثناء انهياره فُتح الباب من الطرف الآخر، متعامدًا متوازيًا لعودة شموس.
فتح حسن باب الخزانة، لتقع عيناه على مرآتها، فيجد أمام ناظريه الشماس أرضًا، فيستعجب لذلك! ما الذي جعل من ذاك الرجل الشامخ يسقط أرضًا بهذه الشاكلة، ليبدأ القلق في زيارة جنباته، أحدث شيء سيء بغيابه؟ هل أصيبت خاطفته؟ أم لم تستطع المقاومة ورحلت؟ هنا ثارَّ قلبه واستنكر، فبدأ بنداء الشماس صارخًا:
_ ماذا حدث؟ لما أنت هكذا؟
وما أن استمع الشماس لصوت حسن؛ حتى هبَّ واقفًا على قدميه، فرِحًا بسماع صوته، فها قد عاد أمله بإنقاذ ابنته.
_ حسن، بني، أخيرًا، هيا، هيا، لم يعد لدينا وقت، فشموس بخطر، ولم تعد تستطيع المقاومة، عليك بالعودة رجاءً.
_ كيف أعود؟ ألم نتفق على عودتي، كي أستطيع المحاولة والبحث لعودتها، وها أنا أفتح لها باب العبور.
_ حدث الكثير بغيابك بني، شموس مصابة، وجسدها لم يعد يستطيع المقاومة، من أثر إصابتها، وأثر ابتعادك عن العالم كما تعلم، ولا حل لمساعدتها، سوى عودتك ليقاوم جسدها، فربما استطاعت تخطي الإصابة إثر المقاومة.
كل ذاك الحديث، وأنوار تستمع للحديث والخوف ينهش بقلبها، كقط رُميت له قطعة لحم، فبدأ بنهشها حتى قطعها إربًا، فما كان منها سوى أن صرخت، وتعالى صوت نحيبها، ليبدأ محمود بتهدأتها، وبث بعضٍ من طمأنينة، علَّها تستكين، فلفت صوت نحيبها العالي الشماس، ليتساءل مابها، فيخبره حسن بأنها والدته وشقيقة شموس بنفس الوقت.
_ اذهب بني سريعًا أرجوك، أعدها لي، أعدها فأنا أشتاق لها، هي من بقيت لي من والدّاي، لقد فقدناها منذ زمن بعيد، ولا أودّ تكرار التجربة، واستطعام نفس شعور الألم والحسرة.
ليقاطعها الشماس مخبرًا، بأن بإمكان الجميع العبور مع حسن، لكن عليهم التأكد بأن باب العبور لن يُغلق خلفهم، فتأكد محمود من غلق أبواب المنزل جميعها بنوافذها، ليبدأ عبورهم بنطق الشماس الكلمات السرية، وتبدأ رحلة عابرين جدد بأرض الشماس، وأثناء طريقهم للوصول لشموس، أخبر الشماس حسن بما حدث بغيابه، ليتقطع قلبه حزنًا على مالكته، وما عانت بغيابه.
وصل الجميع لمكان تواجد شموس، فأسرعت أنوار بالاقتراب من شقيقتها المفقودة منذ الطفولة باكية، وبدأت بِتَلمُسِّها وتقبيلها، والدعاء لها بالشفاء، ولكن شموس في إغماءتها المرضية، غير واعية لما يحدث حولها، أما حسن حين وقعت عيناه على مالكة قلبه، اغتص قلبه وجعًا عليها؛ لما آلت إليه بغيابه، فاقترب منها وكله ينتفض خوفًا من فقدانها، ورغم غياب شموس عن الوعي، إلا أن الختم بدء يبث القدرة في جسدها؛ ليبدأ المقاومة بتواجد القرين الرفيق لها بهذا العالم.
_ ظِلال، يا خاطفة، هيا قاومي، أنا هنا، لا تتركيني بعد أن وجدتك، لا تستسلمي، لأجلي ولأجل الجميع، ولأجل شقيقتك البكاءة أيضًا، انظري إليها، ها قد جلبتها معي، لم أكن أعلم بأن والدتي هي شقيقتك، كنت أشعر قبلًا بأنك تُشبهين أحدهم، والآن علمت السبب، فتقاسيم وجهيكُما متشابهة، لكن كُلٌ منكما في مرحلةٍ عمرية، هيا استيقظي لِتَريّها، وتتكحل عينا كُلٍ منكما بالأخرى، هيا خاطفتي هيا.
_ أجل عزيزتي قاومي لأجلنا، ولأجل والدك، ألا يملك عليكِ الحق بالإجابة، هيا صغيرتي، فأنا أشتاقُك، ولم أعد أتحمل فِراقِ لرؤية عيناكِ وابتسامتك، أفيقي طفلتي هيا أفيقي.
_ دُميتي، ألا تودّين رؤيتي، أذكر ملاعبتي لك، ما زلت اذكرها، وأحيا على ذكراها، لا تحرميني من صنع ذكريات جديدة معك، أقسم أنني أموت لو فارقتني من جديد، لا تفعليها دُميتي لا تفعلي، فلن أطيق على ذاك، لم أُطق صبرًا، حين أخبرني ذاك الأبله بوجودك، وكان يتفنن بالتغزل بك أمامي ووصفه إياك بالخاطفة، ماذا فعلت بذاك الجلمود؟ لقد حركت ما لم تستطع عليه غيرك، وللحق فأنت أصبحت شابة فتية، تَسرُ عَينَ من رآها، وله الحق بأن يفقد توازنه كما قال.
وأثناء حديث الجميع، كانت خلايا شموس تتحفز؛ لسماعها صوت من تهوى، وصوت والدها الحنون الحاني، وصوتٌ غاب عن مسامعها لسنون، صوتٌ رجت كثيرًا العودة لأحضانه، فبدأ جفناها بالإنشقاق قليلًا قليلًا، إلى أن ظهرت حدقتا عيناها، المطالعتان ما حولها، فسقطت على عينا من اشتاقه القلب، لكنها تذكرت تخليه عنها واختياره المجحف بحقها، فأشاحت ببصرها عنه متجنبةً إياه، حزينةً على ما كان منه، فوقعت عيناها على والدها، فرفعت يدها له، حتى يقترب منها، فما كان منه إلا أن لبى دعوتها على عجل، محتضنًا إياها بين ذراعاه، تتنازع المشاعر بين جنبات صدره فرحًا بعودتها سالمة، لتنتزعها أنوار من أحضانه وتُدخلها بأحضانها، لتحتل الصدمة شموس، متساءلة عن من تكون؟ لتعلم بأنها شقيقتها ومن كانت كأم أخرى لها، لتبادلها الاحتضان بلهفة المشتاق، ومن أكثر منها اشتياقًا، فقد ملَّ الشوق منها كما ملت منه.
_ أنوار، حبيبتي، كم اشتقت لك، واشتقت لمشاكستي إياكِ.
_ وأنا دُميتي، وأنا أكثر.
لتنتزع شموس نفسها من أحضان شقيقتها، وتنظر بأرجاء المكان باحثة عن والديها فتتساءل:
_ أين والدّاي؟ لما لم يحضرا معك؟ لقد اشتقت لهم كثيرًا.
لِتُخفض أنوار رأسها قليلًا، ثم ترفعه قائلة:
_ دُميتي، والدّانا توفاهم الله منذ زمن بعيد، فلم يستطيعا تحمل فِراقك.
لتتساقط الدموع من عينا شموس، حزنًا على أغلى الأحبة، من كانت تتمنى لقاءهم، لكن انتُزِع الأمل الآن، بعلمها أنها ما عادَّ بإمكانها ذاك، ليعود الشماس لاحتضانها مواسيًا، لِيُعلِمها به أنه ما زال هنا بجانبها، وهو والدها وهي ستبقى ابنته مهما حدث.
وهناك حيث العاشق الفريد وحليلته، نعود لنستعلم عن أحوالهم بعد ذاك الاعتراف، الذي فاجئته به قلب الماس خاصته، وبعد أن قُضي اليوم، وانتهت النزهة التي بدأت باعتراف أشرق به يومهم، عادَّا متشابكي الأيدّي للمنزل، لِيُغلق باب غرفتهم، وتبدأ القلوب بالارتجاف، منها الخجلة ومنها المشتاقة لإثبات ما سمعت؛ ليرتاح قلبه وتستكين نفسه.
_ قلب الماس، هل ما قلته أمام ذاك الأحمق صحيح؟
_ أيٍّ منهم؟ قلت الكثير.
_ لا تتلاعبي بالله عليك، تعلمين ما أقصد، وتعلمين شوقي لسماعها منك، فهلا قلتِها، أودّ منكِ اعترافًا صريحًا قويًا، كما حدّث أمام الأحمق، ألا أستحق.
_ نعم تستحق،ولقد وهبتك قلبي لأنك تستحق، وأخبرك بأني احبك، ولم أعلم بأني لم أحب قبلًا، إلا حين شعرت بغزوك على قلبي، وتمكنك من احتلاله.
_ يا الله، يا الله، ما أعذبها، لم أعلم بأنها ستكون بتلك العذوبة، كرريها ولا تتوقفي.
لتقترب قلب الماس ممن غزى قلبها واحتله، وتهمس بأذنه بصوت عذب، مكررة الاعتراف بحبه، وتقترب أكثر قائلة له:
الحروف تتكلم بصمتٍ شديد
لِتلوذ الى روح عاشقٍ فريد
مُحَدِّثَةً عنه ما يريد
حروف فكلمات باتت تقول
أليس للعشاق قلب يقول
ليعلم معتز، بأن قلب الماس قرأت كتاباته، ويُسدل الستار على من حَقَّ الوصل له الآن...
بدأ جسد شموس بالتعافي، وأصبحت أفضل من ذي قبل، وبدأت بالتنقل هنا وهناك، وما أدخل السرور على قلبها؛ تواجد أنوار بالقرب منها واحتضانها لها، وتعويضها عن سنوات البعد، لكنها كانت تتجنب حسن، وتتجنب تواجدها معه بأي مكان، فما زال قلبها حزينًا لاختياره ذاك، وقد لاحظ الشماس ذلك الأمر، وتوجه لها ليتحدث معها بالأمر.
_ ابنتي، كيف أنتِ الآن؟
_ بخير أبي، هل هناك شيء؟ أرى بعينيك حديثًا، أخبرني به.
_ لما تقومين بتجنب حسن؟ والأماكن المتواجد بها.
_ ولما أتواجد بمكان واحد مع من لا يُفضل تواجدي بحياته، واختار البعد رغم علمه بأنني سأفقد حياتي به.
_ لكنك تظلمينه، فلم يختر البعد، بل فُرِض عليه مني.
صعقت شموس برد والدها، وتساءلت: كيف فُرِض منك عفوًا، لم أفهم.
_ حين خُتمتي بختم العقرب الحارق، بقيت أفكر كثيرًا، كيف لي أن أنقذ حياتك؟ ولم أجد أفضل من مساعدة يقدمها حسن، بأن يعود لأرضه باحثًا عن عائلتك وباب عبورك، لكنه رفض خوفًا من أن تفقدي حياتك، فأجبرته على ذلك، لأنه الحل الوحيد بأن تتخلصي من سيطرة الختم عليك، وكان علينا أن نجد وسيلة، كي نُبقي على مقاومة جسدك بغيابه، فما كان منا إلا أن صنعنا قلادة من دم حسن وبعض من أشياء تخصه، تقوم على شعورك بقربه منك، وتبعث على المقاومة لجسدك أثناء غيابه، وما كانت سوى القلادة التي قلدتك إياها بعد مغادرته، ورفضك أي حديث منه.
_ لهذا كنت هادئًا لاختياره، وهذا يعني بأنه اختارني ولم يختر غيري، عبر لأجلي، لكن لما لم تخبرني؟
_ أجل لهذا، ولم أخبرك؛ حتى لا يتمكن العابر الآخر من معرفة ذلك، فسيطرته عليك وعلى عقلك كانت كبيرة، وأردت أن يظهر الأمر وكأن حسن تخلى عنك أمامه لربما أخطأ وعرفنا من هو، لكنه نزع سيطرته بمجرد رؤيته لك تُصيبينني وأسقط، والآن هلا تحدثت مع حسن، وعدتي لسابق عهدك معه.
_ بالتأكيد أبي.
قالتها شموس والفرحة ملأت ملامحها، ومعرفتها لحقيقة الأمر أثلجت صدرها، فأخذت طريقها متوجهة للقاء مالك الختم والقلب، فما إن وصلت حتى وجدته مُنكس الرأس حزين، فاقتربت على مهل منه لا تعلم كيف تبدأ الحديث معه، ومع اقترابها شعر بها حسن، وكأن قرع خطواتها سمفونية النبض لقلبه، ليرفع رأسه فيراها أمامه بهيةً كما عادتها.
_ حسن.
_ روحه ونبضه.
لتخفض رأسها مع ابتسامة خجول زينت ثغرها.
_ تأخرتِ يا خاطفة، ظننت أن لا حديث ولا قرب بعد اليوم.
_ لما؟
_ وتتساءلين، ماذا فعلتِ بقلبي بهجرانك وجفائك معه دونًا عن الجميع؟ أعلم بأن الأمر كان صعبًا، لكن لم أختر البعد أقسم.
_ علمت، وآسفة لما صدر مني، وأشكرك لما فعلت لأجلي.
_ وهل يُشكر المُحب لانقاذ روحه؟ لم أفعل سوى أنني أنقذت نفسي من الهلاك يا خاطفة، والآن أريد المقابل رجاءً.
لتحتار شموس بالمقابل الذي يريده منها، وهو قد أخبرها للتو بألا تشكره.
_ لا تحتاري يا خاطفة، فلا يريد قلبي سوى الوصل ممن ملكته.
لتتورد وجنتا شموس من مطلب حسن، لتستدير مغادرة، وقبل أن تبتعد تخبره بأن يتوجه لوالدها مكررًا مطلبه منه، فذهب حسن للشماس، وتم الأمر بحضور الجميع، فامتلأ عالم الشماس بالبهجة، لاقتران كل من مالكا الختم ببعضهم، وتتويج علاقتهم بالوصل الجميل الحلال، وبعد أن تم كل ذاك، حانت لحظة عودة العابرون لأرضهم، ولحظة افتراق الأب عن ابنته، تلك اللحظة التي امتلأت بها المشاعر، لكن آن الأوان أن يعود كل شيء لنِصابه.
_ عزيزتي، غاليتي وعوضي الجميل، طفلتي الأقرب لقلبي، سيري ببركة مني، ودعاء غير منقطع بتوفيق الأمر، ورجاءً بلقاءٍ أجمل، لا تقطعي الود بيننا، واستمري بالقدوم، عالمي باستقبالك ما حييت.
_ بالتأكيد أبي، سآتيك دومًا، وكيف لي بأن أنسى من احتضنني وعاملني كابنة؟ أنت أبي وستبقى كذلك ما حييت.
ودّع الشماس الجميع، وعبروا وعبرت شموس، مع قدوم أحد حرس الشماس، يخبره بأن هناك طفلًا ولِد، لكن لم يظهر على عنقه أي ختم، رغم أن هناك مواليد غيره وُلِدوا اليوم ويمتلك كُلًا منهم ختمًا، ليعلم الشماس أن بوابة العبور لم تُغلق بعد، وهناك ما سيكشفه المستقبل بالتأكيد.
تم بحمد الله عبر كوكب الروايات
الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية المرآة وابنة الشماس" اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق