رواية لعبة الهوى البارت الرابع بقلم زيزي محمد
رواية لعبة الهوى الفصل الرابع
رمى حمزة بثقله فوق فراشه، ثم أغلق عيناه بتفكير وإرهاق، وكأن همومه اليوم فاقت طاقته وقدرته على استكمال ما بدء به منذ البداية بكامل إرادته، ولا شك أن ذلك القرار المتهور والذي قد اتخذه في لحظة جنون أو عنفوان غريب لأول مرة يتملك منه بدء في التصدع أمامه ليظهر حقائق مؤلمة خلف تلك القشرة الضعيفة التي كان لها الفضل في انتشاله من عبث مظلم حالك احتل عقله، ينذر بعاصفة قد تقتلع معها مشاعره التي حاول لجمها بأسواط من ضميره!.
ثلاث شهور يخوض بها معركة مع ذاته، قد تكون أصعب معركة مرت عليه، ولكن هو من أوقع نفسه بها، حتى أن خسارته بدأت تتجسد أمامه في وقت باكر، ولكن تلك الهزيمة ستكون قاسية في حقه وحقها، ليست هي فقط أو هو فقط، فأصر أكثر على تنفيذ ما فكر به مؤخرًا، فلن يتحمل قلبه خسارتها..
ارتفع رنين جواله وأخرجه من عمق أفكاره، تنهد بارتياح عندما وجد السبيل الذي استطاع إنهاء محاكمة ضميره التي تبدأ يوميًا عندما يختلي بنفسه بعيدًا عن صخب عمله.
طالع اسم المتصل في فتور تحول إلى ابتسامة واسعة عندما وجد أسم أخيه يتوسط الشاشة، أجاب على الفور بمزاح زائف أصبح يتقنه جيدًا في تلك المرحلة الخادعة من حياته :
- أهلا بالنمساوي الأصيل.
جاءه رد أخيه المشاكس له :
- أهلاً بقليل الأصل والتربية، أهلاً بالمهزء اللي عاوز يتهزء أكتر.
رفع حمزة أحد حاجبيه في قلق وريبة :
- هو أنا هببت حاجة وأنا معرفش.
- كام مرة أقولك ابعتلي صور خطوبتك، أو صورك أنت وخطيبتك وأنت تطنشني، كام مرة أقولك عاوزين أنا ومروة مراتي نكلم خطيبتك نتعرف عليها وأنت ولا هنا، هو أنا علشان سافرت النمسا خلاص، فاكر إن مالكش أهل ولا إيه، لا أنا هفضل اخوك الكبير حتى وأنا بعيد عنك.
أخرج حمزة تنهيدة أخرى من صدره، تنم على راحته رغم ذلك القلق الذي سيطر عليه قليلًا، عند ذكر أسم رقية، أو أي شيء عن خطبتهم، فـأخيه مثلاً لن يتفهم أمر تفكيرها بشأن تلك الصور، حينما حاول شهاب التقاط بعض الصور لهم وهي رفضت بشدة، بل خاضت مجادلة طويلة مع شهاب انتهت بشجار حاد بينهم، وحتى الآن لم يفهم سبب اعتراضها الحقيقي اتجاه الصور وتحديدًا إن كانت معه.
- هو كل الحكاية، إن فعلا متصورناش مع بعض، انا معملتش حفلة خطوبة بسبب انشغالي في الكافية، وكمان تقريبا مبقعدش معها كتير بسبب شغلي أغلب الوقت فيه.
- عامل نفسك مهم، وصاحب مشروع، على العموم ماشي، ناوي تحدد الفرح امتى علشان احجز قبلها وأعرف أحضر.
فرك حمزة وجهه في ضيق وهو يقول:
- لسه شوية، بس ممكن اكتب كتابي خلال الشهر ده، وأول ما أقرر معاد الفرح بالظبط أكيد هبعتلك وأعرفك.
تحرك حمزة بعدها نحو خزانته يخرج ثياب مريحة، وهو يستكمل حديثه مع أخيه الأكبر وزوجته وطفله الصغير، حديث لا شك أنه كان مليء بالحديث عن رقية، فمهما حاول الابتعاد عنها وإخراجها من أفكاره داخل منزله، تحيطه من جميع الجهات، تذكره بأشياءًا تعكر صفاءه الداخلي، وتجعله عبارة عن رجل آلي بلا مشاعر يردد الكلمات فقط، أخيرًا استطاع إنهاء اتصاله مع أخيه، وهو بالكاد يحاول تفريق جفنيه بعد هذا اليوم الطويل، هاجم النوم أفكاره، فجعله في حالة من الاستسلام للخوض مشاعر حاول أن يصرح بها في أحلامه فقط، أحلامًا بلا قيود، بلا خداع، بلا قرارات هوجاء تشعل فتيل الندم لديه فيما بعد.
وما إن استلقى على فراشه في أريحيه واستسلم لذلك الحلم الجميل الذي يجمعه بها وهو مازال في يقظته، فبدا كالمراهق الأحمق وهو يبتسم ببلاهة.
ولكن تلك المرة كاد أن يسب هاتفه والمتصل في آن واحد، عندما ارتفع رنينه مجددًا، اعتدل بفراشه وهو يطالع اسم المتصل وملامح وجهه تتحول تدريجيًا من الغضب إلى الدهشة، ماذا؟!، رقية!، تجري اتصالاً به في تلك الساعة المتأخرة، هذا ليس سوى مجرد تمهيد لمصيبة، فهو يذكر ذات مرة حاول أن يهاتفها في مثل هذه الساعة المتأخرة، شنت عليه هجومًا حادًا، وعن أدبية الاتصال.
اعتدل أكثر بفراشه، ثم أجاب بنبرة قلقة :
- رقية، خير.
تعجبت من نبرته تلك، فقالت :
- خير أكيد، هو أنا قلقتك ولا حاجة.
- أبدًا، أنا قلقان إنك بتتصلي بيا الساعة ١ بليل، وأنتي متهايلي كنتي مدياني محاضرة في الاتصال في الوقت ده تحديدًا.
لمحت سخريته في أواخر حديثه، فاندفعت الدماء إلى وجهها حرجًا مما تعرضت له، وهي تقول :
- أنا اتصلت بيك في وقت زي ده علشان عارفة إنك بتسهر، لو عارفه إنك بتنام في الوقت ده أكيد مكنتش اتصلت.
- وانتي لسه صاحية لغاية دلوقتي، أكيد في
حاجه بتفكري فيها.
ابتلعت ريقها وهي تحارب نداء خفي بداخلها يحثها على الإغلاق، رغم أن هناك آخر مضاد له يدفعها لاستسلام نحو مشاعرها، فبدت وكأنها طفلة صغيرة تخشى عواقب اختيارها :
- كنت عاوزه أشكرك على هديتك، جميلة آوي، وعجبتني جدًا.
شقت شفتاه ابتسامة عريضة وهو يقول :
- بجد عجبتك، ولا بتقولي كده علشان تجامليني.
هزت رأسها في نفي وكأنه أمامها، قائلة بصدق نابع من قلبها :
- أنا مبعرفش أجامل، بجد هي عجبتني، زوقك حلو.
أبعد الهاتف عن أذنه، يتأكد من ذلك الاتصال، وتحديدًا من اسمها الذي ينير الشاشة، هل حقًا ما يسمعه الآن، لِمَ يشعر وكأن ذلك الاتصال الفريد من نوعه هو البذرة التي ستنضج من خلالها علاقتهم المضطربة، حتى أن نبرة صوتها الرقيقة الخالية من حدتها وجمودها ستخلد في ذاكرته، اندلعت بداخله فكرة وقرر أن ينفذها لعلها تساعده في استكشاف خباياها أكثر :
- أنا فرحت أكتر إنها عجبتك، إيه رأيك لو تقبلي نقضي يوم كله مع بعض في أي وقت انتي فاضيه فيه .
صمتت لثوان تفكر في حديثه الذي فاجأها، ولكن صوته انتشلها من تفكيرها وهو يطمئنها بكلماته الهادئة والرزينة :
- أنا بقول إننا محتاجين نقرب من بعض أكتر، كنت هقولك نجيب أيسل وشهاب، بس أنا حابب أننا نكون لوحدنا، وزي ما تحبي أي مكان أكيد هكون مبسوط معاكي فيه.
حقًا هو يحاورها هكذا ويتوقع مثلاً رفضها، حتمًا ستكون غبية أو حمقاء تترك من يدها خيوط علاقتهم، ستوافق ولكن مازال هناك تردد يمنعها من الركض في خطبتهم بتلك السرعة!.
-مـ..ماشي، مش الاسبوع ده علشان هنشغل مع ماما في شوية حاجات.
- حاجات زي إيه؟!.
أجابت في خجل وصوت ناعم وهادئ :
- يعني جهزنا أنا وأيسل لازم ننزل مع بعض نتشريه.
أومأ برأسه متفهمًا ثم قال بصوت ناعس يحارب سيطرة النوم عليه :
- ماشي يبقى الاسبوع اللي جاي، مع إن أنا مش هقدر مشوفكيش أسبوع كامل.
ابتسمت في خجل، واحمر وجهها، فحاربت تعلثمها تخبره :
- معلش، وبعدين يعني أكيد هنشوف بعض شوية في أي يوم، أنا أقصد اننا نأجل يومنا ده للاسبوع اللي بعده.
- إذا كان كده ماشي، تصبحي على خير..
- وأنت من أهله، سلام.
أغلق الهاتف واستسلم لنوم سريعًا دون التفكير في أي شيء قالته، أو قد تفوه به هو، فحاجته للنوم والراحة الآن قادرة عن تخليه لأي شيء يسبب له الأرق والتفكير المزمن.
****
بعد مرور أسبوع..
خرجت رقية في حماس تملك من جسدها وملامحها وتحديدًا قلبها الذي كان ينتفض بتوتر متخيلة رد فعل حمزة بعدما اقتنت له هدية عبارة ساعة يد ذو تصميم فريد.
وقفت في أحد جوانب الطريق تحت شجرة كبيرة تحتمي بها من أشعة الشمس منتظرة قدوم حمزة لها، انفصلت عن الزحام وعن المارة وسافرت بعقلها تتخطي كل الحدود التي قد رسختها ووضعتها حاجزًا منيعًا بينهم في علاقتهم، لتجد ضالتها حتى تخرج من تلك القوقعة التي زجت نفسها بها دون أي تفكير في عواقبها حتى وإن كان مرهقة لذاتها.
وعلي بعد مسافة قريبة منها لم تلاحظ رقية ذلك الشاب الذي كان يتأملها بنظراته الوقحة، لم يترك تفصيلية بها إلا وتأملها بجرأة، وحينما وجد الطريق بدأ في الهدوء قليلًا، استغل تلك الفرصة واقترب منها رُويدًا، وعندما لم يلاحظ عليها أي ارتباك، رفع حاجبه في تسلية وهو يقول :
- لدرجة دي القمر سرحان ولا واخد باله مني خالص.
انتفضت رقية وهي تستمع لصوت رجل غريب عنها بالقرب منها، وعندما طالعت هيئته، تجهم وجهها قائلة في حدة :
- نعم؟!، حضرتك عاوز حاجه.
- عاوزك يا قمر.
قال حديثه مبتسمًا باستفزاز، فرفعت حاجبيها باعتراض على طريقته، ثم ابتعدت خطوتان للخلف وهي ترفع أصابعها تتوعد له في نبرة غاضبة تحمل التهديد والقوة :
- والله لو ما بعدت عني حالاً، هـ اهينك وسط الناس دي كلها، وهتزعل على نفسك اوي بعدها.
ضحك حتى بانت أسنانه الصفراء وهو يحرك يده فوق صدره ويغمز بطرف عيناه قائلًا :
- شرسة، أول مرة أشوف حد عينه زرقة شرس كده.
- طب واللي عينه بني ظروفه إيه...
رفعت رقية بصرها بعدما كانت تثبته على ذلك الشاب بحدة، وخاصةً أن فارق الطول بينه وبين حمزة الواقف خلفه مباشرة واضح، التوى جانب فمها بسخرية حينما لمحت ذعر الشاب من حمزة وهو يقبض على ثيابه من الخلف..
- ما ترد يا خبير العيون، يا جبهز الألوان.
ابتلع الشاب ريقه في صورة واضحة وهو يهتف بتلعثم وخوف :
- أنا..أنا كنت بشوف يمكن عاوزه حاجة.
أدار حمزه الشاب نحوه في قوة، فكاد أن يقع، لولا يد حمزة الممسكة به، ثم قربه منه وهو يهتف بجانب أذنه، بنبرة تحمل التهديد المخيف وصوته أشبه بصوت الفحيح :
- ما توريني يالا الشرس من وجهه نظرك إيه، ولا أنت كلام وبس.
هز الشاب رأسه في سرعة كبير، موافقًا على حديث حمزة وعينيه تتطلع إليه في أمل حتى يتركه، ففارق الجسد بينهم واضح، وبالطبع لن يقوى على الدخول في معركة قتالية معه، فعاد وهو يبلل طرف شفتاه قائلًا :
- آه أنا كلام وبس، وأول وأخر مرة أعملها سيبني.
ابتعد حمزة عنه وهو يرفع جانب شفتاه في ابتسامة رضا، فظن الشاب أنه انتهى واكتفى بذلك، ولكن كان لحمزة رأي آخر حينما باغته بلكمة قوية بوجهه، ترنح لها الشاب للخلف، وكتمت رقية صرختها بجوفها واكتفت بتوسع عيناها وهي تراقب ما يحدث بقلق سيطر على جميع خلاياها.
- أنا كده راضي، يلا من هنا يا حلو..
اعتدل الشاب في وقفته، ثم ابتعد يهرول بعيدًا عنهم، وهو يحاول الضغط على وجهه ليخفف حدة الألم جراء تلك الضربة القوية.
أما حمزة فانتفخ صدره في فخر وارتياح، وشدد على جسده الرياضي وكأنه في حالة استعراض وهو يراقب بعينيه هروب الشاب من تحت قبضته، حول بصره لرقية الواقفة وهي تراقبه في صمت تام، تأملها لثوان بسيطة ثم لمح تلك الحقيبة الورقية الصغيرة والتي كانت تقبض عليها بعنف، رفع نظره نحو وجهها يحاول تفسير ملامحها، غضب ام خوف، ام شعورًا آخر يجهل ملامحه أو يختبره لأول مرة معها، وما أكد تفكيره، هو اهتزاز مقلتيها وهي تنظر له في صمت، صمت أقلقه فجعله يقترب منها في لهفة، ممسكًا يداها رغم اعتراضاتها من قبل على تلك النقطة، فهمس لها بنبرة تحمل مشاعر نبيلة اتجاهها، جعلتها ترضخ لمسكته تلك التي أوقعتها في بحر حنانه وخاصةً حينما شعرت به في صوته :
- رقية أنتي كويسة، أنا اتأخرت عليكي، الواد ده اتطاول وعمل حاجه غير اللي انا سمعتها.
بعد برهة من السكوت، كانت تتذوق بها مشاعر جديدة تضرب صدرها وعاطفتها وهي قريبة منه هكذا، وأمام عيناه مباشرةً، خرج صوتها مهزوزًا رغم محاولاتها في إخراجه ثابتًا متزناً :
- لا، معملش.
نبرتها كانت بها بحة غريبة سيطرت على حواسه، فعينيه كانت تتوق للمزيد من عدستيها، وقلبه كان ينتفض في لوعة من قربه منها وهي لم تعارضه كحال كل مرة.
- أنتي كويسة..
قالها مرة ثانية وهو يحرك أصابعه فوق كفها، فأصابتها بقشعريرة اجتاحت جسدها وقلبها، وهو كان تحت سطوة عاطفة حاول كبحها ولكن كيف وهو لأول مرة يشعر بملمس بشرتها الناعمة تحت أصابعه التي بالتأكيد كانت خشنة أمام نعومتها.
جذبت يدها من قبضته الحانية وهي تحاول الابتسام لتخفف حدة فعلها معه، وقالت في خجل :
- هروح أركب العربية.
أومأ حمزة في هدوء، وهو يراقبها تبتعد عنه، فأيقن حينها أنه مريض بفرط انتباهه المنصب حولها وعما يصدر منها، تفاصيل صغيرة بداخله جعلته يقع في حب قد يكون تعيس جراء لقرار أرعن أقدم عليه في مشواره معها.
هز رأسه في رفض وكأنه يحارب مشاعره التي تحاول جذب انتباهه نحو عمق خطير، يكاد يجن إن انساق خلفها ووقع في قاعه، ولكن كل ما يهمه حاليًا هو قضاءه يومه معها بما سيريح نفسه، ويخلده في ذكرياته للأبد في خانة لن يمكن المساس بها، أو طيها في وادٍ النسيان.
***
جلس أمامها بعدما كان يصافح أحد أصدقائه وتحدث معه قليلًا وهي كانت في عالم آخر وتحديدًا لم يمر بها الزمن منذ لمسه يده ليدها بذلك الشكل الذي داعب قلبها في حنو ورقة، انتبهت على صوته وهو يسألها بنبرة عادية تخالف ما يشعر به منذ تلك اللحظة الفريدة التي مازال أسير لها...
- تشربي إيه.
حمحمت وهي تسأله بفضول حتى تخرج من تلك الهالة التي هاجمت صدرها بلا رحمة :
- ليه مروحناش الكافية بتاعك.
- علشان تبقى براحتك، أوقات بحسك إنك مش مبسوطة وانتي عندي في الكافيه.
حركت رأسها في نفي تبرر له بطريقة لطيفة :
- لا أبدًا، بس بتحرج من اللي بيشتغلوا معاك، اوقات بحسهم مركزين معايا.
ضحك في خفة، مردفًا :
- فضول البشر، تقولي إيه بقى.
ابتسمت بطريقة ألهبت مشاعره، وخاصة أنها لم تبعد عينيها عن عدستيه مثلما تفعل كل مرة.
- الكافية ده مش عاجبك؟!.
سألها في هدوء، فأجابته نافية :
- بالعكس لطيف وهادي.
ساد الصمت بينهما قليلًا، حاول كلاً منهما تخطيه بطريقة ما، اندفع الكلام على طرف شفتاهما، ولكنها نجحت في إخراجه بطريقة جعلته مندهشًا وتحديدًا عندما سألته، سؤالاً غلفته بحزن طفيف قائلة :
- هو أنت شايفني بايخة؟!.
ضيق عيناه في تفكير باحثًا عن مغزى سؤالها الذي حقًا فاجأه، فهو لم يتوقعه أبدًا وخاصةً إن كان يخالف شخصيتها، فحاول مراوغتها قبل أن يجيب أي إجابة قد تجرح كرامتها.
- ليه بتسألي سؤال زي ده؟!، او إيه مناسبته؟!.
ابتسمت في تهكم وهي تضع يدها تحت ذقنها وكأنها ترسل له رسائل مبطنة عما يحاول فعله :
- متحاولش تهرب بسؤال، أنا سألت المفروض يكون ليك إجابة، بـ آه او لا، وأنا على فكرة مش هزعل خالص بالعكس أكيد هحترم رأيك جدًا.
قابل ابتسامتها بأخرى ساخرة وهو يقترب بجسده منها، قائلًا :
- يعني أنتي عاوزة تفهميني إني لو قولتلك اه مثلاً، أنا بقول مثلاً..
صمت لبرهة ثم قال بمكر :
- مش هتزعلي، أو حتى تاخديها في نفسك.
حركت رأسها في نفي قائلة بجدية خالفت تلك الحمقاء التي كانت تغرق في بحر غرامه منذ قليل :
- لا أبدًا، وأزعل ليه، أنا مخي كبير جدًا وبقدر استوعب كلام اللي قدامي.
عقد ذراعيه أمامه ثم رجع بظهره يتكئ على ظهر الكرسي، هاتفًا :
- دي ملهاش دعوة بالتفكير، دي ليها علاقة بالمشاعر، وأكيد أنتي مش حجر يعني علشان متزعليش.
ارتبكت من مغزى حديثه، فحاولت تصحيح حديثها بطريقة عقلانية، أو هي اعتقدت في ذلك، فهي دون تدري أخرجت ما تخبئه بداخلها :
- لا أنا مش حجر، بس اللي عاوزه أوصوله ليك إن مثلاً شهاب شايفني بايخه ومبيطقنيش، وأنا عادي ياعني مش فارق معايا.
طرق حمزة أصابعه فوق الطاولة بتفكير قبل أن يجيبها :
- أكيد فارق معاكي لو ٣٠ في المية، بس يمكن أنتي بتقنعي نفسك بكده علشان زي ما بتقولي ميهمكش، لكن لو أنا جاوبت نفس إجابة شهاب أكيد هتزعلي، لأنه أنا المفروض أفرق معاكي يا رقية.
زمت شفتاها في ضيق وهي تلعن نفسها على قدرته في مراوغتها بسهوله وهي إلى الآن لم تسمع رده بشأن سؤالها، فقالت :
- بس إنت لغاية دلوقتي مجاوبتنيش، أفهم كده أنه آه.
هز رأسه نافيًا، وهو يقول بخفوت قد اخترق مسامعها وقلبها معًا :
- أبدًا، أنا عمري ما شفتك بايخة، أنا بقى أفرق معاكي ولا زي شهاب.
ردت في لهفه ابتسم هو لها سعيدًا :
- بالعكس أنت تفرق جدًا، شهاب ولا حاجة بالنسبة ليا.
عادت بظهرها للخلف، تنكمش في الكرسي من نظراته التي شملتها بتركيز مع ابتسامته المهلكة، التزمت الصمت دقيقة واحدة، وما لبثت أن تسأله سؤالاً آخر، كان هو الأسرع في سؤاله الذي أربكها وجعلها تتخبط بداخلها بين جنبات عقلها تحاول إيجاد إجابة مقنعة دون أن تمس السبب الحقيقي.
- هو أنتي ليه بتكرهي شهاب؟!.
ساد صمتها كثيرًا، فقررت أن تتخطى ما تحاول التفكير فيه، بإجابتها الحقيقية والنابعة من داخلها دون تزيف :
- مبرتاحش لشخصيته، متهور، وبحسه مش حقيقي، مزيف.
اهتز كيانه لكلماتها البسيطة تلك، فكانت ملامحه في تلك اللحظة غائمة، بينما هي كانت في وادٍ آخر، تحاول التحدث بما تكنه بصدرها :
- أنا عارفة إن بكون حاده معاه، بس هو يستاهل وكمان علشان ميفكرش يضحك على أختي في يوم من الأيام، أيسل طيبة وغلبانة وهو ممكن يضحك عليها، ودي أختي ومن حقي أحافظ عليها بالطريقة اللي أنا شايفها صح.
عقد حاجبيه مسترسلاً في تعجب :
- يضحك عليها إزاي، وهو خاطبها، شهاب مضحكش على أيسل هما آه حبوا بعض قبل الخطوبة وأنا كنت عارف بحكم صداقتنا، بس هو كان راجل وقد كلمته واتقدم رسمي وخاطبها، ولسه من كام يوم كان بيطلب أنه يقدم معاد جوازهم، تحافظي على أختك من إيه بقى!.
ابتلعت لعابها وهي تجيبه في خجل وحرج مما تعتقد به :
- هو مش ممكن يضحك عليها وهما مخطوبين، وياخد اللي هو عاوزه وبعدين يسيبها.
-شهاب مش ندل كده يا رقية، للأسف أنتي قريته غلط، ومعرفتيش تحكمي عليه صح.
فركت أصابعها في توتر من حدة كلامه، فقالت :
- وأنا مش قصدي أبوظ علاقتهم، أنا بحب أختي جدًا وبخاف عليها فبحاول أحميها.
- حقك، بس نصيحة مني، متحاوليش تنقلي كرهك له لأيسل، البنت طيبة جدًا وأنا شايف أنها جميلة وبتحب شهاب بلاش تبوظي عليها سعادتهم يا رقية، فترة الخطوبة دي من أجمل اللحظات اللي مينفعش تتعوض بعد كده.
لاحظت تلميحاته المبطنة، والتي لمست جزءًا من ضميرها، فهي كانت دائمًا تفسد عليهم لاحظتهم تحت مبرر الحفاظ على أختها، شعرت بالخجل قليلًا من نفسها، وخاصةً بعدما أحست بضألتها أمامه، واستطاعته قراءه ما يدور بداخلها بذكاء، أو ربما هي كانت غبية لدرجة إنها كشفت أوراقها له بسهوله، لن يهم كل ذلك، كل ما يهم الآن، هو اندفاع الدماء لوجنتيها بطريقة ملحوظة أخجلتها منه، فابتعدت ببصرها بعيدًا عنه تحاول التقاط أنفاسها بعدما انقطعت في تلك المجادلة التي كشفت مكنوناتها.
- رقية، أنا حابب إننا ناخد كام صورة مع بعض، علشان شريف أخويا بيسألني كل يوم تقريبًا على صورنا، عاوز يشوفنا مع بعض.
- يشوفنا مع بعض ليه؟!.
سؤالاً صدر منها، جعله يضحك بصوت مرتفع قليلًا وهو يجيب :
- أخويا الكبير ومسافر، وأنا خطبت، ومشافش صور خطوبتي، أظن من حقه يعني ولا أنتي ليكي رأي تاني.
قال جملته الأخيرة مشاكسًا، فقالت ببلاهة :
- طيب هنروح فين علشان نتصور..
حرك كرسيه فور جملتها، حتى التصق بها ورفع هاتفه في ثوان قائلًا :
- لا هو حقيقي مش محتاجين نروح، في اختراع اسمه سليفي، اضحكي للصورة بقى.
كانت تنظر له أثناء حديثه، ولم تلاحظ أن ذلك الخبيث كان يلتقط لها الصور وهي على ذلك الوضع، وضعًا كان غريبًا عنها، قربه منها بهذا الشكل الذي جعلها تتورد للمرة الثانية، وعينيها تلمع بوميض الحب والغرام، فباتت لا تقدر على إخفاء مشاعرها اتجاهه، فقلبها الأحمق كانت له السلطة الكبيرة في السيطرة عليها وعلى انفعالاتها، التقط لهما الصور فبدا وكأنهما عاشقان في دروب الهوى.
وأثناء التقاطه للصور، قدمت له رقية هديتها بعيون تلمع من فرط سعادتها في تلك اللحظة، لحظة اعتصرت فؤاده بعدما كان قد نسي ما كان يسعى له منذ البداية!.
يتبع الفصل الخامس اضغط هنا
تعليقات
إرسال تعليق