رواية المرآة وابنة الشماس البارت الأول بقلم أحلام حسين غنيمات
رواية المرآة وابنة الشماس الفصل الأول 1
هنا أجل قليلًا بعد، حسنًا هكذا تمَّ الأمر.
هذا ما قالته أنوار للعمال، وهم يُعدِّلون من وضع خزانة الملابس، التي تمَّ نقلها من منزل أبيها لبيتها، فقد توفاهم الله منذ زمنٍ بعيد، كمدًا على شقيقتها الصغيرة؛ التي فُقدت بين ليلة وضحاها، ولم يعلم أحد بمكانها، فقد كانت طفلة تبلغ من العمر ثمانية أعوام، أنجباها بعد مرور أعوام كثيرة على ولادتها، فكانت تبلغ وقتها السابعة عشر؛ وحين فقدت كانت بالخامسة والعشرون ولم يمضي على زواجها سوى بضعة أيام.
_ أمي، أمي، كان هذا نداء حسن ربيبها ووليدها الروحي.
_ أجل حسن، أنا هنا في غرفتك، تعال عزيزي.
توجه حسن للغرفة المتواجدة فيها أنوار ليرى ما تفعل، وحين دخل نظر للخزانة الموضوعة بأحد الأركان فنالت استحسانه، فهي من النوع القديم الفاخر؛ التي مهما مر عليها من الزمن تبقى صامدة متألقة ببهائها، بنقوشها الفرعونية الأصيلة، والغريبة بذات الوقت، كأنها تمتلك هالة تشعرك بالرهبة والذهول معًا، مع الاستحباب الذي ينهال عليها مدى أطلقت عليها سِهام نظراتك.
حسن بملاطفة وضحك:
_ هل نفذت كلامك وفرضت سيطرتك على أبي؟ بأن أحضرتها بعد طول جدال.
أنوار بضحك مماثل له وبغمزة شقية:
_ وهل يستطيع رفض طلب موجه من السلطات العليا؟ لكانت نزلت عليه إحدى أوامر عصياني وعزوفي عنه.
_ وهل أقوى على ذلك حتى لو أردت؟
كان ذلك جواب محمود وهو يتقدم للغرفة متقابلًا معهم وجهًا لوجه، بعد انتهاء العمال وخروجهم من المنزل.
تقدم حسن من الخزانة يقلب فيها ويتفحصها من الخارج والداخل، ليتفاجئ بوجود مرآه داخلية لإحدى أبواب الخزانة بطول الباب، كانت جميلة براقة كأنه تم صقلها توًا، فما زالت تحتفظ بلمعانها ورونقها الجذاب، الخاطف للأبصار، من تجعلك واقفًا أمامها لا ترغب بمغادرة عينيك عن هذا الجمال.
_ هيا جميعًا لنتناول الطعام، فقد كان يومًا شاقًا.
كانت تلك كلمات أنوار وهي تتقدم بخطاها متجهة نحو المطبخ؛ لتعد أطباق الطعام وتضعها على المائدة، ويتم تناولها، ويتوجه كل منهم ليرى ما لديه من أعمال.
استلقى حسن على الفراش علَّه يأخذ قسطًا من الراحة؛ بعد عناء يوم كامل قضاه بالجامعة، يُلقي محاضراته على طلابه، فهو معيد في كلية العلوم، حديث التخرج لكنه نال مكانًا له هناك بفضل تفوقه وقدراته العلمية التي تَحَصَّلَ عليها خلال سنوات عمره.
وأثناء استلقائه بينما كان بين النوم واللا نوم، سمع صوتًا خافتًا كأنه نداء لأحد، فأخذ ينظر حوله ولكن لا يوجد شيء، ليظن بأن الصوت قادمًا من الخارج، من عند أحد الجيران أو الشارع، لكن الصوت عاد للنداء مرة أخرى وأخرى، مما جعله غير قادرٍ على أخذ قسط كافي من الراحة والنوم، فقرر النهوض والنظر بالمكان من نافذة الغرفة، علَّه يستطيع العودة وأخذ قسط من الراحة، وحين ألقى نظرة خارج النافذة لم يجد هناك من أحد ولا صوت حتى، فبدأ الشك يتسرب إليه، بأنه كان وهمًا بين النوم واليقظة، فعاد للاستلقاء على الفراش، وغط في نوم عميق فورًا من أثر تعبه الحاد.
في مكان آخر، سألها، هل استجاب لك أحد وفتح لك الباب يا ابنتي؟ فأجابته بأنه كالمعتاد، لم يُجب ولن يُجب عليها أحد، ولكنها لن تيأس وستواصل النداء حتى اللقاء، حتى لو بقيت على ندائها حتى يأتي الأجل، لكنها لن تمل، أو تستكين، فهي اشتاقت حد اللا معقول، وستبقى على الأمل بحضن واحد ونظرة تلقيها على من هم بالقلب لم يفارقوه أبد الدهر.
استيقظ حسن بالصباح، ولكنه مازال متعبًا، بسبب ليلته وما شهده فيها، فقام بآداء فروضه وتناول طعامه وتوجه مغادرًا لعمله، فقضى يومًا روتينيًا آخر ككل أيامه، ليعود محملًا بالتعب والارهاق مضاعفًا ككل يوم.
_ حسن، هل أتيت؟ كانت هذه كلمات أنوار أثناء تواجدها بالمطبخ، تعد الطعام لحين عودتهم من العمل وقد قاربت.
_ نعم أمي، سأبدل ملابسي وآتي لمساعدتك، إلى أن يصل أبي.
_ لا بني، فقد انتهيت من أعمالي، ارتح قليلًا حتى وصول والدك، فإني أراك مرهقًا، هل هناك شيء؟
_ لا أمي، فقط تعب بسيط بسبب قلة النوم، بعضٌ منه وأعود لسابق عهدي.
كانت هذه كلماته وهو يتوجه لغرفته، فبدل ثيابه واستلقى علَّه يرتاح أو يأخذ القليل من الراحة قبل تناوله طعامه، ولكن هل هناك من راحة؟ أم أنه سيعاني من الأرق كليلته السابقة.
بعد قسط قليل من الراحة، استيقظ وتوجه للخارج مع نداء والدته له، فتناولوا طعامهم مع الحديث عما مر به كل واحد منهم أثناء يومه، بعدها تناولوا بعض الشاي مع استمرار كل منهم يقص على الآخر روتينه اليومي، وانتهى الأمر بتوجه كل منهم لغرفته لقضاء ليلته وطلبًا للراحة، ولكن هل هناك من راحة تنتظر حسن؟ أم أنه سيلاقي ليلة أخرى من الأرق والإستماع إلى النداءات المتكررة كليلته السابقة.
بعد تجاوز القليل من الوقت، وقبل أن يغوص بالنوم، بدأت النداءات، وتكررت بشكل كبير، مما جعله لا يقوى على الراحة أو الإسترسال بالنوم، وكالليلة السابقة، قضاها يستمع ويبحث، ويتوجه إلى النافذة كل حين؛ عله يجد صاحبة النداء، لكنه لا يجد، ينظر هنا وهناك ولا يرى أحدًا، مرَّ على هذا الوضع ليالي متتابعة تليها ليالي أخرى، مما أفقده تركيزه أثناء عمله، وبدى الارهاق جليًا على قسمات وجهه.
في مكان آخر، تتنقل من مكان لآخر كالفراشة التي تستنشق رحيق كل زهرة أثناء قفزها من واحدة لأخرى، تُلقي السّلام على هذا وذاك، قسماتها مشرقة منيرة كالشمس كما اسمها، رغم كم الألم الذي يختزن بعينيها، الشوق نار تكوي القلوب، وهي تجرعته وما زالت تتجرعه إلى أن يأذن الله.
_ أبي، أبي، سعيدة برؤياك يا حارسي وملهمي، أتعلم! بأنني مدينة لك وسأبقى ما حييت، أنت من اعتنيت بي بعد رحيل أمي والجميع، قلبي يشتاق لهم جميعًا، لكن أنت سكني وسكينتي، منقذي وملجأي، لن انسى احتواءك لي حين كنت وحيدة.
_ أعُدنا لسابق العهد يا شموس، ألم نتعاهد على عدم ذكر ألآم الماضي، ونستمر حتى يحين اللقاء لك وألقى أنا ما لقيت وقتها.
_ أبي، لا تقل ذلك أرجوك، لا تعذبني، فأنت تعلم مقدار حبي لك وتعلقي بك.
_ أعلم، ولكنني على يقين حين يفتح الباب لن تنظري للخلف، وستهرولين إلى من هم يعانون من غيابك بالتأكيد، أعلم علم اليقين بأنهم بحثوا عنك حتى كَلَّ البحث منهم، ولكن لا أحد يعلم بوجود الباب غيرك، وإلا كان فُتح منذ زمن بعيد، ومؤكد بأن أحدهم قام بإغلاقه أثناء تواجدك هنا تلعبين مع مع، شقيقتك الراحلة.
نطق كلماته الأخيرة والحزن يكسو صوته المتألم.
_ أبي، أرجوك لا تبدأ، لقد رحلت لمكان أفضل، أنت تعلم أكثر مني بأنها عانت كثيرًا حين فقدت قرينها ورفيقها، كان هذا أفضل من بقائها وحيدة بلا رفيق مدى الحياة.
دعونا نتوقف للحظات، لنشرح أين نحن الآن، نحن في عالم الشماس، عالم موازي في البعد للأرض، عالم يحيا فيه كل فرد بقرين رفيق، إن مات أحدهم لحق به الآخر، وهذا من حسن حظه طبعًا، أما إن لم يلحق به يحيا بلا قرين رفيق محملًا بالألم والشوق الذي لا يفارقه، ويصبح أضعف بالبنية والقوة الجسدية، مخالفًا طبيعة العالم بقواهم والقدرات التي تولد بولادتهم ووضعهم لأول أقدامهم على أراضي هذا العالم، ومن تطأ قدمه هذا العالم يمتلك قوى مماثلة لهم تمامًا، لكن عليه التعلم والتدرب حتى يتحكم بها، وهذا يتم بقبول المجلس الذي يترأسه الشماس سيد العالم على تواجده بعالمه، يعني من مات قرينه الرفيق أصبح لا يملك قدرات ويتعايش كأنه بشري في هذا العالم يقضي كل ما يريد ويحتاج بيديه بدون قدرة، والقدرة هنا هي قوى السحر التي تولد وتتطور ببلوغهم، حتى أن من وطئت قدماه العالم وتدرب وامتلك القدرات يصبح مثلهم تمامًا من ناحية القرين الرفيق، لكن عليه البحث عنه لإنه لم يولد معه بنفس اللحظة واليوم والعالم أيضًا، ومن الممكن أن يقضي عمره باحثًا عنه ولا يجده، أما الباب الذي يتم العبور من خلاله للعالم فهو متصل بعالم الأرض ولو اُغلِق الباب بعد دخول أحدهم يبقى أبد الدهر في عالم الشماس إلى أن يُفتح الباب بنفس المكان الذي أغلق به متعامدًا متوازيًا للبعد الذي تم العبور منه أثناء الدخول للعالم وإن اختلف التعامد لن يكن باستطاعته سوى البقاء هناك بلا عودة.
عودة، بعد ليالي من الارهاق والتعب، وأثناء عودته من العمل، تلقى حسن مكالمة من أنوار، تبلغه فيها أن ريماس ستكون حاضرة معهم على الغداء وعليه ألآ يتأخر بالعودة، فسَّار بالطريق يفكر بريماس ويعلم ما تريده، فهي مصرة على تسريع زواجهم، وأن يتم بالقريب العاجل، وهو لا يرغب بذلك، فهو ما زال لم يتعرف عليها أو يشعر معها بالراحة، ما زال إحساسه ببعدها عنه فكريًا وعاطفيًا قائمًا، فهي فتاة كأي فتاة جميلة هادئة، لم تحاول التقرب منه أو السماح له بالإقتراب منها والتوغل لخبايا عقلها، لم يشعر بالخطف، أو بسلب الروح، لم يشعر معها بالتوهان كما يرغب أو كما يتمنى ويحلم، يعلم بأنه شخص حالم يرغب بمن تخطفه من الوهلة الأولى، من تجعله ينسى بأي أرٍض يقف، لكن ماذا يفعل؟ بعد أن تمت خطبته على من لم تمثل له كل ذلك، وكل هذا ارضاءًا لرغبة والده ووالدته، واكرامًا لصديق والده الميت وحفاظًا على ما ترك خلفه.
وصل حسن للمنزل، ليقرع جرس الباب وتفتح له ريماس الباب وتلاقيه على استحياء مرحبة، ليقابل ترحيبها بترحيب مماثل فهو مازال يرى الحدود التي ما زالت قائمةً بينهم، ليدخل لملاقاة والدته التي مازال يركض خلفها للآن كأنه ذاك الطفل الصغير ذو السنوات الخمس القادم من رياض الأطفال يشتاق لأحضان والدته، لتلاقيه أنوار باشتياق مماثل لاشتياقه.
هذا ما قالته أنوار للعمال، وهم يُعدِّلون من وضع خزانة الملابس، التي تمَّ نقلها من منزل أبيها لبيتها، فقد توفاهم الله منذ زمنٍ بعيد، كمدًا على شقيقتها الصغيرة؛ التي فُقدت بين ليلة وضحاها، ولم يعلم أحد بمكانها، فقد كانت طفلة تبلغ من العمر ثمانية أعوام، أنجباها بعد مرور أعوام كثيرة على ولادتها، فكانت تبلغ وقتها السابعة عشر؛ وحين فقدت كانت بالخامسة والعشرون ولم يمضي على زواجها سوى بضعة أيام.
_ أمي، أمي، كان هذا نداء حسن ربيبها ووليدها الروحي.
_ أجل حسن، أنا هنا في غرفتك، تعال عزيزي.
توجه حسن للغرفة المتواجدة فيها أنوار ليرى ما تفعل، وحين دخل نظر للخزانة الموضوعة بأحد الأركان فنالت استحسانه، فهي من النوع القديم الفاخر؛ التي مهما مر عليها من الزمن تبقى صامدة متألقة ببهائها، بنقوشها الفرعونية الأصيلة، والغريبة بذات الوقت، كأنها تمتلك هالة تشعرك بالرهبة والذهول معًا، مع الاستحباب الذي ينهال عليها مدى أطلقت عليها سِهام نظراتك.
حسن بملاطفة وضحك:
_ هل نفذت كلامك وفرضت سيطرتك على أبي؟ بأن أحضرتها بعد طول جدال.
أنوار بضحك مماثل له وبغمزة شقية:
_ وهل يستطيع رفض طلب موجه من السلطات العليا؟ لكانت نزلت عليه إحدى أوامر عصياني وعزوفي عنه.
_ وهل أقوى على ذلك حتى لو أردت؟
كان ذلك جواب محمود وهو يتقدم للغرفة متقابلًا معهم وجهًا لوجه، بعد انتهاء العمال وخروجهم من المنزل.
تقدم حسن من الخزانة يقلب فيها ويتفحصها من الخارج والداخل، ليتفاجئ بوجود مرآه داخلية لإحدى أبواب الخزانة بطول الباب، كانت جميلة براقة كأنه تم صقلها توًا، فما زالت تحتفظ بلمعانها ورونقها الجذاب، الخاطف للأبصار، من تجعلك واقفًا أمامها لا ترغب بمغادرة عينيك عن هذا الجمال.
_ هيا جميعًا لنتناول الطعام، فقد كان يومًا شاقًا.
كانت تلك كلمات أنوار وهي تتقدم بخطاها متجهة نحو المطبخ؛ لتعد أطباق الطعام وتضعها على المائدة، ويتم تناولها، ويتوجه كل منهم ليرى ما لديه من أعمال.
استلقى حسن على الفراش علَّه يأخذ قسطًا من الراحة؛ بعد عناء يوم كامل قضاه بالجامعة، يُلقي محاضراته على طلابه، فهو معيد في كلية العلوم، حديث التخرج لكنه نال مكانًا له هناك بفضل تفوقه وقدراته العلمية التي تَحَصَّلَ عليها خلال سنوات عمره.
وأثناء استلقائه بينما كان بين النوم واللا نوم، سمع صوتًا خافتًا كأنه نداء لأحد، فأخذ ينظر حوله ولكن لا يوجد شيء، ليظن بأن الصوت قادمًا من الخارج، من عند أحد الجيران أو الشارع، لكن الصوت عاد للنداء مرة أخرى وأخرى، مما جعله غير قادرٍ على أخذ قسط كافي من الراحة والنوم، فقرر النهوض والنظر بالمكان من نافذة الغرفة، علَّه يستطيع العودة وأخذ قسط من الراحة، وحين ألقى نظرة خارج النافذة لم يجد هناك من أحد ولا صوت حتى، فبدأ الشك يتسرب إليه، بأنه كان وهمًا بين النوم واليقظة، فعاد للاستلقاء على الفراش، وغط في نوم عميق فورًا من أثر تعبه الحاد.
في مكان آخر، سألها، هل استجاب لك أحد وفتح لك الباب يا ابنتي؟ فأجابته بأنه كالمعتاد، لم يُجب ولن يُجب عليها أحد، ولكنها لن تيأس وستواصل النداء حتى اللقاء، حتى لو بقيت على ندائها حتى يأتي الأجل، لكنها لن تمل، أو تستكين، فهي اشتاقت حد اللا معقول، وستبقى على الأمل بحضن واحد ونظرة تلقيها على من هم بالقلب لم يفارقوه أبد الدهر.
استيقظ حسن بالصباح، ولكنه مازال متعبًا، بسبب ليلته وما شهده فيها، فقام بآداء فروضه وتناول طعامه وتوجه مغادرًا لعمله، فقضى يومًا روتينيًا آخر ككل أيامه، ليعود محملًا بالتعب والارهاق مضاعفًا ككل يوم.
_ حسن، هل أتيت؟ كانت هذه كلمات أنوار أثناء تواجدها بالمطبخ، تعد الطعام لحين عودتهم من العمل وقد قاربت.
_ نعم أمي، سأبدل ملابسي وآتي لمساعدتك، إلى أن يصل أبي.
_ لا بني، فقد انتهيت من أعمالي، ارتح قليلًا حتى وصول والدك، فإني أراك مرهقًا، هل هناك شيء؟
_ لا أمي، فقط تعب بسيط بسبب قلة النوم، بعضٌ منه وأعود لسابق عهدي.
كانت هذه كلماته وهو يتوجه لغرفته، فبدل ثيابه واستلقى علَّه يرتاح أو يأخذ القليل من الراحة قبل تناوله طعامه، ولكن هل هناك من راحة؟ أم أنه سيعاني من الأرق كليلته السابقة.
بعد قسط قليل من الراحة، استيقظ وتوجه للخارج مع نداء والدته له، فتناولوا طعامهم مع الحديث عما مر به كل واحد منهم أثناء يومه، بعدها تناولوا بعض الشاي مع استمرار كل منهم يقص على الآخر روتينه اليومي، وانتهى الأمر بتوجه كل منهم لغرفته لقضاء ليلته وطلبًا للراحة، ولكن هل هناك من راحة تنتظر حسن؟ أم أنه سيلاقي ليلة أخرى من الأرق والإستماع إلى النداءات المتكررة كليلته السابقة.
بعد تجاوز القليل من الوقت، وقبل أن يغوص بالنوم، بدأت النداءات، وتكررت بشكل كبير، مما جعله لا يقوى على الراحة أو الإسترسال بالنوم، وكالليلة السابقة، قضاها يستمع ويبحث، ويتوجه إلى النافذة كل حين؛ عله يجد صاحبة النداء، لكنه لا يجد، ينظر هنا وهناك ولا يرى أحدًا، مرَّ على هذا الوضع ليالي متتابعة تليها ليالي أخرى، مما أفقده تركيزه أثناء عمله، وبدى الارهاق جليًا على قسمات وجهه.
في مكان آخر، تتنقل من مكان لآخر كالفراشة التي تستنشق رحيق كل زهرة أثناء قفزها من واحدة لأخرى، تُلقي السّلام على هذا وذاك، قسماتها مشرقة منيرة كالشمس كما اسمها، رغم كم الألم الذي يختزن بعينيها، الشوق نار تكوي القلوب، وهي تجرعته وما زالت تتجرعه إلى أن يأذن الله.
_ أبي، أبي، سعيدة برؤياك يا حارسي وملهمي، أتعلم! بأنني مدينة لك وسأبقى ما حييت، أنت من اعتنيت بي بعد رحيل أمي والجميع، قلبي يشتاق لهم جميعًا، لكن أنت سكني وسكينتي، منقذي وملجأي، لن انسى احتواءك لي حين كنت وحيدة.
_ أعُدنا لسابق العهد يا شموس، ألم نتعاهد على عدم ذكر ألآم الماضي، ونستمر حتى يحين اللقاء لك وألقى أنا ما لقيت وقتها.
_ أبي، لا تقل ذلك أرجوك، لا تعذبني، فأنت تعلم مقدار حبي لك وتعلقي بك.
_ أعلم، ولكنني على يقين حين يفتح الباب لن تنظري للخلف، وستهرولين إلى من هم يعانون من غيابك بالتأكيد، أعلم علم اليقين بأنهم بحثوا عنك حتى كَلَّ البحث منهم، ولكن لا أحد يعلم بوجود الباب غيرك، وإلا كان فُتح منذ زمن بعيد، ومؤكد بأن أحدهم قام بإغلاقه أثناء تواجدك هنا تلعبين مع مع، شقيقتك الراحلة.
نطق كلماته الأخيرة والحزن يكسو صوته المتألم.
_ أبي، أرجوك لا تبدأ، لقد رحلت لمكان أفضل، أنت تعلم أكثر مني بأنها عانت كثيرًا حين فقدت قرينها ورفيقها، كان هذا أفضل من بقائها وحيدة بلا رفيق مدى الحياة.
دعونا نتوقف للحظات، لنشرح أين نحن الآن، نحن في عالم الشماس، عالم موازي في البعد للأرض، عالم يحيا فيه كل فرد بقرين رفيق، إن مات أحدهم لحق به الآخر، وهذا من حسن حظه طبعًا، أما إن لم يلحق به يحيا بلا قرين رفيق محملًا بالألم والشوق الذي لا يفارقه، ويصبح أضعف بالبنية والقوة الجسدية، مخالفًا طبيعة العالم بقواهم والقدرات التي تولد بولادتهم ووضعهم لأول أقدامهم على أراضي هذا العالم، ومن تطأ قدمه هذا العالم يمتلك قوى مماثلة لهم تمامًا، لكن عليه التعلم والتدرب حتى يتحكم بها، وهذا يتم بقبول المجلس الذي يترأسه الشماس سيد العالم على تواجده بعالمه، يعني من مات قرينه الرفيق أصبح لا يملك قدرات ويتعايش كأنه بشري في هذا العالم يقضي كل ما يريد ويحتاج بيديه بدون قدرة، والقدرة هنا هي قوى السحر التي تولد وتتطور ببلوغهم، حتى أن من وطئت قدماه العالم وتدرب وامتلك القدرات يصبح مثلهم تمامًا من ناحية القرين الرفيق، لكن عليه البحث عنه لإنه لم يولد معه بنفس اللحظة واليوم والعالم أيضًا، ومن الممكن أن يقضي عمره باحثًا عنه ولا يجده، أما الباب الذي يتم العبور من خلاله للعالم فهو متصل بعالم الأرض ولو اُغلِق الباب بعد دخول أحدهم يبقى أبد الدهر في عالم الشماس إلى أن يُفتح الباب بنفس المكان الذي أغلق به متعامدًا متوازيًا للبعد الذي تم العبور منه أثناء الدخول للعالم وإن اختلف التعامد لن يكن باستطاعته سوى البقاء هناك بلا عودة.
عودة، بعد ليالي من الارهاق والتعب، وأثناء عودته من العمل، تلقى حسن مكالمة من أنوار، تبلغه فيها أن ريماس ستكون حاضرة معهم على الغداء وعليه ألآ يتأخر بالعودة، فسَّار بالطريق يفكر بريماس ويعلم ما تريده، فهي مصرة على تسريع زواجهم، وأن يتم بالقريب العاجل، وهو لا يرغب بذلك، فهو ما زال لم يتعرف عليها أو يشعر معها بالراحة، ما زال إحساسه ببعدها عنه فكريًا وعاطفيًا قائمًا، فهي فتاة كأي فتاة جميلة هادئة، لم تحاول التقرب منه أو السماح له بالإقتراب منها والتوغل لخبايا عقلها، لم يشعر بالخطف، أو بسلب الروح، لم يشعر معها بالتوهان كما يرغب أو كما يتمنى ويحلم، يعلم بأنه شخص حالم يرغب بمن تخطفه من الوهلة الأولى، من تجعله ينسى بأي أرٍض يقف، لكن ماذا يفعل؟ بعد أن تمت خطبته على من لم تمثل له كل ذلك، وكل هذا ارضاءًا لرغبة والده ووالدته، واكرامًا لصديق والده الميت وحفاظًا على ما ترك خلفه.
وصل حسن للمنزل، ليقرع جرس الباب وتفتح له ريماس الباب وتلاقيه على استحياء مرحبة، ليقابل ترحيبها بترحيب مماثل فهو مازال يرى الحدود التي ما زالت قائمةً بينهم، ليدخل لملاقاة والدته التي مازال يركض خلفها للآن كأنه ذاك الطفل الصغير ذو السنوات الخمس القادم من رياض الأطفال يشتاق لأحضان والدته، لتلاقيه أنوار باشتياق مماثل لاشتياقه.
يتبع الفصل الثاني اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية المرآة وابنة الشماس" اضغط على اسم الرواية
أنا كاتبة الرواية الأصلية حضرتكم على أي أساس بتنشروا الرواية بدون إذني
ردحذف