رواية لعبة الهوى البارت الثامن بقلم زيزي محمد
رواية لعبة الهوى الفصل الثامن
انتفض قلبه عدة مرات بعدما طال الصمت بينهما بعد انسحاب شهاب السريع، نظراتها كانت تحاول الإمساك بنظراته الهاربة من واقع عيناها المظلم وخاصةً إن بدأ ناقوس الخطر يدق بداخلها حول طبيعة علاقته بشهاب وذلك الغموض الذي يحاول أن يخفيه بعيدًا عنها.
اقتربت منه بعدما كانت تحتفظ بنفس المسافة التي كانت تقف بها، وقررت أن تهدمها وتقترب منه أكثر حتى تستطيع النظر في عيناه بوضوح وتجد ما يراضي فضولها حول توتره وحديثه المبهم.
همست بكلمة لا ثالث لها وكأنها ترسل له تحذيرات ليجيب بوضوح دون خلق أسباب واهية :
- في إيه؟!.
رفع أصابعه يداعب خصلاته للخلف، مجيبًا بضيق استطاع أن يظهره ويخفي خلفه ارتباكه :
- مفيش، أنا وشهاب كنا بنتخاتق زي ما سمعتي..
ألقى بجملته وسمح لعيناه بالتجول فوق ملامحها للحظات، مستكشفًا مدى استماعها لحديثهما، وخاصةً إن كان هو لا يتذكر تفاصيل حديثه رغم مرور دقائق بسيطة عليه، ومن شدة توتره أصبح كالغريق في بحر مظلم، يترك نفسه للهلاك، وداخله ينتظر الشعاع أو الأمل الذي ينتشله من هذا المصير المحتوم بالضياع!.
- أيوه سمعت، بس مفهمتش أنت هتخسر نفسك ليه؟!.
رمقها لثوان مفكرًا في أمرًا يحاول الخروج به من تلك المعضلة، ولا شك أن هناك نورًا بسيطًا اجتاح صدره بعد هذا الكم من الظلام والتخبط.
تنهد بغضب غلفه بالكذب والخداع وهو يقول :
-مشاكل مع شهاب وأصحابنا وهو مُصر يوقعني في الغلط معاهم، ومش عاوز أخسر حد، ومش مقدر يا رقية اليوم ده والضغط اللي أنا فيه، بالعكس زي ما يكون بيزود فوقي أكتر بتلميحاته وكلامه المستفز.
تراجعت عن إصرارها الذي كانت تتشبث به منذ قليل في معرفة ما يدور بينه وبين شهاب، وقررت أن تترك أمر علامات الاستفهام التي تهاجم عقلها بين حين وآخر وتحاول إيجاد مبررات له، ربما لم يخطأ حمزة، وهي بدأت تتعلق به كالمجنونة، فبدت كالأم التي تريد تعقبه في كل صغيرة وكبيرة..
تنهدت بخفوت وهي تحاول رسم ابتسامة صغيرة فوق ثغرها، تهتف بهدوء وصوت حاني علها تخرجه من دائرة الضيق التي استوطنت ملامحه وجسده :
- أنت صح، كان المفروض يقدر حاجه زي دي، سيبك منه، وتعال أفرح بتعبك ونجاحك، يلا.
أومأ لها بصمت، وتحرك معها لداخل دون أي طاقة، رصيده بدأ بالنفاذ، حتى أنه تمنى أن يصمت للأبد حتى لا يتفوه بأي أكاذيب أخرى، وتزيد عليه همومه، وتقتل معها ما تبقى من روحه.
أصبح الطريق أمامه مشوش، وأهدافه التي كان يسعى لتحقيقها في البداية ضاعت كالسراب، حتى مبادئه واحترامه لذاته تشوهت بندوب عميقة يصعب معالجتها!.
*****
بعد مرور يومان.
استيقظ حمزة في وقت باكر بجسد يطالب بالراحة، أو ربما لم يعد لديه القدرة على استكمال حياته، لقد تآكل شغفه بنيران الكذب والخداع.
هز رأسه ينفض أفكاره المظلمة، فلا وقت لدية كي يستسلم إليها، ويغوص في وصلة لتعذيب الذات لا تنتهي، انتقل في غرفته بآلية، يرتدي ثيابه وعيناه تعافر مشهدها وهي تحت سطوة اعترافه بحبه لها، وملمس شفتاها الرائع الذي لم يترك عقله تفصيله إلا وتذكرها.
ضرب على الدولاب بيده بقوة، متمتمًا بكلمات لاذعة لنفسه من بينها "غبي"، ولكن حنينه إليها في وقت غيابها، يعتصر فؤاده، وكل ذلك بسبب دقات قلبه اللعينة التي تشتاق إليها ولا يعرف طريق لإسكاتها.
رفع بصره نحو المرآة ينظر بها ساخرًا لنفسه، الآن وبدأ بالاشتياق، تُرى ماذا ستكون حالته عندما يبتعد عنها، داهمه فكرًا يحاول السيطرة عليه، يقنعه بأن يُكمل حياته معها، مكتفيًا بأن حبه صادق ونابع من أعماق قلبه، ولكن كان لضميره رأي آخر، يحثه على عدم استكمال حياته بهذا المنوال، فلن يجني بآخره سوى العذاب والقهر، سيعترف بذلك السر لها فلا مجال للكذب او الخداع.
ارتفع رنين جواله برسالة قصيرة، فتحها، فوجدها منها، قرأ حروفها بلهفه بعثرت بقايا ثباته واتزانه، تتطمئن عليه في كلمات بسيطة، تهتم لآمره بطبيعتها النقية، طبيعتها التي كانت تغيب عن مرمى بصره في بداية علاقتهم، بعدما كان ينظر لها من منظور شهاب فقط، يحاول إقناع نفسه وعقله بأن ما يفعله ليس سوى عمل بطولي لينقذ صديقة من عبث كاد يدمر حياته، دون أن يدري أن ذلك العبث طاله هو أيضًا وبدأ في تدمير حياته ولكن السبب هو، حينما اقتنع بكلمات شهاب عنها، دون أن يتحرى الدقة أولاً، ولكنه تلقى الصفعة مبكرًا، وأفاقته على زالزال قوي، دمر معه هذا العمل البطولي، مزيلاً قشرته الحمقاء، فتذكر أول صدام معها عندما قرر شهاب أن يجمعهما مرة ثانية.
***
رفع يده يراقب عقارب الساعة باهتمام، ينتظر مجيئهم للمرة الثانية بعدما اتفق معه شهاب على ذلك، لم يستطع نسيان تلك الزرقة التي استحوذت على عيناها في تصوير مبدع من خلق الله، تلك الفتاة منذ أول لقاء وهي جذبت انتباهه بقدر لم يكن يتخيله أبدًا، جمود ملامحها رغم رقتهم أصابه بالتوتر..
رفع بصره يراقب مدخل الكافية فاصطدم بهما مجددًا، وأي اصطدام ذلك زلزل كيانه وثباته، استطاع في ثوان قصيرة لم شتات نفسه، واقترب منهم يرحب بحفاوة شديدة، تعجبت لها رقية، فظهر الاستهزاء جليًا على ملامحها..
وبعد مرور خمسة عشر دقيقة في الجلوس هكذا دون أن تفعل شيء سوى النظر لأيسل وشهاب ومراقبة أفعالهما، ورغم أنه لم يستطع الجلوس معهم طوال هذه المدة، إلا أنه كان يراقبها عن كثب..
تقدم منهم بعدما أشار له شهاب، وأمر النادل أن يضع المشروبات أمامهم، انتظر حتى أفرغ عمله، ثم جلس في الكرسي المجاور لها، مشيرًا نحو الطاولة بهدوء وابتسامة صغيرة :
- اتفضلوا، العصاير دي تحفة هتعبجكوا.
التقط شهاب كوب العصير يرتشف منه القليل، وما لبث أن تذوقه فعبس بوجهه متسائلًا :
- إيه ده، العصير ده في حاجة غلط ولا إيه..
تشنج جسد حمزة يسأله في ريبة :
- في إيه، أنا بدوق أي حاجه قبل ما أقرر انزلها في المنيو..
هزت أيسل رأسها في نفي حينما وضعت الكوب الخاص بها وهي تقول :
- بالعكس ده لذيذ جدًا.
حول حمزة بصره نحو الصامتة، ليستشف رأيها وحينما وجدها تضع الكوب في صمت، ركز ببصره عليها أكثر، فجعلها ترفع نظرها له تقول بجمود :
- حلو.
لم يستطع منع لسانه من التفوه بتهكم :
- كتر خيرك يا أنسه رقية، بس هو أنتي جاية غصب عنك.
- نعم؟!.
قالتها في اعتراض، تزامنًا مع رفع حاجبها الأيسر.
- مفيش أصلك بتردي من غير نفس، لو مش عاجبك قولي، أنا أكيد مش هزعل.
ابتسمت باستهزاء وهي تقول :
- هو أنا يهمني زعلك في إيه يا أستاذ حمزة، أنا رديت وقولت رأي، مش شرط أكتب قصايد في العصير يعني.
أحمر وجهه في غضب من تلك الجريئة التي تتفوه بحديث أشعل فتيل غضبه، ولكنه كتم انفعاله بصعوبة بالغة، ونظر له بتحدِ مقررًا توبيخها ولكن بطريقة مهزبة :
- هو أنا لما اتكلمت عن الزعل، فأنا أكيد اتكلمت من باب مشاعر البشر، تعرفيها أكيد!.
قال حديثه الأخير بابتسامة سمجة، وأكمل بعد ذلك قاصدًا استفزازها :
- ولما تحبي تدي رأيك لحد، ابقى فكري في نقطة الاهتمام وانتي بتتكلمي، وطبعًا أنا بتكلم عن مشاعر اللي قدامك، اللي من الواضح انك بتقدريها كويس!.
ضغطت فوق لحم شفتاها السفلي، تحارب مشاعرها من الانفلات، حتى لا تنفعل كالحمقاء وتزيد الوضع سوء، فقررت أن تبتلع اعتراضها عن حديثه الوقح والذي كان بصفة مبطنة خبيثة، واستمعت لحديث شهاب في صمت كان يحرقها آلاف المرات .
قال شهاب ضاحكًا :
- معلش يا حمزة، أصل رقية مبتخدش على حد بسرعة.
فردت رقية عليه بسماجة وعناد :
- خليك في العصير اللي مش عاجبك يا شهاب.
أشار لها شهاب بيده قائلًا بحماس فتت طريقتها الصلبة معه، ليظهر عليها الاشمئزاز وهي تتابع حديثه مع أيسل.
- أنتي صح، خدي كده يا حبيبتي اشربي من كوبايتي، شوفي في حاجه كده.
وضعت أيسل شفاها فوق الشفاط الأحمر المتدلي من كوب العصير، ترتشف القليل، ثم هتفت بتلذذ ظهر بوضوح عليها :
- جميل اوي.
فوضع شهاب فمه فوق الشفاط خلفها يتذوق باستمتاع :
- امممم فعلاً بقى حلو.
انكمشت ملامحها باشمئزاز أكثر عندما رفعت طرف أصابعها حول فمها كناية عن رغبتها في الغثيان.
ولكن حمزة وصل له الأمر بطريقة مختلفة، طريقة ربما أكدت له، أن نظراتها ليست سوى إلا حقد وغيرة مما يحدث بين شهاب وأيسل، وخاصةً أن عيناها لا تفارقهم حتى وهما في أدق تفاصيليهم الخاصة.
استئذن منهم ونهض لداخل الكافية، فدخل خلفه شهاب بسرعة، عندما لم يستطع كبت كلماته بداخله، فأمسك بحمزة في ركن بعيد يزجر به في انفعال :
- حمزة إيه طريقتك دي مع رقية، امال احنا متفقين علي إيه!.
أشار حمزة نحو عنقه متمتمًا بضيق :
- مش قادر يا شهاب، دي حقوده اوي.
التوى فم شهاب ساخرًا :
- أنت لسه شوفت منها حاجة، التقيل جاي ورا، المهم عاملها بطريقة ألطف من كده، المفروض تجذبها ليك.
بينما على الجانب الآخر كانت أيسل تهتف بعتاب :
- مينفعش يا رقية تعاملي حمزة كده.
هزت رقية كتفيها بلامبالاة ظاهرية لتقول :
- أنا بتعامل عادي على فكرة.
زمت أيسل شفتاها بضيق مردفه بإصرار :
- لا على فكرة أنتي كنتي قاصدة، والراجل زوق معانا، وكفاية أنه عازمنا مرة تانية على الكافية عنده.
- عازم صاحبه وخطيبته، مش انا مخصوص يعني.
- لا منبه على شهاب إنك تيجي معانا، ومكنتش حابه أقولك علشان عارفه دماغك ومكنتيش هترضى تيجي.
توترت رقية قليلًا، ولكنها أظهرت عكس زلك عندما تحدثت بضجر:
- واديني جيت خلاص بقى، اعامله براحتي بقى.
التزمت أيسل السكوت ولم ترضى أبدًا بداخلها عن طريقة أختها في التعامل مع الأشخاص الغريبة، وكأنها تقصد أن ينفر منها الجميع للأبد، حزينة بداخلها على إقصاء الكل من حياتها سوى عائلتها فقط، فبدت الانطوائية والاكتئاب تظهر عليها بوضوح وخاصةً إن كان تعاملها مع الآخرين ليس سلسًاً .
**
عاد حمزة من شروده على اتصالها عليه بعدما لم يرد عليها وتلك كانت غير عادته، ورغم تكرار اتصالاتها إلا أنه قرر عدم الرد حتى يضع النقاط فوق الحروف، منهيًا تلك التمثيلية عند هذا الحد، فالاستمرار بها يعيني الخسارة، وخسارته لها أكبر ضربة قاضية له.
رفع هاتفه وقرر إرسال رسالة قصيرة لشهاب وداخله يحثه على تنفيذ ذلك دون الرجوع لنقطة البداية..
" شهاب لازم تيجي تقابلني بليل ضروري في الكافية" .
أنهى رسالته وارتفع رنين هاتفه مجددًا باتصال منها، تمسك بقراره، حتى لا يصيبه الضياع عندما يخترق صوتها قلبه، ويذكره بضعفه اتجاهها.
****
دارت رقية في أرجاء غرفتها تفكر في حمزة وعدم رده عليها، لقد تخطت الساعة الخامسة وهي تحاول الاتصال به بين حين وآخر، وبالنهاية لا يجيب، تخبطت بين جنبات عقلها، حينما حاولت إيجاد مبررات له، ولكن بالنهاية تصطدم بإجابة واحدة ألا وهي أن ما يفعله ليس سوى إلا هروبًا منها، أصبحت شبه متأكدة من تلك الإجابة ولكن بقي حولها الكثير من علامات الاستفهام.
تنهدت بعمق وهي تشعر بالضياع، فأصبحت كالطفل الصغير الذي يفتقد والده فجأة، سماع صوته يوميًا واهتمامه لأدق تفاصيل حياتها تجعلها في حالة من الأمان والسعادة تضفي على روحها درر جديدة تنير بها ذلك الظلام الذي سيطر على جزء كبير من أحلامها!.
آلمتها ساقيها من كثرة تحركها في الغرفة، فقررت أن تأخذ قيلولة تريح بها جسدها وعقلها من التفكير المرهق لنفسها.
وما لبثت أن تريح جسدها في منتصف فراشها حتى فتحت أيسل الباب تقول باندفاع كعادتها :
- رقــية.
اعتدلت رقية سريعًا تنظر لها بعصبية :
- نفسي مرة واحدة تدخلي زي الناس الطبيعيين.
رمقتها أيسل بتروٍ قبل أن تصيح بانفعال :
- اوعي تقوليلي، إنك مقولتيش لحمزة كل سنة وهو طيب.
رمشت رقية عدة مرات قبل أن تهز رأسها في بلاهة :
- كل سنة وهو طيب على إيه!.
- يالهوي، على عيد ميلاده ياختي.
انتفضت رقية تقف كمن لدغها عقرب، تقول :
- عيد ميلاد مين، وأنتي إيه عرفك، ومقولتليش من بدري ليه.
اقتربت منها أيسل تبرر في صدق :
- معرفش والله إنك متعرفيش، وأنا عرفت من الفيس.
- طيب طيب..
هتفت بها رقية في عجالة وهي تنهض مجددًا، تجذب هاتفها لتُعايده برسالة طويلة، ولكنها تذكرت عدم رده عليه، فتبخرت ملامحها السعيدة والمبتسمة لأخرى عابسة، تفكر بشرود، لقد أصابها اليأس مجددًا من عدم رده، راقبتها أيسل بعيونها المهتمة بما تفعله، وقررت أن لا تتدخل مرة ثانية، وتترك زمام الأمور لرقية..ولكن اقتربت منها رقية بعيون ضائعة تهتف في حيرة صادقة :
- اتصلت بحمزة كتير ومردش، مش عارفة ابعتله مسج ولا اجرب اتصل تاني.
ردت أيسل في هدوء :
- ولا ده ولا ده، أنتي تنزلي تشتري هدية حلوة كده، وتاخدي بعضك تطلعي على الكافية تديهاله .
فكرت رقية لثوان قبل أن تعود وتقول برجاء رق قلب أيسل لها :
- طب ممكن تيجي معايا، تديني زوقك، وكمان ممكن تتصلي على شهاب يحتفل معانا.
حقًا ما تسمعه، أيسل تطلب منها مجيء شهاب، هذا بالتأكيد ليس إلا حلمًا ربما يكون جميل أو يتحول لكابوس، فرقية وشهاب عندما يجتمعان تنهار كل أسس الراحة والسعادة، فهما كالسالب والموجب لا تتم عميلة صحيحة بينهما.
وعندما طال صمتها، قررت رقية أن تتركها وتتجه لدولابها تنتقي ثياباً مناسبة، معتبرة أن بصمتها ذلك وافقت مبدئيًا على حديثها.
***
أخيرًا اختارت رقية لحمزة عطرًا مميزًا وقميصًا باللون الأبيض، لطالما عشقت عليه ذلك اللون، حملت الصندوق الصغير بين يدها تقربه منها في حركة لا إرادية، وعلي ثغرها تعتلي ابتسامة دافئة، تنم عن رضاها بما يحدث معها حتى تلك اللحظة، لمحت بطرف عيناها دخول عفت صديقاتها من أحد أبواب المول فجذبت أيسل سريعًا وحولت مسارها لتخرج من باب آخر مع تعجب أيسل لذلك..
- في إيه مالك؟!.
- امشي بسرعة، عفت هنا ومش عاوزها تشوفني، مش ناقصة عكننه.
أومأت أيسل بهدوء مردفه :
- انتي صح، يلا بينا علشان منتأخرش.
وبداخلها يتمتم حمدًا لله؛ بسبب تغير رقية الجذري بشخصيتها وتحديدًا اتجاه عفت رئيسة عصابة حقوق المرأة البائسة.
بينما كانت رقية تشعر بالرضا الكامل حول قرارها ذلك، فمنذ أن قررت ان تقتلع تلك النبتة الفاسدة وهي تشعر بالراحة تجتاح صدرها وقلبها من اضطرابًا وقلقًا من حياة قد ظنت بها السوء والتشاؤم.
****
وصل شهاب إلى الكافية وقلبه ينتفض بعنف من ذلك اللقاء المحتوم، بحث عن حمزة بعينيه، فأشار له الآخر نحو الردهة كي يتبعه، فعل ذلك ودخل خلف حمزة غرفة المكتب الخاصة به..
حرك الباب خلفه دون أن يغلقه كاملاً، ثم جلس فوق الأريكة يهتف بجدية شجعت حمزة على المضي بقراره أكثر :
- خير يا حمزة.
جلس حمزة أمامه يخبره في وجوم :
- أنا قررت أنهي التمثيلية دي، وأحكي لرقية كل حاجة.
عقد شهاب حاجباه وهو يسأله في ذعر وعدم فهم :
- إيه، ليه؟!.
- هو إيه اللي ليه؟!، أنت مش شايف أنها طولت وبوخت أوي، مش شايف إننا بنبوظ حياة إنسانة ملهاش ذنب في حاجة، لازم تعرف كل حاجة.
قال حمزة حديثه في انفعال وحدة مغتاظًا من برود شهاب معه، فرد الآخر بضيق ممزوج الغضب :
- ماشي، ياريت مش كل شوية تفكرني بالإنسانة ومشاعرها علشان هي مفكرتش في مشاعري للحظة، وكانت بتحاول تبوظ حياتي.
- غلط يا شهاب، كل اللي أنت بتفكر في غلط، رقية مفكرتش للحظة تعمل كده، هي كانت شايفه انها بتحمي اختها، ومن حقها دي اختها، ده مش حقد، ده خوف على أختها.
قاطعه شهاب باستنكار قائلًا :
- لا بقولك إيه مش علشان عاوز تخلع وتسيبني في نص الطريق وتطلع انت الملاك، تحسسني إن أنا ابن كلب وجيت عليها.
نهض حمزة مؤكدًا حديثه في قوة وعناد :
- لا هو فعلاً، أنت جيت عليها بأنانيتك.
رمقه شهاب بتهكم وهو يقول :
- جيت عليها لوحدي صح، وأنت كنت فين بتلعب شطرنج...
وقبل أن يجيبه حمزة، كان شهاب يستكمل حديثه اللاذع بجرأة ووقاحة :
- أنا أقولك أنت كنت بتحبها، ووافقت بكامل إرادتك على كتب الكتاب، فمتجيش وتعمل الشويتين دول عليا، وتحط الذنب كله فوق دماغي.
وفي الحقيقة شهاب كان يحاول الهروب من واقع ذنبها، فضميره لم يهدأ قط منذ بداية اللعبة، وعقله يصور له أبشع النهايات المختلفة، ولكن ذلك الطريق رسمه بمحض إرادته وأي اختلاف فيه، قد يؤدي إلى فشل خطته، وبالتالي ستنهار عليه كل أسسه من البداية، وتختفي بوادر النجاح التي كان يسعى أن يحققها في علاقته بأيسل، ومع خروج حمزة عن الخط المرسوم، جعله يتفاجئ ويصمت لدقائق رهن التفكير في محاولة تعديل أسلوبه واتخاذ منهجًا آخر ليعود بحمزة لذلك الخط الذي قارب على الانتهاء وخصوصًا بعد انتهاء ما يقرب من نصف المسافة.
- انت واحد بارد، ميهمكش غير مصلحتك وبس، علشان أنا فعلاً حبيتها، وكنت بحاول ادوس على قلبي بالجزمة علشان خاطرك، وفي الآخر دي جزاتي.
اقترب منه شهاب متحدثًا بهدوء زائف غلفة بالاستعطاف :
- طب ما تقف معايا لنهاية الطريق يا حمزة، أنا كنت بفكر لو أنت سبت رقية في النص حياتي هتدمر، ما بالك انك عاوز تحكيلها، دي مصيبة.
- افهم بقولك بحبها، ومش قادر أكذب أكتر من كده، مقدرش أشوف نفسي حيوان بالشكل ده.
قالها حمزة في انفعال، انتفضت عروقه من تحت جلده وصارت نافرة، كحال نفور قلبه من مكانه مع ذلك الاعتراف القوي.
- طيب لما أنت بتحبها، متكمل معها إيه مانعك، ما الحياة ما بينكوا حلوة وسهلة بتعقدها ليه، هتستفاد إيه لما تعرفها، دي هتبقى مصيبة على دماغنا كلنا.
شدد حمزة على خصلات شعره بغيظ وهو يهتف من بين أسنانه وكأنه يحارب لاستخراج الكلمات من جوفه، بعدما كان يدفنها في سراديب ضميره :
- مينفعش ابني حياتي على كذبه، مينفعش اكمل حياتي وهي رهن لعبة بايخة وافقت عليها في لحظة ضعف.
- اعتبرها كذبة بيضا يابني.
هز حمزة رأسه في رفض، مؤكدًا على حديثه بإخراج باقي كلماته المكتومة والموجوعة :
- الكذب كله واحد، لا يمكن أكمل في لعبة حقيرة زي دي، رقية متستاهلش كده مني، أنا كذبت كتير، وخدعتها أكتر..
وسرعان ما سيطر الندم على نبرته :
- ياريتني ولا وافقت على كلامك، مكنش لازم أعمل كده.
تزمر شهاب ليقول :
- أنت محسسني إننا اغتصبناها، ده مجرد لعبة عادية، تخطبها وتبعدها عن طريقي، أنت بقى حبيتها كمل عادي ولا كأن حصل حاجة، واللي بينا يدفن ما بينا، أنت اللي غاوي مشاكل ووجع قلب.
وقبل أن يتحدث حمزة، كان صوت أيسل يصدح في المكان بانكسار وضعف :
- وجع قلب!، تعرفوا إيه عن القلب وانتوا انعدمت منكوا الرحمة.
انصدم كلاً من شهاب وحمزة حينما حولوا بصرهم نحو الباب، فوجدوا أيسل تقف وبجانبها رقية تحتضن صندوق فضي اللون بيدها، ودموعها تنساب بغزارة فوق صفحات وجهها، ولا شك أن الصدمة والقهر اتخذوا حيزًا من ملامحها، أما عن عيناها فكانت تغوص في انكسارًا حطم قلبها لأشلاء، أشلاء صعب تجميعها باعتذار، فالأمر يفوق قدرتها وتحملها على الصدمات، فشعرت وكأنها زهرة جميلة اقتلعتها رياح قوية تحمل معها الأوجاع والحقائق المخفية، ومن شدة بشاعتها تفتت إلى قطع صغيرة لا تُرى.
يتبع الفصل التاسع اضغط هنا
تعليقات
إرسال تعليق