رواية لعبة الهوى البارت التاسع بقلم زيزي محمد
رواية لعبة الهوى الفصل التاسع
- رقية أنا..
هتف بها حمزة بنبرة منكسرة ذبحته وخاصة مع تجسد مرارة فعلته أمامه.
قاطعته ونزيف الحزن يقطر من مقلتيها :
- مش عاوزة أسمع كلمة منك.
صمتت لبرهة تستجمع قواها وكبرياؤها الذي حطم على يد من امتلك قلبها في لحظة غدر وخداع، رفعت بنصرها تخلع منه قيدًا ذهبيًا اختارته يومًا وظنت أنه هو الرابط الوثيق الذي يتوج علاقتهم للأبد :
- دبلتك أهي خدها، واعمل في حسابك أنك هتطلقني.
ألقته بوجهه فسقط أرضًا تحت قدمه، وبدون أي كلمات أخرى قد تزيد من جرحها، وتهدر بقايا كرامتها اتجهت صوب الخارج بأقصى سرعة لديها، ورغم أن الرؤية كانت لديها شبه معدومة؛ بسبب ذلك الغلاف الرقيق الذي تكون من دموعها الحزينة وأعاق بعض تحركاتها، إلا أنها كانت ترى أمامها طريقها الوردي الذي قد خطت فيه من قبل بإرادتها يتحول إلى شيء يصعب وصفة، لآخر مظلم وقاسٍ، وما أدراك حين ينبثق الظلام من رحم الحب!.
اندفع حمزة خلفها يحاول منعها بكل قوته، رقية تستحق التبرير، تستحق أن يوضح لها سبب موافقته منذ البداية، تستحق أن تعلم مقدار حبها الذي يتملك منه في الثانية آلاف المرات..
وضعت أيسل يدها تمنعه من الخروج من الغرفة قائلة بنبرة عدائية رغم تلك الدموع المتساقطة فوق وجهها من حزن وقهر مما حدث لشقيقتها..
- متفكرش تروح وراها، أنا همنعك.
- سيبني الحقها.
هتف بها حمزة بعصبية مفرطة، فلا وقت لديه في خوض جدال لن يحل شيء، فالوضع الآن لم يعد يحتمل شيء، فبدت وكأن سماء حبه تحولت فجأة إلى غيوم.
تقدم شهاب منهما بعد وقت طويل استغرقه في الصمت، وعقله كان يعمل بقوة ليخرجه من ذلك المأزق الذي حشر به.
- أيسل سيبه.
تحولت أيسل فجأة من تلك الفتاة الرقيقة الناعمة، لأخرى شرسة تريد اقتناص حق شقيقتها من ذلك الذئب البشري والذي قد أزال قلبه ووضع مكانه حجرًا حتى يفعل ذلك.
- أنت مالكش دعوة، اسكت خالص.
استغل حمزة تحول انتباهها نحو شهاب، وقرر أن يفلت يده من قبضتها، وتحرك بلهفة عاثت في أروقة قلبه، بحثًا عنها رغم علمه بأن عاصفتها بالتأكيد ستكون عاتية من شدة غضبها.
انطلق في الخارج يبحث بعينيه التي كانت تحارب بعض دموعه من السقوط، لتعلن عن نهاية ثباته، وبداية هزيمته واعترافه بأن ذلك الفراق ما هو إلا بابً من أبواب الحب المجهولة، تخفي خلفها ذاتنا المحطمة وقلوبنا المنسكرة!.
لمحها على بعد مسافة من الكافية تحديدًا في نهاية الطريق، ركض سريعًا يحاول اللحاق بها، وما إن اقترب منها حتى وجدها تسير بخطوات مبعثرة تبكي بانهيار وصوت شهقاتها يمزق أحبالها الصوتية، بالتأكيد لو سمعها أغلظ القلوب، لانهارت حزنًا عليها.
- رقية، اقفي، استنى.
التفتت فجأة نحوه، فتراجع هو للخلف خطوة حتى لا يفقد توازنه ويسقط عليها بسبب اندفاعه خلفها.
خرجت أنفاسها الملتهبة، تلهب مشاعره أكثر، قائلة بنبرة أشبه للصراخ :
- أنت جاي ورايا ليه، مش كفاية اللي عملته فيا.
تريث لثوان، محاولاً إيجاد كلمات تقنعها بالهدوء والاستماع له، ولكن شعورًا باليأس تسلل لقلبه، وأحس أنه سيكون حائلًا بينهم، ولكنه لا يجب ان يستسلم، فعاد وقال بنبرة رغم هدوئها، كانت مهزوزة ضعيفة :
- رقية حبيبتي اهدي واسمعيني.
ضحكت بصوت مرتفع ساخرة، قائلة بصوت متحشرج مختنق :
- حبيبتك!!، وليك عين تنطقها وتقولها، بذمتك مش مكسوف من نفسك وأنت بتمثل عليا الحب، مش مكسوف وأنت بتضحك على بنات الناس، تخليني أنا رهن لعبة حقيرة بينك وبين صاحبك.
- رقية اسمعيني أنا عاوز افهمك، وافقت ليه.
قاطعته حينما أشارت له بيدها وهي تتشدق بتهكم :
- مبقاش ينفع، هيفدني بأيه، هسامحك مثلاً، أبدًا عمره ما يحصل، أنت سيبت علامة سودا في قلبي.
أخرجت حروف جملتها الأخيرة بألم كاد يشق قلبها لنصفين، بل هو انشق بالفعل منذ استماعها لحديثهما بصدمة زلزلت كيانها.
أغلقت عينيها وفتحتها بوهن، تقول برجاء نابع من قلبها المفطور حزنًا على حالها :
- أبعد عني، أنا مأذتكش في حاجة، ليه مُصر تكسرني.
أشار على نفسه مبررًا بلهفة ضعيفة :
- أنا عمري ما فكرت أكسرك.
- وقوفك قدامي في حد ذاته بيوجع قلبي، حتى مش طايقة أشوفك، واعمل في حسابك أنك هتطلقني.
التفتت مرة أخرى، مقررة المغادرة من هذا العبث القاتل لقلبها، بينما هو استمر متحدثًا خلفها بكلمات ضعيفة، يقدم قدم ويأخر الأخرى، لم تعد لديه القدرة على مواجهتها وهي في أوج انفعالها، فملامحها الحزينة تعيق طريقه الذي قد أقسم منذ دقائق في الركض به، ليحاول إرجاعها لقلبه مرة أخرى ولكن هذه المرة بصورة نقية عذبة، لا يشوبها أي شائبة قد تعكر صفو حياته معها فيما بعد.
***
كانت أيسل تحاول فتح باب الغرفة؛ بعد إغلاق شهاب له وتمسكه بمقبض الباب بقبضة فولاذية كي لا تهرب هي الأخرى منه.
وبعدما فشلت محاولاتها هتفت بنبرة مجنونة مهددة له بأصابعها المهزوزة من فرط عصبيتها وانفعالاتها :
- افتح بقولك، والله اصوت والم الناس عليك.
أردف شهاب بطريقة جدية وحادة :
- اسمعيني الأول.
فهزت هي رأسها في رفض قاطع، تقول من بين أسنانها مغتاظة من حدته وجرأته في الحديث معها وهو من المفترض أن يبكي ندمًا لذلك الذنب القاهر الذي أقدم عليه بتفكيره الشيطاني ذلك :
- أنت كمان ليك عين، تقف وتتكلم وتبرر.
وفي الحقيقة هي كانت طريقة لجأ إليها شهاب حتى يحاول إخضاعها، وامتصاص غضبها، ظنً منه أن في هدوئه ضعف ثائرتها ، ولكنه لم يحسب حساب شيئًا واحد، انها لن تمضي معه خطوة أخرى في طريقهما، وأن ما فعله بشقيقتها ليس إلا فعل دنئ.
رفضت النظر إليه بعدما تحطمت صورته أمامها، لا تطمح أبدًا بأن ترتبط بشخص تتأصل الندالة في صفاته، ليذهب الحب إلى الجحيم، ولن تظل في تلك العلاقة أبدًا.
- أنا بحاول أكلمك، وأنتي مش مدياني فرصة.
صرخت في جنون لتقول :
- ولا هديك، أنت من اللحظة دي برة حياتي، ودبلتك اهي خدها، ميشرفنيش إنك تبقى في حياتي وأنت أسود كده من جواك، طلقني حالاً.
قالت جملتها الأخيرة باستحقار زعزع حدته التي كان يتشبث بها منذ قليل.
- أنا عامل ده كله علشان تفضلي معايا، رقية كانت هتفرقنا.
أشارت نحو عقله قائلة في استهجان :
- ده في خيالك المريض بس، أنا أختي أكبر من كده، وتصدق فعلاً يا شهاب، هي كانت صح في كل كلمة قالتها عنك قبل كده، أنت ميهمكش غير مصلحتك وبس، والباقي كله تحت جزمتك.
حرك أصابعه من فوق المقبض في إحراج بعدما تعرى هكذا أمامها واستطاعت هي بكل جرأة مواجهته دون خوف، وإبراز عيوبه في نقاط قوية.
استغلت هي زعزعته، وفتحت الباب ثم خرجت من تلك الفتحة الصغيرة، ومنها إلى الخارج، تبحث عن رقية بلهفة وخوف، حتى وجدتها تسير في نهاية الطريق وحمزة خلفها، انتبهت لبوق سيارة أجرى من خلفها، فالتفتت وقررت إيقافها، ركبتها سريعًا وانطلق بها السائق بعدما أشارت له بالاستمرار في السير للأمام، وعندما اقتربت من رقية، توقف السائق بأمر منها وفتحت الباب قائلة بصوت مرتفع قليلًا :
- رقية تعالي اركبي.
حولت رقية بصرها، تأكدت من وجود أختها بالسيارة، ركبت بجانبها في ثوان، تاركين حمزة يقف كالطفل الصغير الذي لا يجيد التصرف، ضائع في صحراء جرداء، لا وجود للماء ولا الطعام، وكل ما يهمه استعادة نبضات قلبه.
****
تحرك حمزة نحو الكافية مجددًا وتبخرت معه كل آماله، عقله مشوش من الأفكار التي مازالت ترهق في خلاياه، أما عن قلبه تكدست المشاعر به، فشعر بضيق يحتل صدره، يحبس معه أنفاسه، ليحسرها بين رئتيه.
قابله في منتصف الطريق، شهاب الراكض اتجاهه..يقول في لهفة وقلق :
- قدرت تتكلم معاهم.
هز رأسه في نفي، والتزم الصمت بينما كان يسير في طريقه الذي أصبح مشوش لديه.
أوقفه شهاب مرة أخرى، مغتاظًا حينما شعر بتجاهله، فقال بعصبية :
- ما تقف تكلمني ياعم، سايبني أهري مع نفسي.
استدار حمزة له وعيناه كانت تطلق شرارت الغضب والكره، حتمًا لو طالته لأحرقته، ليشعر بما يندلع بصدر حمزة، فقال من بين أسنانه :
- اهري مع نفسك، علشان ده أنسب حل ليك يا شهاب على الورطة اللي حطتنا فيها كلنا.
برزت عروق شهاب الغاضبة، ليقول بنفاذ صبر ، بعدما طفح الكيل به من تأنيب الضمير الذي بدأ يحتل حديث حمزة مؤخرًا، ومما زاد الطين بله، هو نظرات أيسل له، وكلماتها التي أصابت قلبه في مقتل.
- أنا..أنا، هو كل حاجة فوق دماغي، ما أنت كنت معايا من الأول، ولا يكون غصبتك مثلاً، وأنت عيل يا حرام سمعت كلامي، خوفً مني.
لم يتحدث حمزة بل اندفعت يداه المتكورة في غضب، يلكم وجه شهاب في غيظ وكره، ترنح شهاب للخلف أثر تلك اللكمة المفاجئة، والتي لم يكن يتوقعها أبدًا، وابتسم ساخرًا، بعدما نجح في إخفاء صدمته، مردفًا :
- بتمد إيدك عليا، فاكرني مش هقدر اردهالك مثلاً.
ضربه حمزة بكلتا يداه في صدر شهاب، هاتفًا بغضب وانفعال :
- ولا تقدر، ابعد عن طريقي أحسنلك، كفاية إنك سبب المصايب في حياتي، أنت أذى والقرب منك شر.
حرك شهاب رأسه يمينًا ويسارًا يحاول التحكم في غضبه متحدثًا بهدوء زائف :
- كلمني بأسلوب أحسن من كده يا حمزة، أنا مش شغال عندك، أحنا في مركب واحده، ومعلش يعني أنت مش هتصلح علاقتك برقية على قفايا، واطلع أنا ابن كلب في الأخر.
اقترب منه حمزة يهمس بفحيح وحثته نواياه على نشب شجار مع شهاب، لينفث به غضبه الذي يتملك بكل ذرة في كيانه :
- ما أنت فعلاً كده يا شهاب.
ضربه شهاب بلكمة قوية، وقع حمزة على أثرها على ظهره، ولكنه سرعان ما وقف مرة أخرى، وصفع شهاب بقوة، فرد الأخر له، فبدوا وكأنهم بلحبة مصارعة، يقاتلون بشراسة، كلاً منهما كان يحركه دوافع مختلفة، لم يشعرا بأن الصفعات واللكمات طالت وجوههم لتترك أثر واضح عليها، انتهت المعركة حينما أوقع حمزة شهاب ووضع يداه حول عنق شهاب يخنقه بغل، فكاد غضبه يعمي بصيرته بعدما خرج عن طور تعقله، والأخر كان يصارع يد حمزة القوية القابضة فوق عنقه..انتبه أخيرًا لِمَ يفعله، فابتعد عن شهاب ببطء بعدما بدأت قوته في النفاذ، هاتفًا بضعف وصوت مجهد :
- قولتلك ابعد عني، أنا مش طايق نفسي.
نهض حمزة مرتبًا ثيابه، ثم خطى خطواته نحو الكافية في بطء وحزن لِمَ حدث اليوم.
أما شهاب فنهض في صعوبة، بعدما انهمك جسده في ذلك الشجار، الذي كان من المفترض أن يبتعد عنه بكل الطرق السليمة، حمزة يتفوق عنه جسديًا ورياضيًا، وبالتالي المعركة لم تكن في صالحه.
****
صعدت رقية الدرج وبجانبها أيسل، التي لم تتفوه بأي كلمة حتى لا تجرح شقيقتها أكثر من ذلك، يكفي ما تشعر به، ولن تزيد فوق قدرتها، بالإضافة إلى ما تشعر به من خذلان أصاب قلبها على يد شهاب، من الواضح أن رؤيتها للشهاب كانت زائفة، ورغم أن فضولها كان يدفعها إلى أن تقف لتستمع له، إلا أن قلبها رفض مكتفيًا بالأسباب الواهية التي احتلت حديثه.
وقبل أن تصعد أيسل الخطوة الفاصلة عن باب شقتهم، أوقفتها رقية بصوتها المبحوح ووجها الشاحب تقول بتردد :
- آآ..أيسل كنت عاوزة أقولك حاجة.
ربتت أيسل فوق يدها بحنو، مردفه :
- قولي يا حبييتي، أنا سامعكِ.
مسحت رقية عبراتها الهابطة فوق وجهها، تسرد حزنها وانكسارها بين تساقطهم المستمر :
- ياريت متقوليش لبابا وماما حاجة من اللي حصلت النهاردة.
صمتت لبرهة، قبل أن تعود وتسطرد حديثها في انكسار :
- مش هقدر اتحمل نظرات الشفقة منهم.
عضت أيسل فوق شفتيها السفلي، ثم همست بتردد :
- طيب وهتعملي مع حمزة إيه!.
هدرت رقية بصوت عنيف وحاد :
- متجبيش اسمه قدامي، أنا بعد كده هبقى أشوف أي حكاية اقولها لماما تنفع تكون سبب انفصالنا.
طوقت أيسل خديَّها تهمس بصوت حاني ودافئ :
- ماشي، أنا مش هتكلم ولا هقولها حاجة، بس أنتي حاولي تخرجي نفسك من الحكاية دي بسرعة، واحمدي ربنا ان خطوبتك مطولتش ولا لحقتي تتعلقي به، وده مجرد كتب كتاب، مش جواز فعلي.
آه قوية ودت أن تخرجها للعلن، لتعبر عن كم الألم الذي تشعر به وهو يتوغل داخل ثنايا قلبها، كلمات أيسل كانت الخنجر والذي غرس بقوة في قلبها، فذلك الخذلان الذي داهم قلبها، جعلها مثيرة للشفقة، وأي درجة من درجات الشفقة وقلبها قد حطم بذلك الشكل!.
ورغم أن الكلمات بدأت في التسابق على طرف لسانها، إلا أنها فقدت القدرة على ترجمة ما تشعر به، فاكتفت بكتم مشاعرها داخلها.
****
صباحًا تحركت أيسل في فتور، تساعد والدتها لإعداد وجبة الأفطار، كانت صامتة أغلب الوقت، لم تتحدث سوى ببعض كلمات بسيطة وكانت أغلبها إجابات مختصرة على أسئلة والدتها، عيناها كانت عبارة عن كتلة من الدماء، يغلب الانتفاخ عليها، أما الحياة فكانت شبه منعدمة من ملامحها..
أحيانًا كانت مقلتيها تخونها ويهبط منهما دموعًا بسيطة، تحرك مشاعرها الملتهبة بعدما كانت تحاول اخمداها في وجود والدتها..
ومن فرط حزنها كان انتباهها شبه معدوم، فسقط الصحن أرضًا وتناثرت قطعه في أرجاء المطبخ، اندفعت بطريقة هوجاء نحو القطع الصغيرة غير منتبهة لحدتها، أو غير مبالية، فهي الآن في حالة تجعل ذلك الجرح الصغير الذي شق أصبعها لا تشعر به، ف
بالتاكيد ليس بقدر آلام قلبها.
منعتها والدتها من استكمال ما تفعله، وساعدتها على النهوض، ثم جذبتها نحو الصنبور تغسل إصبعها بعناية، ومن ثم جلبت صندوق الإسعافات وبدأت في تنظيف الجرح، كل هذا يحدث ولم تنبس شفاتها بأي كلمة، ولكن لعيناها رأي آخر حينما اندفعت الدموع منها تتسابق كالشلالات فوق صفحات وجهها الحزين والمنكسر.
فقالت والدتها بتوتر، يحمل ضيقًا بالغًا من صمتها الطويل، وهيئتها الحزينة :
- مالك.
مدت يدها الثانية تمسح دموعها سريعًا، ثم رسمت فوق ثغرها ابتسامة باهتة، وهي تقول بنبرة ضعيفة تغلب البحة عليها :
- مفيش، ايدي بتوجعني بس.
- بس من قبلها وانتي كنتي زعلانة، وبتعيطي، فاكرني مش واخدة بالي.
قالت والدتها في إصرار، فردت أيسل في ارتباك :
- لا أنا تمام مفيش أي حاجة، بس ممكن علشان متخانقة مع شهاب شوية.
جذبت يدها من يد والدتها، واتجهت صوب الخضروات تقطعهم في سرعة وتوتر تعجبت لها والدتها، مما جعلتها تتقدم منها قائلة باستنكار:
- وشوية مشاكل مع شهاب!!، تخلي أختك بردوا تعيط في اوضتها ومتخرجش منها خالص.
قاومت ايسل رغبتها في الاستسلام وإخبار والدتها بكل شيء، فذلك الحمل الذي تحمله فوق صدرها، أصبح ثقيلًا، ولم تعد لديها القدرة على خوض معركتها في الكتمان أكثر من ذلك، ولكن رجاء رقية كان يقف لها بالمرصاد، يجعلها تعود لنقطة الصفر، محتفظة بذلك السر داخلها، فقالت بجمود :
- ما قولتلك يا ماما، رقية تعبانة وعندها برد في معدتها.
دق جرس الباب، فانتشل أيسل من تلك المجادلة الهادئة، والتي كانت ستسفر عن إفشاء ذلك السر.
اندفعت أيسل صوب الباب، وهي تمسح بعض العبرات التي مازالت متعلقة بجفونها، ثم فتحت الباب وهي تخرج تنهيدة عميقة من صدرها، ولكن ما لبثت في إخراجها، حتى وعادت تكتمها مرة أخرى في صدمة وذهول حينما وجدت حمزة يقف أمامها وملامح وجهه مرهقة، تصرخ بالندم والحزن :
- ممكن أشوف رقية!.
- لا طبعًا مش ممكن، واستحالة كمان، واتفضل من هنا.
ردت أيسل في عدائية وهجوم، فحاول حمزة امتصاص غضبها ليعاود قائلًا في هدوء ورجاء :
- أنا محتاج أتكلم معها يا أيسل.
قاطعته هي في عصبية خافتة :
- وهي مش محتاجة، لو سمحت اطلع من حياتها وكفاية على كده.
كانت صوتها خافت جدًا، تحاول بشتى الطرق إبعاده عن شقيقتها ولكن ما جعلها تبتلع أي حديث آخر، هو صوت والدتها الذي ظهر فجأة من خلفها، تسألها من الطارق، ثم ترحيبها الشديد بحمزة..
- أهلاً يا حبيبي، تعال ادخل، واقف برة ليه!!.
حقًا زحفت الصدمة لملامح حمزة، فلم يكن في مخيلته ذلك الاستقبال الباهر والودود، فأدرك سريعًا أن والدتها لا تفقه شيء، مما جعله في حالة من الارتياح الشديد، ودخل بأريحية رغم اعتراض نظرات أيسل له، والتي كانت تحثه على الرفض.
انتفضت مشاعره حينما استمع لشهقة "زينات" الصادرة من العدم، فحول نظراته سريعًا لها يتساءل في ريبة، فأشارت على عيناه قائلة :
- أيه ده، انت اتعاركت مع حد ولا إيه.
رفع أصابعه نحو الكدمة التى اتخذت حيزًا كبيرًا في وجهه بالقرب من إحدى عيناه، ليقول بابتسامة بسيطة :
- مفيش، متقلقيش، خناقة بسيطة بس في الشارع.
أنهى حديثه بإلقاء نظراته نحو أيسل بعدما رمته بنظرة استحقار قرأها هو بطرف عيناه، ساد الصمت لدقائق، قطعتها زينات بتساؤلها والذي أربك أيسل :
- أنت جاي تطمن على رقية علشان تعبانه!.
فتح فمه ليتحدث، فسابقته أيسل بحديثها المبطن والذي كان يحمل تحذيرًا قاسيًا له :
- بعد ما مشينا من عندك امبارح، معدتها وجعتها، وهي دلوقتي تعبانة ونايمة.
أومأ إيماءة بسيطة، متفهمًا مغزى حديثها الأول، والأخير عنادها به حينما وجه حديثها لزينات التي كانت تقف تحاول قراءة ما يدور بينهما، وقلبها يدق بعنف حينما توهجت لديها مشاعر الأمومة والقلق :
- اه، منا عارف، بس كنت محتاج اشوفها واطمن عليها لو ينفع يا طنط.
- ينفع طبعًا يا حبيبي، أدخل على الصالون، وأنا هدخل اناديها.
دخل حمزة إلى الصالون متجاهلاً نظرات أيسل له، جلس في أقرب كرسي فتقدمت منه تهتف في همس وعتاب :
- على فكرة اللي بتعمله ده، بيضرها أكتر.
- وانا مش عاوز الضرر ليها، أنا محتاج انها تسمعني.
هتف بإصرار، تملك منه بالأمس، حينما شجع نفسه بأنها تستحق أن ينحت في الصخر ليصل إليها، ويهدم كل العواقب بيد من حديد، فهي الآن لديه كالحلم وسيحققه حتى وإن تعثر بالطريق آلالاف المرات.
فعادت أيسل تهمس بجانب أذناه حينما هتفت بنبرة ساخرة تحمل كره عميق :
- براحتك، بس هي مش هتطلع ولا هتشوفها.
أنهت حديثها باستقامة جسدها، ثم خروجها من الصالون متجهة صوب المطبخ، وداخلها يغلى كالبركان من إصرار ذلك المستفز على هدم كل الحبال التي مازالت شقيقتها تتمسك بها نحو الحياة، فالمواجهة التي يصر عليها، لن تسفر سوى بانهيار قاتل لقلب رقية والتي يمكن الاحتفاظ بجزء منه بالتأكيد بعد محاولاتها العديدة والتي خططت لها حتى تعيد شقيقتها للحياة تدريجيًا.
****
أما داخل جدران غرفة رقية، كانت والدتها تحاول أقنعها بالخروج لحمزة، والأخرى كانت تتشبث بمرضها، متمنية أن تهرب من تلك المواجهة والتي حتمًا ستزهق روحها.
- يابنتي عيب، قومي قابلي جوزك لو تعبانة تعالي اسندي عليا، بس الراجل كتر خيره جاي يطمن عليكي.
اعتدلت رقية بفراشها، ووجها باهت، ملامحه شاحبة، بل انطفئت لدرجة، أنها كانت تندم على أمر زواجها منه، فمنذ معرفتها بالحقيقة كانت تخاطب قلبها في حزن وانكسار، يا ليت يعود كل شيء إلى سابقه، دون خسارة قلبها في لعبة من تدبير عقول شياطنيه!.
ومع إصرار والدتها، ونظرات الشك المنبعثة من عيناها، قررت ألا تزيد من قلقها وترضخ لمقابلته، رغم ثوران مشاعرها، وتأهب قلبها لتلك المقابلة، بعدما كان يدفعها كرهها له، إلى محاولاتها بالأمس على دفنه داخل سراديب عقلها قبل قلبها، ولكن كلما فكرت بذلك، كانت تفشل بكل بساطة، بعدما أدركت أنه كاللعنة التي يستحيل البعد عنها.
خرجت خلف والدتها بعدما أبدلت ملابسها، لأخرى سوداء تحاكي ما تشعر به الآن من ظلام حالك لأحاسيسها اتجاهه.
تبادلت نظراتهم في حديث طويل، ودت أن يكتفيا به، ولن تتفوه ألسنتهم بحديث آخر، قد ينكأ جراحها مجددًا، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، حينما تركتهم والدتها وحدهم وخرجت من الغرفة.
وقف حمزة متمتمًا بعجز بعدما تسلل له اليأس مجددًا؛ بسبب نظراتها الحادة والقوية:
-ياريت نخرج نتكلم مع بعض شوية.
خرجت نبرتها مختنقة بها بحة تحمل ضعفًا وألم، على الرغم من تجهم ملامحها :
- في إيه ما بينا نتكلم فيه!.
اخشن صوته وهو يردد بضيق :
- ما بينا كتير يا رقية، ما بينا إنك مراتي وعلى ذمتي.
عقدت ذراعيها أمامها في عناد وقوة :
- وأنا بقولك خلاص، مبقاش مابينا حاجة، كل اللي بينا انتهى.
دخلت والدتها تحمل صينية المشروبات، فتراجعت ملامحها إلى اللين، استغله حمزة بذكاء حينما قال :
- ممكن يا طنط اخد رقية معايا، اخدها معايا الكافية شوية يمكن تفوق كده.
وقبل أن تعطي رأيها، كانت والدتها تندفع برأيها الودود والمرحب لفكرته :
- وماله ياحبيبي...
حولت بصرها نحو رقية تقول في إصرار جعل رقية تندفع نحو غرفتها في غيظ :
- روحي غيري هدومك، ويالا مع جوزك، علشان تفوقي كده من التعب اللي سيطر عليكي ده.
ابتسم حمزة ممتنًا لزينات، هاتفًا :
-شكرًا يا طنط.
ابتسمت زينات ابتسامة عريضة، وهتفت بنبرة غامضة :
- ولو كنتوا زعلانين من حاجة، الفرصة جت لغاية عندك اهي، رقية طيبة وهتتصالح بوردة.
أومأ لها برأسه، مؤكدًا بداخله على أمر مراضاتها بشتى الطرق، فحبها سكن قلبه منذ لقاؤهم الأول، وأقسم بداخله انه لن يحيد عن طريقها حتى تعود إليه، فخسارتها تعنى فقدانه لروحه!.
يتبع الفصل العاشر اضغط هنا
تعليقات
إرسال تعليق