رواية المرآة وابنة الشماس البارت السادس بقلم أحلام حسين غنيمات
رواية المرآة وابنة الشماس الفصل السادس 6
تفاجئ حسن بكم الاعترافات التي نزلت عليه من قِبل الشماس، لكن ما يُحيره الآن أكثر، إن هو عاد ستموت من يخفق القلب بحضورها، من يشعر بالتوهان برؤياها، من يفقد اتزانه معها، الخاطفة، من خطفت قلبه وعقله، يُدرك بأنه كان قد قرر البعد، بسبب القيود التي تُكبله، لكنه لم يرغب لها بالأذى، وأيُّ أذىً ذاك، انه الموت المحقق، تَخَبُطات يشعر بها بين قلبه الذي يرغب بالاقتراب أكثر والوصل، وعقله الذي يأمره بالبعد ويذكره بريماس والعهد الذي أحكم سيطرته عليه، وقيده بأغلال من حديد، ليحيا حالة من التخبط والتوهان بين أمرين، الإختيار قاتل في كلاهما، فيحاول استجماع شتات نفسه، والإصغاء لو لحظيًا لقلبه العليل، لينظر للشماس ويبدأ بالحديث:
_ إذن فهي عابرة مثلي، لهذا كانت مستمرة بالنداء، الذي أرهقني وأرهق نفسي، لكن الباب وتواجده لدي كان جديد، هذا يعني بأنها أتت من مكان آخر في عالمي، ولا أعلم من أين، فالخزانة المتواجد بها الباب أحضرتها أمي من منزل والداها، الذين توفاهم الله منذ أمد بعيد، ولا أعلم إن كانت ملكًا لأُناسٍ آخرين، هل تعلم عائلتها؟ وإلى أي عائلة تنتمي؟
_ لا أعلم حقيقةً، كل ما أعلمه أن اسمها الحقيقي ظِلال، وهي كاسمها أظلت علينا بالفرح والسعادة بقدومها ها هُنا، لكن ابنتي أشماس من لقبتها بشموس، فالتصق بها الاسم من يومها، ولم يعد أحد يناديها بذاك الاسم.
_ ماذا لو فُتِحَ الباب، وعدت لعالمي باحثًا عن عائلتها، هل ستتمكن من العودة.
_ لو كان الباب متعامدًا متوازيًا من المكان الذي عبرت منه ستتمكن من العودة، لكن.. لكن.
_ لكن ماذا؟ قل رجاءًا، لا تجعلني أشعر بالحيرة.
_ ليس هذا، لكن إن هي صمدت، وقاوم جسدها فراق القرين الرفيق لها، أغلبنا لا يقوى، وتفارق روحه الجسد خلال لحظات، وهناك من قاوم لأيام، وهناك من قاوم لأشهر، لم يقاوم أحد منا أكثر من أشهر، ولا أعلم كيف ستكون مقاومة شموس، هل ستكون مقاومة قوية، كمقاومتها طوال سنوات البعد عن أهلها، أم مقاومة ضعيفة تُخلِص الروح من الجسد في لحظات.
قال الشماس كلماته والألم يعتصر فؤاده، لمجرد تخيله لما ستعانيه شموس، من مفارقة حسن لها ولهذا العالم، قلبه ينزف لمجرد التفكير بأنه سيكرر تجربته السابقة، ويفقد ابنة أخرى، ويرى معاناتها وألمها، إلى أن تفارق روحها الجسد، وهل سيقوى قلبه هذه المرة أيضًا؟ ويتحمل موت ابنة أخرى، وأيُّ ابنة، من رباها على يديه وعوضها عن من فارقتهم، وعوضته هيَّ عن من فارقته، كلها أحاسيس مؤلمة، بل قاتلة لأب جرب معنى الفقد والحرمان من أحد أبناءه.
أما حسن، فلا شعور يضاهي شعوره الآن، التخبط هو كل ما يشعر به، من كم المعلومات الواقعة عليه، والحقائق التي تتعلق بها روح من هو لها أصبح عاشقًا، رغم مقاومته لأحاسيسه ومشاعره، إلا أنه الآن في أسوء لحظاته، فلا هو قادر على العودة وأخذها معه، ولا هو قادر على البقاء وترك من هم خلفه، الذين هم الآن وبلا شك يعانون من فقدانه، وعدم علمهم بمكانه، وريماس وجعه الأكبر، أمانته وأمانة والده، عهده المقيد، التي لا يستطيع التخلي عنها لأجله، وحفاظًا على أمانة أبيه، ليس حسن من يتخلى عن العهد، ولا عن كلمة نطقها، حتى لو لم يكن راغبًا كل الرغبة به، لكن الآن هو بِمعضلة أكبر، هو الآن غير قادر على العودة، لكن قادر على الحفاظ على حياة خاطفته، وبقائها سليمة معافاة، إلى أن يأذن الله بأمرٍ آخر.
وأثناء تخبطات كل من حسن والشماس وكل ما يشعرون به، اقتربت شموس منهم، فلم تعد تقوى على البعد، الذي فرضته بالقوة الجبرية على نفسها، بعدما مالَّ قلبها لمالكه، ونبض وتسارعت دقاته بوجوده، فعلمت أن لا مهرب منه إلا إليه، ويكفيها الآن تواجده بينهم، وستنسى أو تتناسى علمها بمن هي خلفه تنتظره.
_ كيف حالك أبي؟ وأنت حسن.
_ في أفضل حال ابنتي الغالية.
_ الحمدلله بخير، دام أنتِ تشعرين بخير.
_ أنا بخير، شكرًا لك.
ليتوجه حسن بسؤال لشموس، ويستغل تواجد الشماس، علَّها تُجيب فيعلم هو ويعلم الشماس سبب ابتعادها فربما الإستفزاز يفيد معها:
_ لما أوكلتِ أمر تدريبي لشخص غيرك؟ ألم تكوني أنت من أحضرني هنا؟ أم أنك لا تتحملين أخطاءك، ولا تقوين على المواجهة.
لتتحفز كل خلية من شموس، لأسئلة حسن المستفزة، التي قللت من شأنها وشأن قدراتها، فتجيبه بتسرع لم يكن من إحدى طباعها سابقًا:
_ ومن قال بأنني غير قادرة على المواجهة، وتحمل أخطائي، لقد كنت قادمة لأخبر أبي بأنني سأعود لتدريبك، فقد فرغت من أعمالي ومشاغلي التي كانت لدي.
وما كانت شموس قادمة لهذا، بل كانت ترغب بالقرب، وإشباع روحها المشتاقة لرؤية حسن.
لينظر لها الشماس، ويعلم بأن ابنته لم تعد تقوى على البعد، وأن الختم أصبح متحكمًا أكثر، فأصبحت الآن ابنته خارج سيطرتها، وأنها تود القرب من قرينها الرفيق، فجسدها الآن أصبح تحت سيطرة الختم، والختم يُطالب بِمالكه، ولم تعلم هي ولم تلحظ ذلك بعد، فمتى ستلاحظ وتدرك؟ بأنها الآن مملوكة لصاحب الختم، وهو مملوك لها، لا يقوى كلٌ منهم على البعد، طالما هم متواجدين بهذا العالم، فللختم السيطرة الأقوى، والقول الأول والأخير، فإما قربٌ جميل، أو بُعد يأتي بالهلاك لجميع الأطراف، فحسن إن عاد سيضنيه العشق، ويحيا هائمًا في ملكوت حب أضاعه بيديه، وشموس المعضلة الأكبر، من ستتحمل تبعات الختم جميعها، وهو الأب المكلوم، الذي سيحيا معاصرًا شاهدًا لكل فقد، ولا يقوى على المساعدة أو فعل شيء.
فهل من طريقة أو حل للوصل دون فقد أو بعد أو تخلي؟..
تعودت ريماس على القراءة من دفتر معتز بشكلٍ منتظم، ما إن تنتهي من أعمالها إلا وتجلس متناولةً للدفتر، فتبدأ التصفح فيه والقراءة منه، ويصبح الأمر جليًا أكثر أمام ناظرها، بأن معتز مُحبٌ فريد، مختلف عن الآخرين، كُلُ الكلام قليل فيه، وفيما يُكن لها، أصبحت تؤنب نفسها مرارًا وتكرارًا، كيف لها بأن لا تلحظ حب كحبه لها، كيف عانى صامتًا، لم يتفوه بما يُكنه لها قبلًا، كيف تحمل الكتم، كيف له ألا يُعبر عن ما يجول في خاطره، إلا لبعضٍ من أوراق متجمعة في دفتر مخفي عن أعين الجميع، أولهم هيَّ، ويا ليته باح بما يُكن حتى بعد زواجهم، بل بقي على صمته، إلا من بعض إعترافات، كانت كفيلة بجعلها تقع تحت وطأة الصدمة، ويا ليته لم يصمت كل هذا العمر، رُبما كان الأمر ليختلف، فما اكتشفته مؤخرًا بأنها لم تكن مُحبة لحسن، بل كانت الرغبة بمماثلة أقرانها، والخوض بتجربة لم تخضها سابقًا، صحيح بأن مشاعرها كانت مملوكة لحسن لكن لعلمها بأنه الزوج والرفيق، أما معتز فشيءٌ آخر، صحيح أنها كانت لا تراه سوى أخًا لا أكثر، لكن الآن هو بدأ بالتغلغل إلى أعماقها، والتملك رويدًا رويدًا من قلبها ومشاعرها، رُبما معاملته التي لم تختلف عن السابق سوى أنه أصبح يجهر بحبه لها دون قيد، أو دفتره الغالي، ذاك الكنز الثمين الذي وجدته وحصلت عليه دون علمه، ترافقه وتتوغل لمكنونات عشقه دون أن يعلم، ويتوغل فيها وهي الآن أعلم، نعم أصبحت على دراية بأن معتز احتل القلب احتلال الغازي، لكنه غازي لأرض أُحلت له، وَفُتِحَت له أبوابها على مصراعيها، لكن المعضلة الآن بأنها لا تقوى على البوح كما يبوح هو، فلم تعتد هي على المصارحة والمواجهة، اعتادت على الإختباء، وترك الأمر لغزو من أمامها لحصونها، لكن معتز يستحق منها الأفضل، ويستحق المثابرة منها حتى الوصول، ولم تعلم بأن كلمة منها كفيلة بجعل معتز محلقًا بين أسراب الطيور في السماء، كل هذا ولم يقع على عينيها بعد كتابته المعبرة لحبه وشوقه بالمعنى الحرفي، فما أن أخفضت بصرها لأوراق الدفتر، حتى وقعت عيناها على كلمات خطتها أنامله الذهبية في التعبير عن عشقه الخفي...
انَهُ يَقينًا لَحبُ البلاء
وَلكنَ أمرًا يَشُقُ السَّماء
وَإني لأَظمَأ في عِزِ الشِّتاء
وَحُبًا عَظيمًا يَزيدُ العَناء
وَكَمْ أني دَوْمًا أُحِبُ اللِقاء
لِقاءَ الحَبيبِ في ظِلِ الضياء
مما أحدث اضطرابًا جديد في دواخلها، وتراقصت نبضات قلبها وازدادت، مع سماعها لصوت معتز بالخارج، قادمًا متوجهًا حيث هي متواجدة، فما أن يأتي من العمل حتى يركض مهرولًا مشتاقًا لرؤياها.
_ مساء كل جميل بوجودك يا قلب الماس.
ليزدان محيا ريماس ألقًا بمجرد سماع لقبها، الذي أصبح محببًا لديها، وينفرج ثغرها بابتسامة جميلة هادئة كهدوئها، وتنطلق الكلمات منه باتزانٍ خجول:
_ مساء الخير معتز، رزقك الله عافية الأبدان وراحة النَّفس.
_ آمين يا قلب الماس، رزقني الله بكِ يا راحة النَّفس لمعتز وقلبه العليل.
_ لا جلب الله لقلبك علة يا ابن العم.
_ وهل هناك علة أصعب من العشق من طرف واحد يا قلب ابن العم.
لتستدير ريماس برأسها علَّها تجد مهربًا من كلمات معتز، رغم استمالة قلبها له وتصاعد نبضات قلبها إلا أنها ما زالت تشعر بالحرج، وتخجل من البوح له بما تُكن، خوفًا من تَعَجُل منه، أو أن يظن أنها تَمُّنُ عليه بمشاعرها، ولا تعلم بأن قلب العاشق ينتظر منها همسة واحدة ليجعل من أحضانه سكنًا دائمًا لها والمتنفس الوحيد، رغم شوقه لأن تكون راغبة به تائقة لوصله كما هو تائق لوصلها وراغب.
_ ءأقول كذبًا يا قلب الماس، أم أن الأوان لم يَأن بعد.
_ قُلنا صبرًا يا ابن العم، حتى آتيك راغبة بِكُلي، لا فرضًا ولا منًّا بعد.
_ حسنًا لكِ كُلُ صبري يا قلب الماس، فما لي غيره من سبيل، حتى لو طال الصبر وبلغ مني سنين، كما بلغ قبلًا، فإن كان الصبر عليل، فمؤكدٌ بأن الوصل منك جميلٌ حلو المذاق، كحلاوة تواجدك بالقرب ها هُنا مني، يا جميلة المحيّا والمبسّم.
هل هُناك ما يقال من ريماس ردًا لسماعها تلك الكلمات الحانية الرقيقة، التي تصدر من فاه هذا الرجل الفريد، العاشق لتفاصيلها، الصابر لبعدها وجفاءها على مدى سنوات طِوال، كصبر أيوب عليه السلام الذي طال لسنوات قاربت العقدين، فهل له من فرج قريب على صبره الذي طال وطال معه انتظاره، معتز الممتنع الأبيّ المنيع كاسمه، العزيز القوي كصبره، يُقال كُلٌ له من اسمه نصيب، وهو استحق الاسم وحقق المعنى المراد من اسمه، العز وهو الشرف، الذي علا وسما بمحافظته على ريماس وسمعتها يوم قيل فيها ما ليس فيها، رغم عشقه لها إلا أن القليل منا من يتمتع بكمال الصفات، وهو ازدانت صفاته بجمال أفعاله.
وهناك حيث الأبوان اللذان ما زالا لا يعلمان شيئًا عن فلذة كبدهم، ما زال الوضع على ما هو عليه، من الشوق الذي يزداد يومًا بعد يوم، ومن القلق الذي نخر عظامهم كما نخر السوس الخشب، والخوف الذي تملك أجسادهم، التي هزلت من قلة الطعام، حزنًا على فقيدٍ لا علم لهم بمكان تواجده.
_ إذن فهي عابرة مثلي، لهذا كانت مستمرة بالنداء، الذي أرهقني وأرهق نفسي، لكن الباب وتواجده لدي كان جديد، هذا يعني بأنها أتت من مكان آخر في عالمي، ولا أعلم من أين، فالخزانة المتواجد بها الباب أحضرتها أمي من منزل والداها، الذين توفاهم الله منذ أمد بعيد، ولا أعلم إن كانت ملكًا لأُناسٍ آخرين، هل تعلم عائلتها؟ وإلى أي عائلة تنتمي؟
_ لا أعلم حقيقةً، كل ما أعلمه أن اسمها الحقيقي ظِلال، وهي كاسمها أظلت علينا بالفرح والسعادة بقدومها ها هُنا، لكن ابنتي أشماس من لقبتها بشموس، فالتصق بها الاسم من يومها، ولم يعد أحد يناديها بذاك الاسم.
_ ماذا لو فُتِحَ الباب، وعدت لعالمي باحثًا عن عائلتها، هل ستتمكن من العودة.
_ لو كان الباب متعامدًا متوازيًا من المكان الذي عبرت منه ستتمكن من العودة، لكن.. لكن.
_ لكن ماذا؟ قل رجاءًا، لا تجعلني أشعر بالحيرة.
_ ليس هذا، لكن إن هي صمدت، وقاوم جسدها فراق القرين الرفيق لها، أغلبنا لا يقوى، وتفارق روحه الجسد خلال لحظات، وهناك من قاوم لأيام، وهناك من قاوم لأشهر، لم يقاوم أحد منا أكثر من أشهر، ولا أعلم كيف ستكون مقاومة شموس، هل ستكون مقاومة قوية، كمقاومتها طوال سنوات البعد عن أهلها، أم مقاومة ضعيفة تُخلِص الروح من الجسد في لحظات.
قال الشماس كلماته والألم يعتصر فؤاده، لمجرد تخيله لما ستعانيه شموس، من مفارقة حسن لها ولهذا العالم، قلبه ينزف لمجرد التفكير بأنه سيكرر تجربته السابقة، ويفقد ابنة أخرى، ويرى معاناتها وألمها، إلى أن تفارق روحها الجسد، وهل سيقوى قلبه هذه المرة أيضًا؟ ويتحمل موت ابنة أخرى، وأيُّ ابنة، من رباها على يديه وعوضها عن من فارقتهم، وعوضته هيَّ عن من فارقته، كلها أحاسيس مؤلمة، بل قاتلة لأب جرب معنى الفقد والحرمان من أحد أبناءه.
أما حسن، فلا شعور يضاهي شعوره الآن، التخبط هو كل ما يشعر به، من كم المعلومات الواقعة عليه، والحقائق التي تتعلق بها روح من هو لها أصبح عاشقًا، رغم مقاومته لأحاسيسه ومشاعره، إلا أنه الآن في أسوء لحظاته، فلا هو قادر على العودة وأخذها معه، ولا هو قادر على البقاء وترك من هم خلفه، الذين هم الآن وبلا شك يعانون من فقدانه، وعدم علمهم بمكانه، وريماس وجعه الأكبر، أمانته وأمانة والده، عهده المقيد، التي لا يستطيع التخلي عنها لأجله، وحفاظًا على أمانة أبيه، ليس حسن من يتخلى عن العهد، ولا عن كلمة نطقها، حتى لو لم يكن راغبًا كل الرغبة به، لكن الآن هو بِمعضلة أكبر، هو الآن غير قادر على العودة، لكن قادر على الحفاظ على حياة خاطفته، وبقائها سليمة معافاة، إلى أن يأذن الله بأمرٍ آخر.
وأثناء تخبطات كل من حسن والشماس وكل ما يشعرون به، اقتربت شموس منهم، فلم تعد تقوى على البعد، الذي فرضته بالقوة الجبرية على نفسها، بعدما مالَّ قلبها لمالكه، ونبض وتسارعت دقاته بوجوده، فعلمت أن لا مهرب منه إلا إليه، ويكفيها الآن تواجده بينهم، وستنسى أو تتناسى علمها بمن هي خلفه تنتظره.
_ كيف حالك أبي؟ وأنت حسن.
_ في أفضل حال ابنتي الغالية.
_ الحمدلله بخير، دام أنتِ تشعرين بخير.
_ أنا بخير، شكرًا لك.
ليتوجه حسن بسؤال لشموس، ويستغل تواجد الشماس، علَّها تُجيب فيعلم هو ويعلم الشماس سبب ابتعادها فربما الإستفزاز يفيد معها:
_ لما أوكلتِ أمر تدريبي لشخص غيرك؟ ألم تكوني أنت من أحضرني هنا؟ أم أنك لا تتحملين أخطاءك، ولا تقوين على المواجهة.
لتتحفز كل خلية من شموس، لأسئلة حسن المستفزة، التي قللت من شأنها وشأن قدراتها، فتجيبه بتسرع لم يكن من إحدى طباعها سابقًا:
_ ومن قال بأنني غير قادرة على المواجهة، وتحمل أخطائي، لقد كنت قادمة لأخبر أبي بأنني سأعود لتدريبك، فقد فرغت من أعمالي ومشاغلي التي كانت لدي.
وما كانت شموس قادمة لهذا، بل كانت ترغب بالقرب، وإشباع روحها المشتاقة لرؤية حسن.
لينظر لها الشماس، ويعلم بأن ابنته لم تعد تقوى على البعد، وأن الختم أصبح متحكمًا أكثر، فأصبحت الآن ابنته خارج سيطرتها، وأنها تود القرب من قرينها الرفيق، فجسدها الآن أصبح تحت سيطرة الختم، والختم يُطالب بِمالكه، ولم تعلم هي ولم تلحظ ذلك بعد، فمتى ستلاحظ وتدرك؟ بأنها الآن مملوكة لصاحب الختم، وهو مملوك لها، لا يقوى كلٌ منهم على البعد، طالما هم متواجدين بهذا العالم، فللختم السيطرة الأقوى، والقول الأول والأخير، فإما قربٌ جميل، أو بُعد يأتي بالهلاك لجميع الأطراف، فحسن إن عاد سيضنيه العشق، ويحيا هائمًا في ملكوت حب أضاعه بيديه، وشموس المعضلة الأكبر، من ستتحمل تبعات الختم جميعها، وهو الأب المكلوم، الذي سيحيا معاصرًا شاهدًا لكل فقد، ولا يقوى على المساعدة أو فعل شيء.
فهل من طريقة أو حل للوصل دون فقد أو بعد أو تخلي؟..
تعودت ريماس على القراءة من دفتر معتز بشكلٍ منتظم، ما إن تنتهي من أعمالها إلا وتجلس متناولةً للدفتر، فتبدأ التصفح فيه والقراءة منه، ويصبح الأمر جليًا أكثر أمام ناظرها، بأن معتز مُحبٌ فريد، مختلف عن الآخرين، كُلُ الكلام قليل فيه، وفيما يُكن لها، أصبحت تؤنب نفسها مرارًا وتكرارًا، كيف لها بأن لا تلحظ حب كحبه لها، كيف عانى صامتًا، لم يتفوه بما يُكنه لها قبلًا، كيف تحمل الكتم، كيف له ألا يُعبر عن ما يجول في خاطره، إلا لبعضٍ من أوراق متجمعة في دفتر مخفي عن أعين الجميع، أولهم هيَّ، ويا ليته باح بما يُكن حتى بعد زواجهم، بل بقي على صمته، إلا من بعض إعترافات، كانت كفيلة بجعلها تقع تحت وطأة الصدمة، ويا ليته لم يصمت كل هذا العمر، رُبما كان الأمر ليختلف، فما اكتشفته مؤخرًا بأنها لم تكن مُحبة لحسن، بل كانت الرغبة بمماثلة أقرانها، والخوض بتجربة لم تخضها سابقًا، صحيح بأن مشاعرها كانت مملوكة لحسن لكن لعلمها بأنه الزوج والرفيق، أما معتز فشيءٌ آخر، صحيح أنها كانت لا تراه سوى أخًا لا أكثر، لكن الآن هو بدأ بالتغلغل إلى أعماقها، والتملك رويدًا رويدًا من قلبها ومشاعرها، رُبما معاملته التي لم تختلف عن السابق سوى أنه أصبح يجهر بحبه لها دون قيد، أو دفتره الغالي، ذاك الكنز الثمين الذي وجدته وحصلت عليه دون علمه، ترافقه وتتوغل لمكنونات عشقه دون أن يعلم، ويتوغل فيها وهي الآن أعلم، نعم أصبحت على دراية بأن معتز احتل القلب احتلال الغازي، لكنه غازي لأرض أُحلت له، وَفُتِحَت له أبوابها على مصراعيها، لكن المعضلة الآن بأنها لا تقوى على البوح كما يبوح هو، فلم تعتد هي على المصارحة والمواجهة، اعتادت على الإختباء، وترك الأمر لغزو من أمامها لحصونها، لكن معتز يستحق منها الأفضل، ويستحق المثابرة منها حتى الوصول، ولم تعلم بأن كلمة منها كفيلة بجعل معتز محلقًا بين أسراب الطيور في السماء، كل هذا ولم يقع على عينيها بعد كتابته المعبرة لحبه وشوقه بالمعنى الحرفي، فما أن أخفضت بصرها لأوراق الدفتر، حتى وقعت عيناها على كلمات خطتها أنامله الذهبية في التعبير عن عشقه الخفي...
انَهُ يَقينًا لَحبُ البلاء
وَلكنَ أمرًا يَشُقُ السَّماء
وَإني لأَظمَأ في عِزِ الشِّتاء
وَحُبًا عَظيمًا يَزيدُ العَناء
وَكَمْ أني دَوْمًا أُحِبُ اللِقاء
لِقاءَ الحَبيبِ في ظِلِ الضياء
مما أحدث اضطرابًا جديد في دواخلها، وتراقصت نبضات قلبها وازدادت، مع سماعها لصوت معتز بالخارج، قادمًا متوجهًا حيث هي متواجدة، فما أن يأتي من العمل حتى يركض مهرولًا مشتاقًا لرؤياها.
_ مساء كل جميل بوجودك يا قلب الماس.
ليزدان محيا ريماس ألقًا بمجرد سماع لقبها، الذي أصبح محببًا لديها، وينفرج ثغرها بابتسامة جميلة هادئة كهدوئها، وتنطلق الكلمات منه باتزانٍ خجول:
_ مساء الخير معتز، رزقك الله عافية الأبدان وراحة النَّفس.
_ آمين يا قلب الماس، رزقني الله بكِ يا راحة النَّفس لمعتز وقلبه العليل.
_ لا جلب الله لقلبك علة يا ابن العم.
_ وهل هناك علة أصعب من العشق من طرف واحد يا قلب ابن العم.
لتستدير ريماس برأسها علَّها تجد مهربًا من كلمات معتز، رغم استمالة قلبها له وتصاعد نبضات قلبها إلا أنها ما زالت تشعر بالحرج، وتخجل من البوح له بما تُكن، خوفًا من تَعَجُل منه، أو أن يظن أنها تَمُّنُ عليه بمشاعرها، ولا تعلم بأن قلب العاشق ينتظر منها همسة واحدة ليجعل من أحضانه سكنًا دائمًا لها والمتنفس الوحيد، رغم شوقه لأن تكون راغبة به تائقة لوصله كما هو تائق لوصلها وراغب.
_ ءأقول كذبًا يا قلب الماس، أم أن الأوان لم يَأن بعد.
_ قُلنا صبرًا يا ابن العم، حتى آتيك راغبة بِكُلي، لا فرضًا ولا منًّا بعد.
_ حسنًا لكِ كُلُ صبري يا قلب الماس، فما لي غيره من سبيل، حتى لو طال الصبر وبلغ مني سنين، كما بلغ قبلًا، فإن كان الصبر عليل، فمؤكدٌ بأن الوصل منك جميلٌ حلو المذاق، كحلاوة تواجدك بالقرب ها هُنا مني، يا جميلة المحيّا والمبسّم.
هل هُناك ما يقال من ريماس ردًا لسماعها تلك الكلمات الحانية الرقيقة، التي تصدر من فاه هذا الرجل الفريد، العاشق لتفاصيلها، الصابر لبعدها وجفاءها على مدى سنوات طِوال، كصبر أيوب عليه السلام الذي طال لسنوات قاربت العقدين، فهل له من فرج قريب على صبره الذي طال وطال معه انتظاره، معتز الممتنع الأبيّ المنيع كاسمه، العزيز القوي كصبره، يُقال كُلٌ له من اسمه نصيب، وهو استحق الاسم وحقق المعنى المراد من اسمه، العز وهو الشرف، الذي علا وسما بمحافظته على ريماس وسمعتها يوم قيل فيها ما ليس فيها، رغم عشقه لها إلا أن القليل منا من يتمتع بكمال الصفات، وهو ازدانت صفاته بجمال أفعاله.
وهناك حيث الأبوان اللذان ما زالا لا يعلمان شيئًا عن فلذة كبدهم، ما زال الوضع على ما هو عليه، من الشوق الذي يزداد يومًا بعد يوم، ومن القلق الذي نخر عظامهم كما نخر السوس الخشب، والخوف الذي تملك أجسادهم، التي هزلت من قلة الطعام، حزنًا على فقيدٍ لا علم لهم بمكان تواجده.
يتبع الفصل السابع اضغط هنا
الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية المرآة وابنة الشماس" اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق